• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : الأخلاق في القرآن الكریم (2) .

الأخلاق في القرآن الكریم (2)

القرآن الكريم والكمال البشري


 أية الله العظمى الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي"دام ظله"

عرفنا أنّ لكل نظام أخلاقي نظرية أخلاقية يعتمد عليها ويستمد قيمته منها، وعرفنا‌ أيضا أنّ لكل نـظرية مبادئ تبتني عليها وتنطلق منها.و المبادئ هذه‏ منها ما‌ هو عام تشترك فـيه‌ كل‌ النظريات الأخلاقية،و منها مـا تـختص به كل نظرية لنفسها.

و عرفنا أنّ المبادئ العامة لكل النظريات الأخلاقية هي:

 1-إنّ الإنسان كائن حرّ في سلوكه.

2- لكل إنسان هدف أقصى يسعى إليه في الحياة‌.

 3-قدرة الإنسان على الوصول الى الكمال اللائق به.

4- إنّ مصير الإنسان مـن سعادة أو شقاء معلولان لسلوكه الإختياري.

و قد عرفنا موقف القرآن الكريم من حرية الإرادة الإنسانيّة،و نريد الآن أن نعرف‏‌ موقف‌ القرآن الكريم من الكمال البشري كمبدأ أساسي من مبادئ النظرية الأخلاقية القرآنية،و موقفه من تعيين الكمال اللائق بـالإنسان:

قـال تعالى:

﴿يوم يأت لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد‌*فأمّا‌ الّذين شقوا ففي‏ النّار...و أمّا الّذين سعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السّموات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذوذ﴾ [هود:501-801]

و قال:

﴿قال اللّه هذا يوم ينـفع الصـّادقين‌ صدقهم‌ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم﴾ [المائدة:911]

و قال:

﴿لكن الرّسول والّذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم واولئك هم المفلحون‏‌ *أعدّ‌ اللّه‌ لهم جـنّات تـجري من تحتها‌ الأنهار‌ خالدين‌ فيها ذلك الفوز العظيم﴾ [التوبة:88-98]

للكمال البشري مفهوم واحد واضح لا يختلف فيه اثنان،كما لا يختلف الناس في‏ فهم معنى الوجود‌ والنور‌.و إنّما‌ الإختلاف كلّ الإختلاف في مصاديق الكمـال.فـقد يرى‏‌ البـعض‌ شيئا مصداقا للكمال،و لا يراه الآخر مـصداقا لذلك.

إنـّ لكل انـسان مثلا أعلى في الحياة يسعى حثيثا للوصول إليه‌،فهو‌ يستهدفه‌ في‏ حياته،و يكون جامعا لآماله،و يكون هو الدافع العميق والأصيل‌ في وجوده فـي كلّ‏ تـصرّفاته وطـموحاته.

فالكمال هو القمّة التي يتحرّك باتجاهها الإنسان فـي حـياته.و لا نكاد نجد‌ إنسانا‌ ليس‏‌ له طموح في الحياة،أوله طموح لأمر مجهول في قرارة نفسه‌.

إنّ‌ كلّ إنسان مفطور على حبّ ذاتـه،فـهو يحـب أن يكون سعيدا وفائزا في كل شؤون‏ الحياة‌.و لهذا‌ يصحّ‌ أن نقول إنّ كلّ انـسان-مهما كانت رؤيته نحو الكون والحياة-يريد‌ الفوز‌ والفلاح‌ في الحياة.

إذا الفوز والسعادة والفلاح كلمات تعبّر عن مفهوم مشترك يقـصده كل إنـسان‌ حـينما‌ يبدأ‌ حياته الشعورية،و يبدأ سعيه الحثيث نحو الكمال(نحو ما يراه كمـالا له وسـعادة وفلاحا)‌.

إنّ‌ الكمال مطلوب لكل انسان،و لا يمكن أن نتصوّر من يغفل عن ذلك أو‌ يتنازل‌ عنه‌.

إن النـاس بـالرغم من اختلاف درجات‌ ثقافتهم‌ واتجاهاتهم وعقائدهم في الحياة،فإنّهم لا يختلفون في امـتلاك هـذا الطـموح نحو الكمال‌.

إنّ‌ الطموح‌ نحو الكمال مع المثل الأعلى الذي يختاره الإنسان في حياته هـو الذي‏ يفـسّر لنـا كل‌ عمل‌ يصدر من الإنسان باختياره،و يكون هو الداعي القريب أو البعيد لإيجاده.

