• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 96 ـ في تفسير سورة العلق .

96 ـ في تفسير سورة العلق

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19).

1 ـ إنّ هناك فرقاً بين الأمر بالقراءة والأمر بالحديث، فيلازم الأوّل وجود ما يُقرأ منه؛ أي: أنّ لكل قارئ مقروءًا، فيُفهم من الأمر بـ ﴿اقْرَأْ﴾ أنّ  هناك ما يقرأ منه النبيّ (ص) ألا وهو القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ [سورة الإسراء، 106] وكأنّ قلبه بمثابة العرش الذي منه يتنزّل الوحي، وهذا التعبير مشعر بأنّه لم يفت النبي (ص) شيء من القرآن الكريم؛ فيا له من قلب عظيم تحمّل الكتاب الإلهي دفعة واحدة في ليلة واحدة!

إنّ من المعلوم أنّ كل عمل لا يرتبط بالله تعالى فهو أبتر، ومن هنا أُمرنا بالتسمية قبل كل عمل ذي بال، وقد قيل ـ بناءً على أبترية ما لم يُسمّ عليه ـ أنّ الأمر بـ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ هي القراءة مفتتحة بالتسمية، ولكن تشتدّ ضرورة ربط الأمور بالله تعالى بالنسبة إلى كل عمل دعوي، فإنّ الله تعالى لا يرضى أن ينتشر هداه إلا من خلال من يرتضيه وبما يرضيه، لئلا تكون منّة لأحد من خلقه على دينه.

ومن هنا، أمر الله تعالى نبيّه المصطفى (ص) أن يقرأ باسم ربّه، ذلك الربّ الذي تكرّر ذِكره في أكثر من مورد في هذه الآيات، أضف إلى أنّ الله تعالى أمر نبيّه بالاستمداد منه بالسجود والاقتراب منه في مواجهة من ينهى عن عبادته، فالنجاح في بدء الدعوة واستمرارها منوط بالارتباط بالمطلق.

إنّ القرآن الكريم كثيراً ما يربط بين الخالقية والربوبية، كما في هذه الآية ﴿رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ وكأنّ فيه إشعاراً بأنّ من موجبات الطاعة وإدانة العبد بالطاعة لربّه هو الاعتقاد بخالقيّته، فإنّ حقّ خالقيّته يقتضي ذلك أوّلاً ثمّ شكر هذا الحقّ ثانياً.

ومن موجبات الاعتماد على مبدأ الاعتقاد بالخالقية لترسيخ مبدأ الانصياع للربوبية: إنّ إدراك الأوّل لا يحتاج إلى كثير جهد، فهو اعتقاد ناشئ من التأمّل في مظاهر الوجود؛ ولكنّ الثاني مستلزم لأمر زائد من التبعية والطاعة.

ومن الملفت هنا أنّ الله تعالى ذكر الخلق أوّلاً من دون متعلّق قائلاً ﴿الَّذِي خَلَقَ ثمّ ذكر خصوص خلقة الإنسان قائلاً: ﴿خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ممّا يُفهم منه خصوصية خلق الجنس البشري بين مخلوقات هذا الكون الفسيح، فإنّه أرقى ما خلق الله تعالى في هذا الوجود حيث عبّر عنه ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين، 4].

إنّ القرآن الكريم يذكر بدء خلقة الإنسان من العلقة وهو الدم المتجمّد للتذكير بحقارة مادّة الخلقة الأولى، والتي يُعبّر عنها في آية اُخرى بالماء المهين ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [سورة السجدة، 8] وكان بالإمكان ذِكر المراحل المتوسّطة أو الأخيرة من خلقة الجنين، إلا أنّ الآية اختارت أضعف المراحل وأحقرها، حيث الدم الذي لا يظهر فيه أيّ معْلم من معالم البدن، وفي هذا إشارة إلى كمال القدرة الإلهية في عالم (الأبدان) حيث خلق الإنسان ﴿فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين، 4] من هذا البدء الذي لا يناسب الختام.

وهذه القدرة الخلاقة أعملها الله تعالى أيضاً في عالم (الأرواح) فـ﴿عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ والواسطة في ذلك أيضاً أمر بسيط ألا وهو القلم الذي تغطّي مادّته الأرض وهو الشجر ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، فمن مادّة الدم والخشب وجد البشر والعلم، وتبعاً لهما ظهرت كل هذه الحضارات على وجه الأرض.

