• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : مناهج تربوية من مواعظ لقمان الحكيم .

مناهج تربوية من مواعظ لقمان الحكيم

 بقلم: الشيخ أحمد عبدالهادي الخليفة   

لقد تضمن القرآن الكريم دساتير عظيمة تنهض بالإنسان الإلهي في شتى المجالات التربوية والإجتماعية والإقتصادية وغيرها وفي مقالتنا هذه ستكون لنا وقفة رحمانية تربوية تطل على سورة من سور قرآننا العظيم، فسورة لقمان هي محور حديثنا حيث تعتبر هذه السورة المباركة سورة تربوية واسعة المباني والرؤى ومن أروع المناهج التربوية التي وردت في القرآن الكريم. ومن الواضح أنّ تسمية هذه السورة بسورة لقمان، هو بسبب البحث العميق والمهم الذي ورد فيها من مواعظ ووصايا لقمان لابنه. ونحن سنسلّط الحديث على هذه الوصايا والمواعظ في هذا البحث المقتضب، حيث يبدأ لقمان ـ الحكيم والمتألّه ـ من التوحيد ومحاربة الشرك، وينتهي بالوصيّة بالإحسان إلى الوالدين، والصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثبات أمام الحوادث الصعبة، والبشاشة والطلاقة مع الناس، والتواضع والاعتدال في الاُمور.

وقد انعكست المسائل الأخلاقيّة المهمّة في هذه المواعظ ومنها:

1. عدم الإشراك بالله

{.. يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (الآية/13). وهذا المحور نراه واضحاً في السورة كلّها، فإنّ حكمة لقمان جعلته يتوجّه قبل كلّ شيء إلى أهمّ المسائل الأساسية، وهي مسألة التوحيد، التوحيد الخالص في كلّ المجالات والأبعاد؛ لأنّ كلّ حركة هدّامة ضدّ التوجّه الإلهي تنبع من الشرك، كما أنّ أساس كلّ الحركات الصحيحة البنّاءة هو التوحيد والتوجّه إلى الله، وإطاعة أوامره، والابتعاد عن غيره. فأوّل ما يجب أن ننشئ أطفالنا عليه هو توحيد الله تعالى وعدم الشرك به، فكيف نزرع هذا المعنى في أطفالنا؟ لا بدّ أن نريهم ملك الله في الكون، ونخرج معهم في النزهات والرحلات، حتى يروا المناظر الطبيعية، فيتعلّموا منها إتقان الله في خلقه، ويتعرّفوا على عظمة الخالق سبحانه وتعالى من خلال بديع خلقه وصنعه، فيعبدوه ولا يشركوا به، وشدّد على التحذير من الشرك.

ثمّ بعد آيتين، انتقل إلى ذكر المعاد: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (الآية/16). و في هذه الآية فصل ثان غير التوحيد وهو المعاد، وفيه حساب الأعمال.

والمعنى: يا بنيَّ إن تكن الخصلة التي عملت من خير أو شر أخف الأشياء وأدقّها كمثقال حبة من خردل فتكن تلك الخصلة الصغيرة مستقرّة في جوف صخرة أو في أيّ مكان من السماوات والأرض، يأت بها الله للحساب والجزاء؛ لأنّ الله لطيف ينفذ علمه في أعماق الأشياء، ويصل إلى كل خفي، خبير يعلم كنه الموجودات.

والخردل: نبات له حبّات سوداء صغيرة جدّاً يضرب المثل بصغرها. وهذا التعبير إشارة إلى أنّ أعمال الخير والشرّ مهما كانت صغيرة لا قيمة لها، ومهما كانت خفيّة كخردلة في بطن صخرة في أعماق الأرض، أو في زاوية من السماء، فإنّ الله اللطيف الخبير المطّلع على كلّ الموجودات، صغيرها وكبيرها في جميع أنحاء العالم، سيحضرها للحساب والعقاب والثواب، ولا يضيّع شيء في هذا الحساب. ومن روعة هذه الآية أنها ضربت مثلاً يفهمه الأولاد الصغار، بينما تحمل معنى عظيماً يلائم الكبار أيضاً، ويجعلهم يشعرون بقدرة الله تعالى وإحاطته وعلمه.

