• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : عبادة اللّه وعبادة الطاغوت في القرآن الكريم .

عبادة اللّه وعبادة الطاغوت في القرآن الكريم

 سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم

عبادتان في النّاس لهما من المكث في الأرض ما كان للإنسان من مكث تقريباً وما يكون; عبادة اللّه، وعبادة الطاغوت. والإنسان فعليّة; فكراً وضميراً وإرادة وعلاقات اجتماعية، وأوضاعاً خاصّة وعامّة، وصيغةً حضاريةً، صورةٌ من عطاء هذه أو تلك العبادة ومقتضياتها. فعندئذ تجده إما صورة وضيئة مضيئة; تزخر بإشعاعات اللّه، وإمّا صورة قاتمة كالحة; تغمرها ظلمات الطاغوت.

والطاغوت كثير متنوّع، تلقاه في كل معبود من دون اللّه، من صنم حجر، أو إنسان فرد متفرعن، أو طبقة اجتماعيّة مستكبرة، أو حزب مستعل. وتلقاه في شعار قومي أو وطني يستقطب من الناس ولاءهم، وفي كل شيطان من انس أو جن إليه يصغى ومنه يؤخذ، سخطه المرهوب ورضاه المطلوب. فحيث تكون الطاعة معصيةً للّه، إعظاماً لغيره في نفسه، واعترافاً بحق الخضوع إليه في ذاته، مستقلاًّ عن الملك الحق; يكون المطاع طاغوتاً، ويكون المطيع مشركاً، وهو يعطي ما للّه غير اللّه من حق الطاعة إليه مستقلاً، وفي قبال طاعته سبحانه كذلك.

في قوله تعالى: (وَالذّينَ اجْتَنَبُوا الطّاغوتَ أنْ يَعْبُدوها...) قال أبو عبداللّه(عليه السلام)مخاطبا لابي بصير: أنتم هم، ومن أطاع جباراً فقد عبده ميزان الحكمة 5 : 543 ، عن نوادر الراوندي 4 : 481

انظر إلى كلمة جبار وأدائها الخاص في التركيب. فطاعته التي عدت شركاً هي طاعته في طغيانه وتجاوزه عن حدود اللّه ودائرة عبوديته، وليست طاعته بما هو ولي اللّه وعبده الذي لا يتجاوز حدوده، ولا يتخطى أحكامه.

والطاغوتية أكبر مظهر للتجاوز المنفلت، وأيُّ تجاوز أكبر وأخطر من أن يوهمَ المملوك ملكاً طلقاً حقيقة وواقعاً، بأنه مطلق وسيد شامل بحق، ثم يستجيب لوهمه، ويستجيب غيره له، فيحتمي بالفقر على أنه الغنى، وبالجهل على أنه العلم، وبالعدم على أنه الوجود؟!

والعبادة مرآة مستوى من الرؤية والنفسيّة والسلوك الذي يكون وراء الرضا من العابد بالمعبود قبل، ويكون من مردود عبادته له بعد. فحيث يكون المعبود لفرد أو أمة كبيراً حقاً وجليلاً حقّاً ـ وليس غير اللّه كذلك في ذاته على الإطلاق ـ يكشف ذلك عن سموّ رؤية، وعلوّ همة، وطهر نفس; هو ما شدّ العابد إلى المعبود الكبير، وتجاوز به كل الصغار، وكل الموهومين، وكل المحدودين. وكلما كان المعبود طاغوتاً ـ والطاغوت، حيث ينصب نفسه معبوداً، عبد من عبيد الشهوة والهوى، وأسير من أسراء العقد والأزمات الذاتية ـ يكون العابد ذلك القصيرَ في رؤيته، الوضيع في نفسيته، السقيم في ذاته.

هذه كلمة يأتي الموضوع بعدها في نقاط تستهدي الوحي، وتستضيء النص; الوحي الصادق والنص الناطق :

أولاً: مقابلات قرآنية:

تقابل آيات من الذكر الحكيم ـ وهي تنتظم طوائف ـ بين الإيمان باللّه والإيمان بالطاغوت، والعبادة للّه والعبادة للطاغوت. كما يأتي فيها التقابل على مستوى التحاكم والتضحية بالحياة. وهي تعطي من خلال ذلك صورة معبّرة عن الظاهرة الطاغوتية في الأرض، ومدى ما أضلَّت وتضل، ودمَّرت وتدمِّر، وعن عمق المعركة بين التوحيد والشرك وشموليتها، وضناها ورهقها، حتى يكون دخول المعركة عن بصيرة وحزم وطول نفس.

أ ـ الإيمان باللّه والإيمان بالطاغوت:

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوثْقى لا انْفِصامَ لَها) البقرة: 256

ألَمْ تَرَ إلى الّذين أوتُوا نَصيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالطّاغُوتِ) النساء: 51

حين يصل خداع الطاغوت والانخداع به إلى حدّ يحل الإيمان به محل الإيمان باللّه، نكون أمام كارثة إنسانية تفرز كلّ الكوارث. معناه أن هذا الإنسان المؤمن بالطاغوت، فقد رؤيته النقيّة التي توفر عليها في أصل خلقته، وخسر بصيرته التي كانت له من عمق إنسانيته; فانتهى لا يفرّق بين كبير وصغير، بين كامل وناقص، بل يرى الشيء غيره; فيقع الكبير في نفسه صغيراً، والصغير كبيراً، والواجد فاقداً والفاقد واجدا.

حاصل هذا العمى أن الطاغوت الضعيف المهزول صار يؤمن به هذا المخدوع له ربّاً ومنتهى وملاذا، ويربط به حياته ووجوده، حاضره ومستقبله، ويرى فيه على قبحه أجمل جميل، وعلى فقره أغنى غني.

وهنا قضيتان تثير الأولى اُولاهما، والثانية الثانية:

الاستمساك بالعروة الوثقى، عروة الفوز والنجاة، لا يتم إلاّ بأمرين مجتمعين:

الكفر بالطاغوت، والإيمان باللّه، ولا يتم حين يكون مع الإيمان باللّه إيمان بالطاغوت.

قد يكون واضحاً أنه حيث يكون الإيمان مشتركاً لا استمساك نهائياً بالعروة الوثقى، وليس الأمر أنه يوجد استمساك ناقص مهزوز، لان من يكون الطاغوت شريكاً له ليس هو اللّه تبارك وتعالى، فما آمن به إنسان مخدوع مما جعل الطاغوت شريكاً له اله مزوّر قاصر من صنع النفس القاصرة التي وجدت في الطاغوت ما يملا تطلّعها. وكيف يكون من رأي المخلوق المحدود في مقام الألوهية والربوبيّة قد عرف ربّه بمقدار واستمسك به بشيء؟!

ثم كيف يتمّ لنفس أن تستمسك بالعروة الوثقى، وأن تأتي صياغة إنسانية راقية... فكراً قويماً، ضميراً حيّاً، وروحاً مشعاً، هدفاً كبيراً، سلوكاً طاهراً، وهي تأخذ مثلها الأعلى في جانب من واقعها، إن لم يكن كله، من الطاغوت بزيغه وهواه، وغروره ووهمه، برجسه وخبثه؟! وهل تعرف اللّه عز وجل إلاّ نفس عفَّت وشفَّت، وروح طهرت ورقَّت؟! هذه قضية الآية الأولي.

وقضية الآية الثانية أن ممن يؤمن بالجبت والطاغوت جماعة ممن أوتوا نصيباً من الكتاب، ووقفوا على قدر من حقائق الوحي. وهذا يعطي أن الطاغوتيّة لا تستغفل من مستوى دون مستوى، ولا تستهوي من طبقة دون طبقة. بل لها من النّاس الذين يتفاوتون التفاوت الكبير فيما هم عليه من معلومات، ومن غنى في جاه ومال وغير ذلك، صرعى يشتركون في غلبة الهوى والانهزامية أمام الشهوات. ثم من بعد ذلك لا يحميهم من السقوط والخسة والهوان في الذات، والغفلة عن الحق، والتسليم للجهل مال ولا جاه ولا كثرةٌ من معلومات وتدقيقٌ في مطالعة أو نظر.

نعم قد يكون لأحدهم من العلم ما يثقل ظهر الجمل، إلاّ أنه وأمام زوبعة الهوى ليس له من روح التقدير للعلم، وتمثل الحقيقة ما هو بحمل بعوضة.

الحماية من الذوبان أمام الإغراء والاغواء، والوعيد والتهديد، مما يتاح لطاغوت أن يفعله; أمرٌ يتكفل به ـ بعد صحة التمييز ـ سمو النفس، وسلامة القصد، وبعد الهمة، وإلاّ فالفكرة وهي تكبُرُ النفسَ، وتفوق الإرادة، ولا يرقى إليها التطلع; أو يكون تطلعاً من مستوى الأحلام العابرة; هذه الفكرة تظل مستوى في الذات، والذات مستوى آخر فيما ترى وتشعر وتريد وتقرر، وفيما تفعل وتترك، وتتقدم وتتأخر.

أن يقيم المرء أمره على العلم، متابعاً له، بانياً مواقفه كلها في ضوئه; مرتبة من مراتب النفس العالية; ليس عندها أن يعلم وأن يكتنز علماً، بل ولا أن يَمْتَلِكَ التحليل والربط والاستنتاج. والأكثر في النّاس أن يؤتوا من قبل أنفسهم، لا أن يكون مأتاهم من قبل أفكارهم وشبهاتها. وهم لا يؤتون مطلقا من قبل كينونتهم الأولي فيما تستبطنه هذه الكينونة من معرفة، وما تنطوي عليه من قيم. كيف وهي لا تكون أصلاً إلا متعطشة للّه تبارك وتعالى متلهفة للعبِّ من فيوضاته والطاف رحمته؟

ب ـ عبادة اللّه وعبادة الطاغوت :


(
وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلّ أمّة رسُولاً أن اعْبُدوا اللّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغوت فَمِنْهُمْ مَن هَدى اللّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالةُ) النحل: 36
(
وَالّذينَ اجْتَنَبُوا الطّاغوتَ أنْ يَعْبُدُوها وَأنابُوا إلى اللّهِ لَهُمُ البُشْرى فَبَشّرْ عِبادِ الّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتّبِعُونَ أحْسَنَهُ أولئِكَ الّذينَ هَداهُمُ اللّهُ وَاُولئِكَ هُمْ أولو الالْباب) الزمر: 17 ـ 18
بعد الانقسام في الإيمان يكون الانقسام في العبادة; في المشاعر والمواقف فعلاً أو رد فعل. وفي ضوء انعكاسات العبادة، ومسقطات المعبود الذي تنشد إليه النفس تنبني شخصية العابد في كل أبعادها وأوضاعها داخلا وخارجاً من كل ما يقع من ذلك في دائرة الإرادة وما تمتد إليه الحركة الإرادية بالتأثير مباشرة وعبر الوسائط من مجمل الذات الإنسانية وعلائقها. فإمّا أن يأتي الإنسان مردوداً لهذه العبادة أو تلك شخصيّة كبيرة عملاقة، طليقة محلّقة، وإمّا أن تأتي صغيرة حقيرة، حبيسة الطين، أسيرة الشهوة، كثيرة العلل، شديدة العقد.

والآيتان الكريمتان تخصّان الهدى والبشرى ودقة التمييز والانتقاء بطائفة من ثلاث: طائفة عبدت اللّه مخلصة له الدين، مجتنبة الطاغوت، لا تصغي منه إلى قول، ولا تستجيب إلى أمر ولا نهي دخولاً في طاعته، وتسليماً بأهليته. وطائفتان نصيبهما الضلال، ونهايتهما الخسران; طائفة توجّهت بكلها إلى الطاغوت، وأخلصت وجهها إليه. وطائفة حاولت أن تقسم نفسها بين اللّه عز وجل والطاغوت، وأن تحوز رضا الكامل وهي لا تغضب النّاقص بأن تستجيب لما يقضي به نقصه، ويشير به هواه. وإذا تقدمت خطوة جعلت مواقفها قسمين، قسم للّه حيث لا يستثار الطاغوت، وقسم للطاغوت كلما كان لا يرضيه إلاّ أن يأتي الموقف على ما يشتهيه. وسمينا هذا تقدماً مسامحة وإلاّ فمعبود هذه الطائفة بهذه الصورة هو الطاغوت لانه هو الذي تطمع فيه وترجوه، وهو الذي تحذره وتخشاه.

ولافت في الآية الأولي من الظاهرة الطاغوتية تغلغلها في تاريخ الأمم، وأنّ تواجدها الفعلي، أو قيام أسباب من أسبابها كان يتطلب من كل رسول في كل اُمة أن يواجهها. لافت أن كانت دعوة الرسل سلام اللّه عليهم، لكل الأمم أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت، وكانت الإجابة البشرية منقسمة (فَمِنْهُمْ مَنْ هَدى اللّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقّتْ عَلَيْهِ الضّلالَةُ). حقّت عليه حيث ابتدأ تلبّسه بها، والاندفاع في طريقها.
أمّا لماذا تتغلغل هذه الظاهرة على انحرافها هذا التغلغل في تاريخ الإنسان، وهي التي لا تلتقي وصفاء الفطرة، وشفافية الروح، والرصيد الأول من هدى اللّه تبارك وتعالى في نفس هذا الإنسان؟ فهذا ما يأتي تلمس جواب له في مكانه من هذه المطالعة.

