• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : اخلاق قرآنية: التزكية سبيل السعادة الوحيد .

اخلاق قرآنية: التزكية سبيل السعادة الوحيد

محمد تقي مصباح اليزدي

‌‌‌تـقابل‌ «التقوى» و«الفجور»

يستخدم في اي نظام أخلاقي مفهومان متضادان، احدهما يدل على الاخلاق الحميدة‌، والاخـر‌ عـلى الاخـلاق الذميمة، واللفظ المشترك الذي يجمع بين هذه النظم في كلا المفهومين يختزل في كلمتي‌ الخير والشـر؛ ولكن ثمة مفاهيم أخرى تحمل معاني أرقى من المعاني التي يتضمنها‌ مصطلحي الخـير والشر، ومنها‌ المفاهيم‌ التـي اوردتـها آيات سورة الشمس، حينما استعملت مفهومي «الفجور» و«التقوى» تارة و«التزكية» و«التدسية» تارة اخرى بدلاً من استخدام مصطلحي الخير والشر؛ ويفيد مفهوم الفجور والتقوى المعنى المنشود اكثر مما يفيده مفهوما‌ الخير والشـر، اذ يعالج السبب الذي يكمن وراء ضرورة اجتناب الاخلاق الذميمة، وهو خروجه عن حدوده الفطرية وضياعه؛ في مقابل ممارسة فعل الخير وكل ما يدخل ضمن الاخلاق الحميدة التي تحفظ‌ الفطرة‌ الانسانية وتحميها.

آيات اخـرى فـي السورة المباركة اطلقت لفظي التزكية والتدسية عوضاً عن التقوى والفجور، ورغم أن التزكية والتقوى هما مصداقان للخير، إلا أنهما يحملان مفهومان مختلفان بعض الشيء، فالتقوى‌ هي‌ التزكية والفجور هو التدسية، لكن مـفهوم التـزكية يحمل في طياته معنى اكبر مما يقدمه لنا مفهوم التقوى، ذلك أنه يحث على العمل، فضلاً عن انه يمنع عن النفس المخاطر‌ ويحفظها‌ من الرذائل، فمصطلح التزكية يفيد هذا المعنى اكـثر مـما يفيده مصطلح التقوى وبالمقابل، فإن ممارسة الفعل القبيح يؤدي الى دخول عنصر مناقض للفطرة في الانسان يفسده كما يفسد السم‌ الحلوى‌ عندما‌ يدس فيها [التدسية: مصدر دَسـّي، وأصـل الفـعل دسَّس‌، فلمّا‌ توالت‌ السينات قُلبت إحداهن ياءً، وهو من الدسّ بمعنى الاخفاء، وتدسية النـفس: إغـواؤها وإفسادها]

دليل تقدم ذكر‌ «الفجور‌» على‌ «التـقوى»

قـد يـطرح هنا سؤال عن سبب تـقدم الفـجور عـلى التقوى في الآية: ﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 8]، فيما تقدمت التزكية على التدسية‌ في‌ الآية‌: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس‌: 9 ـ 10‌]، فـماذا‌ يـمكن أن يكمن وراء ذلك التقدم والتأخر؟

إن اول ما تنمو فيه ـ بطبيعته ـ هي الغـرائز الحـيوانية التي تولّد فيه الاتجاه‌ المادي‌ الذي‌ يعتبر مصدراً للشر والفساد والتدسية، وبالطبع فإن اصل الغريزة الحيوانية‌ ليست شراً بـذاتها؛ فـالميل الى الطـعام والجنس المخالف ليس مذموماً بحد ذاته، انما الافراط فيه هـو المذموم، واستخدام‌ الغرائز‌ في‌ غير محلها يؤدي الى التدسية وعليه فإن الدوافع المادية تظهر في‌ الانسان‌ قبل الدوافع المـعنوية والالهـية؛ فـالطفل تبرز اول ما تبرز فيه غرائزه الحيوانية من ميل الى الطعام‌ والشراب‌ واللعـب‌، ومـن ثم الميل الى الجنس الاخر، وفي مرحلة البلوغ يبرز في الانسان‌ الميل‌ الى‌ المعنويات والعبادة، لكن هـذا المـيل لا يـنمو تلقائياً، بل يحتاج الى التربية بعكس الغرائز‌ الحيوانية‌ التي‌ تنمو قبل غيرها وتـمارس نـشاطها وتـلح على الانسان أن يبادر لإشباعها، فاذا استجاب لها‌ دون‌ أن يكبحها بعنصر التزكية فقد تجره الى مـستنقع الفـساد والضـلال.

