• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : الثقافة .
              • القسم الفرعي : شرح وصايا الإمام الباقر (ع) .
                    • الموضوع : حلقات في شرح وصايا الإمام الباقر (عليه السلام) - 4 * .

حلقات في شرح وصايا الإمام الباقر (عليه السلام) - 4 *

 الأستاذ آية الله الشيخ مصباح اليزدي

 لا تحزن من ذمّ الآخرين

تحدّثنا في الحلقة السابقة حول رواية من كتاب تحف العقول عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول فيها لجابر: «يَا جَابِرُ... أُوصِيكَ بِخَمْسٍ: إِنْ ظُلِمْتَ فَلا تَظْلِمْ، وَإِنْ خَانُوكَ فَلا تَخُنْ، وَإِنْ كُذِّبْتَ فَلا تَغْضَبْ، وَإِنْ مُدِحْتَ فَلا تَفْرَحْ»1 وقد قدّمنا بحدود ما وفّقنا الله توضيحاً لهذه الجمل الأربع. أمّا وصيّة الإمام (عليه السلام) الخامسة فهي: «وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ»، وقد وضّح الإمام (سلام الله عليه) الجملة الأخيرة فقال: «وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ، وَفَكِّرْ فِيمَا قِيلَ فِيكَ؛ فَإِنْ عَرَفْتَ مِنْ نَفْسِكَ مَا قِيلَ فِيكَ فَسُقُوطُكَ مِنْ عَيْنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ غَضَبِكَ مِنَ الْحَقِّ أَعْظَمُ عَلَيْكَ مُصِيبَةً مِمَّا خِفْتَ مِنْ سُقُوطِكَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى خِلافِ مَا قِيلَ فِيكَ فَثَوَابٌ اكْتَسَبْتَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْعَبَ بَدَنُكَ»، أي: إذا واجهك أحد بسوء الكلام فلا تجزع! وفكّر فيما إذا كان ما قيل فيك حقّاً أم باطلاً؟ فإن كان حقّاً فلا تنزعج؛ لأنّك إذا انزعجت فإنّما تنزعج من أمر هو حقّ، وهذا يُسقطك من عين الله، فانّه لا قيمة عند الله تعالى لمن يستاء وينزعج من الحقّ. وأمّا إذا كان ما قيل فيك باطلاً فاعلم أنّ ثواباً سيُكتب لك في صحيفة أعمالك إزاء هذا الذمّ بلا جهد ولا تعب، وهذا أيضاً ليس ممّا يدعو إلى الانزعاج.

الوصيّة الخاصّة

نلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) لم يضف على النصائح الأربع السابقة شيئاً لكنّه لم يكتف في الخامسة بقوله: «وَإِنْ ذُمِمْتَ فَلا تَجْزَعْ» بل أردفها بالتوضيح. فما فرق هذه الجملة عن سابقاتها؟ ولماذا اكتفى في الجمل الأربع السابقة بذكر النصيحة من دون توضيح؟

وفقاً للظاهر وفيما يتّصل بالمديح فإنّ المرء لا يتوقّع أن يمتدحه الجميع، بل ولا يرى لنفسه مثل هذا الحقّ. أمّا بخصوص الذمّ، فهو لا ينتظر أن يذمّه أو يقرّعه أحد. فالمدح بذاته ليس عيباً، خصوصاً إذا كان من أجل التعريف بالحقّ والإعانة على طريق الصواب. فلا يكون مدح امرئ مذموماً إلاّ إذا اتّخذ طابع التملّق والإطراء الزائف. أمّا فيما يتعلّق بالذمّ فالإنسان يرى أنّ من حقّه أن لا يذمّه الآخرون وهو بشكل طبيعيّ يستاء عند التعرّض للملامة. ومن هنا فإنّ إهانة الآخرين، والاستهزاء بهم، ونسبة العيوب اليهم، وغيبتهم، ورميهم بمختلف التهم حرام. فانزعاج الإنسان من هذا الأمر يرجع إلى شعوره بأنّ حقّاً قد سُلب منه؛ كما هو الحال فيما يتعلّق بسائر الحقوق، فعندما يُغتصب من المرء حقّ فإنّه - بشكل طبيعي - يستاء، وكذا إذا اُسيء إليه بقول لاسيّما إذا كان ذلك بحضور الآخرين. وبناءً على ذلك تحتاج النصيحة الخامسة إلى مزيد من التأكيد على أنّه: حذار في مثل هذه المواطن من أن تغضب وتثور! ومن هذا المنطلق فقد وضّح (عليه السلام) لجابر في هذا المورد كيفيّة كبح سَورة الغضب بقوله: «إذا ذمّك أحد ففكّر بالأمر وقُل لنفسك: هل إنّ ما يقوله صحيح؟ وهل أنا هكذا حقّاً»؟