ج ـ التحاكم إلى اللّه أو الطاغوت:


يا أيّها الّذينَ آمَنُوا أطيعُوا اللّه وَأطيعُوا الرّسُولَ وَأولي الامْرِ مِنْكُمْ فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيء فَرُدّوهُ إلى اللّهِ وَالرّسولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاخِر) النساء: 59
ألَمْ تَرَ إلى الّذينَ يَزْعُمُونَ أنّهُمْ آمَنُوا بِما اُنْزِلَ إلَيْكَ وَما اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدُونَ أنُ يَتَحاكَمُوا إلى الطّاغوتِ وَقَدْ أُمِروا أنْ يَكْفُرُوا به وَيُريدُ الشّيطانُ أنْ يُضِلّهُمْ ضَلالاً بَعيداً) النساء: 60
التحاكم إلى الطاغوت ـ قاعدةً ـ إعلان بتزكيته، وشهادة بعلمه وحكمته ونزاهته، وهو تثبيت له، وتركيز لطاغوتيته، واعتراف له بمقام من مقامات الربوبيّة، وحقّ من حقوقها حيث لا تنتهي حاكميته إلى اللّه، بل تقابل حاكميته، والكفر به إنما يجب أن يكون كفراً شاملاً وإسقاطه إسقاطا نهائياً. ما يجب أن يجرد من كل مظهر من مظاهر الربوبيّة، وأن يلبس كل ما هو من زي العبوديّة. وما دون ذلك غواية شيطانية، وضلال بعيد.
إنّ من أفراد اللّه بالإيمان، أن يفرد بالتحاكم إليه، والتقاضي في محكمة شرعه، وعلى يد خلفائه، فما انحصرت الالوهية والربوبيّة إلاّ وانحصر حقّ الحاكمية، وكان الاله والرب والحاكم واحداً لا شريك له، ولا عديل.
ومن ناحية الواقع الأرضي الحاكميتان قائمتان تقتسمان النّاس اقتسام الإيمان والعبادة لهم. هذا في الدنيا ومن حيث المساحة التي يمسها التشريع. أمّا في الآخرة فالتفرد بالحاكمية للّه وحده، ويموت كل مظهر من مظاهر الحاكميات الأخرى الكاذبة (مالِكِ يَوْمِ الدّينِ) الحمد: 4
ذلك يوم ترتفع فيه الحجب عن الموهومين، وتظهر الحاكمية المطلقة للّه وربوبيته والوهيته الحقّة، لا يسترها ساتر عن نفس، ولا يحجبها خداع عن قلب (لِمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ لِلّهِ الواحِدِ القَهّار) غافر: 16
أما الحاكمية التكوينيّة فهي للّه وحده; كانت ولا تزال، ولن تزال.

د ـ القتال في سبيل اللّه أو في سبيل الطاغوت:


الّذينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ في سَبيلِ اللّهِ وَالّذينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ في سَبيلِ الطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أوْلياءَ الشّيطانِ إنّ كَيْدَ الشّيطانِ كانَ ضَعيفاً) النساء: 76.
القتال في سبيل شيء أقصى درجات الولاء له، وأصرح ما يكون من التعبير في الإيمان به، والتسليم بعبادته، وهذا المستوى من الفناء في المعبود ونسيان الذات يعطى في غمرة من العقل، وانطماس من الفطرة، وغياب من تقدير المصلحة، ومن وزن الذات من عبدة الطاغوت للطاغوت، وكأنهم لا يرون عجزه وضعفه ومسكنته... لا يرون زيفه وسقوطه وخسته.
وهكذا يسرق الطواغيت من النّاس وعيهم لذواتهم ومعرفتهم بربهم، ويستحوذون بالحيلة والختل، والوعد والوعيد مما اللّه أملك له على الإطلاق على داخلهم، فتكون الاستجابة منهم لهوى الطاغية كاملة، والاندفاعة في خط رغائبه تامّة (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دونِ اللّهِ أنداداً يُحِبّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالّذينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً لِلّهِ) البقرة: 165

وهذا التهالك في حب الطاغية، والتفاني في خدمته، والتضحية في سبيله يزيد وهمه بعظمته وهماً، وتخيله لحقّهِ المطلق على النّاس تخيّلا. ويمده بطغيان أكبر واستعلاء أفحش. انظر إلى فرعون الّذي يقول عنه الكتاب الكريم: (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ اَنْ آذَنَ لَكُمْ) الشعراء: 49. إنه يرى لنفسه أنه يملك من السحرة وغيرهم كل شيء حتّى وجدانهم وضميرهم، وليس لهم أن يخفق منهم قلب بفكرة، أو أن ينعقد لهم ضمير على معتقد إلاّ بإذنه، وإن لم يكن ذاك فقد أراد أن مماشاتهم قناعتهم عملاً، وبناء موقفهم الخارجي في ضوء إيمانهم أمر يقضي حق ربوبيته وألوهيته وحاكميته لا يكون إلاّ حيث يأذن.
وهذا الشعور الجنوني لهذا الطاغوت السافل كانت من وراء تضخمه وتعاليه مواقف طاعة، وكلمات اعتراف بذل العبودية وافتقار أمام عزة فرعون الموهومة، منها كلمة السحرة أنفسهم قبل ايمانهم الذي مثّل النقلة الهائلة في وجودهم كلّه (فَالْقوا حِبالَهُمْ وَعِصِيّهُمْ وَقالُوا بِعِزّةِ فِرْعَوْنَ إنّا لَنَحْنُ الغالِبُونَ) الشعراء: 44
تعكس المقابلات القرآنية الأربع صورة لاخطر ظاهرة من ظواهر الانحراف في الأرض، تجدها منبع كل الانحرافات الضخمة في حياة النّاس. ظاهرة الطاغوتية التي يتبعها الانحراف الثقافي والسياسي والتأزم الاجتماعي والاقتصادي، ويدخل منها الخلل والتشوه على التصور والشعور والممارسة في الخارج، وتأخذ بالإنسانية بعيداً عن اللّه. وما للإنسانية على غير طريق اللّه من دون التشرذم والضياع والأزمات؟! الحياة نائيةً عن اللّه عز وجل لا تتجاوز الطين، ولا تجد لها قدماً ثابتا ولا وضعاً مستقراً في زلقه.

ثانياً: من أين تبدأ العبادة بصورة عامة؟


تبدأ العبادة من الشعور بالفقد، وانفتاح فرصة الأخذ أخذاً لا عن مقاومة ولا مساومة، إنما عن تذلل واستكانة، وخضوع وتسليم. صاحب الشعور بالغنى لا يجد من شعوره هذا ما يقوم سببا لعبادة الغير. ولو كان شعور بفقر ليس معه شعور بغنى الغير، أو بعطائه، ودفعه ومنعه، وأن اللواذ به فيه حمى ولو من سطوته; لم يكن للمرء من شعوره ذاك بفقره ما يجعله يلوذ بالغير ويتطلب رضاه ولو بذلته، ومتابعة أمره ونهيه.
وحيث يكون الشعور بالفقد وانفتاح فرصة الأخذ لا يفرّق فيه ليضع صاحبه على طريق عبادة الغير، أن يكون تسرُّبه إلى النفس من وحي عقل أو وهم. فكلّما تمكّن الشعور في النفس بأن للغير جمالاً لا تجده، أو قوة لا تملكها، أو خيراً لا تتوفر عليه، أو وجوداً أكمل أو حياة أشد وأدوم مما هي عليه، وأنها لا تصل إلى شيء من ذلك إلاّ بموافقتها لإرادته، والدخول في طاعته لم تمتنع من ذلك، ولم تتريث في قبوله. ومن أين لها أن تتمنع أو تتريث، والسبب في داخلها من حب الكمال والخير لذاتها قاض بأن تندفع في هذا الطريق؟!
نعم قد تنفصل في شعورها المصلحةُ عن الكمال، والخيرُ عن السمو، فتستبدلُ الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتتسقط مواطن الشهوات متحدرة عن مراتب الكمال، ولكنها وهي تذل للهدف الكبير، أو الغرض الصغير إنما تذل من شعور بحاجتها وشعور بغنى غيرها.
إذا كانت عبادة فلا يفرّق في سرّها ومنطلقها بين نفس واقعت الحقيقة، ورأت بصيرة أن منتهى كل خير، وكل قوة وكمال للّه، فلم تعبد غيره ولم تتعلق بسواه، وبين نفس قصر من وراء شعورها النظر ووقفت رؤية صاحبها عند الأسباب القريبة فتشبثت بها على أنها مصدر العطاء والمنع، فكان ولاؤه لها، وتذلُّله بين يديها. الشعور المحرك هناك محرك هنا، والدافع الفطري العريض للعبادة مشترك في الحالتين. الكل شاعر بفقر، والكل طالب غنىً والكل يرى في معبوده الغني الذي يفقده، وقضاء الحاجة التي يطلبها. والتفاوت أن الرؤية انطلقت من عقل أو وهم، وصارت إلى حقيقة أو خيال.
ولذلك يكون من همّ الطغاة ـ وهو دأبهم ـ أن يخلقوا وهماً مستوليا في نفوس الآخرين بعظمتهم وقدرتهم على النفع والضر والتحكم في مصائر الأشياء والأحداث، وأن يحولوا بين النّاس وبين رؤية الحقيقة; رؤية أنفسهم، رؤية الطاغية، رؤية اللّه العظيم.
)
وَنادى فِرعَونُ في قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ ألَيْسَ لي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الأنهار تَجري من تَحْتي أفَلا تُبْصِرُون) الزخرف: 51
(
وَقالَ فِرْعَونُ يا أيُّها الملاُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنَ إله غَيْري....) القصص: 38
(
ألَمْ تَرَ إلى الّذي حاجَّ إبراهيمَ في رَبِّهِ أنْ آتاهُ اللّهُ المُلْكَ إذْ قالَ إبْراهيمُ ربّيَّ الّذي يُحْيي ويُميتُ قالَ أنا اُحْيي وَاُميت...) البقرة: 258

أ ـ من أين تبدأ عبادة اللّه؟


فَاَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الروم: 30
النفس الإنسانية في تكوينها الفطري، وعجينة معنوياتها على مستوى الأصل من الخلقة، مدعوة ومن داخلها إلى الارتباط بالكامل المطلق والصمد الذي يحتاج إليه كل شيء، ولا يحتاج إلى شيء، ويقدر على كل شيء ولا يقدر عليه شيء. وإن تفرِّط في هذا الارتباط لا تجد لها أمنا، ولا تفقه لوجودها معنى، ولا تطمئن على حاضر لها ولا مصير. ومن غير حاجة إلى رويّة، وحيث لا شبهات تثار، لا ترى في من لم يكن ثم يكون، في من يجيء مضطراً، ويذهب مقهوراً إلها حقّاً، ولا في أيّ من المحدودين كل المحدودين ربّاً صدقاً.
فالفطرة على هذا منطلق إلى اللّه، ونافذة تستضيء بها النفس درب بارئها، وحنين من الداخل إلى مصدر الوجود والحياة، ونداء للحق في وجدان الإنسان، رحمة به وحجة عليه وهو ثابت في النفس وإن وقعت في غيبوبة قد تطول وقد تقصر، تأتيها من متابعة هوى وخداع شيطان.
هكذا يبدأ الإيمان باللّه تبارك وتعالى، وعبادة العباد له من شعور فطريّ أوّلي بالعبودية التكوينية له، والحاجة إلى التعلق به، وطلب الرضى والاطمئنان بالانشداد إليه.
ويأتي دعم الفطرة من تأمل العقل واعماله منطقيته، (الحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ العالَمينَ * الرَّحمنِ الرَّحيمِ * مالِكِ يَوْمِ الدّينِ * إيّاك نَعْبُدُ وَإيّاك نَسْتَعينُ...) الحمد: 1 ـ 4.
الآيات الكريمة ناطقة بما الهمه اللّه العقل من طريق لقصر العبادة عليه سبحانه; فبعد الربوبيّة التكوينية الشاملة، وعموم الرّحمة ودوامها، والمالكيّة المتفردة ليوم الجزاء، وانتهاء كل فعل جميل اختياري إليه تبارك وتعالى مما يجعل الحمد له وحده تأتي العبادة مترتبة ترتباً عقليّاً لا تردد فيه، مقصورة عليه جلَّ حمده; إذ لا منشأ من مناشئ العبادة إلاّ وهو له لا لسواه. فلمن يكون الشوق والحب؟ إلاّ للكامل بلا حدود. وبمن يتعلق الرجاء؟ إلاّ بالمالك الجواد على الإطلاق، وممن يخاف؟ إلا من القادر العادل بلا نهاية.
نعم يقول العقل مع الآية الكريمة وبلغة منطقها: (قُلْ أغَيْرَ اللّهِ أبْغي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيء) الانعام: 164
يقول أن كل الأشياء وهي مربوبة للّه، سائرة في خط تدبيره، مقهورة لإرادته لا يكون منها ما هو ربٌّ ومرجع ومعبود، وإن عليها جميعاً أن تسجد له وتسبح بحمده وأن تعنو بوجهها خاضعة لربوبيته وعظمته ما وسعها الادراك، وأمكنها الشعور.

