• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : إضاءات قرآنية (3) ـ القلوب المحجوبة عن ذكر الله (*) .

إضاءات قرآنية (3) ـ القلوب المحجوبة عن ذكر الله (*)

 قال الله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} [سورة الإسراء، 45-47]

أولاً - إن مفاهيم القرآن ومعارفه السامية لا يمكن أن يفهمها من يعيش حالة الغفلة والابتعاد عن الله تعالى، وإن وصف القرآن الكريم إياهم بـ {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} دليل على أن عدم الاستفادة من أنوار القرآن الكريم الساطعة إنما يكون بسبب عدم الإيمان بالآخرة، لأن التعليق بالعنوان مشعر بالعلية، فلما كانوا لا يؤمنون بالآخرة، ويكذبون بما جاء به الرسل والأنبياء (عليهم السلام)، ويستهينون بقدرة الله تعالى وبعذابه، حُجبوا عن الحق والحقيقة، ومُنعوا من الوصول إلى الواقع، ومن الاهتداء بمعارف كتاب الله تعالى.

ثانياً – إن القلب بمقتضى فطرة الإنسان الأولية الصافية يقبل على الخير، ويدرك المعارف، ويصل إلى دقائق العلم، وغرائب المعرفة، ولا يغفل عن ذكر الموت والمعاد، ومن ثَمَّ يشعر بالمسؤولية الكبيرة في هذه الحياة، إلا أن ارتكاب المعاصي يغطيه بحجاب غليظ بحيث لا يمكن له أن يرى الواقع، وهو معنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}، ولذلك لا يتحملون كلمة التوحيد بل يولّون على أدبارهم نفوراً.

ثالثاً– تحدّث القرآن الكريم عن القلوب التي خُتم عليها وغُطيت بحجاب المعاصي والذنوب، والخلود إلى حياة الدينا وملذّاتها وشهواتها، كما تحدّث عن قلب المؤمن الذي يكون بيت الله تعالى، حيث لا يكون فيه إلا ذكر الله تعالى، ووصفه القرآن الكريم بقلب سليم، الذي يتأثّر تأثّراً بليغاً عند سماع آيات الله تبارك الله وتعالى، ويزداد إيماناً وعلماً ومعرفة وتصديقاً بما جاء به الأنبياء (عليهم السلام). وإن ثَمَّة ما يقارب 135 آية تتحدث عن القلب، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القلب يتمتع بأهمية كبرى بين سائر جوارح الإنسان وجوانحها. إضافة إلى ذلك، من يتأمل في النصوص المباركة التي وردت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن أهل البيت (عليهم السلام) يدرك أنه ثَمَّة مئات من الروايات تتحدث عن حقيقة القلب وأهميته، وآثار القلب السليم وعلاماته، وأمراض القلب وإلى غير ما هنالك.

بقي علينا أن نتوقف عند تفسير قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة المجادلة، 22].

تتوقف هذه الآية المباركة عند أهم المواصفات التي يتمتع بها المؤمنون الخلص، فمن أهم خصائل المؤمن أنه لا يحب عدوّ الله تعالى ورسوله، ولا فرق في ذلك بين أن يكون العدوّ من أقربائه أو غيرهم، ومن المعلوم أن ترك الأقرباء أشد وقعاً، وأبلغ تأثيراً على الإنسان من غيرهم، كما لا يخفى أن ثَمَّة تأكيداً على مراعاة حقوق القرابة، والنظر إليها بنظرة الاحترام والإجلال، إلا أن علاقة الدم والقرابة تنقطع عند حد الإيمان؛ لأن معيار المودة عند المؤمن وصداقته هو مودة الله تعالى، فمن يكون صدّيقاً وموالياً لله تعالى يكون أخا المؤمن، ومن يكون عدوّاً لله ورسوله يكون عدوّاً للمؤمن، حتى ولو كان من أقربائه. وهذا خير شاهد على تجذّر الإيمان في قلوب أمثال هؤلاء المؤمنين الذين وصفهم الله بحزب الله، ومن آثار هذه الحمية على دين الله تعالى، الحصول على الإيمان الراسخ المتجذّر في فطرة الإنسان الذي لا خوف على زواله واندثاره وانطماسه، وجزاؤهم في الآخرة جنات الخلد، بل الحصول على رضا الله تعالى الذي هو أكبر عند المؤمن من كل نعمة أنعمه الله بها، فهم راضون بقدر الله تعالى وقضائه، والله راض عن أعمالهم وأفعالهم، ما أعظم هذه الدرجة! يا أولى الألباب.

