• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : دروس قرآنية تخصصية .
              • القسم الفرعي : التجويد .
                    • الموضوع : النبر "المد والقصر" .

النبر "المد والقصر"

 أنستاس الكرملي

ليس من امة على وجه البسيطة اعتنى ابناؤها‌ بالتجويد مثل امة العبريّين فانهم بلغوا في تحقيق‌ التوراة شأواً بعيداً تقطّعت دونهم اعناق مسابقيهم فيه. وقد فاقوا التحقيق عند‌ اهـل‌ التـجويد: «اعطاء‌ كـل حرف حقّه من اشباع المـدّ وتـحقيق الهـمزة واتمام الحركات واعتماد الاظهار والتشديدات وبيان الحروف وتفكيكها واخراج بعضها من بعض بالسكت في ذلك‌ اليونان‌ والرومان وان لم يكونوا بمنزلتهم من الفلسفة والعرفان‌ وقـد عـينّوا لاخـتلاف انواع الحدر والتدوير والترعيد والترقيص والتطريب والتحزين‌ [الحـدر «بفتح الحـاء وسكون الدال المهملتين‌ هو: ادراج‌ القراءة وسرعتها وتخفيفها بالقصر‌ والتكسين والاختلاس‌ والبدل والادغام الكـبير وتـخفيف‌ الهـمزة ونحو ذلك»- و«التدوير هو: التوسّط بين المقامين بين التحقيق والحذر» - و«الترعيد هو: ان‌ يرعد‌ صوته كافه يرعد مـن بـرد‌ او‌ ألم»-و«الترقيص‌ هو: ان يروم السكوت‌ على‌ الساكن ثم ينفر مع‌ الحركة‌ كأنه في عـدوّ او هـرولة» ـ و«التطريب هو: ان يترنّم‌ [بالقراءة] ويتنغّم بها فيمدّ في غير مواضع المدّ‌ ويزيد في المدّ على ما لا‌ ينبغي»- و«التحزين‌ هـو: ان يـأتي‌ على‌ وجه‌ حزين يكاد يبكي مع‌ خشوع وخضوع» (كل ذلك بحرفه عن الاتقان 1:102 و103)] في تـلاوة‌ الكـتاب‌ ما‌ يقضي منه العجب العجاب وقد اصطلحوا لكل ذلك على اشارات وعلامات‌ وامارات تحير عندها الالباب. ومن جملة ما تـعرّضوا له فـي هـذا الباب. النبرة فانهم احسنوا‌ إحكامها‌ وأحكامها حتى لم يبق في ذلك ادنى ارتياب ومـمّن جارى العبريين في هذا‌ الميدان‌ العرب فانّهم لمّا كثر اختلاطهم بمجاوريهم وعاشروهم بل نشأ اقوام منهم بين‌ ظـهراني‌ اصـحاب‌ التـوراة (وذلك قبل الاسلام بقرون عديدة) تعلّموا منهم اصول التجويد واحكامه ومن ثمّ‌ اصـبح‌ فـيهم طبيعياً غريزياً. قلنا: «تعلموا منهم» لان العرب كانوا أميين اهل راعية وسائمة وليس‌ من‌ همهم‌ معرفة هذه الامور ولا اتـقانها. ولا لوم عـليهم ولا تثريب ولمـّا جاءهم‌ الاسلام‌ اتقنوا اي اتقان علوم القرآن ومن جملتها التجويد فانّهم ابـدعوا فـيه‌ حـتّى‌ لم‌ يبق لمستزيد من مزيد. وممّا عرفوه احسن المعرفة وادّوه حقّ التأدية ما سمّاه المـحدثون‌ فـي‌ عـصرنا‌ هذا «النبرة» فانّهم تكلّموا عنها وافاضوا في شرحها وهم مع ذلك لم‌ يوفّوها‌ حقّها من البحث والتـطويل اللازم ولعـلّ سبب ذلك عموم معرفتها وانتشار استعمالها بين‌ الجميع‌ فلم يكن حاجة في تعليم مـعلوم كـما لا حـاجة في تحصيل حاصل الاّ‌ ان الافرنج الذين كتبوا عن اللغة العربية‌ وآدابها‌ انكروا كل الانكار كون السـلف مـن العرب‌ كتبوا‌ شيئاً عن النبرة ولعلّهم بحثوا في كتب القوم عمّا عساه يـقع تـحت‌ قول‌ الترتيل والتّؤدة وملاحظة‌ الجائز‌ من الوقوف‌ بلا‌ قمر‌ ولا اختلاس ولا اسكان‌ محرّك‌ ولا ادغامه» (بحرفه عن الاتقان 1:101)