ب ـ من أين تبدأ عبادة الطاغوت؟


فَلا تَغُرّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنيا وَلا يَغُرّنَّكُمْ بِاللّهِ الغَرُور) لقمان: 33.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطاعُوهُ إنَّهُمْ كانوا قَوماً فاسِقين) الزخرف: 54
أمَّنْ هذا الّذي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دونِ الرَّحمنِ إنِ الكافِرُونَ إلاّ في غُرور) تبارك: 20.
الاستغفال والتغرير الذي تشارك فيه الدُّنيا بلذائذها: مطعمها ومشربها ومنكحها وزينتها ومواقعها وشهرتها، والشيطان بحبائله وحيله وجنده من طواغيت الإنس والجن; نجاحه يلفت نظر النفس لامور غير مركزية عن اُمور مركزيّة، ولحقائق صغيرة ومحدودة بل وأوهام عن حقائق كبرى ومطلقة، فلا يكون لها حضورها الفاعل في الذات الإنسانية وإن كانت تستبطنها ولا تنفك عنها. والإنسان الواقع فريسة لهذه العمليّة يظل مبهوراً بما غرر به، مكبراً إياه، مستعظماً له لا يرى على مستوى المعايشة النفسية المفصولة عن وعي العقل، وهدى الفطرة الكبير حقّاً والعظيم حقّاً ليسقط في عينه ما أكبره تحت تأثير المؤثرات العارضة، ويذهب عنه بريقه الكاذب. إنه يظلّ ملهوّاً مخموراً غافلا ناسياً حقيقة ذاته، وكرامته، ونداء فطرته، وصوت عقله وهي أمور من صميم الذات ونسيجها الاصل. إنَّ عملية التغرير تذهب به بعيداً عن نفسه ودوره وهدفه... عن مبدئه ومصيره، وتجعله مشدوداً بكلّه لما تريد تكبيره وتعظيمه وتهويله.
والطغاة دورهم كبير في استخفاف العقول والأحلام، وجعل الاتباع لا يفكّرون حين يقفون أمام ما يراد لهم أن يصدقوا به أو يكذبوه، أن يستحسنوه أو يستقبحوه، أن يكونوا معه أو عليه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطاعُوهُ انَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقينَ) الزخرف: 54 .
وفريسة الشيطان والدُّنيا والطغاة لا يشفع له في مقام الاعتذار إن كان مستهدفاً لعمليّة التغرير والاستخفاف من قوى تعرف من أين تؤكل الكتف.
إنه مع قابليته أن يعطي رد فعل مجاوب، يجد القابليّة لاعطاء ردِّ فعل معاند. يهيّئ له ذلك ماله من رسول في الباطن ـ عقله وفطرته ـ ودعوة إلى اللّه في الخارج من أنبيائه ورسله، وما أنزل اللّه من كتب، وما بثّ من آيات في الآفاق والأنفس، وما جعله مشهوداً من أمر الحياة والموت، وتحوُّل الأحوال مما يأتي على كلّ شيء من زينة الحياة وبهجتها، ومن قوى الطواغيت وزهرة دنياهم. ويُمكِّنُه من أن يقول نعم أو لا للشيطان وجنده الغاوين، أن جُعل حرّاً في اختياره، غير مجبور ولا مقهور في قرار انتمائه.
إنْ هِيَ إلاّ أسْماءٌ سَمّيْتُموها أنْتُمْ وَآباؤكُمْ ما أنْزَلَ اللّهُ بِها مِنْ سُلطان إنْ يَتّبِعُونَ إلاّ الظَنَّ وَما تهوى الانْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الهُدى) النجم: 23.

إنّهم يتحملون مسؤوليتهم في متابعتهم الظنَّ وما تهوى الأنفس، كيف لا وقد جاءهم من ربهم الهدى؟!

ثالثاً: المعركة الدائمة:


وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ اُمّة رَسولاً أنِ اعْبُدُوا اللّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغوتَ...) النحل:36.قالَ اتّخَذْتَ إلهاً غَيري لاجْعَلَنّكَ مِنَ المَسْجونينَ) الشعراء: 29. وَقالَ فِرعَوْنُ يا أيُّها المَلاُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيري فَأوْقِدْ لي يا هامانُ على الطّينِ فاجْعَلْ لي صَرْحاً لَعَلّي أطّلِعُ إلى إلهِ موسى وإنّي لاَظُنّهُ مِنَ الكاذِبينَ) القصص: 38
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَروني أقْتُل مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ...) غافر: 26.
رسل اللّه يتحملون أمانة من اللّه أن يطلقوا في النّاس نداء جادّاً بتجنب الطواغيت، تجنب الإيمان بهم إلاّ عبيداً، بعبادتهم، التحاكم إليهم، كل حالات الولاء لهم، التشرب بثقافتهم، التلوث بوضعيّاتهم في النفس والسلوك. تجنب كامل، وترفّع شامل، وصيانة تامّة للذات عن التأثر بهم.
ونداء الرسل في النّاس باجتناب الطاغوت لا يأتي مجرد نداء واعظ. نداء يستعمل كل الوسائل الشريفة لإسقاط وزن الطاغوت في العقول والنفوس. قل لتعريته عندها، لتراه على حقيقته، وفي ذاته بلا عظمة ولا وزن، مخلوقاً مملوكاً، وكالآخرين إن لم يكن مرجوحاً، كما هو الغالب من حال الكثير من الطغاة، بل الواقع دائماً حيث الانهزام أمام النفس، وغيبوبة العقل، وسبات الضمير، وتسمم الوجدان، والوهمُ الغالب.
نداء يعطي للإنسان رؤية نافذة لذاته، ولمبدئه ومصيره، ولهدفه ومنهجه، بعد معرفته ربَّه، وتنبيه العشق في قلبه لجمال اللّه وجلاله. نداء يعمل على صياغة أوضاع فكريّة ونفسيّة وعمليّة اقتصاديّة واجتماعيّة وأمنيّة جديدة سليمة ومتقدمة; حتّى لا يبقى جو عكر يمكن للطاغوت أن يصطاد فيه، في ظل الأوضاع الإنسانية أو المادية المترديّة.
هذا يعني أنه كلما وجدت رسالة ورسول وجدت حربٌ شاملة على الطواغيت ومواجهة لالوهيتهم الزائفة.
وفي المقابل فالطاغوت لا يحتمل وجوداً للرسالة والرسول، ويشنّ حرباً بلا هوادة تستعمل كل اُسلوب بلا تمييز للتصفية النهائية لهذا الوجود المضاد الذي يستهدف اقتلاع الأوضاع الطاغوتيّة من الجذور، والرمي بها بعيداً عن ساحة الحياة والوجود. فالكلمة وما هو أسقط شيء منها، والدعاية وما هو أكذبها، والدعاوى وما هو أفرغها، والإجراءات وما هو أشد ظلماً وفتكا من بينها، والتزوير والتضليل; وسائل يسارع إليها الطاغوت وجند الطاغوت قضاءً على الرسالة، ومواجهة للرسول.
ويطغى الطغيان، ويتفاقم الغرور والطيش في نفس الطاغوت، وتتصاعد وتيرة تحدياته، وقفزات غروره فيكون تحديه للّه عز وجل سافراً، ومواجهته له صريحة (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَروني أقْتُل مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ...) غافر: 26.
والتحدي للّه سبحانه ومبارزته شأن كلّ الطواغيت، ومن واقع كل الطغاة، وما زاده هذا الطاغية القذر اعلانه جهاراً، ومن خلال التصريح باللفظ الالوهيّة وانحصارها فيه (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أيُّها المَلاُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إله غَيْري...) القصص: 38
وأمّا قوله: (وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) فما أكثر ما يجري على ألسن الطغاة وجلاديهم ما هو منه، وما قد يتجاوزه.

عبادة اللّه وعبادة الطاغوت في القرآن الكريم (2)


رابعاً: نتائج عبادة الله وعبادة الطاغوت


تفاوت المنطلق بين عبادة اللّه دون الطاغوت، وعبادة الطاغوت دون اللّه آت مثله في مردود العبادتين، فيما يثري هنا المردود من إنسانية الإنسان، ويزيدها تبلوراً وتألقاً، وفيما يضيف إلى هداياته من هدايات، وإلى صفائه ونقائه من صفاء ونقاء، أو فيما يدخل عليه من خسف وتشويه، وتحطيم لقابليّاته الشريفة، وطمس لاستعداداته النبيلة، وفيما يصير إليه من عبادة الطاغوت من صغار وهوان.
وكما أن عطاءات العبادتين على تفاوت كبير واضح في حياة الأفراد ووجودهم، فهي كذلك في حياة الاُمم والجماعات وأوضاعها السياسيّة والاجتماعية والاقتصاديّة وغيرها.
والآيات القرآنيـة المباركـة تقـدم لنا صورة جليّة لمردود هـذه العبـادة أو تلك، ولما تتركـه من آثار في النفس والخارج، وما ترسمه من حاضر ومستقبل للحيـاة الدّنيا والآخرة. نتابع هذه الصورة ولو في بعض خطوطها في النقاط التالية:

أ ـ على مستوى الذات الإنسانية:


)
اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النّور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النورِ إلى الظُلمات أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون) البقرة: 257
من تولي اللّه لعباده المؤمنين بالعناية واللطف، وحراسة قلوبهم وضمائرهم وعقولهم، ومدّها بالنور والهداية ما يأتي مردوداً مكتوباً واقعاً وتكويناً، وعطاء ثرّاً زكيّاً مباركاً للمنهج التربوي الذي اختاره اللّه بعلمه وحكمته، لصناعة هذا العبد وترقيته، ولمعالجة أوضاع داخله وخارجه، بما يهيّئ له أن يرى ويسمع ويواقع بعقله وروحه وقلبه وضميره معرفة الحق، المعرفة المتقدمة التي ترويه وترضيه، وتعطيه الوثوق والاطمئنان والنماء والزكاة، وبما يهيّئ له أن يعرف الاُمور بأوزانها وأحجامها، وأن يدرك من الأشياء حقائقها وحدودها، وأن يضعها بموضعها... أن يعرف الموت والحياة، الأولى والآخرة، الربح والخسارة، النصر والهزيمة، الفقر والغنى، بما يجعل خياراته رشيدة، وخطاه هادفة سديدة، مما يجعل النور معه في سمعه وبصره، في إدراكه وشعوره، فيمضي بعلم، ويقف بعلم، ويأخذ ويدع بعلم، ولا يقوم ولا يقعد إلا بنور وحكمة ورشد وعلم.
ومع هذه العطاءات للمنهج الربّاني التي قد تكون على تعاظمها وغزارتها محسوبة، توجد هدايات أخرى من
هدايات اللّه وهداياه لأوليائه لا محدودة ولا محسوبة: (مثلُ الّذينَ يُنفقونَ أموالَهم في سبيلِ اللّهِ كمثلِ حبّة أنبتتْ سبعَ سنابلَ في كلّ سُنبلة مائة حبّة واللّه يضاعفُ لِمن يشاءُ واللّهُ واسعٌ عليم) البقرة: 261ففي الآية جزاء كثير محسوب، وعطاء هبة غيرُ محسوب.
فما من استعداد للخير في الذات الإنسانية، ولا قابليّة من قابليات السمُوّ والرفعة، ولا فرصة من فرص الهدى والسداد، إلاّ جاءت من عطاء هذا المنهج المربّي، وفيوضات الولي الكريم فعليّة غنيّة كريمة، وواقعاً زخّاراً متقدّما.
وحينما يصير الاستعداد إلى التقدم تقدّما فعلاً، وتتحول قابلية الخير خيراً حيّاً، فهذا يعني أن وجوداً قويّاً ونوراً مشعاً إضافيا لم يكن ثم كان، وأن حالة الظلمة والعدم لهذا التقدم الفعلي الجديد والخير الإضافي، قد تم منها الانسلاخ، وتحقق عنها التجاوز (... يُخرجهمْ من الظلماتِ إلى النورِ ...).
والطاغوت يأتي الأمة على إنسانية متقدمة، أو يأتيها ولها من الاستعداد أن تكون كذلك; أن تكون اُمة خير وحق وجمال، أن تعيش العدل وتنشره، أن تغنى بالهدى وتشع به، أن تزخر بالعلم وتفيض منه، وأن تقرب من اللّه، من ألطافه ورحمته ورضاه، وتهدي إليه. يأتي إلى الذات الإنسانية ثرّة مكتنزة موّارة بقابليات الخير والكثير من فعليّاته، بعطاءات الهدى واستعداداته، فيكون دأبه الإضلال والغواية والتحجيم والتقزيم حتى تنحدر المسيرة ويكون السقوط. من أجل أن يكبر الطاغية في نظر الآخرين، وهو الصغير، لا بد أن يسمو، ومن أجل أن يحل المحل العزيز في النفس، وهو الحقير، لا بد أن تفسد الضمائر، وأن تنطفئ شعلة الحقّ في القلوب، ويخبو نور الفطرة في الوجدان. لا بد أن يصغر النّاس، وأن ينسوا كرامتهم وشرف إنسانيتهم. فإذا لم تهن أنفسهم عليهم، ولم تفقد الحياة معناها الكبير في نظرهم، ولم يغفلوا عن ربّهم العظيم، فكيف يكبر الطاغوت على صغره؟! وكيف يعظم على حقارته؟! وكيف يُرتضى ربّاً وهو لا يملك نفعاً ولا ضرّاً؟!
لا بد للصغير حقّاً أن يكبر زوراً، ولا بد للكبير واقعاً أن يصغر افتراءً، وأن يسقط التقويم والقيم عند النّاس حتى تقبل من الطاغوت ربوبيته وهي هراء، ويدخل في ولايته وهي هباء، ويحتمى به، ويلتجأ إليه وهو ليس على شيء.
وعليه يأتي دور الأجهزة الخاصّة والخبراء المستوردين والميزانية الضخمة، ودور المشانق والمعتقلات، والتشريد والتغريب، والثقافة المزوّرة والاعلام الساقط، وخطط التذويب الخلقي، والتمزيق الاجتماعي، وتركيز ظاهرة الافيون من أجل صناعة المجتمع الممسوخ المتنكر لنفسه ولربه وقيمه ليحتضن فكرة الربّ الصغير والولي الحقير، ومن أجل أن تستوحش النفس ـ بعد الترجّس والهبوط ـ ولاية اللّه العظيم، ولا تطيق الارتفاع إلى مستوى عبادته.
لكي تقر عين الطاغوت، وتستقر نفسه، ويأمن على انحفاظ ربوبيته في النفوس لا بد أن يسقط الإنسان، ويعيش النظر إلى تفاهة نفسه وخستها، ويختفي النور، ويعم الظلام (فاستخفَّ قومَهُ فأطاعوهُ إنّهم كانوا قوماً فاسقين) الزخرف: 54 
لا بد أن يأتوا أولاً خفافاً من العقول والضمائر والنظرة المحترمة للذات، والتقدير الصائب للأمور، أن يأتوا بلا رشد ولا حكمة ولا وعي ولا ذوق سليم، أن تصل بهم عملية التحجيم المستمر والإسقاط والتذويب إلى حالة من الخفة وفقد الوزن الإنساني إلى حدّ كبير جدّاً، وتتم عملية الانحدار إلى النقطة التي يرون معها عبادة الطاغوت مستساغة والتعلق به من الشيء المربح. فعندئذ يكون الدخول في الطاعة والتذلل أمام حقارة الطاغوت.
(
قلْ هل أنبئكم بشرّ من ذلك مَثوبةً عندَ اللّهِ من لعنهُ اللّه وغضب عليهِ وجعلَ منهم القردةَ والخنازيرَ وعبدَ الطاغوتَ أولئك شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً) المائدة: 60 
تجعل الآية الكريمة من يعبد الطاغوت في صف واحد مع القردة والخنازير، وكأن المناسبة هي جامع المسخ، فكأن ما أصاب بعض أهل الكتاب منه على لونين: مسخ في صورة قردة وخنازير، ومسخ بعبادة الطاغوت، والمسخ هنا داخلي، يعني تحولاً هائلاً في صورة انتكاسة ذريعة في إنسانية الإنسان; حيث يتحول في داخله إلى واقع بهيمي لا يحمل شيئاً من معالم نفخة الروح، وشرف المعرفة الإنسانية باللّه سبحانه، المعرفة التي تقف دائماً سراً كبيراً وحيداً وراء طهر الإنسان واستقامته وسموّ ذاته.
نعم! إنما تتم عبادة الطاغوت حينما يخسر الإنسان وزنه، ويكون البهيمة والقرد والخنزير في داخله، ومن غير ذلك لا يوجد في مضمون الإنسان ومن خلال إنسانيته الرائعة ما يبرر أن تعبد الأوثان والأرجاس والطواغيت.

ب ـ على مستوى الأوضاع الحياتيّة في الدنيا:


(
ولوْ أنّ أهلَ القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهمْ بركات من السماءِ والارض) الاعراف: 96 
(
وأنْ لو استقاموا على الطريقةِ لاسقيناهُم ماءً غَدقاً) الجن: 16
(
يهدي به اللّهُ من اتّبعَ رِضوانهُ سُبلَ السّلام..) المائدة: 16
(
الّذينَ إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاةَ وآتوا الزّكاةَ وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكرِ وللّهِ عاقبةُ الاُمورِ) الحج: 41.  
لا ينفصل الخارج عن الداخل، ولا الداخل عن الخارج في حياة الإنسان تأثيراً وتأثراً، وإن اختلف الإنسان أفراداً ومجتمعات في إعطاء ردِّ الفعل على الواقع الخارجي، تبعاً لما عليه مستواه في الدّاخل.
ولن تجد جوّاً اجتماعيّاً أكثر مناسبة لنمو الإنسان في ذاته نموّاً زكيّاً مباركاً، من جو تصنعه التربية الالهية ويصوغه منهج اللّه، وتبنيه الأبصار والأيدي الأمينة المؤمنة.
البركات التي تنفتح بها السماء، وتتدفق بها الأرض، على مجتمع الإيمان والولاء للّه، من فيضه وفضله ورحمته، لا تبقي فقراً ولا جهلاً ولا خوفاً ولا قلقاً... بركات تصيب بالعطاء الوفير والخير الدافق عالم العقول والأنفس والأبدان. وإذا جاء الظاهر مرة على خلاف هذه النتيجة، فلا بد من مراجعة للتعرف على مدى تحقق الشرط المأخوذ في الآية الكريمة على الإنسان المجتمع. وإن كان لا بد من فترات ابتلاء وتمحيص، ولكن قد لا يكون موردها في طول الإيمان والتقوى المجعول شرطاً ذلك أن الابتلاء والتمحيص إنما هو من أجل الوصول بالمجتمع إلى ذلك المستوى من الإيمان، والحصيلة من التقوى.
والاستقامة على الطريقة تستتبع ـ حسب الآية ـ الماء الغدق من عطاء اللّه; يغسل ادران الساحة الاجتماعيَّة، ويكتسح كل ازماتها، كما يزيد النفوس طهراً، ويملؤها رضا ويرويها ثقة وطمأنينة. ويبعثها قويّة نشطة هادية مهديّة تحبُّ الخير وتسعى به، وتوفّق إليه.
والسلام حقا وصدقاً حاضراً ومستقبلاً داخلاً وخارجاً نتيجة غير متخلفة لاتباع رضوان اللّه في بناء الحياة كل الحياة على هدى كتابه العظيم، وخطى رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله )
وحين تكون الحكومة في الأرض ـ في الحياة الارادية القائمة عليها ـ حكومة اللّه، والامر بيد أوليائه يكون مجتمع الطهر والفضيلة، المجتمع الذي تألف النفس الإنسانية في وضعها القويم، وذوقها السليم أوضاعه وعلاقاته، وتجد في بيئته بيئتها، ومن جوِّه جو نمائها وترعرعها... لا تقع منه على ما يُنكر، ولا ترى منه ما ينفّر، فهو صورة لما تنطق به فطرتها، وواقع يوحي به وعيها وضميرها. القائمون على أمر هذا المجتمع قادة الصلاح والفلاح، والقدوة في تمثّل القيم، والمسارعة في الخيرات (أقاموا الصّلاة وآتوا الزكاة...).
هذا مردود لعبادة اللّه وولايته على أوضاع النفس والارض، وفي كل حقول الحياة... بركات تتدفق، وأوضاع ايجابية تنتشر وتتركز، ومسيرة صاعدة، واستقامة في اتجاه اللّه، وأمن يغطي كل مساحة الحياة، ويتيح للانسان حركة تقدمية فاعلة.
والان ماذا عن عبادة الطاغوت في عطاءاتها المدمّرة؟
(
وَمن النّاس من يعجبكَ قولهُ في الحياةِ الدّنيا ويُشهِدُ اللّهَ على ما في قلبهِ وهوَ ألدُّ الخصام * وإذا تولّى سعى في الارضِ ليفسدَ فيها ويهلكَ الحرثَ والنّسلَ واللّهُ لا يحبُّ الفسادَ * وإذا قيل له اتقِّ اللّهَ أخذتهُ العزّةُ بالاثمِ فحسبُهُ جهنّمُ ولبئسَ المهاد) البقرة: 204 ـ 206.  
(
وثمودَ الّذين جابوا الصخرَ بالوادِ * وفرعونَ ذي الاوتادِ * الذينَ طغوا في البلادِ * فأكثروا فيها الفسادَ) الفجر: 9 ـ 12.
  (
ولا تطيعوا أمرَ المسرفينَ * الذينَ يُفسدونَ في الارضِ ولا يصلحون) الشعراء: 151 ـ 152.
(
إنّ فرعونَ علا في الارضِ وجعلَ أهلها شيعاً يستضعفُ طائفةً منهم يذبِّحُ أبناءهمْ ويستحيي نساءهمْ إنّه كان من المفسدين) القصص: 4
(
قالت إنَّ الملوكَ إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلّةً وكذلك يفعلون) النمل: 34
ما يهمّ الطاغية أولاً وأخيراً أن يبقى له استعلاؤه وكبرياؤه وعزته الموهومة التي بناها الاثم والعدوان، والتي ليس لذاته منها شيء حقّاً. عزّة تقوم على جماجم الاخرين وأشلائهم وآلامهم وحرمانهم، وتقوم على تجهيلهم وإفساد ضمائرهم، وعلى غياب شعورهم بكرامتهم وأصالتهم. كل شيء يحترق ويبقى الطاغية وكرسيّه، وكل شيء ينتهي وتبقى كبرياؤه الكاذبة غير مخدوشة ولا ممسوسة. وماذا لو تعرّض وجود الامة للضمور، واقتصادها للتحطّم، وثقافتها للتخلف وأمنها للاضطراب؟ بل ماذا لو اقتضى الامر أن يهلك الحرث والنسل وهما سببان لاستمرار الحياة على وجه الأرض؟ وماذا لو بيعت الامة كاملة للاجنبي بالبقاء الذليل لكرسي الطاغية الذي يكفيه انتفاخه الكاذب على مستضعفي الامّة وقطاعاتها المحرومة؟ كل ذلك لا شيء، حيث يبقى الطاغية، ويستمر له شعوره الجنوني بالانتفاخ.
ثم هل يمكن أن يكون غير هذا التنافي بين استمرار الطاغية في طغيانه وتحكمه وبين وجود الامة ومصلحتها؟ لا وألف لا، فمتى التقى استمرار الطاغية وغروره، واصراره وهو الصغير في ذاته، المريض في نفسه، المدخول في تفكيره، المختل في توازنه، على أن يكون أكبر شيء، وأن يسجد له كل شيء، متى التقى هذا الشرور والهذيان مع مصلحة الإنسان، وتقدم الحياة، وازدهار الأوضاع؟ وذلك لا يكون إلاّ بأن تقدّر الامور بقدرها، وأن يأخذ كل شيء موضعه، ويقوم كل واحد بواجبه، ويوفى كل عضو حقه.
الحالة الدائمة هي حالة تصادم وتهافت بين وجود الطاغية وما يشتهي مما تمليه عليه نفسه المريضة، وشعوره المختلط، وبين ما يقتضيه تقدم الحياة، ومصلحة الإنسان. ومن أين للهوى والطيش والغرور أن يبني؟! ومن أين للجهل والعنجهية والنفس التي خسرت نفسها أن تعمِّر؟!
ولاية الطاغوت تعني الفساد الشامل الذي يطال كل جَنبة من جنبات الحياة، وكل زاوية من زوايا المجتمع، والذي يتهدد كل شيء في دائرة حكم الطاغوت بالدمار.
والايات الكريمة تتحدث عن هذه العلاقة الثابتة الاكيدة بين حكم الطاغوت وبين العمليّة التخريبية الواسعة في صورة استحياء للنّساء، وتذبيح للابرياء أطفالا رضعاً أو شيوخاً ركّعا، وفي صورة تمزيق لوحدة المجتمع، وضرب القوى بعضها ببعض، واذلال للرقاب، ومنع لاسباب القوة والنهوض فيمن يتعلق به الشك في الولاء، واستهداف أن تكون هناك طبقة واسعة مسحوقة; لا تملك حولاً ولا طولا لتكريس حالة الاستعباد. عملية تخريبية تمتد إلى أخضر الأرض ويابسها، وتحرق مع النسل الحرث.