2. برّ الوالدين وتعريف الأبناء بفضل الآباء عليهم

حتى يعرفوا معنى الشكر، شكر الله أوّلاً وشكر الوالدين ثانياً، حيث تبين الآيتين (14 و 15) اعتراض واقع بين الكلام المنقول عن لقمان وليس من كلام لقمان، وإنّما اطرد هاهنا للدلالة على وجوب شكر الوالدين كوجوب الشكر لله بل هو من شكره تعالى لانتهائه إلى وصيته وأمره تعالى، فشكرهما عبادة له تعالى وعبادته شكر.

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (الآية/14) في هذه الآية فيها بحث عن نعمة وجود الوالدين ومشاقّهما وخدماتهما وحقوقهما، والملفت للنظر هنا أنّ الآية توصي في البداية بالوالدين معاً، إلاّ أنّها عند بيان المشاقّ والمتاعب تؤكّد على متاعب الاُمّ، لتنبّه الإنسان إلى إيثارها وتضحياتها وحقّها العظيم. ثمّ تقول: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} فاشكرني لأنّي خالقك والمنعم الأصليّ عليك، ومنحتك مثل هذين الأبوين العطوفين الرحيمين، واشكر والديك لأنّهما واسطة هذا الفيض وقد تحمّلا مسؤولية إيصال نعمي إليك. فما أجمل أن يجعل شكر الوالدين قرين شكر الله! وما أعمق مغزاه! وحتى عند الأمر ببر الوالدين، يأتي التذكير بعدم الشرك حتى لو كان ذلك طاعة للوالدين، ليعلمنا القرآن أنّ الأمرين لا ينبغي أن يتعارضا مع بعضهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا...} (الآية/15). فيجب أن لا تكون علاقة الإنسان باُمّه وأبيه مقدّمة على علاقته بالله مطلقاً، وأن لا تكون عواطف القرابة حاكمة على عقيدته الدينيّة أبداً. ولمّا كان من الممكن أيضاً أن يوجد هذا الأمر توهّم وجوب استخدام الخشونة مع الوالدين المشركين وعدم احترامهما. أضافت الآية أنّ عدم طاعتهما في مسألة الشرك ليس دليلاً على وجوب قطع العلاقة معهما، بل تأمره الآية أنْ لاطِفهما وأظهِر المحبّة لهما في الحياة الدنيويّة والمعاشرة، {... وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا...} ولا تستسلم لأفكارهما واقتراحاتهما من الناحية العقائدية والبرامج الدينيّة، وهذه بالضبط نقطة الاعتدال الأصليّة التي تجمع فيها حقوق الله والوالدين.

3. أهمّية الصلاة والعبادة

{ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ...} (الآية/17). ورد عن لقمان قوله: {يا بنيّ، إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشيء، صلّها واسترح منها فإنّها دَين، وصلّ في جماعة ولو على رأس زجّ، وإن استطعت أن لا تأكل طعاماً حتّى تبتدئ فتتصدّق منه فافعل، وعليك بقراءة كتاب الله}.

فليست التربية أن تؤمن لأطفالك الطعام والشراب والمسكن والملبس والدواء، هذه كلها شؤون الحياة التي لا تنتهي، ولكن التربية ينبغي أن تنشئ الأطفال على عبادة الله تعالى، وأهم العبادات هي إقامة الصلاة؛ لأنّ الصلاة أهمّ علاقة وارتباط مع الخالق، والصلاة تنوّر قلبك، وتصفّي روحك، وتضيء حياتك، وتطهّر روحك من آثار الذنب، وتقذف نور الإيمان في أنحاء وجودك، وتمنعك عن الفحشاء والمنكر.

4. الإصلاح والثبات أمام الحوادث الصعبة

{.. وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (الآية/17).

بعد الصلاة يتطرّق لقمان إلى أهمّ دستور اجتماعي، هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتربية لا تقتصر على تعليم الأطفال أداء الصلاة فحسب، بل لابد أن نغرس في قلوبهم الإيجابية في مجتمعهم وبين إخوانهم، فيأمروا بالمعروف وينهون عن المنكر ويأخذوا بأيدي الناس للهداية. فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج كثيراً إلى الصبر، لأن طريق الإصلاح والدعوة إلى الله مقترن بالمشاكل والصعاب.

ومن المسلّم أنّه توجد مشاكل وعقبات كثيرة في سائر الأعمال الاجتماعية، وخاصّة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن المسلّم أيضاً أنّ أصحاب المصالح والمتسلّطين، والمجرمين والأنانيّين لا يستسلمون بهذه السهولة، بل يسعون إلى إيذاء وإتّهام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولا يمكن الانتصار على هذه المصاعب والعقبات بدون الصبر والتحمّل والاستقامة أبداً.