إنّ تكرّر ذِكر الربّ في هذه السورة مسنداً إلى النبي الأكرم (ص) فيه نوع تعظيم لنبيّه في قوله: ﴿وَرَبُّكَ، كما أنّه ذُكر مسنداً إلى ربّه أيضاً كقوله تعالى في موضع آخر: ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ [سورة الإسراء، 1]، وقيل: إنّ إسناد نبيّه إليه تعالى أكثر شرافة من إسناده إلى نبيّه؛ لأنّه في معنى قولك: (أنت لي) وهو أشرف من قولك (أنا لك)!

ومن الجدير بالتأمّل: أنّ ذِكر الربّ بقول مطلق في الأوّل ﴿رَبِّكَ يتبعه ذِكر الخلق وهو التجلّي التكويني لله تعالى ﴿الَّذِي خَلَقَ، لكنّ ذِكر الربّ بقيد الأكرمية في الثاني ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ يتبعه ذِكر التعليم وهو التجلّي التشريعي له، فهو ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.

إنّ الحديث عندما يكون عن (الخَلق) فإنّ الله تعالى يصف نفسه بالكرم، فيقول تعالى: ﴿مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [سورة الانفطار، 6-7] ولكن عندما يكون الحديث عن (العلم والتعليم) فإنّه يصف نفسه بالأكرمية فيقول تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فكأنّ الخلق كله في كفّة، وتعليم الإنسان لما لم يعلم في كفّة اُخرى مع تغليب الثانية على الأولى، ولا غرابة في ذلك لأنّه بهذا العلم ينفتح الطريق لمعرفة ما في الكفّة الاُخرى من الخلق، بل لمعرفة خالقه أيضاً.

ولا يخفى ما في استعمال صفة الكرم من بين الصفات الإلهية في المقامين؛ لأنّ الفيض في كليهما لطف محض من دون مقابل، فلا يدخل في باب الأجور بل في باب التفضّل والإحسان.

إنّ بعض المغرضين يتّهم الإسلام بأنّه دين (السيف)، والحال بأنّه دين (القلم) كما نفهم من الآيات الأولى النازلة من القرآن الكريم، فهو جاء ليفتح القلوب بشعار ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [سورة البقرة، 256] وهذا هو سرّ انتشار الإسلام في الآفاق!

وقد بلغ تقديس القرآن الكريم للعلم أنّه أقَسَم بأداة الكتابة وهي (القلم) وما يسطر به وهو (الكتاب) كما جاء في سورة القلم جامعاً بينهما حيث يقول تعالى: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [سورة القلم، 1] ولم يقيّد المسطور بعلم من العلوم؛ تكريماً لكل ما يُجريه الإنسان من قلمه من العلم، ولو لنفع دنيوي.

طالما نسب الله تعالى التعليم إلى نفسه فقال: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ و﴿عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [سورة الرحمن، 2-4] و﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا [سورة البقرة، 31] و﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [سورة المائدة، 110] و﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [سورة يوسف، 68] و﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [سورة النجم، 4-5].

وعليه، فمن اختار طريق تعليم الخلق علماً نافعاً لهم، فإنّه لم يختر طريق الأنبياء العظام فحسب؛ وإنّما اختار طريق الله تعالى وتخلّق بأخلاقه، فحقّ له أن يمدّه بنوع من المدد الذي يمدّ به أنبياءه (ع) جميعاً!

ومنه أيضاً يُعلم البون الشاسع بين عمل العلماء الذين اتصفوا بهذه الصفة الإلهية، وبين العبّاد الذين أهمّتهم أنفسهم.

لقد تكرّر ذِكر التعليم في هذه السورة مطلقاً تارةً ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ومقيّداً بالقلم تارة اُخرى ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ولعلّ في ذلك إشارة إلى قسمي العلم: فمنه (اكتسابي) من خلال الأسباب الطبيعية من القلم والكتاب وصدور الرجال، ومنه (إلهامي) من خلال تخصيص خواص العباد بذلك، كما اتفق للخضر (ع) حيث قال تعالى عنه: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف، 65] ولقمان حيث يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [سورة لقمان، 12].

لم تكن مشكلة المشركين في (خالقية) الله تعالى للكون لقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ [سورة العنكبوت، 61] ولكن المشكلة في عدم خضوعهم لـ(ربوبية) الله تعالى، وذلك بخضوعهم لغيره من عبادة الأصنام والآلهة البشرية.

