• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : مقالات المنتسبين والأعضاء .
                    • الموضوع : حفظ الأمانات والعهود في بُعده الأخلاقي .

حفظ الأمانات والعهود في بُعده الأخلاقي

سماحة السيد إبراهيم الشخص

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ [المؤمنون: 9ـ8].

الآية الكريمة تتكلّم حول حفظ الأمانة ومراعاتها، أن يكون الإنسان أميناً يحفظ أمانات الناس فهذا من أهم الصفات الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلّى بها الإنسان، ولذلك آثار كبيرة على حياته وعلى علاقاته، بل لعل العلاقات الاجتماعية العامة ترتكز على الأمانة كمحور أساسي، فالشخص غير الأمين لا يرغب الناس في التعامل معه، وكلّما برزت صفة الأمانة عند شخص ما، كلّما اطمأن الناس إليه أكثر، وتعاملوا معه برغبة وطمأنينة. وقد ذكرت الآية عدّة صفات للمؤمنين، ولما ذكرت الأمانة ذكرت الصلاة، والأمر نفسه في سورة المعارج حيث ذكرت حفظ الأمانة وذكرت الصلاة، فتقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ [المعارج: 32ـ35].

والتعبير بالرعاية لعلّه يشير إلى شدّة الاهتمام، يعني لا يحفظ الأمانة فحسب بل يرعاها أيضاً، فيحافظ عليها باهتمام إضافي أكثر من مجرّد الحفظ، والأمانة إذا أردنا معناها العام نستطيع أن نطبّقها على أشياء كثيرة، فالأمانة لا تنحصر في أن يضع شخص عندك شيئاً مادياً كأمانة، بل قد تشمل حفظ السرّ مثلاً، وتشمل الوفاء بالعهود مثلاً، سواءً كانت عهوداً صريحة أو عهوداً ضمنية، يعني ما تتفق مع الآخرين عليه من أمور، وحتى الأخلاقيات في التعامل، بل تشمل الأمانة أيضاً - إذا أردنا أن نوسّعها - كل ما يرتبط بالإنسان من علاقات حتى علاقته مع نفسه، فيكون أميناً على ما أعطاه الله من قدرات وطاقات وخيرات، فهذه أيضاً أمانة، وعلاقة الإنسان مع ربه تقتضي أن يحافظ على أمانات الله عنده، فكل نعمة ينعم الله بها علينا هي أمانة عندنا، وينبغي أن نعطيها حقّها ونؤدّي حقّها كما يحب الله عز وجل.

وفي سورة المعارج تُشير الآيات قبل هذه الآية إلى طبيعة الإنسان، فتقول: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾ [المعارج: 19ـ21] ثم تذكر بعض الصفات التي تحافظ على الإنسان من الوصول إلى هذه الحالة، والإنسان بطبيعته يحذر من الشرور ويحرص على الخيرات، لكن الآيات أتت في سياق الذم؛ لأنّ الإنسان - عادةً - يستفيد من هذه الصفة بنحو سلبي، فأن تصرف إلى الخير فهذا شيء جيد، لكن أن يكون مَنُوْعاً - أي: يمنع عن غيره الخير، ويحبّه لنفسه فقط - فهذه صفة سلبية، وأن يخاف من الشرور فهذا شيء جيد، لكن كيف يحدّد الشرور التي يخاف منها ويبتعد عنها وكيف يحدّد - مثلاً - الخيرات التي يطلبها هل هي فعلاً خيرات وتلك شرور؟ أو ربما يميل عن الحق ويعكس أحياناً الشر الذي يجب أن يبتعد عنه يجعله خيراً ويتعامل معه كخير، والخير يتعامل معه على أنه شر، فالآيات التي بعد هذه الآيات تشير إلى تخلص الإنسان من سلبيات هذه الصفة إذا كان بصفات المؤمنين: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المعارج: 22] الارتباط بالله عز وجل: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: 23ـ25]. إلى أن تقول الآيات: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ﴾ [المعارج: 32ـ35]. وفي سورة المؤمنين أيضاً مدحت المؤمنين فقالت: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: 1ـ3] ثم ذكرت صفات أخرى مرتبطة بالإنفاق في سبيل الله والارتباط بالله و... إلى أن تقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾.