وثَمَّة آيات أخرى تؤكّد على أن علاقة الدم والقرابة النسبية والسببية لا تحول بين المؤمن وبين ربه، فكل هذه العوائق والموانع يتجاوزها المؤمن بكل صلابة وجدارة وشموخ. يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. [سورة التوبة، 24]

تناولت الآية المباركة تهديداً واضحاً لمن يهتم بالقرابة أكثر من اهتمامه بالله عز وجل ورسوله، حيث بشّره بخسارة مبيّنة لا يتصوّرها. 

ففي قسم الأوّل من هذه الآية يأمرنا ربّنا بالوقوف مع الذين لهم علاقات حميمة مع ربهم صباحاً ومساءً مخلصين لله، ثم ينهى عن الغفلة من هؤلاء تأثّراً بما عند غيرهم من زينة الحياة الدنيا وهذه الآية ولو كان المخاطب فيها رسول الله، ولكنه (صلوات الله عليه) كان معصوماً بعصمة الله، فهذا الكلام من قبيل المثل المشهور ـ إيّاك أعني واسمعي يا جارة ـ فنحن لابد ان نتعظ بها ولا نقدّم أصحاب المال والجاه على المؤمنين المخلصين، فقد ورد في مناجاة الإمام علي بين الحسين (عليهما السلام) ربّه: >واعْصِمْنِي مِنْ أَنْ أَظُنَّ بِذِي عَدَمٍ خَسَاسَةً، أَوْ أَظُنَّ بِصَاحِبِ ثَرْوَةٍ فَضْلًا< [الصحيفة السجادية، دعاؤه (عليه السلام) في الرضا إذا نظر إلى أصحاب الدنيا]. وفي الحديث: >ملعون من أكرم الغني لغناه<.

ثم في القسم الأخير من هذه الآية حيث يقول تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}، فنستفيد منها أنّ هناك ملازمة بين الغفلة عن ذكر الله وإتباع الهوى والإفراط في الأمر فنهى الله تعالى عن طاعة هؤلاء فمن يطع أمثال هؤلاء يخسر الدنيا والآخرة، وهذا هو خسران مبين.

وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [سورة الأعراف، 179]

بيّن الله تبارك وتعالى في هذه الآية علامات أهل النار، حيث ذكر أنهم يمتلكون القلوب إلا أنهم لا يفقهون بها، ويمتلكون العيون، ولكنّهم لا يبصرون بها ما فيه عبرة وموعظة وصلاح لهم، ويمتلكون الآذان ولكن لا يسمعون بها ما يفيدهم ويقرّبهم إلى الله تعالى، ومن هنا شبّههم بالأنعام، ولعل سبب هذا التشبيه، أن هدف الأنعام في الحياة هو الأكل والشرب والحصول على الملذّات، فالإنسان الذي لا يفكر إلا بالأكل والشرب والنوم والراحة ويركض وراء الشهوات والملذّات الدنيوية، هو لا محالة كالأنعام، بل أبتر وأضل منها، كما نص عليه كتاب الله، وذلك أن الإنسان يتمتع بقوة عاقلة تميّز له الخير من الشر، وما فيه صلاحه مما فيه خسارته وهلاكه، لكنه إذا لم يستخدمها وتركها وتورّط في الملذّات الدنيوية وإرضاء شهواته، فهو أضل من الأنعام التي لا تمتلك هذه القوة النبيلة.