هذا العـنوان او عـمّا يضاهيه فلم‌ يجدوا‌ فشدّدوا هذا النكير. وجدّدوا صـوت هـذا لا نـفير.‌ كل‌ مرّة‌ طرقوا‌ باب‌ هذا البحث الخطير امـّا‌ كـتبة العرب المحدثين فلمّا ارادوا التحرير في مثل هذا الموضوع عينه رفعوا عقيرتهم هم ايـضاً عـلى‌ مثل‌ ما‌ رفعها الاجانب ومـا ذلك الاّ لثـقتهم‌ بالافرنج‌ ثـقة‌ تـفوق‌ كـل‌ تصوير‌ غير انهم لم ينكروا عيناً كـون الاوليـن عرفوا النبرة واحكموا وضعها والتلفّظ بمواقعها ومساقطها وبكلمة واحدة فقد قالوا بـقول الافـرنج ولم يختلف‌ كلامهم عن كلام هؤلاء بـشي‌ء ولا بذرّة. قال حضرة العلاّمة الخـوري يـوسف داود (وهو الذي سقّف بعد ذلك على دمـشق الشـام وعرف باسم المطران اقليميس يوسف داود) في كتابه «التمرنة‌ في‌ الاصول النحوية»1:23 من طـبعة سـنة 1875 ما هذا حرفه:

«ان النبرة لم يبحث عـنها نـحاة العـرب لا لانها لا توجد فـي لغـتهم. فانه في جميع اللغات لا بـدّ للمـتلفظ من‌ ان‌ يرفع صوته في جزء واحد من كل لفظة دون سائر اجزائها. بل لانهم لم يـروا الاحـتياج الى الكلام عنها اذ انّ الطبع نفسه فـي‌ اغـلب‌ الاحيان يـدلّ عـليها. فلم يـصطلحوا على‌ اسم‌ علمي لهـا ولا رسموا لها علامة. بخلاف اليونان والعبران. وامّا ان الحاجة الى الكلام عن النبرة لازمة في زماننا فواضح مـن ان اكـثر‌ العجم‌ اي الغرباء غير العرب‌ في‌ تـكلّمهم بـالّلغة العـربية يـفسدون الفـاظها لقلة مراعاتهم ضـوابط النـبرة. وان اقواماً كثيرة من المتولّدين في العربية انفسهم لا يحكمونها كل الاحكام»

وبهذا المعنى نطق ايضاً من تلا هـذا العـلاّمة‌ فـي‌ الكتابة عن هذا الموضوع بل وربّما زادوا فـي الغـرابة ليـزدادوا شـهرة فـقد قـال احدهم: ولعلّ السبب في ذلك (اي في عدم تعرّض العرب للكلام على احكام النبر) انهم وجدوه طبيعياً في‌ الناطقين‌ بهذا اللسان‌ على كونه «لا يغير شيئاً من حقيقة اللفظ» فلم يـفردوا له موضعاً في تصانيفهم لان هذا الكاتب اذا‌ قال له قائل سام وسما (يسمو) وسماء فهو بمعنى واحد عنده‌ فلينظر‌ العاقل‌ اذا كان في هذا الكلام وجه للصواب فانه في ذلك يتبع كلام الافرنج ورأيهم لانهم لا ‌‌يـرون‌ فـرقاً بين هذه الكلمات عند تلفّظهم بها كما نتحقّقه فيهم اليوم هذا ولا‌ أريد‌ ان اجحد هنا امراً في هذا الصدد وهو: ان اول من سبقنا الى البحث عن النبرة‌ وذكر لها قواعد صريحة على الطريقة المـحدثة المـتخذة اليوم في المدارس هم‌ الافرنج وفي مقدمتهم‌ العلامة‌ الفرنسي دساسي الشهير ثم تلاه غيره من الالمانيين ثمّ من الانكليز ثمّ من الايطاليين وان كـان عـلماء الايطاليين هم اوّل من كتب مـن الافـرنج عن نحو العربية.