وعليه، فإنّ المعترف بربوبيّته من المسلمين مع طاعته لغيره ـ في مقام العمل ـ ملحق ملاكاً بهذا الصنف، وإن لم يكن كذلك حقيقة.

ومن هنا أمرنا المولى تعالى في سورة الفاتحة أن نثني عليه بالربوبية أوّلاً، ثمّ الاعتراف بالطاعة والعبادة له ثانياً، وفي هذه السورة أيضاً تذكر الربوبية أوّلاً ﴿رَبِّكَ ثم الخالقية ﴿خَلَقَ كوصف له تعالى.

إنّ هذه السورة ـ بعد الحديث عن العلم والقلم ـ تنتقل إلى ذمّ من رأى نفسه مستغنياً بالمال بقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى وكأنّه إشعار بالتقابل بين العلم والمال، أو بين الدنيا والآخرة عموماً، إذ هما ضرّتان كما يُفهم من الرواية، فإنّ قلب المستغرق بحبّ الدنيا مشغول بما يلهيه عن الله تعالى، فلا يمكنه أن يتنعّم بنعمة العلم النافع له، كما لا يمكنه الارتداع بإنذار الأنبياء؛ لأنّه ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [سورة يس، 11].

وقد ذَكر القرآن الكريم مثالاً جليّاً لمن طغى بالاستغناء والمتمثّل بفرعون، حيث قال تعالى: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [سورة طه، 43] لتكون عاقبة هلاكه رادعة لمن طغى واستغنى!

إنّ أساس الطغيان هو أن يرى الإنسان نفسه مستغنياً ـ وإن كان متوهّماً ـ فتنقطع صلته بصاحب الغنى الحقيقي وهو الغنيّ المطلق، وإلا فإنّ الغنى ـ كحالة خارجية ـ من ممدّات التوفيق حيث إنّ الدنيا مزرعة الآخرة.

وعليه، فإنّ الغنى الخارجي قد يكون مدعاة لتحقّق الطغيان الداخلي وذلك إذا لم تتحقّق مراقبة في البين، ومن هنا جُعل الموضوع في الآية هو الإنسان بلا قيد الإيمان، ولهذا حسُن أن يطلب الإنسان الكفاف من الرزق لئلا يُساق إلى الطغيان المُهلك.

إنّ القرآن الكريم كثيراً ما يذكر الفئات التي واجهت دعوة الأنبياء، فضحاً لهم وتحذيراً لغيرهم مثل:

الملوك: في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل، 34].

المترفين: في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [سورة الإسراء، 16].

كبار المجرمين: في قوله تعالى: ﴿وَكَذلِكَ جَعَلْنا في‏ كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِميها لِيَمْكُرُوا فيها [سورة الأنعام، 123].

ملأ المستكبرين: في قوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ [سورة الأعراف، 88].

وفي هذه السورة ـ وهي من أوائل السور النازلة ـ فإنّها أيضاً حذّرت في أوّل الدعوة من (الأغنياء الطاغين) وهم الذين سخّروا أموالهم في مقارعة الأنبياء (ع) كقارون قديماً، وعتاة قريش في صدر الإسلام.

إنّ الغنى إذا اقترن بالعلم صار سبباً لنماء المجتمع البشري، وهو ما تحقّق للصدّيق يوسف (ع) حيث قال: ﴿رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ [سورة يوسف، 101] فصار مُلكه ـ وهو قِسم من الغنى ـ وعلمُه سببين لنجاة الناس من عبادة الآلهة من ناحية، والخلاص من تبعات قحط السنين من ناحية اُخرى.

ولو اجتمع هذان العنصران في أيّ حاكم وفي أيّ عصر؛ لكانت النتيجة هي نفسها، وهو ما سيشهده مستقبل البشرية من العدل والرخاء في زمان ظهور إمامنا المهدي (ع).

