• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : الإنسان والقرآن .

الإنسان والقرآن

 بقلم: الشيخ عبد الجليل المكراني

 

إنّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرّمه ووهب له نعمة العقل، وسخّر له الكون، وأودع في فطرته الشهوات، ومنحه حرية الإرادة، وأحلّ له الطيبات وحرّم عليه الخبائث؛ ليرقى به إلى معرفة ربّه الذي خلقه فيعبده ويسعد بعبادته. وكلّ ذلك أنزله عليه في القرآن الكريم مبيّناً له ما يجب اتباعه وما عليه تجنّبه.

فالقرآن بالنسبة للإنسان هو الدستور والوثيقة الإلهية التي تحتوي بنود الارتقاء بالإنسان نحو الكمال في الدارين. وفي بحثنا - المتواضع هذا- عن العلاقة بين الإنسان والقرآن أو العكس نشير إلى عدّة نقاط:

النقطة الأولى: لابدّ وقفة تمهيدية سريعة نجيب من خلالها عن سؤال في غاية الحساسية، وهو: كيف ينظر الإنسان الى هذا العالم؟ أو: ما هو تفسير الإنسان لهذا الوجود؟

هناك اتجاهان متناقضان في الإجابة عن هذا السؤال:

أحدهما: أنّ وجود هذا العالم لهدف وغاية، وقد جاء على أساس نظام دقيق ومحكم، وليس فيه للعبثية موطئ قدم، اذ تقف من خلفه قدرة جبارة ذات شعور قد أحكمت صنعه وجعلته يسير وفق برنامج لا نقص فيه ولا يشوبه خلل أو يعيقه عائق. وهذا هو ما يعبّر عنه: (النظرة الإلهية للعالم).

وثانيهما:أنّ عالم الوجود حدث صدفة لم يسبق بأيّ تخطيط، وليس وراءه  عقل مدبّر أو مخطِّطٌ ذو شعور، وليس هناك هدف لوجوده ولا غاية. وهذا ما يعبّر عنه: (النظرة المادية للعالم).

ويتفرّع على الاتجاه الأول - النظرة الإلهية للعالم - شعور الإنسان بأنّه جزء من هذا العالم، ولا طريق أمامه سوى أن يسلك ما فيه رضا صاحب هذا الوجود، وأن تكون حياته وفقاً لتعاليمه التي أنزلها في كتبه، وأرسل أنبياءه كقوّة تنفيذية كفوءة ـ بلحاظ عصمتهم ـ مهمّتها تنفيذ الإرادات الإلهية على أرض الواقع، وهي الأسس والمبادئ التي يرتقي بها الإنسان نحو الكمال.

ويتقرّر على ذلك لازم مهمّ مفاده أنّ الانتماء الحقيقي لهذه المدرسة الفكرية التي حدّدت هذه النظرة العميقة للوجود، يقتضي عدم إمكانية الفصل بين الإنسان وبين مبادئه، وكونه محكوماً لهذه المبادئ والمعتقدات في تفاصيل حياته.

النقطة الثانية: أنّ من المسلّم به في علم الاجتماع كون الإنسان كائناً - بحسب طبيعة تركيبته الجسمانية والعقلية - يتأثّر بما يحيطه من أجواء حياتية ومناخية تجعله يكتسب من بيئته وطبيعة حياته مجموعة ضغوطات توجّهه الوجهة التي يريدها إطار عقيدة ذلك المجتمع وسلوكه الاجتماعي. وذلك ما أشار إليه الحديث الشريف: "يولد الإنسان على الفطرة، فيأتي إليه أبواه فيمجّسانه أو يهوّدانه أو ينصّرانه".

وفي الوقت الذي يصوّر فيه علم الاجتماع تأثيرات طبيعة المجتمع وبيئته على الأفراد وجعلهم محكومين - بعض الشيء - في أفعالهم ومعتقداتهم تبعاً للبيئة، كذلك يصوّر إمكانية أن يترك الإنسان بصماته على محيطه وأن يحقّق أثره في حياة المجموع.

وهنا يمكن القول: إنّ مثل هذه الفرضية لا يمكن أن تعمّم على كلّ أفراد المجتمع؛ وذلك لتفاوت القابليات والاستعدادات الجسمانية والعقلية فيما بينهم.