2. اصل لفظة النبرة‌ ومعناها وأول من كتب عنها هذا الاسم

النبرة لغة من النبر وهو عند العرب: ارتفاع الصوت يقال: نبر الرجل نبرة اذا تكلّم بكلمة فـيها عـلوّ (عن ابن الانباري في لسـان العـرب) واصطلاحاً‌ هو ارتفاع الصوت في مقطع من مقاطع الكلمة. اوّل من اطلق معناها على هذا المصطلح اللغوي الشهير المعلم بطرس البستاني في كتابه محيط المحيط اذ قال: النبرة... من المغنّي رفع صوته عن خـفض‌ اي‌ بعد خفض ولا باس من تسمية ما تسمّيه الافرنج بالاكسنت (قلت: والاحسن: بالأكسان طونيكaccent tonique ) بالنبرة لرفع الصوت فيه اكثر ممّا يجاوره كما في ضمّ الجيم من رجل وفتح‌ الدال من «تدحرج» ولم يزد على هذا القـدر لا فـي غير مـوطن من محيط المحيط ولا في غيره من سائر مؤلفاته واوّل من كتب عنها مطولا‌ً في‌ العربية‌ على الطريقة المحدثة المـذكورة هو‌ العلاّمة‌ الذي‌ استشهدنا بكلامه فويق هذا فقد بحث عنها بـحثاً طـويلاً فـي كتابه التمرنة (1:23 -25) واتخذا لها نفس التسمية التي سماها بها المعلم‌ بطرس‌ البستاني. الاّ‌ ان من طالع ما كتبه هـذا  ‌المـطران الجليل‌ ووقف على ما سبقه اليه الافرنج في هذا البحث يتحقّق هذا الامـر وهـو انـه اعتمد في ما قرّره‌ من‌ قواعده‌ على فصول الافرنج ولذا اخطأ في المواضع التي اخطأوا‌ فـيها واصاب في ما اصابوه ورجّح في ما رجّحوه. افهذا كان من قبيل توارد الخـواطر ووقوع‌ الحافر‌ علي‌ الحـافر ام مـن باب الاعتماد والاخذ عمّن سبق؟

3. اسمها عند‌ من‌ سبقنا من العرب

وقد حان لنا بعد ايراد ما تقدّم ان نذكر اسمها عند من‌ سبقنا‌ من‌ العرب الاّ اني استميح القارئ مرّة ثانية في استماع كـيفية وقوفي‌ عليها‌ لتزداد‌ ثقته بكلامي التالي ولا يجرّد علي بعد ذلك سيف اعتراضه الماضي لأني ارى من‌ الآن‌ طائفة‌ من الادباء لا يوافقونني على هذا الرأي ولهذا اجيب عن اعتراضهم قبل ان‌ يوجهوه‌ الي:

اني كنت قد نـشأت عـلى هذا القول اسابق ذكره وبينما كنت‌ يوماً‌ في‌ مجلس حضرة فقيد العلم والادب الشيخ العلاّمة الشهير نعمان افندي الالوسي جري الحديث‌ ((و الحديث ذو شجون» على النبرة. وذكرت له رأيي المتقدّم الاشارة اليه فانكر عـلي ذلك‌ وشايعه‌ كل من كان في مجلسه من علماء الزوراء الاعلام وقالوا كلهم اجمعون: ان العرب عرفت‌ النبرة‌ وتكلمت عنها في كتبها. ولمّا طلبت من الجلاس بأي اسم ذكروها‌ وفي‌ أي نـوع مـن الأسفار بحثوا عنها. قالوا: هذا يطلب بحثاً عنها قبل الجواب الكافي الشافي. ثم قال لي‌ حضرة‌ الشيخ‌ الجليل نعمان افندي: «إيتني بنص مترجم عن الافرنج في حقيقة النبرة واقسامها‌ على‌ وجه الاجمال بـدون تـعرّضهم لنـبرة العرب وانا ادلّك بعد ذلك على ضـالّتك المـنشودة» فنقلت له الى‌ العربية‌ في اليوم الثاني ما جاء في «معجم بويه العام في العلوم والآداب‌ والفنونBouillet.Dict.univ.des scicnccs,des lett.et » des arts عن‌ النبرة‌ واليك صورة ذلك التعريب:

«النبرة...والمراد‌ بـالنبرة‌ ايـضاً: رفع الصـوت وخفضه على هذا او ذلك المقطع عند التلفّظ بـالكلمة وهـذه‌ النبرة تسمّى «بالنبرة الشعرية او التنغميمية» وتطلق‌ عليها اسم (الحادّة‌ accent-aigu) اذا‌ رفعت الصوت عليها. واسم (الثقيلةac.grave ) اذا‌ خفضت‌ الصوت عليها. واسم«المركبة (ac.circonftexe) اذا رفعت الصوت او خفضته عـلى التـعاقب عـلى‌ نفس‌ ذلك الحرف العليل. ويطلق غالباً على‌ اسم النبرة الحادّة لفـظة‌ النبرة‌ التنغيمية او اللحنية او اسم «النبرة» فقط‌ وذلك من باب التغليب. واليك قاعدة عامة في هذا الصدد وهي: لا‌ يمكن‌ ان يكون للكلمة الواحـدة غـير‌ نـبرة‌ واحدة»...