ج ـ على مستوى المصير:

(
قال اللّه هذا يومُ ينفعُ الصادقينَ صِدقهمْ لهم جنّاتٌ تجري من تحتها الانهارُ خالدين فيها أبداً رضي اللّهُ عنهمْ ورَضوا عنهُ ذلكَ الفوزُ العظيم) المائدة: 169
(
يا أيتها النفسُ المطمئنّةُ ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضيّة فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي) الفجر: 27 ـ 30 ( يَقدُمُ قومهُ يوم القيامةِ فأوردهمُ النّار وبئس الوِردُ المَورود) هود: 98 
(
إذ تبرّأ الّذينَ اتُّبِعوا من الّذينَ اتَّبعوا ورأوا العَذابَ وتقطّعتْ بهم الاسبابُ وقال الّذينَ اتَّبعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأَ منهم كما تبرّأوا مِنّا كذلك يريهم اللّهُ أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجينَ منَ النّار) البقرة: 167.
تنتهي عبادة الملك الحقّ، مالك الامر كله بأهلها إلى غايتها. والتعلقُ بمالك السماوات والارض، والدّنيا والآخرة، خالق كل شيء وربّ كل شيء، الذي لا تنقص خزائنه، ولا تزيده كثرة العطاء إلاّ جوداً وكرما; هذا التعلق له نهاية يفضي إليها تقتضيها قدرة المعبود وعلمه وكرمه.
والتعلق بالعبيد المستضعفين ممن أثقلت ظهورهم جرائرهم، وحل عليهم سخط سيدهم، وكانوا في قبضة جبار السماوات والارض، له نهاية من نهاية هؤلاء المجرمين المنكّل بهم، وجزاء من جزائهم، فالسعي إلى بوار، والغاية خسار، والمقرّ مع أهل النّار.
يدخل المؤمن الجنّة نفسا بلا شرور، وقلباً بلا غل، وانساناً بلا هم ولا قلق... يلقى من نعم اللّه وألطافه وكريم ضيافته ما يتجاوز الخيال، ويكبر الوصف، ويجد من وفاء اللّه بوعده الجميل اكثر وأكثر مما كان يدخل له في حسبان. ويغمر قلبه أنس لا حدّ له مما يرى من جمال اللّه وجلاله. عندئذ لا يكون له أن يفارقه الرضا بمعبوده لحظة، ولا يكون لرضاه عنه أن تأتي فيه ثلمة، أو يعرضه نقص، أو يكون فوقه أو من مستواه رضا.
ويغزر الشعور بالكرامة، ويتفايض من النفس على جوانبها، وتكبر المعنويات في النفس إلى أقصى حدّها، ويسكر بلذة الروح، فوق ما يأتيه من متع البدن على ما هي عليه تلك المتع من وفرة وشفافيّة، وما تعبق به من ألوان التكريم. يحصل له أن لا يكاد يصدّق بمقامه حتّى يتلقى اليقين بأن اللّه العظيم راض عنه... معناه أنّه صار في جنته بلطف اللّه إلى واقع نقي جميل، طهور، نظيف من شوب العقول والارواح والنفوس. هكذا أتى بلا شك، بلا يأس، بلا غل، بلا شرور. صُفّي وجُلّيَ وغُسِل بماء الرحمة; فجاء علماً، وصدقاً، وعدلاً، وحبّاً للخير، وبغضاً للشر، وروحاً طليقاً، وقلباً زاكياً، وضميراً حيّاً، ووجوداً مباركاً، ونوراً مضيّاً، جاء لا يلحق به ما يصرف عين الجليل عنه، وما منه يتحوّل بوجهه الكريم عن التلطف به.
هذه عبادة المؤمن تنتهي به إلى الرضا بوجوده وحياته وماضيه وحاضره ومستقبله في ظل الرضا من ربّه عنه، وما يتقلب فيه من نعمائه وجزيل عطائه وعناياته وكراماته.
وعبادة الطاغوت وهي تفرّغ صاحبها من مضمون إنسانيته الرفيعة تنتهي به إلى شيء تافه، ووقود من وقود النّار، ولكن مع شعور غليظ بالعذاب، واحساس مغرق بالمهانة، وبالمقت للذات، والاحتقار لها، وبالاسى والالم، والحزن والندامة، والوحشة والاحباط، والدونيّة والرذالة.
وفي قبال الصورة الوضيئة من رضا المؤمن عن ربّه ورضا ربّه عنه، صورة معتمة من التخاصم والتشاتم والتبري والعداوة وغل الصدور، والحقد المتفاقم مما هو بين الطاغوت ومن عبدوه وكان له منهم ولاء، وكانت له عندهم مودة.
ألم تتكشف الامور على واقعها، وتنقشع الغشاوات عن البصائر؟! (... فكشفنا عنكَ غطاءكَ فبصركَ اليومَ حديد) ق: 22.  
ألم يتجل أن الطاغوت قد سرق واغتصب من أتباعه أغلى رصيد يملكه انسان بعد الذات; ساعات الحياة ودقائقها؟ ألم يختلس وينتهب منهم ذواتهم الكريمة ليعبث بها ويحولها إلى خواء؟! ألم يطفئ في داخلهم شعلة الانسانيّة الراقية؟ ألم ينأ بهم عن الطريق؟ ألم يحجبهم عن نور اللّه الذي تشرق به السماوات والارض وما فيهن من شيء، وبه وجودهم وحياتهم؟! ألم يحرمهم جنّة الخلد؟ ألم يملا صدورهم بكل خبيث، ويقتلع منها كل طيّب؟ ألم يفقدهم رؤيتهم وبصيرتهم التي عجنت بها كينونتهم في صورتها الإنسانية الأولى النقيّة، فصاروا يرون الباطل حقّاً، والحق باطلا؟ إذاً فليصبّوا جام غضبهم عليه، وليتمنوا أن يرجعوا ويرجع إلى الحياة ثانية وبعد أن عادت لهم البصيرة فيتبرأوا منه، وليخاصموه وهم وإياه في النار ويلعنوه، ويطلبوا المزيد من عذاب اللّه ونكاله لينصبَّ عليه.
نعم إنه أهل لكل ذلك، ولكنهم أهل معه لان يكونوا في العذاب، وأن يأخذوا مقرّهم ومأواهم في جهنم.
ألم يكونوا يد الطاغوت ورجله، وسمعه وبصره على الحق وأهله؟! ألم يكونوا شركاء وأدوات ـ لم تسلب ارادتها ـ في الفساد والافساد؟! ألم يزد تذللهم بين يدي الطاغوت، وانكبابهم على قدميه خانعين ما عليه من غرور غروراً، ومن زهو زهواً؟ ألم يعطوا له ابتداء يد البيعة والذلة مريدين في الظرف السهل أو الصعب، وهكذا كانوا على المدى كله يفعلون؟! ألم تكن هناك آيات بيّنات، ورسل وكتب، وفطرة ووجدان متأصل؟! ألم يروا من أحوال الطواغيت تبدلها على غير ما يشتهون، ومن جريان المقادير الالهيّة عليهم بخلاف ما يأملون؟!

خامساً: الطاغية داخلاً:

أ ـ غيبوبة وتيبس:

(
إذهبا إلى فرعونَ إنّهُ طغى * فقولا لهُ قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى) طه: 43 ـ 44.  
(
وأهديَكَ إلى ربِّك فتخشى) النازعات: 19.  
(
كذلكَ يطبعُ اللّهُ على كلِّ قلبِ متكبّر جبّار) المؤمن: 35
(
وكذلك زُيّن لفرعونَ سوءُ عمله وصُدَّ عن السّبيل) المؤمن: 37
الطاغية وهو يريد أن يقود الحياة، وأن يخرَّ له النّاس ركعاً بل سجّداً ناس غارق في النسيان للحقائق الكبرى المتجليّة خلقة في وجدان كلّ انسان. ناس لعظمة ربِّه، لعبودية نفسه، لقيمة إنسانيته، لمبدئه ومصيره. فهو في غيبوبة لا يعي منها من نفسه نفسه، مريض طغيانه يملك عليه ذاته، ويفقده توازنه وانضباطه. ومن خلله أن نفسه لا تهتز لعظمة العظيم وكمال الكامل، وقدرة القادر، وانعام المنعم، نفسٌ ما أحوجها إلى التقويم، وأن يعاد لها صوابها المفقود. والحالة المرضيّة لهذه النفس بالغة مستحكمة; فلا بد إذاً للكلام معه لعلاجه أن يكون ليّنا، ولمفاتحته بدائه أن تأتي على قدر كبير من المرونة والتلطف.
يلعب بذات الطاغية شعور طاغ بذاته; بحجمها الوهمي الضخم، بحقها على كلّ شيء أن يكون في الخدمة، وأن يعطي من نفسه له العبوديّة. شعور يقزِّم في عين هذه الذات من خارجها، ويكبّر كل شيء لها منها; حتّى تنسى عدمها السابق، وموتها اللاحق، ومحدوديتها في كل بعد من الابعاد، وفقرها الذاتي في كل حيثيّة من الحيثيّات.
والطاغوت إذا اصطدم بطاغوت يقدر فيه أنه يبتلعُه ذلَّ في الكثير واستكان، وخضع وخنع، وأدّى واجب العبودية له كاملاً غير منقوص. إنه البهيمة التي لا تردعها إلا العصا، والعصا التي تقع عليها بحواسها.
لنسيانه وبلادته، وتيبُّس وجدانه وجدتَه يحتاج إلى أن يوصّى به التوصية الخاصة لان يقال له قولاً ليناً يعالج فيه كبرياءه ليتطامن، وتيبس وجدانه، وتصلب شعوره ليخشى قولا لينا يترفق بحالة الذهول والنسيان والغيبوبة ليتذكر.
ولو عادت للطاغية رؤيته لربوبية ربِّه، وعبودية نفسه، عزة اللّه وجبروته، وذلته هو وخضوعه، وأخذت هذه الرؤية موقعها في نفسه; فإنه هنا لا بد أن يخشى ولا بد أن ينقاد... لا بد أن يهتز كيانه كله، وتملكه الرعدة، ويؤوب ويتوب. (وأهديَكَ إلى ربِّك فتخشى) النازعات: 19.  
لكن بعد أن تستحكم الطاغوتية ويتمادى الطغيان والعناد والاستكبار، وتتّسم النفس بروح المضادة للّه سبحانه، وتتشبع بالغرور في مواجهة عظمته وجبروته، ينغلق باب الرشد في وجه الطاغية جزاءً وفاقا; ليظل سادراً في غيِّه، متمادياً في ضلاله وانحداره.
يبدأ الطاغية درب التيه بالاستجابة الأولى والثانية للشيطان والنفس الامارة بالسوء; وهو يملك من نفسه أن لا يستجيب، وأن لا يفعل، ويذهب شيئا فشيئا في طريق الاستسلام والارتماء في أحضان شيطانه، حتى ينأى به الشيطان عن الجادة، وتضيع عليه معالم الطريق، ولا يرى نفسه التي بين جنبيه، حيث كان الطبع على قلبه جزاء، والختم على سمعه وبصره عقوبة.
فهذا هو الطاغوت داخلاً; إنسانيته هو عنها في غياب، وقلبه في سياج مستحكم دون النور، لا يتذكر ولا يخشى، ولا يسمع حقّاً، ولا يرى هدى.

ب ـ رجسٌ وتعفن:

(
اذهبْ إلى فرعونَ إنه طغى * فقل هل لكَ إلى أن تزكّى) النازعات: 17 ـ 18.
الطغيان عفنٌ يعطب، وأذى يسمِّم القلب، ورجسٌ يلوث الروح. ما من نية شرّ، ولا ارادة سوء، ولا حقد أسود، وتعطش للبغي، ولا استخفاف بالكرامات وجرأة على الحرمات، ولا فحش ولا تهتك، ولا تنكر للحقوق، ولا نقض للعهود، ولا غير ذلك مما قذر وخبث إلاّ ويجد له مقرّاً في نفس الطاغية وقلبه، وتعبيراً على لسانه ويده.
فهو لطغيانه محط رذائل، ومجمع تشوهات، ومستنقع قبائح، وهل أبقى من نفسه نافذة تطل على جمال ليروقه فيطلبه؟! أو احتفظ لها بقابليّة يقظة حتى تعشق الكمال فتتمثله؟!.
انسان لم يبق له من إنسانيته عبق ولا نماء، بل أصابها تعفن واندثار. فهي تحتاج إلى بعث ونفخة حياة، وتحتاج إلى تزكية بها الطهر والنماء، وبها الحياة والعبق.
وإنما يكون البعث وتكون التزكية، وتكون انتفاضة الحياة من جديد شيئاً منظوراً، ومتوقعاً كثيراً إذا أبقى الطاغية لنفسه من نفسه، ولم يأت على كلِّ قابليّات الخير والهدى فيها، ولم يسد كل منافذ النور إليها أو قارب. أمّا وقد أتت جاهليته على كل جذر من جذور إنسانيته، وأطفأت شعلتها حتى الذبالة، أو ما يكاد، فعملية التزكية هنا ومحاولاتها إنما تواجه محلاً قد فقد الكثير من قابلية الاستصلاح، وتربة خرج بها الفساد والتخريب إلى حدٍّ بعيد عن مستوى الاستعمار; وإن لم يصل أمرها إلى حد يجعل المخاطبة عبثاً، والمحاولة لغواً
(...
لعلّه يتذكّر أو يخشى) طه: 44.