و قد‌ أوضح‌ لنا‌ القـرآن الكريم مـوقفه من هذا المبدأ من خلال:

1- تعليله لضرورة اكتساب الإيمان بالله تعالى،و العمل‌ الصـالح‌ فـي‌ الحـياة الدنيا بأنّهما معا ينتجان الفوز والفلاح الأبديين،و تعليله لضرورة اجتناب الكفر‌ والشرك‏‌ والنفاق والفـسق بـأنّها توجب الخيبة والخسران والشقاء الأبدي.

2- و هكذا تعليله لوجوب الصوم بأنّه يحقق للمؤمن مـلكة‌ التـقوى‌،ثـمّ تعليله للزوم‏ تحصيل التقوى بأنّه يؤدّي الى الفلاح.بينما لم يعلّل‌ القرآن‌ ضرورة تحصيل الفلاح أو ضرورة التخلّص مـن‌ الشـقاء‌.

إنّ‌ تعليل الأحكام الإلهيّة وتعليل السلوك البشري وتوجيهه‌ وجهة‌ تؤدي إلى الفوز والفـلاح وتـبعده عـن الخسران والشقاء...إلى جانب السكوت عن تعليل‌ لزوم‌ تحصيل‏ السعادة...كلّ هذا يفيدنا‌ ما‌ يلي:

 1-إنّ‌ مطلوبية‌ السـعادة‌ والفـوز والفـلاح التي هي تعبير آخر‌ عن‌ الكمال المنشود لكل‏ إنسان لا تحتاج الى تعليل لأنّها مـطلوبية ذاتـية.فإن‌ كل‌ انسان ذي شعور وعقل وإرادة إنّما‌ يكدح في الحياة لأجل‌ تحصيل‌ الكمال الذي يتجسّد في السعادة‌ والفوز‌ والفلاح.

و الكدح لغـير هـذا يكون لغوا وعبثا.و إن اختلف الناس في تصوّرهم لمصداق‌ السعادة‌ والفلاح.

 2-و القرآن الكريم باعتباره كتـاب‌ هـداية‌ وإرشاد‌،فمن الطبيعي أن‌ يرشد‌ الإنسان إلى‏ مـا يكونـ‌ فـلاحا‌ له،و يعدّ فوزا حقيقيا وسعادة واقعية له،ما دامـت الرؤى حـول واقع‏ السعادة وحقيقة‌ الفلاح‌ والفوز غير متقاربة ولا متّحدة.

3- إنّ‌ سلوك‌ الإنسان يحتاج‌ إلى‌ تـوجيه‌ وتـرشيد وتعليل.و إنّ الداعي‌ الجدير بـالتركيز عـليه هو حـبّ السـعادة والفـلاح وكراهة الشقاء والخسران،و هذان الداعيان أصـيلان‏ وفـطريان ويستمدان‌ فاعليتهما‌ من عمق وجود الإنسان.

 4-إن الإنسان‌ قد‌ لا‌ يكتشف‌ ما‌ هو كمـاله اللائقـ‌ به‌ بسهولة وبسرعة في بداية الشـوط من حياته،و إن اكتشف ذلك فـقد لا يقـتنع به ولا يؤمن‌ به‌ إيمانا‌ كامـلا.و مـن هنا فالعقبة التي‏ تقف عادة‌ أمام‌ وصول‌ الإنسان‌ الى‌ كماله‌ اللائق به تتلخص في أحـد أمـرين:

أ- الجهل بالكمال اللائق بالإنسان،أو عدم الإيمـان بـه بـاعتباره كمالا لائقا بـه.

ب- الجـهل بما يؤدّي الى الوصول إلى هذا الكمـال اللائقـ‌،أو عدم الإيمان به.و من هنا يتصدّى القرآن بشكل حثيث ليوضح للإنسان مصداق كماله اللائق بـه.و يحـاول-بشتّى‏ الأساليب-أن يصوّره له بنحو ينتج الإيمـان بـه.

كما إنـه يتـصدى لتـوجيه‌ سلوكه‌ الاختياري توجيها مـنبعثا من حبّه للكمال والسعادة،أو بغضه وخوفه من الشقاء والخسران،و بهذا لا يتحكم في السلوك الاختياري للإنـسان‏ بـلسان القانون الجاف،بل يحاول إيجاد الداعـي المـؤثّر،و يهـيّئ‌ الظـروف‌ الكافـية لتحصل‏ للإنسان المـفكر والواعـي القناعة الكافية بلزوم اختيار هذا النوع من السلوك الذي يراه‏ القرآن الكريم محقّقا للسعادة الواقعية ومبعدا عن الشـقاء‌ الحـقيقي‌.