وبعد ان‌ سلّمت‌ بيد الشيخ الوقور هذه‌ الاسطر‌ واطلع عليها قـال لي: وانت ايضاً ابحث عن هذه الضالّة فلعلّك تعثر عليها‌ هنا. فعدت‌ الى محلى وانا اتصفّح الكتب‌ واحداً‌ بـعد واحـد‌ حـتّى‌ وقعت‌ على كتاب الاتقان للسيوطي‌ فطالعت فيه «باب المدّ والقصر» فألفيت في بـعض كـلامه اشـارة ضعيفة بعيدة الى النيرة «الحادّة» او التنغيمية‌ او‌ «النبرة» مطلقاً والى النبرة «الثقلية» ايضاً. وكان ذلك‌ في‌ اليوم‌ الثالث‌ من‌ تصفّحي الاسفار فلما كـان‌ اليـوم‌ الرابـع تأبطت الكتاب ووسمت الموطن بسمة وذهبت عند الشيخ لاطلعه على الفصل المذكور قبل‌ ان‌ يـتعب‌ نفسه في البحث والتنقيب. فلمّا رآني قال‌ لي: لقد‌ فهمت‌ سبب‌ مجيئك‌ وهذا الكتاب الذي تـراه عـن يـميني ينتظر قدومك فخذه وطالع فيه: «النوع الثاني والثلاثين» فلمّا عرفت انه «الاتقان» قلت: فخذ الآن وطالع ما اتيتك به وهـذه العـلامة تشهد‌ بأني قد عثرت على نفس ما عثرت عليه من امر هذه الضـالّة التـي نـنشدها معاً. فتعجب من هذا الاتفاق الغريب كما تعجّبت انا ايضاً منه. ثم قال لي: لا تعد تقول بـعد ذلك‌ ان‌ العرب لم تطرق هذا الموضوع. فقلت له: ولكني ايها الشيخ الجليل اعترف لك بجهلي واقـرّ لك بـقلّة فـهمي في كيف ان المدّ يكون نبراً معاً والمؤلّف لم يتعرّض لهذا‌ البحث‌ اذا ما تدبّر الانسان تحديده ثـم انّ المـدّ غير النبر والعكس بالعكس وان بينهما بعداً بيناً على ما ارى بل بعد‌ الثـريا‌ عـن الثرى فكيف كل هذا‌ وقد قال لي في المدّ: «المدّ عبارة عن زيادة في حرف المدّ عـلى المـدّ الطبيعي وهو الذي لا تقوم ذات حرف المدّ دونه: و قال‌ في القصر: «القصر ترك الزيادة‌ وابـقاء المـدّ الطبيعي على حاله ولم يزد على هذا القـدر فـكيف تـرى فيه النبر وهو لم يشر اليه ولو من طـرف خـفي؟ فقال: ان المدّ لا يكون الاّ ويشدّ‌ بقرنه‌ النبر اي رفع الصوت والطبيعة نفسها تدفعك الى هذا الامر وذلك لأنك اذا حـاولت ان تمدّ الحرف في الكلمة انـدفع النـفس من اقـصى الفـم بـعد ان تكون آلاته‌ قد‌ تهيأت لهذه‌ الغـاية والذي يـحتاج الى طول نفس يحتاج ايضاً الى قوّة له لكي يتمكن من ان يبلغ‌ مداه. بخلاف مـا اذا كـان في الحرف قصر. هذا وانّ القوّة‌ تـخرج‌ بكل‌ شدّتها في اوّل صـدورها ثـم تتناقص وتضعف شيئاً فشيئاً كـما هـو مقرّر في ناموس الاصوات و‌‌عليه‌ فما يجيء بعد المدّ يكون طبعاً قصير المدّة وضـعيف القـوّة معاً. وانت ترى‌ انّ‌ الافـرنج‌ قـد اخـذوا اصطلاحهم من جـهة العـلوّ والخفض ثم علّقوا بـهما المـدّة بأن يكون العالي‌ امدّ من المنخفض والمنخفض اقصر من العالي واعتبروا كل ذلك بمنزلة‌ فـرع لذلك الاصـل. وامّا‌ نحن‌ فقد نظرنا في اصـطلاحنا الى المـدّ والقصر أي الى المـدّة ثـم عـقدنا بناصيتها العلوّ والخفض ومـرجع الاصطلاحين واحد كما تتثبّته عند ادنى تدّبر. وتلاحظ هذا الامر كله من‌ ان لهم ثلاثة انواع مـن النـبر: حادّ وثقيل ومركب كما ذكرت لي ونحن ايـضاً نـميز ثلاثة انواع مـن المـدّ: مدّ وتـوّسط وقصر(الاتقان 1:99) ولو امعنت النـظر فـي النبرة نفسها لرأيت فيها‌ ثلاثة‌ انواع ايضاً وهي نبرة شديدة ونبرة ضعيفة ونبرة متوسطة.

قلت له: انك لا تـقنعني الاّ بـصعوبة كـلية. فاني استحسن كلامك كله لكن يا ليت في عـبارة المـؤلف بـعض الالمـام الى‌ هـذا‌ التفسير البديع الجليل. فمن يؤكد لي ان ما تقوله هو عين الحق لا ريب فيه وان كان يقيني في حضرتك عظيماً من جهة العلوم العربية. كيف لا ونحن في‌ عصر‌ نستند فيه الى امور راهنة بينة مقرّرة ولا ارى هذه الشروط قد اجتمعت في ما تقول الاّ بشقّ النفس. قال: قد تكون الامور راهنة بينه مقرّرة بدون ان تكون مكتوبة‌ فما‌ كلّ‌ مقرّر بين مكتوب مدوّن. اننا نحن‌ العرب‌ من‌ المسلمين نـستند فـي كل ما نقوله الى ما تلقّيناه عن شيوخنا الفطاحل واخذناه عنهم شفاها. والحال ان الذي اخذناه عنهم‌ في‌ هذا‌ الموضوع هو هذا الذي ذكرته لك. ان اذا تدّبرت‌ ما‌ اشار السيوطي الى مدّه من الكلم تـحقّقت ايـضاً نبره في القواعد التي قرّرها المحدثون من هذا القبيل انك ان اردت‌ ان‌ تتحقّق‌ نعمّا ما اقوله لك فاسأل عنه المجوّدين في كل بلد‌ واسمعهم بـكل انـتباه فتراهم كلهم وفي جميع البـلاد العـربية لا يجوّدون الاّ على طريقة واحدة وهذا‌ اعظم‌ دليل أبينه لك في هذا الصدد وهو وحده كاف ليقنعك. أفتتصوّر‌ انه‌ يمكن هؤلاء الذين مهنهم القراءة وحسن التجويد ان يـتواطؤوا عـلى هذا اللفظ منذ مـدّة وجـيزة. اولا‌ يدلّك‌ هذا على ان منشأ اللفظ واحد وانّ جميعهم تلقّوه عن مبدأ‌ واحد.

