• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : كيل التهم للنبي الأكرم (ص) .

كيل التهم للنبي الأكرم (ص)

 جعفر سبحاني تبريزي

كان أسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق كيل التهم إليهم أقدم‌ حربة‌ بـيد‌ الجـهّال يـطعنون بها علي المصلحين وقد استعملها مشركو عصر الرسالة في بدء الدعوة، ولم تكن الفرض تسنح لهـم بقتله واغتياله فحاولوا اغتيال شخصيته ليسقطوه عن‌ أعين الناس، فإنّ نجاح‌ المصلح‌ فـي نشر دعوته يكمن فـي اتسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة، فلو افتقد المصلح تلك السمات عن طريق الاتهام بما يضادها ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدى، فلأجل‌ ذلك اختارت قريش القيام بشن حربن فسية ضروس لا هوادة فيها للحـط من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته.

ولكنهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم له تتجاوز تهمهم‌ الكهانة‌ والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النبي قد كان من الطهارة النفسية والأمانة العالية وسائر الصفات الكريمة عـلى حـد حال دون إلصاق تهم أخرى به ككونه خائنا‌ سارقا‌ قاتلا غير عفيف، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفـلاح والأمـانة ولو‌ كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبي بها، لما أمسكوا عنها. نعم قام العدو باتهامه بأمور يشكل إثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس‌ كرامة‌ المـصلحين‌ حـيث يشنّون عليهم بمثل هذه‌ التهم‌ لإسقاطهم‌ عن أعين الناس.

يقول سبحانه: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (الذاريات:52)

هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد‌ المصلحين‌ عن‌ الساحة، ثم إنّ التـهم التـي حـكاها القرآن عن‌ لسان‌ أعداء النـبي تـتلخص فـي العناوين التالية.

1- الكهانة:

و هي في اللغة عبارة عن اتصال الإنسان بالجن ليتلقى منه أنباء الماضين وأخبار‌ اللاحقين‌ ومن خلالها يتمكن من التنبؤ بـالمستقبل، يـقول سـبحانه مشيرا‌ الى تلك التهمة وردّها:

﴿وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ.(الحاقة:42)

2- السحر:

وهـو قـوة نفسانية للساحر يقدر معها على إنجاز‌ أمور‌ خارقة‌ للعادة مموّهة، ومن تلك الأمور التفريق بين المرء وزوجته‌ والوالد وولده بل بـين أفـراد العـائلة كافة.

قال سبحانه: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص:4).

3-المسحورية:

والمـراد منه تأثره بسحر الآخرين، وأنّ هناك ساحرا أو‌ سحرة‌ سحروا‌ النبي وأثروا فيه، يقول سبحانه حاكيا عن المشركين: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا.(الفرقان:8)

ثم يـردّه‌ بقوله‌ سبحانه: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ (الفرقان:9) والمراد مـن قـوله «ضربوا لك الأمثال» أي‌ وصفوك بالمسحورية، وقد أتّهم بنفس تلك التهمة النبي صالح. قال سبحانه حاكيا عن‌ أعدائه: ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ﴾ (الشعراء:153) ومـما يـجدر ذكره أن إتهام النبي بكونه مسحورا ليست تهمة مستقلة تغاير‌ الجنون‌ جوهرا، بـل هـي نـفس هذه التهمة ولكنها صيغت بلفظ أكثر أدبا هذه‌ شيمة‌ الدهاة‌ حيث يمزجون السم بالصل.

4- الجنون

ومـفهومه غـني عـن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تلصق‌ بالمصلحين‌ من جانب خصومهم من غير فـرق بـين النبي وغيره، وبين‌ نبينا‌ وسائر الأنبياء، كما عرفت. قال سبحانه نقلا عن المـشركين: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ (الحجر:6)،  قال تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ (التكوير:22) وقال عزّ من قـائل: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ﴾ (الطور:29) والمبرر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له، وقوفه لوحـده فـي وجـه‌ الرأي‌ العام المتمثل في الشرك. والسذّج من الناس يصفون من يتبنى الفكر الذي‌ لا‌ يوافقه عـليه الرأي العـام وهو يريد‌ تطبيقه‌ في‌ المجتمع، بأنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه‌ ومنزلته وسـوف يـهدر دمـه لا محالة.

ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتهمون‌ من‌ هو أرجحهم عقلا وأبينهم‌ قولا‌ منذ ترعرع‌ الى‌ أن‌ بـلغ أشـده بالجنون والكهانة مضافا‌ الى‌ ما في هذا من التناقض والاضطراب، فإنّ الكـهنة كـانوا من الطبقة‌ العليا‌ بين الناس يرجع إليه القوم في‌ المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون؟ فكيف جـمعوا بـين‌ كونه‌ كاهنا ومجنونا؟ ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا‌ كـيف‌ رمـى رجال الإصلاح بنظائر هذه‌ التهم‌ وما ذلك إلاّ‌ لأنـّهم‌ قـاموا فـي وجه المستعمرين‌ والناهبين لثروة أقطار العالم الإسـلامي، فـما كان نصيبهم جراء مقاومتهم، إلاّ اتهامهم بالجنون والتدهور‌ العقلي، والغربة عن الواقع والحياة.

5- التعلم من الغير:

إنّ أعـداء‌ النـبي‌ من قريش وغيرهم‌ وقفوا على مرأى عـظمة تـعاليمه وسموها ولكـن الحـالة النـفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله‌ والإذعـان لرسـالته الإلهية وانتسابه الى الوحي‌ والسماء. فقاموا‌ بتزوير‌ آخر وهو‌ أنّه‌ معلّم قد تـلقّي تـعاليمه من غيره. يقول سبحانه: ﴿... وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ﴾.‌ (الدخان:13 و14)

وأما من هـو المـعلم‌ الذي‌ كان‌ قد‌ علم‌ النبي‌ وغذاه بتلك المبادئ والقيم، فلم يذكروه. ولكن اقتران هـذه التهمة، بتهمة الجنون يدل عـلى أنّ المـعلّم المزعوم هو الجـن فـهو عن طريق صلته بـه تـلقى‌ رسالته عنهم- و بالتالي- أصيب في عقله فصار معلّما مجنونا بزعمهم.

وهناك احتمال آخر وهو أنّه تـلقّى مـبادئه عن بشر آخر، وقد أشير إليـه فـي قوله سـبحانه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾.(النحل:103)

قال ابن عباس: قالت قريش: إنّما يعلمه بلعام «وكان قـينا بـمكة روميا نصرانيا»، وقال الضحّاك: أرادوا به سـلمان فـارسي(1)‌ قـالوا إنـه يـتعلم القصص منه، وقـال مـجاهد وقتاده أرادوا به عبد البني الحضرمي روميا يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب،‌ أسلم‌ وحسن إسلامه، وقال‌ عـبد‌ اللّه بـن مـسلم كان غلامان في الجاهلية نصرانيان من أهـل عـين التـمر، اسم أحـدهما يـسار واسم الآخر خير، كانا صيقلين يقرآن كتابا لهما‌ بلسانهم‌ وكان رسول اللّه (صلّى‌ اللّه‌ عليه وآله وسّلم) ربّما مرّ بهما واستمع لقراءتهما، فقالوا: إنّما يتعلّم منهما ثم الزمهم اللّه تعالى الحجة واكـذبهم بأن قال: لسان الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول، أعجمي‌ لا‌ يفصح ولا يتكلم بالعربية فكيف يتعلم منه من هو في أعلى طبقات البيان، وهذا القرآن بلسان عربي مبين، فاذا كانت العرب تـعجز عـن الإتيان بمثله وهو بلغتهم‌ فكيف‌ يأتي الأعجمي‌ بمثله؟.(2)

قال ابن هشام، قالوا: إنّما يعلمه رجل باليمامة يقال له الرحمن ولن نؤمن‌ به أبدا، فنزل قوله‌ سبحانه: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ﴾ (الرعد:30).‌ (3)

روى ‌‌ابن‌ هشام: إن النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللّه مـجلسا، فـدعا فيه الى‌ اللّه‌ تعالى‌ وتـلا فـيه القرآن، وحذر فيه قريشا ما أصاب الأمم الخالية، خلفه في مجلسه‌ أذا قام، فحدثهم عن رستم واسفنديار وملوك فارس ثم يقول: واللّه ما محمد بأحسن‌ حـديثا‌ مـنّي وما حديثه إلاّ أساطير الأوليـن، اكتتبها كما اكتتبتها فأنزل اللّه فيه: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾. (الفرقان:5 و6)

﴿وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. (4)

6-كذّاب:

وما وصفوه به إلا‌ لأجل‌ أنه كان يكافح عقيدتهم ويقارع دينهم. قال سبحانه حاكيا عنهم تلك التهمة: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّاب﴾. (ص:4)

7- مفتر:

و إنّما وصـفوه به لأنه ينسب تعاليمه‌ الي‌ السماء. يقول سبحانه حاكيا عنهم: ﴿ ... قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (النحل:101) ويـقول أيضا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ (الفرقان:4). وهذه الآية تعبر عن أنهم كانوا يتهمونه بأنّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هـناك ‌ ‌قـوم أعانوه عليه، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر وهو ان القرآن‌ ليس‌ شيئا‌ جديدا بـل هـي أسـاطير الأولين‌ تملي‌ عليه‌ بكرة وأصيلا، كما قال سبحانه: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾. (الفرقان:5)

وقد دحض الوحي هذه التهمة‌ وكشف‌ عن زيفها بأمرين.