النقطة الثالثة: ما هو مدى الترابط بين اعتقادات الإنسان وبين خياراته الشخصية، وكيفية العمل على المزاوجة والتوفيق بينها؟

وجوابه: أنّ الاعتقاد بشيء يقع تحت عنوان أكبر يمكن تسميته (الميثاق)، فالاعتقاد يعني إعطاء العهد والميثاق للالتزام التامّ بتلك العقيدة وبلوازمها نظرياً وعملياً.

والإيمان بالقرآن الكريم بوصفه كتاباً سماوياً - لا شكّ ولا ريب في صدوره قطعاً عن الله تبارك وتعالى - يستتبع الاعتراف بالعلاقتين التكوينية والتشريعية بين العبد وربّه. وهاتان العلاقتان (التكوينية والتشريعية) متلازمتان لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى. والعهد الذي ألزم به الإنسان نفسه مع الله تعالى هو أساس رسالات السماء ودعوة الإنسان للالتزام بها وتطبيق ما جاءت به من تعاليم وأحكام سماوية ربّانية.

لذا فمن البديهي والواضح دخالة الاعتقاد في خيارات العبد وقراراته الشخصية، بحيث تكون مقيّدة لها حتى تُغيّب فيها حالة التذبذب والازدواجية بين الاعتقاد النظري والسلوك العملي.

النقطة الرابعة: هناك حقيقة هامّة لابدّ من الإشارة لها وهي: أنّ الكلمة تستمدّ أهمّيتها من قائلها، كما نسب ذلك الى الروائي الفرنسي الكبير (فيكتور هيجو). ونحن حينما نقف أمام القرآن الكريم فهذا يعني أنّه وقوف أمام كلام الخالق العظيم الذي تفرّد بالعزّ والبقاء، وقهر عباده بالموت والفناء. وهو وقوف الضعيف الذليل بين يدي الربّ القويّ العزيز، وقوف الفقير الحقير بين يدي كلام الغني المطلق، تقول الآية الشريفة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [سورة فاطر: 15].

لكنّه في الوقت نفسه يجد نفسه موضع اهتمام الباري جلّ وعلا ومورداً لتكريمه، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [سورة الإسراء، 70].

لقد كرّم الله الإنسان بالعلم والعقل، وهما ملكتان كماليتان كبيراتان يرتقي بهما بنو البشر نحو القمّة التي رسمتها لهم السماء إذا ما أعملوهما وأحكموا إعمالهم لهما، فهل يسوغ للإنسان أن يجمّد عقله ولا يتعامل مع كلمات خالقه بالمستوى المطلوب من المسؤولية؟

هل يجدي الوقوف العابر أمام آيات الله دونَ محاولة فتحها وفهمها ومعرفة ما في داخلها؟ قال الإمام السجاد (ع): "آيات القرآن خزائن، فينبغي لمن فتح خزانة أن ينظر ما فيها".

فأيّ شقاء في عدم إعارة مثل هذا الكلام الإلهي ما يستحقّه من التأمّل والتدبّر اللائقين بشأنه؟ وهل هناك شكّ في عدم جواز مثل هذه الطريقة المشوبة بعدم الاكتراث بالقرآن العظيم - الذي هو عهد الله في هذه الأرض - والاهتمام به وتحكيمه في كلّ شيء وتقديمه على كلّ شيء؟

النقطة الخامسة: قال تعالى: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة، 1-2].

ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن يشتمل على بصائر وهدى ونور ورحمة، وحياة الإنسان عبر مرّ القرون والأزمان متوقّفة على البصيرة والهداية والرحمة والنور الذي يستضاء به للسير في الجادة الصواب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [سورة الأنفال، 24].

القرآن الكريم نور في الحياة، ولكنّه ليس نوراً مادّياً يضيء المكان المظلم، بل هو نور يضيء تفاصيل الحياة؛ نور في الحركة والسلوك والمعاشرة والعلاقة مع الأشياء الحياتية ومع النفس. وكلّ ذلك إنّما يفصّله لنا عن طريق رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [سورة الحديد: 28].

لذا بات واضحاً أنّ مَن يترك هذا النور ويهجره مكتفياً بعقله وعلمه وفطرته - رغم كونها من ضرورات حياة الإنسان- سوف يتخبّط في الحياة، وتتحوّل حياته إلى ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، ويكون بذلك قد ارتكب خطأً كبيراً؛ إذ تصوّر أنّه يمكن أن يستغني بها عن بصائر الوحي وهداه.