إنّ كلمة ﴿اسْتَغْنَى بما فيها من سين الطلب قد تُشعر بأنّ هؤلاء الذين طغى بهم المال، يرون أنّ ما هم فيه من الغنى ـ إن كان غِنى حقيقة ـ إنّما هو ثمرة جهدهم وطلبهم له في الدنيا؛ غافلين عن هذه الحقيقة: وهي أنّ الغِنى المتحقّق ـ حتى للطغاة ـ إنّما هو بتيسير من الله تعالى؛ لأنّ الأرض وما عليها تعود إليه، فهو القائل: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [سورة لقمان، 20] ثمّ يعقبها بقوله تعالى: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى فكأنّ ذِكر القيامة والمحاسبة بين يديه تعالى، لمن موجبات كسر هذا الإحساس الباطني لمن كان قلب!

إنّ أساس كل كمال روحي، هو الالتفات إلى حقيقتين:

الاعتقاد بالرجوع إلى الله تعالى ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى.

رؤية العبد نفسه أنّه بين يدي الله تعالى ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى [سورة العلق، 14] فيورثه ذلك الخشوع في عالم الجوانح، والخضوع في عالم الجوارح، وتتولّد من مجموعهما (المحاسبة) لتذكّر الحساب في الاُخرى، و(المراقبة) لتذكّر الرؤية الإلهية له في الدنيا، ومن دون ذلك لا يصل العبد إلى كمال أبداً!.. وقد ورد في الخبر: «اعبد الله کأنك تراه، فإن لم تکن تراه فإنه يراك» [الأمالي، الطوسی، ص526].

ومن الملفت: أنّه ورد ذِكر هذا المبدأ التكاملي في عالم الأرواح، وذلك في أوائل البعثة قبل نزول جزئيات الشريعة، فلا يقبل قول من يقول: بأنّه لا شيء وراء ظاهر الشريعة من أداء الواجب وترك الحرام فقط.

إنّ الآيات الثلاث التي تبتدئ بـ﴿أَرَأَيْتَ تُبدي التعجّب من فعل الناهي لمن صلّى، ومَن كان على الهدى وأمر بالتقوى؛ وذلك لبيان شدّة قبح هذا العمل بما يثير استغراب الربّ المتعال، وما يلزمه بعد ذلك من العذاب الأليم!

والملفت في الأمر: أنّ الله تعالى يذكر قاعدة لردع أمثال هؤلاء؛ ألا وهي استذكار حقيقة أنّ كل ذلك بعين الله تعالى في الحياة الدنيا؛ فإنّ ظاهر الخطاب متوجّه للمشركين الذين ما أنكروا وجود خالقهم، فأرادت الآية أن تجعل لازمة هذا الاعتقاد هو الخوف من مراقبته، وهو يغني عن التهديد بالنار يوم الجزاء، فبذلك توجّه خطاب المراقبة حتى إلى هؤلاء، كما توجّه خطاب التزكية إلى فرعون حيث قال تعالى: ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه، 44].

جرت عادة القرآن الكريم على التلميح بانفتاح أبواب التوبة في أسوأ حالات المخالفة ـ بعثاً للأمل في النفوس المستغرقة في المعاصي والتي أسرفت على نفسها ـ ومنه ما في سورة البروج حين يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [ سورة البروج، 10] فجعل تنجّز العذاب منوطاً بعدم التوبة، حتى في مورد هذه الجريمة الكبرى.

ومنه ما في هذه السورة حيث لمّح بالتوبة أيضاً، رغم أنّ السياق هو سياق التهديد لصاحب الناصية الكاذبة الخاطئة، المستمرّ في نهيه عن الصلاة حيث عُبّر عنه بالفعل المضارع ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى فقال تعالى عنه: ﴿كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ففتح له باباً إلى الانتهاء، فكم هو حِلم أكرم الأكرمين، حيث يخلّل التوبة والصفح في موارد التهديد أيضاً!

إنّ التوبيخ والتهديد وإن كان متوجّهاً لخصوص مَن نهى النبي (ص) عن الصلاة، بقرينة ما في ختام السورة من الأمر له (ص) بعدم الطاعة لعدّوه والسجود والاقتراب لمولاه، إلا أنّه يُفهم منه ـ مِلاكاً ـ أنّ معاداة المؤمن لإيمانه ـ وخصوصاً من أجل إتيانه بصلاته ـ لمن موجبات الغضب الإلهي؛ إذ إنّ فيه تحدّياً لأشرف مخلوقاته في أشرف طاعاته، وهذا التحدّي بدوره يعود إلى الله تعالى، وهو أشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة!