قلت‌ له: ها اني قد قنعت بعض الاقناع: لكن كيف الامر ونبر الحروف التي لا مدّ فيها‌ والتي‌ لم يتعرّض لها المجوّدون فـي كـتبهم. وجواباً عن هذا السؤال اورد لي قواعد وامثلة‌ ترى خلاصتها مدوّنة في ما يلي وقد ذكرتها على الطريقة الشائعة في‌ المدارس‌ فرارا‌ً من الالفاظ الاصطلاحية وتقريباً لها من الافهام العامية.

4 قواعد النبرة

القاعدة الاولى :النبر بـالهجاء‌ الاول اذا‌ كانت اللفـظة مركبة من مقطعين قد انكر بعضهم عربية لفظة «المقطع» وقالوا: انها من اوضاع‌ العامّة‌ وان كتبة العرب لم تعرفها. قالوا وامّا نـصّ محيط المحيط: «المقطع ايضاً حرف مع حركة او‌ حرفان‌ ثانيهما لا غير فالنبرة تقع عـلى المـقطع الاول اي عـلى الحرف الاول من‌ المقطع‌ نحو «دعا‌ ونصر وعارك ويرمي وقطرب ودحرج» فانك تنبر في هذه الامثلة بالدال‌ في‌ الاول‌ وبالنون فـي ‌ ‌الثـاني وبالعين في الثالث وبالياء الاولى في‌ الرابع‌ وبالقاف في الخامس وبالدال في السادس.

(القاعدة الثـانية: النبر بـالمقطع الاخـير) اذا تتالى ساكنان صحيحاً كان‌ اولهما‌ كما في «جرد حل وسجلّ وقمطر» او عليلاً «كالعباد والحساب ونستعين‌ والرّحيم ويـوقنون ودابّة وإلّم» الخ. فتحكم‌ النبرة‌ على‌ المقطع الاخير اي على الحرف السابق لهذين‌ الساكنين‌ يعني انـك تجعل النبرة على الدال تـفي جـردحل وعلى الجيم في سجل‌ وعلى الميم في قمطر وعلى‌ الباء في‌ العباد‌ وعلى السين في الحساب وعلى‌ العين‌ في نستعين وعلى الحاء في الرحيم وعلى النون في يرقعون‌ وعلى الدال في دابّة الخ

(القـاعدة‌ الثالثة: النبر بالمقطع السابق للأخير) اذا‌ تركبت‌ اللفظة من ثلاثة مقاطع فصاعداً‌ وكان المقطع السابق للأخير متقوّماً من متحرّك فساكن فلا تنبر الاّ بهذا الهجاء‌ نحو «تعامي‌ واسمدّي ويستشفي واستعفوا» فانك‌ توقع‌ النبرة على العين‌ فـي‌ الاول وعـلى الميم‌ في‌ الثاني وعلى التاء في الثالث والرابع.