ضرورة التفكّر للوقوف على عيوب النفس

يتّصف الإنسان - بشكل طبيعيّ - بحبّ الذات ولا يرغب في أن يرى في نفسه نقصاً، أو عيباً، أو ذنباً. وحتّى عندما يرتكب المعصية في العلن فهو يختلق لنفسه المبرّرات ويحاول إقناعها بأنّه يمتلك الحقّ في هذا التصرّف، أو عندما يكون غير مطّلع على أمر وقد سُئل عنه فهو يحاول الإجابة بشكل لا يَشعر معه المقابلُ بجهله، كي لا يقول صراحة: لا أعلم! وهذا السلوك يدلّ على أنّ الإنسان بطبيعته شديد الحبّ لنفسه، ولا يودّ أن يقف على عيوبه. ولذا فعندما يعيبه أحدٌ مّا فإنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهنه هو أنّ هذا الشخص يكذب وأنّني بريء من هذا العيب. فكثيراً ما توجد في المرء عيوب تكون غائبة عن باله؛ لأنّ من جملة حيل النفس – التي تُعدّ موجوداً عجيباً إلى أبعد الحدود - هي سترها لعيوب الإنسان ونقائصه حتّى عن نفسه، فهي أحياناً تجعل الأمر مشتبهاً على الإنسان نفسه فتُظهر نفسه له بشكل لا يصدّق معه أنّه إنسان سيّئ. ومن هنا يقول أبو جعفر الباقر (عليه السلام): «فَكِّرْ فِيمَا قِيلَ فِيكَ»؛ أي إنّ وجود هذا العيب فيك أو عدمه مبهم بعض الشيء حتّى بالنسبة لك وقد لا تصدّق بوجوده من دون تفكير وتأمّل. فإنّ الكثير من الرذائل كالحسد، والتكبّر، والأنانية موجودة، وإن كانت بمراتب ضعيفة، عند كثير من الناس لكنّهم غير مصدّقين بذلك.

لا تجزع من الحقّ!

ويتابع (عليه السلام) فيقول: «إذا وصلت بتفكيرك إلى نتيجة تقول إنّ هذا العيب موجود فيك فعلاً، لكنّك كنت تخفيه ولا تحبّ أن يُعلن على الملأ، فإنّ ما فعله هذا الشخص – بغضّ النظر عن كونه قد ارتكب محرّماً وسيعاقَب عليه – قد بيّن لك حقيقةً. فهل عليك - يا ترى - أن تضجر وتغضب من اكتشافك للحقيقة؟! فإن أنت فعلت ذلك كان فعلك أسوأ من سابقه؛ لأنّه إذا علم الإنسان بعيبه فأنكره، كان إنكاره هذا عن عمد وسيؤدّي إلى سقوطه من عين الله أكثر من ذي قبل، وسوف لن ينظر الله إليه نظرة لطف ورحمة. فلماذا تخاف من الذمّ إذن؟ هل تخاف أن يسيء الناس الظنّ بك، فتسقط من أعينهم وتفقد سمعتك ووجاهتك بينهم؟ هل تخشى من أن تشكّل هذه الإساءة مانعاً من استمرارك في أعمال الخير فلا تستطيع بعدئذ أن تقدّم ما كنت تقدّم من خدمات للعباد؟ أم إنّك تخاف من أن تُحرم من خدمة الناس ومساعدتهم لك؟ لكن أيّهما أسوأ: أن تسقط من أعين الناس أو تسقط من عين الله عزّ وجلّ؟ فمَن هم الناس في مقابل الله تعالى كي يعيرهم الإنسان كلّ هذه الأهمّية؟ فالمهمّ هو أن لا يسقط المرء من عين الباري عزّ وجلّ. فإنّك إن غضبت في هذا المقام فستسقط من عين الله تعالى وستُبتلى بأسوأ ممّا خفت منه.

الثواب المجّاني

أمّا إذا قادك تفكيرك إلى أنّه لا أساس لكلّ هذه الإساءات، سواء أكان المسيء مخطئاً في الفهم، أو تعمّد الإساءة كذباً، فإنّه سيُكتب لك في صحيفة أعمالك ثوابٌ في كلتا الحالتين. وليس في ذلك ما يثير الاستياء والانزعاج. بل إنْ ذمّوك بما هو ليس فيك فعليك أن تفرح لظفرك بثواب من غير تعب ولا نصَب، بل إنّ ذلك ممّا يوجب الشكر أيضاً.

القرآن هو ميزان الحسنات والسيّئات

ثمّ يرفع الإمام (عليه السلام) وتيرة كلامه متابعاً بالقول: «وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَكُونُ لَنَا وَلِيّاً حَتَّى لَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْكَ أَهْلُ مِصْرِكَ وَقَالُوا إِنَّكَ رَجُلُ سَوْءٍ لَمْ يَحْزُنْكَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَالُوا إِنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ لَمْ يَسُرَّكَ ذَلِكَ».