الأول: لو صحّ قولكم إن هذا الكـتاب‌ من‌ صنع محمد فـنسبه الى الوحـي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، فإنه لبشر مثلكم وأنتم بشر مثله. قال سبحانه ‌﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. (هود:13 و14)

الثاني: كيف تقولون بأنه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير‌ مع‌ أنه ما أملي كتابا، لا خط صحيفة فكيف تتهمونه بالاستنساخ والإستكتاب؟ قال سبحانه: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾. (العنكبوت:48 و49)

8- مفتر أو مجنون:

على ترديد‌ بينهما- ربما‌ كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلا مفتريا على اللّه سـبحانه أو‌ مـجنونا‌ معدم العقل والشعور، وهذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث‌ يلصقون‌ التهم‌ بمخالفتهم الأقوياء بلسان التردّد وعدم الجزم، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما‌ يحكي‌ عنه سـبحانه: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ. (سبأ:8)

9-شاعر:

إن القوم كانوا أسود الفصاحة وفرسان‌ البلاغة‌ وقد أدركوا بفطرتهم سمّوا القرآن وعلو مرتبته في ذلك المجال، ومن جانب‌ كانوا‌ في العداء والحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بـكونه مـنزلا مـن‌ السماء،‌ حاولوا‌ أن يفسروه بالشعر فـوصفوه بـالشاعر وقـالوا: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ (الطور:30) وحاصل هذه‌ التهمة‌ إنه‌ شاعر وأعذب الشعر أكذبه، فلنصبر عليه ولنتربص به صروف الدهر‌ وأحداثه فـسيكون حـاله حـال زهير والنابغة وأضرابهم ممن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر.

وقـد‌ ردّ‌ سـبحانه على تلك التهمة يأمر نبيه بقوله: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾. (الطور:31-34)

إن اللّه‌ سبحانه‌ أمر النبي أن يتهددهم ويتوعّدهم بأمور:

1- قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ: انتظروا وتمهلوا‌ في ريب المنون فإني متربص‌ معكم‌ منتظر قضاء‌ اللّه‌ في‌ وفيكم وستعملون لمن تـكون‌ حـسن‌ العـاقبة والظفر في الدنيا والآخرة.

ب- أم تأمرهم أحلّمهم بهذا؟ أي هل‌ تأمرهم‌ عقولهم بنشر هـذه التـهم، فإن هذه‌ التهم الثلاث لا تجتمع‌ بحسب‌ مدعاهم في آن واحد، فإنّ‌ المجنون‌ من زال تعقله وإدراكه، فكيف يـقوى عـلى إنـشاء الشعر الرصين، أو كيف‌ يكون‌ قوله حجة في الأخبار عن‌ المغيبات؟

وقصارى‌ القول: إن هـؤلاء المـتحاملين‌ كـانوا‌ قد فقدوا رشدهم فأخذوا‌ يتخبطون‌ في تهمهم وكلامهم من دون وعي.

ج-أم يقولون تقوّله: أي إن عقولهم لم تأمرهم بـهذا‌ ولم تـدعهم إليـه بل حملهم الطغيان‌ على‌ تكذيبك ولأجل‌ ذلك‌ يقولون: افتعل القرآن من تلقاء‌ نفسه.

ه-بل لا يؤمنون: أي قصارى القـول: إنهم لا يـؤمنون ولا يصدقون بذلك عنادا وحسدا واستكبارا‌ وإنما هذه تهم اتخذوها ذريعة‌ الى‌ التمومية‌ وسـنتروا‌ بـها عـداءهم وعنادهم.

و- فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين أي إن كان شاعرا فلديكم الشعراء الفصحاء، أو كاهنا فلديكم الكهان الأذكياء،‌ وإن‌ كـان قد تقوله فلديكم الخطباء الذين يحضرون الخطب‌ ويجيدون‌ إنشاء‌ القول‌ في‌ كل فنون الكلام، فـليأتوا بـمثل هـذا القرآن إن كانوا صادقين فيا يزعمون، فإن أسباب التحدي بالقول متوفرة لديكم كما هي متوفرة لديـه، بـل فيكم من طالت مزاولته‌ للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحـفظ أيـام العـرب ووقائعها أكثر من محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسّلم). (5)

وقال سبحانه ردّا علي‌ هذه‌ الفرية:

﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ.(يس:69)

فأين القرآن من الشعر وأين محمد من الشعراء؟

10- أضغاث أحلام:

والمراد منه تخاليط أحلام راها‌ فـي‌ المنام ويحكي عنهم سبحانه بقوله:

﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ. (الأنبياء:3-5)

بين سـبحانه فـي هـاتين الآيتين اقتسامهم القول في النبي، فقال بـعضهم‌ أخـلاط‌ أحلام قد راها في‌ النوم‌ وقال آخرون: بل اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى اللّه، وقـال قوم: بل هو شاعر وما أتـى بـه شعر، يـخيل الى السـامع مـعاني لا حقيقة لها، مضافا الى‌ أنّهم‌ اسـتبعدوا أن يـكون بشر مثلهم نبيا.

وهذا الاضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره، لا يـترددّ إلاّ بـين باطل وأكثر بطلانا ويتذبذب بين فـاسد وأفسد‌ منه.

فلو بنى على‌ تـحليل القـرآن بواحد من هذه الوجوه. فكونه سـحرا- مع كـونه فأسدا- أقرب منه كونه أضغاث أحلام، فأين هذا النظم البديع‌ من تخاليط الكلام التـي لا تـضبط؟ وادعاه كونها مفتريات أبعد وأبـعد‌ لأنـه (صلّى‌ اللّه عـليه وآله وسّلم) قد اشتهروا بـالأمانة والصـدق، مضافا الى أنّهم أعرف النـاس بـالفرق بين‌ النظم‌ و‌‌النثر،‌ فيكف يصفونه بالشعر؟ كما أنهم يفرقون بين الغايات التي يصاغ لها الشعر والغـايات‌ التـي‌ ينشدها‌ القرآن كيف يتهمونه بالشعر مـع أنـهم يعلمون أنـه لم يـنشد شـعرا وما اجتمع بالشعراء‌ ولا حـام حوله مدي أربعين سنة؟ (6)

إنّ المتمعن في أحوال النبي ينتهي‌ من خلال هذه التهم‌ الى‌ أنـه كـان رجلا صالحا طاهرا دينا عفيفا نـقي الجـيب مـأمونا عـلى المـال والعرض والنفس، لم يـدنّس نـفسه بفاحشة ولم يتجاوز حق أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان‌ مثالي فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلا الى رمـيه بـهذه التـهم فحاولوا أن يتهموه بأمور نفسية يعسر إثباتها كـما يـعسر نـفيها، وأمـا أنـهم كـيف اتهموه بالسحر؟ فيقول ابن هشام.

«إنّ الوليد‌ بن‌ المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، أنه قد حضر الموسم، وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فـأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا‌ فيكذب‌ بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، قالوا:

فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم فقولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن، قال: لا واللّه ما‌ هـو‌ بـكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقة ولا تخالجه، ولا وسوسته،‌ قالوا: فنقول: شاعر،‌ قال: ما‌ هو بشاعر، لقد عرفناه الشعر‌ كـله‌ رجـزه‌ وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم،‌ فما‌ هو‌ بنفثهم ولا عقدهم، قالوا: فما نقول يـا أبـا‌ عبد‌ شمس؟ قال: واللّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصـله لعـذق، وإن فرعة لجناة وما أنتم بقائلين من‌ هذا‌ شيئا‌ إلاّ عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن‌ تقولوا ساحر، جاء يقول هو سحر يفرق به بـين المـرء وأبيه، وبين المرء وأخـيه، وبـين‌ المرء‌ وأبيه، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون‌ بسبيل‌ الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه‌ أياه، وذكروا لهم أمره، فأنزل اللّه تعالى‌ في‌ الوليد‌ بن المغيرة في ذلك قوله:

﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. (المدثر:11-25)

و أنزل اللّه في النفر الذين كانوا‌ يصنفون‌ القول‌ في رسول اللّه وفيما جاء به من اللّه تعالى: ﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ*الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ*فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الحجر:90-93). (7)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)كيف يقول ذلك مع أن سـلمان أدرك النـبي‌ فـي‌ مهجره،‌ لا في موطنه.

(2) مجمع البيان 3:386.

(3) السيرة النبوية-لإبن هشام 1:331.

(4) السيرة النبوية-لإبن هشام 1:357.

(5) تفسير المراغي 25:32.

(6) تفسير المراغي 17:7.

(7) السيرة النبوية-لإبن‌ هشام 1:270.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2076
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 12 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24