اذن، فالآية الكريمة‌ اتت‌ بذكر‌ المفهومين حسب تسلسل ظهورهما الطبيعي في الانسان بلحاظ ان الفجور هـو مـن نتاج الغريزة‌ الحيوانية‌ التي تبدأ بالظهور في الانسان قبل غيرها [هناك عدة وجوه لتفسير (فألهمها)، احدها ايقاظ هذه الغرائز والدوافـع الفـطرية والطـبيعية‌]

والسؤال‌ الذي‌ ربما يطرح هنا هو: لماذا يستخدم مفهوما الفطري والطبيعي مترادفين، بينما يطلق المـصطلح الاول عـلى‌ الخير‌ فقط؟

وجواباً‌ نقول: إنه يراد من هذا المصطلح معان عديدة؛ فهو يـأتي تـارة فـي‌ مقابل‌ مصطلح الاكتسابي، فحينما يقال إن هذه الغريزة فطرية فإنما يراد أنها ليست مكتسبة؛ وبلحاظ ذلك فـإن‌ جـميع‌ الغـرائز الانسانية منها والحيوانية هي فطرية، ويأتي تارة أخرى معبّراً عن الغرائز‌ او‌ الدوافـع البـاطنية السامية التي تعلو على الغرائز‌ الحيوانية‌ فتسمي‌ دوافع فطرية، وقد استخدم الشهيد مرتضى المطهري ‌(قدس‌ سـره) المـعنى الثاني للفطرة في معظم مؤلفاته، وهو اصطلاح خاص، وإلاّ فإن معنى‌ الفطرة‌ فـي الاصـل هو ما ذكرناه‌ اولاً‌.  وربما يقال‌ ايضاً‌ إن‌ المـيل الى الخـير والميل الى الشر‌ كلاهما‌ فطري، اي ليس اكتسابياً، حـيث جـعل الله تعالى في الانسان كلا الميلَين‌ الخير‌ والشر.

واذا اخذنا بالاعتبار المعنى الثاني‌ في (فـألهمها)، فـسيصبح مفهوم‌ الآية‌ هو أن هذه المـيول الفـطرية‌ مودعة‌ فـي داخـل الانـسان، اي الاشياء التي تسوق الانسان ـ طبقاً للنـظرة الاسـلامية ـ نحو الفجور‌ والتحلل‌، ولتأكيد هذا المعنى يمكن الاستشهاد‌ بالآية‌ الكريمة‌: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ * بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القـيامة: 3 ـ 5]

فالإنسان يطمح أن يـكون حـراً لا‌ تقيده‌ حدود، وهذه الحالة تدفعه لانكار الاسس‌ العقائدية‌؛ لان الايمان‌ بالقيامة‌ والحساب‌ يحد مـن هـذه الحرية‌ التي تقود الى التحلل والتـفسخ الخـلقي، لكـونه يعلم بأن وراءه ثـواباً وعـقاباً، وأن اعماله سيحاسب‌ على‌ كـل صـغيرة وكبيرة منها، ومن ثم‌ فإنه‌ سيراقب‌ نفسه‌ وسلوكه‌ ولا يطلق لهما‌ العنان‌؛ أما الانسان الذي لا يـفكر فـي تقييد نفسه وتحديد سلوكه فإنه يـنكر مـنذ البدء الاسـس العـقائدية‌ ويـنفي‌ وجود‌ القيامة.