إنّ هذه السورة ـ بناءً على أنّها بجميعها أوّل ما نزل على النبي (ص) ـ تدلّ على عظمة النبي قبل البعثة أيضاً، من جهة وصفه بأنّه كان على الهدى، وأنّه أمر بالتقوى، وأنّه كان يصلّي وإن لم نعلم جزئيات صلاته، وإلا لا وجه للعتاب والتهديد في هذه الآيات إن كانت المذكورات ستقع مستقبلاً؟!

ومن المعلوم هنا: أنّ عناد القوم وأذاهم للنبي (ص) قبل البعثة وبعدها، لم يكن متوجّهاً إلى عنوانه الشخصي بل لعنوانه الرسالي، ومن هنا عبّرت الآية عنه ﴿عَبْداً إِذا صَلَّى بدلاً من ذِكر اسمه الصريح، وهذا أيضاً وسام آخر من أوسمة الربّ لحبيبه المصطفى (ص) حيث وصفه بالعبد في حال كونه نكرة، والدالّ بطبعه على عظمة هذا الأمر!

قرن الله تعالى بين الأمر بالتقوى والكون على الهدى في قوله: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏ * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ومن المعلوم أنّ الذي يحقّ له الأمر بالتقوى من كان متلبّساً به، فكيف يكسو العاري غيرَه لباس التقوى!

وينبغي الالتفات إلى أنّ الآية جعلت متعلّق أمر النبي (ص) هي نتيجة العبادات وهي التقوى ﴿بِالتَّقْوَى لا نفس العبادة، فالمطلوب الغائي من الصوم ـ مثلاً ـ ليس نفس عملية الكفّ عن الطعام والشراب؛ بل حالة التقوى الحاصلة من ذلك، ومن هنا ذُكرت الغاية من الصيام بقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة، 183] وهذا هو المطلوب من الدعاة إلى الله تعالى أن يحقّقوا النتيجة، لا إسقاط التكليف بذكر المقدّمات فحسب.

إنّ الله تعالى يتعمّد إذلال الطغاة يوم القيامة، فهم يُحشرون يوم القيامة على مثل الذرّ، تطؤهم الأقدام إلى أن يفرغ الله تعالى من حساب الخلق، وفي هذه السورة نقل لصورة اُخرى من صور الإذلال، ألا وهو الأخذ بالنواصي وهو شعر مقدّم الرأس بجذبٍ شديدٍ ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ فيُجعل المجرم في قبضة من يسوقه في كمال الذلّة، وهذا يستلزم طأطأة رأسه والذي به قوام الاعتزاز والشموخ عادة.

وليُعلم أنّ هذه النواصي متّصفة بـ ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فخصّت الآية الكذب قبل ذِكر عموم الخطيئة؛ لأنّ الكذب منشأ لكثير من الشرور وهو من أقبح الخطايا!

وعليه، فإنّ المؤمن المستضعف عندما ينظر في الدنيا إلى نواصي الطغاة في دار الدنيا ـ وهي التي تحمل ما تحمل من الرتب الزائفة ـ فإنّه يتذكّر ما سيؤول إليه أمرهم عمّا قريب، وهذا الإحساس بدوره يهبه شيئاً من العزّة باطناً، والصبر خارجاً.

إنّ الوعيد والتهديد من مستلزمات نجاح الدعوة مقترناً طبعاً بالوعد والتبشير، وقد وردت صيغ من التهديد في هذه السورة بالنسبة للطغاة المترفين كقوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ و﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ و﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ.

وليعلم أنّ هذه الصيغة من التعامل لازمة لإزالة الموانع في طريق الدعوة إلى الله تعالى، فالذي لا يملك الحسم والعزم في الدعوة إلى الله تعالى، لا يكون على منهاج النبي (ص) الذي قامت دعوته على التولّي والتبرّي والمفهومة من:

شهادة الإسلام بشقّيها من (النفي والإثبات) في قول: لا إله إلا الله.

ما يُفهم من (النهي والأمر) في قوله تعالى: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ.

إنّ الكفار طوال العصور كانوا حريصين على جمعهم واجتماعهم ـ سرّاً كان أو علناً ـ لمواجهة المؤمنين الذين كان أملهم بالله تعالى، إذ لم يعلّقوا مواجهتهم للكفار على تشكّل ناد لهم يجتمعون فيه كاجتماع الكافرين، ولكنّ القرآن الكريم يستهزئ بمثل هذه المجالس التي تلاشت في الآخرة قائلاً: ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ووجه الاستهزاء:

أنّى لهم بمثل هذا الاجتماع في نار جهنّم وهم في قبضة المنتقم الجبّار.