عبادة اللّه وعبادة الطاغوت في القرآن الكريم (3)

تضمنت الحلقة الاولى من هذه الدراسة بحثاً قرآنياً عن حقيقة الايمان باللّه وعبادته وحقيقة الايمان بالطاغوت وعبادته والتحاكم اليهما والقتال في سبيلهما، ثم بيان مبدأ العبادة والمعركة الدائمة بين رسل اللّه وأتباعهم والطاغوت وأتباعه.
كما تضمّنت الحلقة الثانية نتائج عبادة اللّه وعبادة الطاغوت، والصفات القبيحة التي يتصف بها الطاغوت.
اما في هذه الحلقة فسيتم تناول الكيفية التي تواجه بها الظاهرة الطاغوتية.

سادساً: كيف تواجه الظاهرة الطاغوتية؟

كما لم تجتمع عبادة اللّه وعبادة الطاغوت أمس فهي لا تجتمع معهااليوم، ولن تجتمع معها غداً، فالمفارقة قائمة، والمنافرة دائمة، وكما كانت الملازمة ثابتة بين الدعوة إلى اللّه، والدعوة إلى اجتناب الطاغوت، وأنهما يمثلان رسالة مشتركة في حياة الرسل( ولقد بعثنا في كل أمَّة رسولاً أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطاغوت..( النحل : 36 فكذلك هي ثابتة بينهما اليوم، ولا تزالان رسالة واحدة مشتركة، لا تتم ولا تؤدّى بإحداهما دون الاخرى.
إذاً لابدّ من مواجهة الظاهرة الطاغوتية في الارض من قبل من يريدون مواصلة خطّ الرسالة والرسل في إطلاق النداء في النَّاس بعبادة اللّه، والتمسك بمنهج دينه. والسؤال هو كيف نواجه هذه الظاهرة؟
هناك المواجهة الجذريَّة الشاملة التي جسّدها الاسلام على يد النبي الاكرم والقائد الاكمل محمد(صلى الله عليه وآله) جسّدها بحركيته ودولته وأطروحته وتربيته وسلمه وحربه.
ليس المطروح هنا هذا المستوى من المواجهة، لا لعدم مطلوبيته أو لان غيره يقوم مقامه، أو أن ما يبرئ الذمّة دونه، وإنما حصراً للكلام في جانب معيّن مما هو أقرب للتناول والاستيعاب بدرجة ما، وتبقى المواجهة الشاملة من مسؤولية الامة في كل مراحل وجودها.
ومما ينطبع به هذا الجانب من المواجهة أنه عام لكل مستويات الامة، وجار في كل مستويات المواجهة. وهو جزء من المواجهة القرآنية الكاملة التي تنطق بها آياته، وتطفح بها تعاليمه. وليكن الحديث عن هذا الجانب في النقاط التالية:

أ ـ الحماية الفكرية:

(
قل من يرزقكم من السماء والارض أمَّن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحيَّ من الميِّت ويخرج الميت من الحيّ ومن يدبّر الامر فسيقولون اللّه فقل أفلا تتقون * فذلكم اللّه ربّكم الحق فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال فأنى تصرفون) يونس : 31 ـ 32
(
قل لمن الارض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون للّه قل أفلا تذكَّرون * قل من ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم * سيقولون للّه قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون) المؤمنون: 84 ـ 88
هذه المعرفة الفطرية التي تشعّ بها روح الانسان، وتتشبّع بها تلافيف كينونته الكريمة، يجب أن تستثار دائماً، لتبقى قوية حاضرة في وعي الانسان، متمكنة من فكره. وأن تعطي بعدها العملي في نفسه وشعوره، لتقود خطاه وتحدِّد مواقفه. ولهذه المعرفة ما يميّزها عن المعرفة الفلسفيَّة البحتة ذات الصرامة الجدليَّة، الموغلة في المماحكات الفكريَّة بعيداً عن الوجدان الانساني الحيِّ في منابعه الاصلية الصافية، وإشعاعه المتدفّق الدائم. هذه المعرفة تنطق بها كل نفس، ويغنى بها كل قلب، إلاّ أن تحدث تراكمات جاهلية تحيل لغتها لغة صعبة على النفس، فتكون العناية بإزالة تلك التراكمات. التفاعل من النفس مع معرفتها التي غرست خلقة فيها، بل عجنت تكويناً بها، حين تتوفر على تجلّيها لذاتها، وتخرج من عتمة الضلال الذي يُلفتُها عن نفسها تفاعل ميسور بلا تحايل، قوي بلا دفع، دائم بلا تدخّل.
أما الفكرة التي تدخل النفس بالجدل تظل الوجود الغريب القلق والمقلق. النفس منها على استيحاش وفي تردد، بلا اندغام ولا تفاعل. وتبقى للمعرفة الفلسفيَّة الخاصَّة والمنضبطة قيمتها في تمديد الفكر وتوسعته، بما لا يميل به عن محوره الاصيل، مما تجلّى به النفس الانسانية من حقائق الفطرة وهداياتها. وفي سدِّ الباب على الشبهات وعُقدها، ورفع ما قد يتسلّل إلى داخل النفس منها، على أنها أكثر ما تولد في ظلّ النظر المجادل، وصراع الافكار المتفلّت.
والكثير الكثير من أفواج الامَّة وغيرها من بني الانسان أكثر ما تحتاجه أنفسهم لتندفع في الطريق الواصل معطاءة مضحية، قويمة ثابتة هو أن ينفض الغبار أو التراكمات عندها عن الفطرة، ويتجلّى في داخلها النور الذي أودعه اللّه كل نفس، والهدى الذي منحه كلّ قلب، والكلمة التي أنطق بها كل عقل.
وعلى كل تقدير إذا كان جوّ الجهل والغفلة، والخوف والحاجة، واهتزاز الثقة، وغياب الوعي بقيمة الذات والحاضر والمستقبل هو جو الظاهرة الطاغوتية الذي تنبت فيه وتنطلق مترعرعة، وهو جو ولادة الطواغيت وتعلقهم، فإنه لابدّ لحماية الافراد والمجتمعات من هذه الظاهرة الخبيثة من تقديم الرؤية الكونية القرآنية الاصيلة للنَّاس، وإراءتهم من عظمة اللّه تبارك وتعالى وقدرته وجماله ولطفه وواسع رحمته، وشديد اخذه ما يرتفع بهم عن سماع الطواغيت، وتعلق الامال بهم، لابدّ من إعطائهم وضوحاً فكرياً لربوبية ربَّهم الحق وأُلوهيته، بمالها من بعد شعوري وعملي في حياة الانسان يغطّي كل حركته. انظر تعقيبات الايات الكريمة بعد أن تستنطق الفطرة بشأن قدرة اللّه، ومالكيته المتفرّدة، ورجوع الامر كلّه إليه، وسلطانه الشامل. انظر كيف تعطي هذه المعرفة التي يزخر بها عمق النفس الانسانية بعدها العملي في الشعور، وتمكّنها من الضمير، وتجدُّ في بناء الموقف عليها (أفلا تتقون)، (فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال فأنّى تصرفون)، (أفلا تذكّرون) فلابدّ من المعرفة التي تفجّر روح التقوى الدافعة والرادعة، ولا تحيد بصاحبها عن مراقبة اللّه في كل حركة وسكون، وتملؤه بذكر ربِّه الذي لا غنى له عنه، ولا يجد متحولاً غيره، فيخافه ويرجوه، ويشغله بجماله عن غيره. فتكون مواقفه كلّها طلباً لرضاه وتجنباً لسخطه.

ب ـ الحماية النفسيَّة:

يحاول الطاغية ما استطاع ومعه وسائله الاعلامية، وأبواقه الدعائية غزو النفوس، مستهدفاً أن ترى ذاتها صغيرة ضعيفة حقيرة، وأن تراه قويّاً كبيراً، على عظمة لا تُطال، وعزة لا تُقهر. ذلك ما يكسبه رادعاً من داخلها عن المقاومة، وقناعة باليأس من جدوى المواجهة، ورضى بالواقع الذليل، والمنزلة المهينة.
إذاً لابدّ من حماية نفسية من هذا الغزو، لاعطاء الانسان فرصة الخيار الصحيح، وأن يرى الاشياء على واقعها، من غير تأثير الجو النفسي المكذوب.

ومما يوفّر هذه الحماية:

1
ـ اسقاط هيبة الطاغوت:

(
والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) الاعراف: 197
(
إن الذين تدعون من دون اللّه عبادٌ أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين) الاعراف: 194.  
(
أيبتغون عندهم العزَّة فإن العزة للّه جميعاً) النساء: 139.  
(
مثل الذين اتّخذوا من دون اللّه أولياء كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون * إن اللّه يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم ) العنكبوت: 41 ـ 42
هيبة الطاغوت تقوم على الكذب والتزوير واللغة الاعلاميَّة المضلّلة، وهيبته المصطنعة هي التي تمكّن له في النفوس، وهي التي تسهل له أن يعبد. وعندما يعرى، ويكشف الغطاء عن بشريته الموهونة، ومحدوديته الخانقة، وعجزه الذاتي، وعندما تسلّط الاضواء على عبوديته في التكوين، ومنشئه من الطين، وعلى بدايته ونهايته ومحكومية حياته ووجوده، وأنه عبدٌ يعرضه المرض، ويلمُّ به الالم، ويملكه الهم، ويدهمه العدو، وتأتي عليه الشيخوخة، وتنزل به النوازل، وتقصم ظهره القواصم، عندما تكون هذه التعرية وهذا الكشف لما لا لبسَ فيه، ولا ريب يعتريه، بعد أن تسقط سُتُر الوهم الداخلة على النفس من التهويل، ويلفت النظر المصروف بالتضليل، فأي هيبة تبقى للعملاق المكذوب والربّ الزور، في قبال الاله الحقّ، والربِّ المطلق؟!

2
ـ تقديم رؤية واقعية للدُّنيا:

(
وابتغ فيما آتاك اللّهُ الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدّنيا وأحسن كما أحسنَ اللّه إليكَ ولا تبغِ الفسادَ في الارض إن اللّه لا يحب المفسدين) القصص: 77.  
(
كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحلَّ عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) طه: 81 .  
(
قل من حرَّم زينةَ اللّهِ التي أخرجَ لعبادهِ والطيِّباتِ من الرزق....) الاعراف: 32.  
(
هو الذي جعل لكم الارض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) الملك: 15.  
يرى الطاغوت وقد توفّر على القسط الاكبر من خيرات الامَّة وثرواتها سرقة واغتصاباً، وملك من فرصها ما ملك امتحاناً واستدراجاً، أن الدنيا بيده ورقة رابحة، يستعملها ترغيباً وترهيباً، ليبقى السيد المطلق، والربَّ المرغوب إليه، المرهوب منه، فتخرّ له الجباه ساجدة، والانوف متمرّغة، ويكون التذلّل والاندكاك.
وكلّما كبرت الدُّنيا وصغرت الاخرة عند الناس، كلّما سهل على الطاغية أن يملك القلوب، ويستولي على النفوس. لذلك لا يزال يريهم الدنيا كل شيء، وأنها لا تنال إلاّ عن طريقه، فإذا ظهرت الدّنيا على حقيقتها، والطاغوت بواقعه; ذهب سحره، وسقط ما في يده.
والايات الكريمة تقدّم رؤية متكاملة عن الدُّنيا، لها وجوه أتى تعدّدها من تعدّد الحيثية في النظر.
فقد ينظر إلى الدنيا في مقابل الاخرة، وحيث تقدم عليها، وتتّخذ هدفاً من دونها، فهي على هذا خيال عابر، وسراب خادع. الدنيا إذا قيست بالاخرة وزناً وجدتها شيئاً تافهاً محترقاً، والانكباب عليها مستعقب سوءاً، ومستتبع خسارة. إنها كذلك آئلة بأهلها إلى شقاء مقيم، وعذاب أليم، وندامة لازمة. وهي التي قال الحديث عنها مجاراة للاية الثانية: إنها تغرُّ وتمرُّ وتضرّ. نعم حين تؤخذ بما هي في نفسها، وتكون مطلوبة لذاتها لا يبقى لها مضمون كبير، ولا معنى جاد فيما تعامل معها أهلها به. فلا تكون كذلك إلاّ لهواً ولعباً، ولا تستتبع إلاّ خسراناً وحسرة، وتفويتاً للاخرة بما هي الحياة الغزيرة المركَّزة الدَّفاقة الراقية الكريمة. وهذا النظر هو ما يظهر الالتفات إليه من الايتين الاُوليين.
وقد ينظر إلى الدُّنيا بما هي مأكل ومشرب وملبس، معه مسكن ومركب ومنكح; من حيث أنها أشياء فيها نفع البدن ولذّته، من دون مقايسة لها بالاخرة، والحكم لهذه أو تلك بالتقديم أو التأخير. وهي كذلك داخلة في مثل قوله عزَّ من قائل: (قل من حَّرم زينة اللّه....)، وقوله سبحانه: (كلوا من طيبات ما رزقناكم....) وهذه الاية الاخيرة في تتمّتها: (ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) تحذّر من فصل هذه النعم عن دورها، واسقاط وظيفتها في إعمار الافئدة والارواح، وعن الانحراف بالدّنيا بالجمع لها، وأن ينسى شكر الرب بما آتى العبد منها، وأن يستعمل استعلاء، ويوظف للاستكبار، وأن يكون للمعصية ومواجهة المنعم سبحانه.
والنظر الثالث للدنيا يأخذها وصلة للاخرة، وعوناً عليها، يبني بها العبد نفسه، ويسخّرها لكماله; بأن يعبد بها ربه، ويطلب قربه. يتوفر على ما يتوفّر منها دفعاً لضروراته، وسدّاً لحاجاته، حتى لا تشلّه هذه الحاجات عن الحركة، ولا تقعد به عن الغاية، ويطلب من قدراتها ما يشدُّ به أزرَ إخوانه، ومن يعنيه أمره، ويخفّف به من معاناة المجتمع المؤمن، ويكشف كروبه. إنه يطلب الدنيا، يبني بها عقولاً، ويقوِّم نفوساً، ويصحّح مسار الاخلاق، ويرفع التناقضات; كل ذلك امتثالاً لامر ربِّه، وطمعاً في مرضاته.
هذا النظر الذي يذهب لتوظيف دقائق الحياة وثوانيها، وزراعتها وصناعتها، وعمارتها وخيرها، وتقدّمها من أجل الانسان، ليأتي عابداً كاملاً، ومن أجل مستقبله ليلتقيه سعيداً ناعماً، ليكون الهانئ بحياته، المسرور في مماته.
هذا النظر الذي يرتفع بقيمة الدنيا، ويجعل قيمة الاخرة بالنسبة للانسان من قيمة دوره في الاُولى، هو النظر الذي يشدُّ الاسلام إليه الانسان، وتؤكّد عليه تربيته القويمة (وابتغ فيما آتاك اللّه الدَّار الاخرة ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا...).
فالاية تعطي أولاً: أن الدنيا غايتها الاخرة، ثم إنه إذا كانت الاخرة هي الغاية الكبرى للدنيا وهي ما يمكن أن تتمخّض عنه من خير وعطاء، إذاً النصيب منها ما يكون ربحاً في الاخرة. والاخرة كما تربح بالصوم والصلاة تُربح بطلب المال والزوج والولد والمركب والقوة أسباباً يستعان بها على الطاعة، وتجنّب المعصية، ويكون لها دورها الهادف في إقامة الحق وإماتة الباطل.
الدنيا تُطلب لتوضع في مرضاة اللّه، وخدمة دينه وأوليائه; تكون مزرعة الاخرة. أما الدنيا التلف فما كانت للترف والبذخ والسرف. والدنيا المنتهية للهوان ما كانت للاستعلاء والعدوان.
ونلتقي الدنيا بهذا المنظور الجامع بين الايجابيَّة الجادَّة، والاخلاقيَّة الرفيعة في قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الارض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) كما التقيناه في الاية السابقة. فالحركة المفتوحة على الارض كلها، والتمتّع المأذون به بخيرات رزقها، موصولان بهذا التذييل (وإليه النشور )ربطاً لهما بما يعطيهما الوظيفة الرساليَّة الخلقية الكريمة من الاسهام في بناء الحياة الايمانيّة الرشيدة، والانسانية المجيدة، وهو الدور الذي يحاسب عليه يوم النشور، ويجازي به الربُّ الشكور.

الدنيا قد تؤخذ بهذا النظر أو ذاك مما تقدم، والطاغية يهمّه أن يكون النظر إليها النظر البهيمي الذي يقف بها عن غايتها، وينتهي بها عند حد الشهوة، ومستوى المتعة. ويهمّه أن يكبر عقل الانسان وضميره، فيكبر هو بما في يده منها كل شيء في نفوس الاخرين وتفكيرهم وسعيهم. على أن هذا الذي يحاول أن يملك على الاخرين نفوسهم به من الدنيا هو لهم، استحوذ عليه منهم سرقة وغصباً وانتهاباً، ومكراً وتحايلاً واختلاساً.
ويسوؤه الفهم الصحيح للدنيا; لانه يسقط قيمته وقيمة الدنيا التي بيده، ويعدُّ الطاغية عقبة في طريق الدور اللائق بالحياة، وعدوّاً للهدف الكبير الذي جاء من أجله الانسان، وكانت من أجله الدنيا.
وإذا صحَّ فهم النَّاس للدنيا، وأخذت دورها الرسالي في نفوسهم، أوصد الباب على الطاغيَّة أن يغزوهم نفسيّاً من طريقها; مغرياً بها، ومتهدداً عليها. وحماهم فهمهم من أن يعطوا يد الذلة له، لما في يده منها، ولما يلوِّح به من بذلها أو منعها. إنَّ فرعون طاغية الطواغيت بعد أن هدَّد السحرة في حياتهم أصلاً، وتوعّدهم بالتعذيب والقتل: (... فلاقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلّبنكم في جذوع النخل...) طه: 71.   جاءه جوابهم ـ وقد أفاقت نفوسهم على معرفتها بربها الكريم، وتحرّكت في اتجاه اللّه رفرافةً شفّافةً، فتفهت الدنيا في غضب اللّه عندهم، بل صارت مخيفة موحشة، وجيفة منتنة ـ جاءه صفعة في وجهه، قويّاً حاسماً جازماً، بلا تردّد، لا يعطي منفذاً لمداورة، ولا أملاً في مساومة. جاء مستخفاً بدنيا فرعون، وبالحياة كلّها في سبيل اللّه (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) طه: 72.

3 ـ إبراز الكرامة الانسانية:

(
وإذ قال ربُّك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر: 29.  
(
وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الارض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفكُ الدماء ونحن نسبّحُ بحمدك ونقدّسُ لك...) البقرة: 30.  
(
ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البّرِ والبحرِ ورزقناهم من الطيباتِ وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً الاسراء: 70.  
الانسان الرخيص في نظر نفسه، الساقط في تقديره، مستعدّ لان يقدم من نفسه سلعة بأتفه الاثمان، وأن يدخل في أخس الصفقات، وأن يتولّى أحطّ الافراد والجهات.
وإذا ارتفع وزن الانسان عنده، ورأى شرفه وكرامته، والقِمّة العالية التي يمكن أن تحققها حياته; تأبى جزماً على المساومات الرخيصة، والصفقات الذليلة. وكلّ ما عدا البيعة للّه ولاوليائه بيعة ذليلة، وصفقة مهينة، وتجارة ساقطة بائرة. لا يمكن أن تقع موقع الرضا من نفس آمنت بربِّها، وعرفت كرامتها، وسموّ دورها.
فتأجيج الشعور عند النَّاس بمنزلتهم لدى اللّه سبحانه، والدور الكبير الذي هُيّئوا له، والمستوى الرفيع الذي أريد لهم خلقة وتشريعاً، والدرجة الكبيرة التي تنتظرهم إذا قدَّروا لانفسهم وزنها، ووضعوها موضعها، ولم يبيعوها خاسرة في صفقات العبيد; تأجيج هذا الشعور في نفوس النَّاس، يربأ بهم بعيداً جدّاً عن التنزّل لمساومات الطواغيت، والنزول عند توعداتهم للدخول في البيعة وإعطاء يد الذلّة.
والايات الكريمة المتقدمة تغني الانسان شعوراً بالعزّة باللّه، والكرامة من فضله. كيف ومنه من يبلغ من درجات القربِ وعّزِ الطاعة للّه بأن يُسجدَ له اللّه ملائكته؟ انظر من الساجد ومن المُسجِد!!. كيف وقد أودع اللّه فيه نفخة الروح؟ التي إذا لم تحجب النفس عن إشعاعاتها وإمداداتها وإلهاماتها ووحيها جاءت طهوراً متألقة جميلة، فكراً وشعوراً وعملاً. جاءت وجوداً حيّاً طليقا مستهديا، يستضيء في كل مواقفه بنور اللّه، ويعبُّ من عطاءات جماله وكماله.
هذا هو الانسان في ذاته كما خلقه بارئه; كبير في مواهبه، عظيم في قابلياته واستعداداته. وهو كبير كذلك في دوره ومسؤوليته، فليس اعتباطاً أن تطرح الملائكة تساؤلها (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك). هذا التساؤل وراءه علم بدور الاصلاح والاعمار الذي ينتظر الانسان في تجربته على الارض، وأن يكون دوراً عابداً للّه تبارك وتعالى يزخر تسبيحاً وتقديساً للّه في الكلمة والموقف وفي كل أبعاد النشاط الذي هُيّئ له الانسان، ونقطة المفارقة في فهم الملائكة ـ وقد علموا شيئاً وغابت عنهم أشياء ـ هو هذا الواقع من الممارسة التي تنطلق من روح العدوان والتدمير (من يفسد فيها ويسفك الدماء) وذلك الدور الكبير والمهمة الضخمة التي اُريد الانسان لها على ما بينهما من تباين، حيث يكون على الانسان ان ينطلق من روح المحبَّة والاعمار.
أي انسان يتركّز في وعيه أنه ذلك المضمون الانساني الكبير من عطاء اللّه، المهيّأ لان تنفتح روحه في اتصال مستلهم مسترفد دائم على جلال اللّه وكماله، وأن يكون له من سمو المعنى وجمال الوجود وعذوبة الحياة واشراق القلب المسترفد ما يشعره بالرضا المتصل، والغنى المستمر، والقوة الثابتة، أي انسان يحصل له ذلك، ثم يقبل أن ينحدر، وأن يسفَّ، وأن يدخل في بيعة الطاغوت، ليذبل ويذوي، وليموت ويشقى؟!
وأيّ انسان يغنى شعوراً بأن دوره دور الخلافة في الارض، الدور الذي يعني أن يصوغ فعليّات الذات وينمّيها، ويأتي بها قوَّية زكيَّة، صاعدة إلى اللّه، من صنع منهجه القويم، وعطاء دينه الحنيف، وأن يصوغ ما استطاع ذواتاً أخرى، وأوضاع الحياة كلها على الخط نفسه، وبالمنهج ذاته، لتأتي الحياة بمن فيها وما فيها أكثر تقدماً وزكاة وطهراً وعبقاً، وأكثر قيمة وقوة وعطاء ونفعاً؟ أي انسان يغنى بهذا الشعور، ويفيض بهذا الاحساس، ويعي أنه ممن فضَّلهم اللّه على كثير ممن خلق تفضيلاً ثم تحدِّثه نفسه بأن يكون عبداً لطاغية، مطيَّة المقاصد الساقطة، والمرامي الخبيثة، ومعبر النزوات والشهوات؟!
إن النفس لتستعلي في ظل شعورها بالانتماء العبودي للّه تبارك وتعالى، وإيمانها بالقيمة العالية التي منحها إياها، والدور الضخم الذي أعدّها له، والموقع الكبير الذي بوّأها إياه; تستعلي وتستعلي جدّاً على أن تكون صيداً سهلاً لطاغوت، أو أن تكون في موقف يُطمع أحداً من أهل الدنيا والجبروت في ان تذلّ له، أو يجد لولائها له سبيلاً.