(القاعدة الرابعة: النبرة المختلف فيها) وان كان‌ الهجاء‌ السابق للأخير حرفا ساكن فضرب مركب‌ من‌ ثلاثة مقاطع‌ وموسى‌ من مقطعين (لان الاول من‌ ثلاثة احرف متحركة والثـاني مـن متحركين يليهما ساكنان)... ويطلق ايضاً على مخرج الحرف من‌ الحلق‌ او اللسان او الشفتين» فان فيه‌ نقصاً‌ لأنه‌ سها‌ عن‌ ذكر كلمة «عامية» في آخر‌ عبارته. قلنا: والامر على خلاف ما يظنون فان لفـظة «مقطع» وان لم تـوجد في كتب اللغة (لأنها في اغلب الاحيان‌ لا‌ تتعرّض‌ للألفاظ الاصطلاحية) الاّ ان الاشتقاق لا يأبي هذا‌ المعنى فهو‌ مأخوذ‌ من‌ محل‌ قطع الصوت عند كل هجاء اي عند كل جزء من اجزاء الكلمة عـلى حـدّ مـا نصّ عليه البستاني في مـحيطه. بل وقـد وردت اللفـظة في كتبهم. قال في‌ شرح الجزرية اي في كتاب المنح الفكرية على متن الجزيرة ص 8 ما نصّه: قالوا في تعريف الحرف: هو صوت معتمد على «مقطع» محقّق وهـو ان يـكون اعـتماده على جزء معين من اجزاء‌ الحلق‌ واللسان والشـفة اهــ وكفانا شاهداً على صحة استعمال المقطع بالمعنى المذكور مثل ابن سينا. فانه قال في الشفاء (المقالة الخامسة من الفن الثاني عـشر مـن (الخـفيف) والمقصور اذا‌ قرن‌ به الممدود سموه الوتد» متحركاً فقط مع الشروط المتقدّم ذكـرها وكان المقطع الذي قبله يخالفه في البناء اي اذا كان مركباً من متحرك‌ فساكن‌ مثل: «مسكنة ومندفق وحدود ‌بنائها» نبرت‌ بالسابق للأخير عـلى اللهـجة المصرية وبـالذي قبله (و ان كان متحركاً فقط مثل جرحت) على اللهجة الشائعة بين العرب اي انـك تـجعل النبرة على الكاف في‌ مسكنة‌ وعلى الدال في‌ مندفق‌ وعلى الدول الثانية في حدود بنائها وذلك تبعاً للّهجة المـصرية. وتـحكمها عـلى الميم في الاوّل والثاني. وعلى الدال الاولى في الثالث وعلى الجيم في جرحت‌ على‌ اللّهـجة الفـاشية بـين عامّة العرب.

5 فوائد وزوائد

1. انّنا في جميع الامثلة التي استشهدنا بها اعتبرنا الحرف الاخير ساكناً مـن جـهة الوقـف. وامّا اذا حركته فحينئذ يتحوّل موطن النبرة فانك‌ ان‌ وقفت مثلا‌ً على الراء في «نصر» جعلت النبرة عـلى النـون. وان لم تقف على الحرف الاخير منها وقلت «نصر» تلقّتك حينئذ‌ القاعدة الرابعة من قواعدنا اي نـبرت بـالصادّ عـلى اللغة المصرية وبالنون‌ على‌ اللغة المشهورة. وهكذا قل اذا اتصل بالكلمة ضمير من الضمائر فـزاد فـي تركيب مقاطع الكلمة كقولك نشره‌ و‌‌نصرها‌ ونصرهما الخ.