 إذن، من المناسب أن يحافظ الإنسان المؤمن على أمانته التي تشمل ما استأمنه الله من خيرات ومن بركات ومن صفات حسنة، بل تشمل كل ما سخّره الله له.

فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ليكون خليفة له على الأرض وسخّر له كل ما في الكون، فجميع الكائنات تحت تصرّف الإنسان، والمفروض على الإنسان أن يمثّل الله، ولو وعى الإنسان هذا الكلام وفهمه حق فهمه لانعكس على عمله، فأنت حينما تتكلم يجب أن تراقب الله سبحانه وتعالى، وعندما تفعل أي فعل كأن تتعامل مع صغير أو مع كبير أو مع جماد أو مع حجر أو مخلوقات أخرى، فينبغي أن تتعامل مع كل منها كأمانة؛ لأن الله جعلها خاضعة لتصرّفاتك كإنسان.

الآيات التي تذكر تسخير الكون للإنسان عديدة، منها ما يذكر عدة أمور، ومنها ما يقتصر على بعض المظاهر، ففي سورة لقمان: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [لقمان: 20].

﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني كل المخلوقات، فلا يوجد شيء إلا وهو للإنسان ولأجله، فإذا أخذها الإنسان وهو لا يعي هذا المعنى ولا يعيش مع المخلوقات بهذا المعنى، فهو لا يعطي - في الواقع - هذه الأمانة حقّها.

وذكرت الآيات الكريمة في صفات المؤمنين أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾. هذه أيضاً - كصفة - يمكن أن نربطها بالأمانة؛ لأن الإنسان في الواقع يميل إلى الراحة واللا مسؤولية، فلا يشعر بالمسؤولية، وعندما تعبّر الآية باللغو وهو ما لا فائدة فيه، تقول: إن المؤمن يجب أن يُعرِض عن اللغو ويميل عنه ويبتعد عنه قدر المستطاع، وهذا من شكر النعمة وحفظ الأمانة، فحينما يعطي اللهُ الإنسانَ كل هذه القدرات فمن واجب الإنسان أن يشكر هذه النعمة ولا يصرف وقته وجهده وخصائص قدراته العقلية والنفسية في أشياء لا فائدة منها، مثلاً: في مزاح بلا غرض وتضييع الوقت هنا وهناك، بل ينبغي أن يقدّر الإنسان نفسه ويتعرّف على قيمته ليعطي نفسه حقّها، فيؤدّي حق أمانة الله عز وجل، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾ [الإسراء: 70].

فهذا التكريم وهذا التفضيل له حق، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بنفسه وأن يضع نفسه في مواضع لا داعي لها، تجعل منه إنساناً حقيراً أو إنساناً لا مبالياً ولا يهتم بما أعطاه الله عز وجل. يقول الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ما مزح امرؤ مزحة إلا مج من عقله مجة» [نهج البلاغة، الحكمة رقم 450]، يعني هو يستخف بنفسه ويقلّل من قدره.

وعنه (عليه السلام) أيضاً أنه قال: «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت» [نهج البلاغة، الخطبة رقم 224] يعني: غلاف الشعير. أي: شيء بسيط جداً، يعني أن نملة تأخذ قشرة شعيرة، يقول: أنا لا أسلبها ولا أخون الله عز وجل حتى في هذه الأمانة البسيطة.

هكذا يحافظ الإمام عليه السلام على أمانة الله، نسأل الله أن يوفّقنا جميعاً لأداء حق الأمانات التي أودعها الله فينا.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2238
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 05 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29