4 ـ إبراز موقعية المؤمن:

(
هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملَّة أبيكم إبراهيم هو سمَّاكم المسلمين من قبلُ وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على النَّاس...) الحج: 78.  
(
وكذلك جعلناكم أمَّة وسطاً لتكونوا شهداءَ على النَّاس ويكون الرسولُ عليكم شهيداً) البقرة: 143.
(
كنتم خيرَ أمة اُخرجت للناسِ تأمرون بالمعروفِ وتنهونَ عن المنكرِ وتؤمنون باللّهِ...) آل عمران: 110
الانسان بعمومه مهيّأ لان يكون كبيراً بربه، عظيماً بتعلّقه به، وخضوعه إليه، والمؤمن كبير فعلاً من فضل ربِّه، وعظيم حقّاً بعد أن جاهد نفسه على طريقه، وانشدّ قلبه إليه، ومضى يستهدي بتعاليم دينه، ويسترشد بأحكام شريعته في بناء أوضاع داخله وخارجه، وتتبوّأ الامة المسلمة المؤمنة مكانة في النّاس تجعلها أعزّ وأغلى من على الارض من بني الانسان، بما تملك من هدى اللّه، ومن كنوز وحيه، ومن قدوات صالحة فريدة من بين قدوات الامم ليس مثلها إيماناً مشعّاً، وعلماً صادقاً، وشعوراً زكيّاً، وإرادة خيرة قوية، وحكمة سديدة رشيدة، وخطى منتجة مخلصة. ليس على ما هي عليه أحد في الارض استجابة طيّعة واعية لشرع اللّه في أمره ونهيه، وهمّاً كبيراً في صلاح الارض وأهلها، ورشد الحياة وأبنائها، وسلامة الاوضاع وتقدمها.
حمّلت هذه الامة أن تكون شاهدة على النَّاس، ولا يمتنع أن يكون مع الشهود الكمّل منها وعلى الاطلاق شهود آخرون على مستويات متفاوفة من مساحة السلوك الفردي والاجتماعي، وأن يكون من هؤلاء الاخرين الافراد والجماعات كذلك. وللرسول(صلى الله عليه وآله) الشهادة على كل شاهد في النَّاس، بما هو المثل الاعلى من بينهم أجمع.
هذه الامة مكلَّفة بأن تكون على علم عاصم من الجهل، وحكمة مانعة من السفه، وصدق حائل عن الكذب، وعدل حاجز عن الظلم; لتكون رائدة ومعلّمة وهادية وشاهدة على كل الامم. كلّفت بأن تتوفّر على مقوّمات الاستقامة، وأسباب القوة التي تؤهّلها لان تأمر بالمعروف فيسمع أمرها، وتنهى عن المنكر فيستجاب لها، أمراً ونهياً يشمل كل مساحة الحياة، ويردُّها إلى طريقها القويم، فتكون القويمة المتقدمة. وهذا دور كتب عليها أن تمارسه في داخلها، وعلى مستوى أبنائها، كما كتب عليها أن تنهض به في إطار سائر الامم; فهي امةٌ اُخرجت للنّاس; لهدايتهم وصلاحهم وتقدّمهم وسعادتهم.
هذه الموقعية المتقدمة حين يتعزّز الشعور بها في نفوس المؤمنين، تدفع بمعنوياتهم إلى الامام، وتمدّهم بالعزَّة المتجذّرة والكرامة الفائقة الضاربة، وتحمي مجتمع الايمان من أن يقبل السقوط تحت أشدّ الضغوط، وأن يستجيب للاغواء وإن عظم الاغراء.
وهي موقعيَّة عندما يكون التركيز عليها عامّاً ومكثَّفاً، تستلفت النظر العام المسلم على المستويات المختلفة عن حياة الدُّون، ومواطن الاسفاف، ومواقع العبث، ومفاتن اللذّة الرخيصة، والشهوة العابرة، وعن مستمسكات حياة الابدان على حساب المعنويات الكبيرة، وتعطيه تطلّعاً جديداً ممتداً لا يقتنع معه المسلم إلاّ أن يكون من أهل هذه المكانة، دون أن يتمادى في نسيان الذات في إشعاعاتها وإشراقاتها وهداياتها الغزيرة، وأن يذوب في الغير من كل من حقر وتفه.
هذه الموقعيَّة القرآنيَّة العالية إذا ثبتت وتأكّدت في صفوف المؤمنين والمسلمين عامَّة; انعكس ذلك باليأس والاحباط في نفوس الطغاة وأجهزتهم الاعلاميَّة في كل مكان.
لقد أعطى الكتاب الكريم عناية فائقة لابقاء شعلة النُّور وقّادة في نفس الانسان، ومدّه بتصور إيماني متكامل، ملفتاً إيّاه إلى نفسه في نظرة قويمة كريمة، وتثمين كبير دافع، لا يحابي ولا يغرِّر، ولا يهمل مواطن الضعف والقصور، ومآتي البشر ومداخل الفساد. وكرَّس في نفس المؤمن شعوراً غزيراً وثقة كبيرة بانتمائه، واحتراماً عميقاً لدوره، وإكباراً لوظيفته، وإيماناً بالغاً بعظمة مستقبله. وعرَّى الطاغية في ذاته، وفي حاضره ومستقبله، ووضعه في الموضع الذي لا يُفتتن منه به، ولا يربط أحد مصيره بنهايته.
وهذه الحماية والتحصين من الكتاب الكريم إذا تتبّعنا السنّة المطهرة وجدنا منها نشاطاً متواصلاً وتركيزاً في مجالهما، وهي تستهدي الكتاب، وتنعكس على قلب الانسان بإشعاعه وإضاءاته. وإنك واجد أن المضمون القرآني يطالعك على لسان أكثر من معصوم، كما نلقاه أكثر من مرة على لسان المعصوم الواحد في أكثر من عَرض، وأكثر من صورة، وفي تطبيقات وتشقيقات تتعدّد بتعدّد المناسبات، وتتلون وتختلف باختلاف خصوصيات الموقف ومقتضيات الحال. ذلك في نظم وتناسق يجعل العروض والصور متناصرة متوافية، تأخذك كلاًّ إلى النتيجة المطلوبة. وهذا التنويع في العرض والابداع في الصور يلتفت إلى أن النفوس البشرية تختلف في خصوصياتها مع ما هي عليه من تلاقيات رئيسة; فنفس تستلفتها صورة، وثانية تستلفتها أخرى، وهذه تستوقَفُ لنغم، وتلك لاخر.

وهذا يعني أن الحماية الفكرية والنفسية من تأثيرات الطاغوت; إعلامه وخططه التي يُعنى بها الكتاب العزيز، والسنّة المنصورة ينبغي أن يركّز عليها، ويثار الاهتمام بها، ويشدّد على اللفتات المقصودة لها، وأن تطرح قضاياها ومضامينها بكل أشكال العرض الراقي والتصوير الفني المتنوّع، وأن يستهدي بكلّياتها الثابتة للتعرّف على الجزئيات والتفاصيل التي تتناسب ومعركة الحاضر، ويستوحي منها الجديد من القضايا والاثارات الخاصة، التي تستجيب لمواجهة المتجدّد من خداع الطغاة وسحر أجهزتهم. وأن تأتي الاساليب وأدوات المعركة متقدمة كما هي كذلك عند الطرف الاخر.

ج ـ الحماية المعيشيَّة:


( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) الذاريات: 19
( يا أيها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون باللّهِ ورسوله وتجاهدون في سبيل اللّهِ بأموالكم وأنفسكم ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون) الصف: 10 ـ 11
من أحدّ أسلحة الطاغوت، وأمكن وسائله في النيل من نفوس النّاس، واستغفال قلوبهم، وإسقاط إرادتهم، والتسليم له بالطاعة، وإعطائه يد الذلّة، والقبول في الدخول في ولايته وعبادته، هو الدنيا العريضة بيده.
( وقال موسى ربنا إنَّك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالاً في الحياة الدُّنيا ربَّنا ليضلّوا عن سبيلك ربَّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم...) يونس: 88
الجهاد بالمال كان في عرض واحد مع الجهاد بالسيف، بل دخل المعركة قبله; معركة الاسلام مع الكفر. وما لم يدخل المال ساحة الصراع بين خط الرسل وخط الطاغوت بمستوى جادّ من قبل المؤمنين القادرين فإن المفتونين بدنيا الطاغوت إلى زيادة تحت ضغط التجويع والحرمان.
ومعالجة الموضوع على مستوى الصدقات الفردية والتبرّعات الاتفاقية للمحسنين لا يمثّل حلاًّ مجزياً. بل إن التعامل مع الشاب المفتول العضل، المملوء حيوية ونشاطاً، والمحارَب في لقمة عيشه من أجل دينه، بعنوان أنه مسكين لابدّ من انقاذه ولو بشيء من أوساخ النَّاس بما تقدمه أيديهم منّاً وتعالياً، أو بدافع الخجل والاحراج، التعامل معه كذلك ربما يبعده عن دين اللّه أكثر مما يقرِّبه. المعالجة تتطلب مشاريع اقتصادية ضخمة، وفتحاً لفرص العمل ما أمكن، والتمويل المباشر عند الضرورة بعنوان من العناوين اللائقة التي لا تنال من المعنويات، ولا تربي في النَّاس روح البطالة. وأن تكون كلمة مجمعة جازمة وحاسمة تطالب بفكِّ الارتباط بين إتاحة فرص العمل والولاء للانظمة الحاكمة يدعمها السعي الحثيث والمحاولات المستمرة.

د ـ الحماية الامنيَّة:

( وما لكم لا تقاتلون في سبيل اللّه والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمِ أهلُها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً) النساء: 75
التهديد في النفس بالتصفية النهائية أو السجن والتعذيب، والطرد والتشريد، اُسلوب الطغاة كلّ الطغاة أمس واليوم. وقد طفح كيل ظاهرة القتل والتعذيب، والسجن والتشريد، والملاحقات في طول الساحة الاسلامية بل العالمية وعرضها، مطاردةً للظاهرة الايمانيَّة المنبعثة المتنامية. وأمر هذه الاجراءات لا يتوقّف في الكثير من بلاد عالمنا الاسلامي، على وجود مؤمن يبدي تحدّياً، ويتصدّى للمواجهة; إذ يكفي أن يوجد مؤمن يحاول أن يفهم دينه، ويقدّم فهمه للاخرين على حدِّ ما تتمتّع به كل التيارات الدخيلة والمنكفئة اجتماعياً من التعبير عن وجهة نظرها، بل ما هو أقل مما عليه الدخلاء وأبواق الفكر الغريب والمشوَّه من هذا القدر من إتاحة الفرصة، بل يكفي أن يداوم شاب على دخول المسجد يصلّي جماعة إن لم يكن مفرداً، أو أن يرسل اللحية شيئاً ما، ويبدي اهتماماً بالكتاب الاسلامي; يكفي هذا وشيء من هذا للحرمان والاستجواب والمطاردة وحتى السجن والتعذيب، وما هو أكثر.
والمسألة ليست مسألة ظروف أمنية عابرة، بل هي مسألة مواجهة مستمرّة من لغة الغاب والظفر والناب لوضعية حضارية نابعة من قلب الحياة، وشغاف الوجود، وضمير الفطرة، وصيغة حياتية مبدئية يعيشها ضمير الاُمة ويتفجّر بها شعورها، وتحسّ من خلالها بطعم انتمائها وأصالتها ومعنويتها.
والمجتمع الاسلامي الذي لا يحمي القضية الدينية وشعلة الايمان في أبنائه، معرَّض للذوبان والتغريب الكامل، إذا طال صمته، واستمرّ على سلبيته العملية، مستأنساً لعمليات التبرير من هنا وهناك، ليوفّق بين إيمانه بإسلامه، وشعوره بقيمة قضيته، وبين حرصه على دنياه وسلامته، أو معرّض إلى أحداث مزلزلة باهظة التكاليف إذا جاءت متأخّرة صحوة العقل، واليقظة الشديدة للضمير، وتَنَبُّهُ الارادة الفائرة مما لا يقبل التبرير، ولا يأنس إلى التزوير.
الانكار المبكّر الواسع والمركَّز والمتصل في أي جزء من أجزاء الوطن الاسلامي الكبير وبما هو دون المقاتلة، يعطي من النتائج الايجابية، والثمرات الضخمة ما قد لا يعطيه العنف، والتضحيات السخيَّة، وسيول الدماء، مما قد تجد المجتمعات نفسها مضطرة إليه أو أنه قد فرض عليها عملاً بعد وقت.
لقد نقل الكفر منذ بعيد معركته مع الاسلام إلى داخل البلاد الاسلامية، وعلى يد عملائه ووكلائه ممن ينتسبون للاُمة اسماً، ويناصبونها العداء روحاً وحقيقة; فالاسلام في بلاده محتاج إلى التأمين والحماية على يد جموع الاُمة وجماهيرها من اغتياله من الكثير الكثير من منفّذي المخطط الاجنبي في القضاء على الاسلام سرّاً، والفتك به علانية وجهراً.
وحماية الاسلام لا تنفصل عن حماية الفئة الطليعية في الاُمة التي تأخذ على عاتقها بيان حقائقه وتوضيح مفاهيمه وتركيز تعاليمه، ودرء الشبهات عنه، وتبرز تناقضات الواقع ومفارقاته لاسلام الاُمة ومصالحها، وما يسبّبه من مأساة الحاضر وفجائع المستقبل، وما يستهدفه من تذويب وتعريب.
ثم هي لا تنفصل عن التماسك الشديد في الصفوف الطليعيّة من علماء الامة ومثقّفيها المؤمنين. فلا يكاد أحد يصدق في العمل للاسلام وهو لا يعرف لهذا التماسك قيمته; فلا يرعاها عملاً، ولا يغمض على القذى من أجلها ورعاً. ولا يتجرع الغصص من إخوانه تقديراً لمصلحة الاسلام، وتقديماً لمستقبل الايمان.
ولا تتم الحماية للاسلام إلاّ من أمة الاسلام; من جماهيرها وطلائعها وعلمائها حتى لا تهون مؤاخذة امرئ مسلم في بلاد الاسلام لصلاته ونسكه، وتمسّكه بتعاليم الدين وأحكام الشريعة، ولا يُسكت على أذاه لقول حقّ وإنكار ظلم. من أجل أن يمكّن لعبادة اللّه في الارض وأن لا يكون الارباب من دون اللّه على مطمع كبير في تعبيد الناس لهم، لابدّ من أن تأمن سبلُ اللّه من قطّاع الطرق على النَّاس إلى بارئهم. وهي مسؤولية الامَّة المؤمنة والمسلمة في قطّاعاتها العامة وطلائعها الخاصة. ولا ينقص الامة شيء في هذا السبيل في أي قطر من أقطارها أكثر من تلاقي الرأي عملاً، على ما هو محل اجماعه نظراً، وتلاقي الجهود فعلاً، على ما تلاقت عليه الانظار من هذا الامر كملاً.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2093
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 01 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24