السعادة أو الشـقاء

اللافت للنظر هنا‌ أن‌ هذه‌ الآيات‌ تلقي‌ ضوءاً‌ ساطعاً على أهمية تزكية النفس وتهذيب الاخـلاق، وتـعطيها اولوية خاصة؛ فالسائد في الاوساط هـو أن تـهذيب الاخـلاق يـأتي في المرتبة الثـانية مـن الاهمية، شأنه شأن المستحبات‌، لكن هذه الآية تضع الانسان امام مفترق طريقين لا ثالث لهما:  إما التـزكية أو التـدسية؛ فـإذا اختار طريق التزكية فقد افلح، وإن سلك الطـريق الثـاني فـقد خـاب وشـقى.

العـلاقة الوثيقة‌ بين‌ الاخلاق والعقائد

ثمة ارتباط وثيق بين الاخلاق والعقائد، نستنتجه من الآية الكريمة التي اعطت اولوية خاصة لتزكية النفس، فإذا كانت العقائد تشكل البنى التحتية والاسـس الرصينة للدين الاسلامي فإن‌ الاخلاق‌ هي الاخرى ركيزة هي من اهم ركائز هذا الدين. صحيح أن العقائد مهمة جداً بالنسبة للمسلم، ولكن يمكن أن تنحرف هذه العقائد او‌ تزول‌ اذا لم يبادر المرء الى‌ تـزكية‌ نـفسه وتهذيب اخلاقه، وهذه حقيقة لم نكن لنتوصل اليها لولا أن كشف عنها القرآن الكريم؛ لان الاعتقاد السائد هو وجود نوع من الحدود بين‌ الاخلاق‌ والعقائد، إلا أننا اذا‌ رجعنا‌ الى القرآن الكريم والروايات الواردة في تفسير بـعض الآيات القرآنية، يتضح لنا أن بعض العادات والاخلاق تحول دون الايمان. مثال ذلك نصارى نجران الذين دعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله‌) للمباهلة‌، حيث امتنعوا عن اعتناق الاسـلام لا بـسبب أنهم لم يدركوا حقيقته، وإنما بـسبب حـبهم لبعض المحرمات مثل الخمر ولحم الخنزير، حيث كان عليهم أن يهجروها لو دخلوا في الاسلام وآمنوا‌ به‌.

اذن، ليس‌ هناك حد فاصل بين الاخلاق والاعتقادات، بمعنى أن العـقيدة لا تـُستحصل فقط بطريق العقل والدليـل، وإنـما هناك‌ صلة مباشرة بين الاثنين؛ إذ إن الاخلاق الطيبة الحسنة يمكن أن‌ تمهد‌ لإيمان‌ المرء، كما حصل في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) حينما آمن الكثير من الناس بالنبي (صلى ‌‌الله‌ عليه وآله) بـسبب صـدقه واخلاقه الحسنة. يقول تعالى عن النصارى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة: 82 ـ 83]

فالنصارى‌ خلاف اليهود الذين كانوا‌ ينطلقون‌ من نفس استكبارية معاندة، وكانوا يعتبرون انفسهم شعب الله المختار، ولهـذا قال تعالى عن اليهود:

﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ [المائدة: 82]

ومـن هنا تتضح العلاقة بين الاخلاق‌ والعقائد؛ إذ إن التواضع هو سبب قرب النصارى من المسلمين وايمانهم، اما التكبر والغـرور ‌فـهو سبب بُعد اليهود وعداوتهم للمؤمنين.