كان جابر من خواصّ أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) وكان شديد الرغبة في الانخراط في زمرة أولياء أهل البيت (عليهم السلام) وأصحاب المقام الرفيع المتمثّل بالولاية. يقول الإمام (عليه السلام) في هذا الصدد: «إنّ هذا المقام الذي تطلبه وتنشده لا يُنال بسهولة ويُسر؛ بل إنّ له شروطاً وإنّ عليك الاستعداد لبلوغه. فاعلم أنّك لن تنال ولايتنا أهل البيت ما لم تتزيّن بهذه السجيّة وهي أنّه لو اجتمع جميع أهل مدينتك الذين عشت معهم وترعرعت بينهم وقابلوك ببذيء الكلام ورفعوا ضدّك الشعارات فلا ينبغي حتّى أن تحزن لذلك، وعلى العكس فلو اجتمع جميع أهالي تلك المدينة يوماً من الأيّام وصاروا يهتفون باسم جابر وبحياته وشهدوا جميعاً على أنّك رجل في قمّة الصلاح والتقوى فلا ينبغي أن تفرح لذلك؛ أي لابدّ أن يكون وضعك الروحيّ والنفسيّ ثابتاً، سواء شَتَمَك جميع أهل مِصرك أم امتدحوك؛ فلا تحزن لذاك ولا تفرح لهذا.

فما هو التكليف إذن؟ يجيب الإمام (عليه السلام): «وَلَكِنِ اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى مَا فِي كِتَابِ اللهِ؛ فَإِنْ كُنْتَ سَالِكاً سَبِيلَهُ، زَاهِداً فِي تَزْهِيدِهِ، رَاغِباً فِي تَرْغِيبِهِ، خَائِفاً مِنْ تَخْوِيفِهِ فَاثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَإِنَّهُ لا يَضُرُّكَ مَا قِيلَ فِيكَ، وَإِنْ كُنْتَ مُبَايِناً لِلْقُرْآنِ فَمَاذَا الَّذِي يَغُرُّكَ مِنْ نَفْسِكَ»؛ فاعرض نفسك على محتوى القرآن! وانظر فيما إذا كنت كما يريد القرآن أم لا من دون الاكتراث لإهانات الناس وإطرائهم فإذا كنت كما يريد القرآن الكريم فاشكر الله على ذلك! وإن لم تكن كذلك فاسعَ في إصلاح نفسك وإزالة عيوبها! فإن رغبت في أن تكون من أهل ولايتنا أهل البيت فتحلَّ بهذه السجايا.

المهمّ هو العمل

يقول الإمام الباقر (صلوات الله عليه) في حديث آخر حول الموضوع ذاته: «يَا جَابِرُ! لا تَذْهَبَنَّ بِكَ الْمَذَاهِبُ، حَسْبُ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ أُحِبُّ عَلِيّاً وَأَتَوَلاّهُ ثُمَّ لا يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ فَعَّالاً»2؛ فإذا ظنّ الرجل أنّه يكون من موالينا أهل البيت بإظهاره الحبّ لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فسنبادر إلى سؤاله: هل انّ مقام عليّ (عليه السلام) عند الله أعلى أم مقام محمّد (صلّى الله عليه وآله)؟ فمن الواضح أنّ مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعلى من مقام عليّ (عليه السلام): «فَلَوْ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللهِ، فَرَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ (عليه السلام)» لكنّ أصحاب الفريق الآخر يقولون: إنّنا نحبّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله)؛ إذن لابدّ أن يُقَدَّم هؤلاء عليكم لأنّهم يحبّون مَن هو مقامه أرفع من مقام عليّ (عليه السلام). إذن فمن أراد أن يكون من أهل الولاية فانّه يتعيّن عليه أن يكون تابعاً للإمام (عليه السلام) بالقول والفعل، أي ينبغي أن تكون محبّة الإمام في قلوبكم وآثار هذه المحبّة ظاهرة في سلوككم، فمجرّد الكلام والادّعاء لا يجدي نفعاً.

إذن، فماذا نصنع؟ يجيب (سلام الله عليه): «مَنْ كَانَ للهِ مُطِيعاً فَهُوَ لَنَا وَلِيٌّ، وَمَنْ كَانَ للهِ عَاصِياً فَهُوَ لَنَا عَدُوٌّ»3. فالذين يعصون الله عزّ وجلّ فهم إنّما يعادوننا أهل البيت وليسوا من أوليائنا. فإن كانوا أولياءنا فينبغي أن تماثل سيرتُهم سيرتَنا وأن يتّبعونا.

وبطبيعة الحال فإنّ للولاية مراتبَ وإنّ هذه المرتبة التي يذكرها الإمام الباقر (سلام الله عليه) وهي «اتّباعنا حذو النعل بالنعل» هي المرتبة العليا من مراتب الولاية وهي المرتبة التي كان يسعى لنيلها مَن هم من أمثال جابر. فإنّه لمثل هذا الرجل - الذي علّمه الإمام (عليه السلام) خمسين ألف حديث لا يحقّ له نقل واحدٍ منها – يُقال: «إذا أحببت أن تنال ولايتنا فليكن القرآن ميزان عملك، لا كلام الناس».

اللهمّ إنّا نقسم عليك بحقّ محمّد وآل محمّد (صلواتك عليهم أجمعين) أن تمنّ علينا بحقيقة الولاية وأن توفّقنا للسير على نهج أهل بيت نبيّك (صلوات الله عليهم أجمعين) بالقول والعمل.


2. الكافي، ج2، ص74. 

3. نفس المصدر السابق.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1926
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 04 / 21
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24