أنّى لهم بمواجهة جمع الزبانية وهي الملائكة الموكّلة بالنار، إذ لا وجه يومئذٍ للمقارنة بين نادي الكفر والإيمان.

وعليه، فإنّ على المؤمن تذكّر مثل هذه العاقبة ـ وهو في الحياة الدنيا ـ ليعطيه عزماً وثباتاً في مواجهة خطط أهل الباطل، والتي لا تخلو من حنكة ومكر كما هو الملاحظ في هذه الأيّام.

إنّ نوادي وأحزاب الكفار ـ على تعدّدها وتنوّعها طوال العصور ـ إنّما هي من لون واحد، فالنادي الذي كان يجمع أبا لهب وأبا جهل كدار الندوة بمكّة المكرّمة، هو بجوهره يمثّل رؤساء الكفر والضلالة في كل العصور.

وعليه، فإنّ القانون الذي سرى على تلك النوادي من الاندثار والمحق سيجري على هذه النوادي أيضاً فهو الذي يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين!

وكذلك فإنّ آية ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [سورة المسد، 1] تشير إلى هذه الحقيقة أيضاً، فهي دالّة على خسران جبهة الباطل في كل العصور أيّاً كان صاحبها، وهو ما عبّر عنه الله تعالى أيضاً من الهلاك والتباب عن فرعون أيضاً قائلاً: ﴿وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ [سورة غافر، 37] فاجتمع التعبير بـ﴿تَبَّتْ و﴿تَبَابٍ لعَلمين من أعلام الكفار طوال التاريخ.

قيل: إنّ المراد بالسجود في ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ كناية عن الصلاة لمقابلة نهي الناهي عن الصلاة، وذلك تحدّياً له وعدم اكتراث بنهيه ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ولكن من الممكن أن يكون السجود هنا مراداً بنفسه ـ بناءً على مطلوبية السجود وإن كان خارج الصلاة ـ سواءً بمعنى السجود العام، أو السجود عند تلاوة هذه السورة المشتملة على السجدة الواجبة.

والروايات مستفيضة حول أهمّية السجود، وأنّ العبد أقرب ما يكون إلى ربّه وهو ساجد [الكافي، ج4، ص265]، وقد عطفت الآية الكريمة الاقتراب من المولى ﴿وَاقْتَرِبْ على السجود ﴿وَاسْجُدْ؛ لأنّه من أهمّ المواضع التي يتقرّب فيه العبد إلى ربّه.

إنّ الالتجاء إلى الله تعالى هو سمة جميع الأنبياء حين دعوتهم الناس إلى الله تعالى؛ وذلك لكثرة المشاق في هذا السبيل، وفي هذه السورة أيضاً جاء الأمر بأن تكون القراءة ـ وهي سمة من سمات الدعوة إليه ـ متحقّقة باسم الربّ الخالق المعلّم بالقلم.

فعليه، لا بُدّ أن (تبدأ) الدعوة من خلال التوجّه إليه تعالى، وفي سورة الشرح جاء الأمر بأن (تنتهي) الدعوة أيضاً بالتوجّه إليه تعالى قائلاً: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ، فالرغبة إليه تعالى وإتعاب النفس في عبادته أمر لازم في شروع الدعوة وحينها وبعدها، وهذا هو سرّ نجاح دعوة المصطفى (ص) ومن تبعه من آله الكرام إلى يومنا هذا.

إنّ من مميّزات هذه السورة كأوّل ما نزلت على النبي (ص) أنّها تؤكّد على حقيقة:

اعتقادية: تتمثّل في التأكيد على ربوبية الله تعالى للكون بعد خالقيّته، مع الالتفات إلى لوازمه من الطاعة والانقياد.

علمية: تتمثّل بدعوة الإنسان إلى العلم والتعلّم، سواءً ما كان منه بالقلم، أو بتعليم الله تعالى مباشرة كالعلوم اللّدنية.

أخلاقية: تتمثّل باستشعار محضرية الله تعالى في الوجود، وأنّه يرى كل ما يصدر من العبد خيراً كان أو شرّاً.

عملية: تتمثّل بالأمر بالصلاة أو بخصوص السجود، كأهمّ فرع من فروع الدين.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1898
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 02 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24