واعتبر القرآن الكريم ايضاً أن أخلاق ابليس هي السـبب فـي كـفره‌ وطرده‌ من رحمة الله، لا لكونه جهل السبب في سجوده لادم، فالقرآن عُني بمسألة استكبار ابليس وقال: ﴿أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34]

فالأخلاق السيئة تمنع الايمان، كما أن الصفات الذميمة بإمكانها‌ أن تزيل الايمان حتى وإن كـان صـاحبها قد قام بأعمال حسنة وعرض نفسه للمخاطر في ميادين الجهاد قال تعالى في المنافقين ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 77]، فقد كان هـؤلاء مؤمنين عاهدوا الله أن ينفقوا اموالهم في سبيله إن أغناهم من فضله، لكنهم نقضوا عهدهم فزال ايمانهم وظهر النفاق في قلوبهم‌.

إذن‌ يجب‌ ألاّ ننظر الى تزكية النفس‌ وتهذيب‌ الاخلاق‌ بعين الاستصغار، فإذا غفل المرء عـن عـيوبه ولم يبادر الى اصلاحها أدى به الامر الى الشرك والالحاد والكفر، فالتأكيد الذي جاء‌ في‌ كتاب‌ الله في مسألة التزكية وحصر الفلاح فيها ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا إنما يكشف عن اهمية هذه المسألة وعظمها، لان الاخلاق تـلعب دوراً كـبيراً في حياة الانسان الذي ينتظره‌ مستقبل‌ خطير‌ جداً لو لم يبادر الى مراقبة نفسه ومعالجة سوء اخلاقه‌.

ما هي النفس؟ وما هي الروح؟

السؤال الاخر الذي يمكن أن يطرح هنا هو: ما المراد بالنفس في‌ الآية ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا؟، فقد استخدم لفظ النفس في القرآن‌ الكريم‌ بعدة صور، فهو تعالى يقول في الآية 53 من سورة يوسف: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، ثـم يـقول فـي الآية 27 من سورة الفجر: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً

فهل النفس خيرة أم‌ شرّيرة‌؟ وهل‌ النفس تعني الروح، أم هي امر آخر يستخدم فـي قـبال العقل؟

تـتحدث كتب الاخلاق عن‌ صراع‌ بين النفس والعقل، وتـقول إن هـناك صراعاً دائماً بين النفس والعقل في وجود‌ الانسان‌، فتتغلب‌ النفس تارة، وينتصر العقل تارة اخرى؛ فالنفس هنا تقف فـي الجـهة المـقابلة للعقل. ويفسر‌ الفلاسفة‌ هذه الآية وامثالها وفقاً لمفهومها الفلسفي؛ حـيث تكون النفس في ذلك المفهوم بمعنى‌ الروح‌، ولكن‌ يبقى السؤال: هل المراد بالنفس في هذه الآية الروح؟ وهل النفس والروح شـيء واحـد فـي المصطلح‌ القرآني‌ ام إنهما امران يختلفان عن بعضهما؟

قبل أن نجيب لابد أن نشير الى أن البعض‌ يعتقد بأن الانسان مكون من ثلاثة عناصر : الجسم والنفس والروح، (وقد اضاف اليها آخرون عناصر‌ غـيرها‌ مـثل‌ القـلب والعقل وهو خارج بحثنا)، ولكن الشائع هو أن الانسان مركب من‌ عنصرين‌ هـما: الجـسم والروح.

وحـري بنا أن نقول هنا: إن معنى النفس حسب المصطلح الفلسفي لا ينطبق‌ على‌ المعنى القرآني لها، إلا فـي بـعض الحـالات. قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [الانعام‌: 93]، حيث تصوّر هذه‌ الآية‌ لحظة موت الكافرين؛ فماذا يحصل لدى قبض الروح؟

فيهـذه اللحـظة تـنفصل الروح عن‌ الجسد‌، ولهذا عَبَّر الله تعالى عن‌ هذه‌ اللحظة بجملة‌ (أخرجوا‌ انفسكم‌) ولم يقل: أخرجوا ارواحـكم، فـما هو‌ الشيء‌ الذي تقبضه الملائكة؟ إنها الروح التي اُطلق عليها اسم النفس في هذه الآية‌.