فكلّما أكثر الإنسان من ارتكاب المعاصي، كلّما ابتعد عن ساحة الحق والحقيقة، بل قد يصل به الأمر إلى حد لا يحب أن يسمع كلمة التوحيد، ويستأنسون بذكر الباطل، قال الله تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [سورة الزمر، 45]

في هذه الآية المباركة وصف المنكرون للقيامة بأنّهم يشمئزون من ذكر الله دون الأصنام اشمئزازاً قلبياً، وبعكس ذلك يستبشرون عند ذكر غير الله، فهذه الخصيصة هي للذين لا يؤمنون بالآخرة. فهذه الآية تتناغم مع الآية المبحوث عنها من سورة الإسراء، والدلالة التي نستفيد من هذه الآية أن نقيّم أنفسنا؛ ما هو انسجامنا النفسي مع المؤمنين الملتزمين وما هو انسجامنا مع الفساق غير المبالين بالقيم، فإن كان ارتياحنا إلى المؤمنين فأهلاً بنا وسهلاً، وإن كنّا عكس ذلك علينا أن نصلح أنفسنا ونبحث عن الأسباب التي أدّت الى هذه الحالة النفسانية. 

هناك آية أخرى تصبّ وتؤكّد على ما نبحث عنه من سلامة القلب ومرضه، وهي كذلك تفيدنا في ظل ما نعيش من الأزمة من البلايا الشديدة النازلة بنا من قبل الأعداء من القتل والتشريد والنزوح عن البيوت ومسألة المعاش وبعض الأمراض، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [سورة الأنعام، 42-44]

تُشير هذه الآية المباركة إلى صنفين من الناس حين نزول المصائب والمشاكل، فمنهم من يتوجه إلى الله عز وجل، حين تنزل البأساء أو الضرّاء، ويتقرّب إليه، ويدعوه ويتضرّع إليه، ومنهم من لا يتوجه إلى ربّه ولا يتضرّع إليه في رفع ما نزل إليه من البلاء ويغفل عن ذكر ربه وهو يرى بأم عينه أن المشاكل قد أحاطت به، فالفريق الأوّل تكون البلايا سبباً لتضرّعه إلى الله، فيشعر بالتعالي في المعنويات ويستطيع أن يتحملها برحابة الصدر، فتراه ضعيفاً وقد يكون مجروحاً في الظاهر، ولكن في نفسه وروحه يتقوّى يوماً بعد يوم فيسعد بذلك ويرتقي إلى مدارج العرفان والانقطاع الى الله. أما الفريق الآخر يشعر بالخيبة والشقاء، وهو شاكي عن ربه، فيزداد الإحباط النفسي والاكتئاب الروحي في نفسه، فتنقلب الدنيا له جحيماً وهو في الاخرة من الخاسرين. فهذا الفريق الثاني قد تقبل عليه الدنيا بعدما لم يتذكّر ربه من البلايا فيغدق عليه الدنيا والمال ويفتح عليه أبواب كل شيء، وهذه الحالة في الحقيقة مؤاخذة من الله لعبده الغافل العاصي الذي ما اعتبر من العبر وقد يُسمّى ذلك بالاستدراج، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [سورة الأعراف، 182-183] فيتمتع بها إلى حين، وإذا بالعذاب يأخذه من حيث لا يتوقع.

ومن هنا نؤكّد في ختام الحديث على أن المؤمن لا يخاف في البلايا والمصائب، كما لا يشكو عن الله بل يشكو إليه، ولا يتضمر البغض لله، بل يتوجه إلى الله تعالى أكثر فأكثر حين نزول البأساء والضرّاء. نسأل الله تعالى أن يتقبّل صيامنا وقيامنا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) بالاستفادة من: دروس في سورة الإسراء، لآية الله السيّد مجتبى الحسيني.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=2059
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 11 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19