النقطة السادسة: يقودنا الكلام المتقدّم إلى السؤال الآتي، وهو: لماذا نقرأ القرآن ونقدّسه، ونحمله معنا أين ما اتجهنا؟ ولكنّنا نجد أنفسنا في كثير من الأحيان بعيدين كلّ البعد عن أوامره وإضاءاته وكنوزه وأسراره؟

وبعد هذا الاعتراف يكون من حقّنا أن نتساءل عن سبب هذه الهوّة بين الادّعاء والواقع، بين النظرية والتطبيق، بين المفترض أن يكون وما هو الحاصل بالفعل؟

ولِمَ هذا التباين الفاحش في علاقتنا بالقرآن بحيث أصبحت علاقة ظاهرية خالية من العمل بمضمانيه السامية؟ أترنا قد افترضنا الشكّ والريبَ في كتاب الذي لا ريبَ فيه؟!

وهذه التساؤلات تنتظر منّا جميعاً ـ نحن الذين نمتلك زمام أمورنا ـ وقفةً جادةً صادقةً جريئةً صريحةً واقعيةً؛ لأنّ مكاشفة الذات تتطلب منّا شجاعة كبيرة نجرّد فيها أنفسنا عن أردية الزيف لنقفَ عُراةً كما نحن، لا نتقمّص جلباباً أكبر من واقعنا نكون بارتدائه عاجزين عن ستر الحقيقة مهما كان واسعاً أو ثميناً.

وفي معرض الإجابة عن أسباب هذه الحالة المرضية، نقول: إنّ مجرّد الادّعاء ورفع الشعار ليس دليلاً على الانتماء لخطٍّ فكريٍّ معيّن، فإنّ ذلك عبارة عن مرحلة لسانية ـ إن ساغ التعبير ـ لا تشكّل إلّا خطوة في عالم الثبوت تنتظر من صاحبها أن يجسّدها في عالم الإثبات كذلك. والتجسيد لا يكون إلّا بتطبيق مفردات ما نصّ عليه القرآن الكريم من أحكام وسلوكيات في القول والعمل. وأنّ مخالفة ذلك تعني ـ بلا أدنى شكّ ـ التناقض الذي يجعل صاحبه من الذين يقولون ما لا يفعلون، ويكون أحد مصاديق المقت الذي تشير له الآية الكريمة: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [سورة الصف: 3].

إنّ الخطر يكمن في النظر إلى المعتقدات كونها موروثاً لا مفرّ من السير على طبقه والمحافظة على إطاره، دون قناعة حقيقة، أو تحمّل أيّة مسؤولية تجاهه، أو أن يكون لنا دور في الدفاع عن هذا الاعتقاد أو رفده بكلّ ما يفعّله ويطوِّره ويكيّفه لينسجم مع تطوّرات الحياة.

نعم، إنّ من واجبنا أن نرسم للقرآن صورةً تواكّب كلّ جيل، مستمدّةً من حيوية القرآن ومرونة الإسلام، تلك الصورة تجعل منه قادراً في نظر الجيل المعاصر على تلبية كافّة ما يتعلّق بالأمور الحياتية من الأخلاقية والسياسية والعلمية وغيرها، وذلك من خلال إعداد برامج قرآنية تطرح محتويات الكتاب الكريم بالشكل الذي يجسّد قدرته على الحركة والإبداع والبناء، وقدرته على صناعة الشخصية الرسالية التي لا تتنازل عن مقرّرات هذا الكتاب؛ بل تجسدها سلوكاً واقعياً حتى لو كلّفها ذلك التنازل عن الأغراض والمصالح الشخصية.

وختاماً: هذه خزائن القرآن بين أيدينا، لا تحتاج منّا سوى الشعور بالمسؤولية، والتعمّق في فهم مقاصده، والصبر على تعاليمه وأحكامه، وعدم نبذه جانباً عندما تتصادم أحكامه مع أهدافنا القصيرة الأمد ومصالحنا الشخصية المنحصرة الفائدة.

جعلنا الله وإيّاكم من خدّام هذا الكتاب العظيم، والمتحرّكين بوحيٍ من آياته، والمستضيئين بنور هداه، سعياً لإعلاء كلمة الله في الأرض.

ربّنا أوزعنا أن نشكر نعمتك وأن نعمل صالحاً ترضاه، بمنّك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

والحمد لله أوّلاً وآخراً.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1924
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 04 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24