2. ان اختلاف اللهجة المصرية عن اللغة العـامّة مـتسبب عـلى‌ الارجح‌ من‌ اختلاط عرب مضر بالأعاجم المتجمعين في تلك البلاد من عناصر شتّى ففسدت بـذلك لهـجتهم الاصلية‌ كما فسد عندهم شيء كثير من لفظ الحروف العربية ودخول كـلمات جـمة‌ مـن الاعاجم الاّ انّ‌ هذا‌ الاختلاف والحقّ احق ان يقال لم يحدث قبل قرن او قرنين بل منذ قرون الاسـلام الاولى. وامـّا القول بان اختلاف لهجتهم عن لغة سائر العرب كان كذلك عند العـرب القـدماء‌ انفسهم اي عند اولئك الذين جاؤوا الاقطار المصرية وقد انكر بعضهم عربية «اللهجة» بمعنى تكيف صوتي خاص بلغة امـة او قـبيلة او بلد ويقابلها بالفرنسية (accent) بهذا المعنى ايضاً. قلنا: وقد اخطأوا‌ هنا‌ ايضاً في تـقوّلهم هـذا. قال في التاج:... وفي الاساس: يقال فلان فصيح اللهـجة واللهـجة وهـي لغته التي جبل عليها واعنادها ونشأ عـليها. وبـهذا ظهر ان انكار شيخنا (وعليه فان‌ هذا‌ الانكار قديم لا حديث) على من فسّرها باللغة لا الجـارحة وجـعله من الغرائب قصور ظاهر كـما لا يـخفى» هذا الكـلام الشائق اول احـتلالهم ايـّاها فهو غير ثبت ويحتاج الى ادلّة‌ مـكينة ونـظنها من الآن انها لا تقوم على قائمة قويمة. والسبب هو ان قبائل العرب التي احـتلّت الديـار المصرّية ايضاً غيرها من البلاد. والحـال انّ جميع عرب سـائر‌ البـلاد‌ متّفقة‌ في ما بينها الاّ عـرب‌ مـصر‌ من‌ هذا القبيل.

3. انّ قرّاء العراق يميزون مدّاً ونبراً الالفاظ المتشابهة بعدد المقاطع المختلفة بـصورة الكـتابة فانهم في «إرم» (للمفرد المذكر) يجعلون النبرة عـلى‌ اوّل‌ الكـلمة‌ اي الهـمزة وفي «إرمي» للمفرد المؤنث يـجعلونها عـلى الميم‌ للتفريق‌ بين المـذكر والمـؤنث. وكذلك يميزون بين قولهم: «أضرب» وقولهم «إضربوا». وعلى «كتاب» وعلى «كتابي» فانهم يجعلون النبر على الحرف الذي يسبق‌ هـذه‌ الضـمائر‌ تمييزاً لها عن الحركات ونظنّ ان سـائر العـرب يفعلون‌ كذلك.

4. والمـجوّدون يـغيرون ايـضاً موطن المدّ والنبر لسـبب معنوي كقصد المبالغة في النفي مثلاً ومن‌ ذلك‌ مدّ التعظيم ونبره قال في الاتقان: «مدّ التـعظيم فـي نحو لا‌ إلا‌ الاّ هو. لا إلا الاّ الله. لا إلا الاّ انت. وقد ورد عـن اصـحاب القـصر فـي المـنفصل لهذا‌ المعنى‌ ويـسمّى مـدّ المبالغة (ونبره) قال ابن مهران في كتاب المدّات: «انمّا سمّي مدّ المبالغة‌ لأنه‌ طلب‌ للمبالغة في نفي الهـية سـوى الله تـعالى. قال: وهذا مذهب معروف عند العرب لأنها تـمدّ (و‌تـنبر) عند‌ الدعـاء‌ وعـند الاسـتغاثة وعـند المبالغة في نفي شيء ويمدون (وينبرون) ما لا اصل‌ له‌ بهذه العلّة. قال ابن الجزري: وقد ورد عن حمزة مدّ المبالغة للنفي في «لا» للتبرئة نحو «لا‌ ريب‌ فيه. لا‌ مردّ له. لا جرم». وقدره فـي ذلك وسط لا يبلغ الاشباع لضعف سببه. نصّ عليه ابن‌ القصاع. و‌ قد يجتمع السببان اللفظي والمعنوي في نحو لا إلا الاّ اللّه. ولا‌ اكراه‌ في‌ الدين. ولا اثم عليه فيمدّ حمزة مدّاً مشبعاً على اصله في المدّ لأجل الهـمز ويلغي‌ المعنوي اعمالاً للأقوى والغاء للأضعف. (الاتقان 1:99) ومن اراد الاطالة في هذا‌ الباب‌ الاخير‌ فعليه بالإتقان ففيه زيادة شرح بإسهاب لا يملّ وربّك فوق كل ذي علم عليم.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2105
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 02 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24