و لأجـل أنّ نستلهم رؤية القرآن‌ في‌ هذا المجال يجـدر بـنا أن نـدقّق فـي الآيات التـي‏ أشـرنا إليها في بداية البحث،و هي نموذج واحد من مجموعة النماذج التي قدّمها القرآن‏ الكريم‌،و أكدها‌ بشتّى أنواع التأكيد،ليحصل‌ الإنسان‌ على الأهداف المرسومة له بمل‏ء إرادته وكامل اخـتياره.

لاحظ قوله تعالى في سورة هود:

﴿يوم يأت لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه فمنهم شقيّ وسعيد* فأمّا الّذين شقوا ففي النّار...و أمّا‌ الّذين‌ سعدوا ففي الجنّة﴾ [هود:501-801]

فلكل انسان مصيرة ونهايته (التي يحققها له عمله الاختياري وسـلوكه الإرادي)كمـا صرّح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى:

﴿و أن ليس للإنسان إلاّ ما سعى﴾ [النـجم:93]

و قوله:

﴿إنّما تجزون‌ ما‌ كنتم تعملون‌﴾ [التحريم:7.و الطور:61]

و قوله:

﴿كلّ نفس بما كسبت رهينة﴾ [المدثر:83]

و قوله:

﴿إن أحسنتم‏ أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾ [الإسراء:7]

والشقاء الحقيقي يتجسّد‌ فـي اسـتحقاق النار(فما خير بخير بعده النار) والسعادة الحقيقية تتجسّد‌ في‌ استحقاق‌ الجنّة(و ما شرّ بشرّ بعده الجنّة).

أمّا كيف يحقّق سلوك الإنسان للإنسان مـصيره النهائي؟فلنلاحظ قـوله تعالى في سورة ‌‌المائدة‌:

﴿هـذا يوم ينـفع الصّادقين صدقهم لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‌ أبدا‌ رضي‌ اللّه عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم﴾ [المائدة:911]

و قوله تعالى حكاية وتقريرا لكلام إبراهيم الخليل عـليه‌ السـلام:

﴿و لا تخزني يوم يبعثون‏ *يوم لا ينفع مـال ولا بـنون*إلاّ من‌ أتى اللّه بقلب سليم‌﴾ [الشعراء:78-98]

و قوله‌ تعالى:

﴿قد أفلح من تزكى*و ذكر اسم ربّه فصلّى﴾ [الاعلى:41-51]

وقوله:

﴿قد أفلح من‏ زكاها﴾ [الشمس:9]

إنّ التعبير عن السعادة العظيم بالفلاح وبالفوز العظيم يستحق الإنتباه.و قد جـمع‏ القـرآن الكريم بين الفلاح والفوز‌ العظيم في قوله تعالى في سورة التوبة:

﴿لكن الرّسول‏ والّذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأوئلك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون* أعدّ اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‌ ذلك‌ الفـوز العـظيم﴾ [التوبة:88-98]

هذا هو موقف‌ القرآن‌ الكريم من طموح الإنسان نـحو الكمال،و من الكمال اللائق‏ بالإنسان ليطمح إليه بكل قواه ووجوده.و المصطلحات التـي تـرشدنا هـنا لموقف القرآن‏ الكريم من هذا المبدأ هي:

1- السعادة والشقاء ومشتقاتهما‌ وما‌ يفيد مفادهما.

 2-الفوز ومشتقاته وما يقابله.

 3-الفـلاح ‌ ومـشتقاته وما يقابله.

 4-الآخرة.

 5-المنتهى.

 6-المصير.

7- الجزاء.

 8-الربح والخسران والخزي.

9- كل الآيات التي تكفّلت تطبيق المـصير أو السـعادة أو الفـوز على المصاديق‌ التي‏‌ يرتضيها‌ خلاق الإنسان للإنسان.

-10 كل‌ الآيات‌ التي‌ علّلت أنواع سلوك الإنسان،و أبرزت نـتائج كل صنف بلام‏ التعليل أو لعلّ المفيدة للترجّي...مثل قوله تعالى:

﴿لعلّكم بلقاء ربّكم تـوقنون‌﴾

و﴿لعلّكم‌ تسلمون‌﴾

إذن تشخيص الكمـال اللائق بـالإنسان وتعيين مصداقة الواضح‌ بحيث‌ لا يبقى للإنسان‏ إبهام عند تصوّره هو من أهمّ ما تكرّم به القرآن الكريم في عطائه للإنسان الذي أراد‌ له‏‌ الهداية‌ والوصول إلى كماله المنشود.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2158
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 07 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24