الآية‌ الاخـرى التـي يراد من النفس فيها‌ الروح قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا  [الزمر: 42]

ونحن هنا لسنا بصدد تفسير الآيات الكريمة ومعانيها، وانما أردنا‌ أن‌ نـشير الى بـعض الحـالات التي‌ يتطابق‌ فيها‌ معنى النفس مع‌ معني‌ الروح، ولكن ليس الامر‌ كذلك‌ في كل الاحوال، فـالمصطلحات القـرآنية أوسـع من المفاهيم الفلسفية، اذ إن القرآن الكريم قد‌ يطلق‌ كلمة النفس ويرمى بها إلى مـعان‌ أخـرى‌ غير الروح‌، فحينما يقول تعالى في الآية 53 من سورة يوسف: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي لا يعني أن كل روح‌ تتصف‌ بهذه‌ الصفة‌، وإنما‌ أراد بذلك بعداً‌ خاصاً‌ فـي الروح، وإلاّ فـإن الروح البشرية تميل نحو الخير أيضاً؛ مثال ذلك ارواح الانـبياء والاوليـاء أو‌ الارواح‌ التي‌ عُني اصحابها بتربيتها واعادتها الى فطرتها الطـاهرة‌.

اذن، فالنفس‌ هو‌ مصطلح‌ خاص‌ استخدمه علماء الاخلاق في قبال العقل، فيقال مثلاً: تـغلبت النـفس على العقل؛ ولا يقال تغلبت الروح عـلى العـقل، لان العقل بـذاته يـعتبر احـدى قوى الروح، وبالتالي فهو‌ ليس في حـالة صـراع معها.

ففي كل انسان اتجاهان: أحدهما يدفعه الى الرقي والسمو، والاخر يحثه نـحو الاخـلاد الى الارض والغور في الماديات والشهوات؛ وقد أطـلق علماء الاخلاق على الاتـجاه‌ الى الخير اسم «العقل» والاتجاه نـحو الشـر اسم «النفس»

وكلمة «النفس» في الآية: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا مؤنث مجازي، والمراد مـنها الشـخص الانساني الذي يتكون من جسم وروح، وله هـويته الانـسانية‌ التـي‌ لولاها لم يبق مـن الانـسان إلاّ جسمه، ومفهوم «التسوية» مـن (فـسوّاها) يعني مرتبة تكميل الخلقة، بمعنى أن الله تبارك وتعالى قد اكمل خلق‌ هذا‌ الكائن، وما عـليه إلاّ أن يتحرك‌ باتجاه مسيره التكاملي.

التزكية سـبيل السـعادة الوحيد

آخـر مـا نـريد أن ننبّه عليه هو عـبارة ﴿قَدْ أَفْلَحَ، فالإنسان بطبيعته الفطرية يطمح الى الفلاح والسعادة‌، ولا‌ تجد انساناً يطلب العذاب‌ والشقاء‌؛ لأنها رغـبة مـخالفة للفطرة، ومن يتصور أن الانسان مجبر عـلى طـلب الفـلاح والسـعادة فـهو تصور خاطئ؛ بـل الافـضل أن نقول: إن الانسان مجبول على هذا الشيء رغم أن استخدام كلمة‌ مجبول‌ هو تعبير مجازي؛ فإن الانسان يـرغب فـي تـحقيق السعادة والفلاح هدفاً أساسياً لنفسه

فماذا يـجب أن نـفعل لكـي نـحصل عـلى هـذا الفلاح؟ يجيب القرآن بأن طريق السعادة هو تزكية الاخلاق والنفس‌: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وعبارة قَدْ أَفْلَحَ هنا هي عامل لحث الانسان ودفعه نحو تزكية نفسه وتهذيب اخـلاقه.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2266
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 07 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19