ممّا جاء في بعض وصايا لقمان لابنه: ((يا بنيّ، إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك واُمورهم، وأكثر التبسّم في وجوههم، وكن كريماً على زادك بينهم. وإذا دعوك فأجبهم، وإذا استعانوا بك فأعنهم، واستعمل طول الصمت، وكثرة الصلاة، وسخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد، وإذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم. واجهد رأيك إذا استشاروك، ثمّ لا تعزم حتّى تتثبّت وتنظر، ولا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها وتقعد، وتنام وتأكل وتصلّي، وأنت مستعمل فكرتك وحكمتك في مشورته، فإنّ من لم يمحض النتيجة من استشاره سلبه الله رأيه، وإذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم. واسمع لمن هو أكبر منك سنّاً. وإذا أمروك بأمر، وسألوك شيئاً فقل: نعم، ولا تقل: لا، فإنّ (لا) عي ولؤم)).

هناك آباء يربّون أبناءهم على الترف والإنفاق والاعتماد على آبائهم، ظناً منهم أنهم يجب أن يؤمنوا لأولادهم كل ما يحتاجونه، لكن المطلوب هو تعريف الأبناء بحقيقة الدنيا وسياستها المتقلّبة، وأنّ الدنيا لن تدوم لهم ولا لآبائهم، وأنه لا بد للأبناء من الاعتماد على أنفسهم، وهذا لا يتأتى إلا بتنبيه الأولاد وتذكيرهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

5. الأدب والذوق في التعامل مع الناس

{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (الآيتان/18-19).

لا بدّ من التعامل مع الناس بأدب وذوق حتى في أدقّ التفاصيل، في المشي والصوت، فلا يرفع المرء خدّه استعلاءً على الناس، ولا يمشي بالخيلاء بين الناس، بل يقتصد في ذلك، فلا تعرض بوجهك عن الناس تكبّراً ولا تمشِ في الأرض مشية من اشتدّ فرحه، إنّ الله لا يحب كل من تأخذه الخيلاء ـ وهو التكبّر بتخيّل الفضيلة ـ ويكثر من الفخر. {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ}، ولا يرفع الإنسان الفطن صوته أكثر ممّا يحتاج إليه السامع.

كان لقمان يقول لابنه: ((يا بني، إنّ الدنيا بحر عميق، وقد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان بالله، واجعل شراعها التوكّل على الله، واجعل زادك فيها تقوى الله، فإن نجوت فبرحمة الله، وإن هلكت فبذنوبك)) [مجمع البيان. ذيل الآية مورد البحث].

6. تحديد الهدف في الحياة والتخطيط للمستقبل

ومن روعة السورة أنّها شملت هذا المعنى أيضاً في التربية، وذلك ما نراه في قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}. فهذه الآية قد تكون إتماماً لسلسلة الذوقيات والأخلاق التي تحدّثت عنها السورة، فيكون المعنى أن تمشي على الأرض بوقار ودون أيّ عجب أو خيلاء، وقد تعني {اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}: أن تضع قصداً وهدفاً وراء كل خطوة تمشيها، فلا تعيش في الحياة زائداً عليها دون أن يكون لك أيّ هدف فيها، كما أنّ العاطفة بريد التربية ونلاحظ في السورة أنّ هذا الكم من التوجيهات قد غلّفه الأب بالحنان والعاطفة الشديدين، وكأنك عندما تقرأ هذه الآيات، تشعر بلقمان، ذلك الرجل الهادئ، الذي يعظ ابنه برقّة ويقول له قبل كل موعظة: (يَا بُنَيَّ .. يَا بُنَيَّ)، فالسورة تقول للآباء: صاحب أولادك واكسب مودّتهم قبل أن تعظهم، كلّمهم عن نفسك وتجاربك وأخطائك في الحياة، واستعمل الصداقة معهم لتنصحهم قبل استعمال الأمر والنهي بشدّة، دروس جميلة ومعالم تربوية عظيمة ،نسأل الله التوفيق في الإستفادة من هذا الكتاب وما يحتويه فإنه يهدي للتي هي أقوم.

والحمد لله رب العالمين وصل الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1960
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 06 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28