• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 98 ـ في تفسير سورة البيّنة .

98 ـ في تفسير سورة البيّنة

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8).

1 ـ إنّ كلمة ﴿مِنْ﴾ في قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ إنْ كانت بمعنى:

التبيين: أي تبيين جماعة الكافرين؛ فإنّ الآية تكون ناظرةً إلى حالهم قبل الدعوة، فهم جميعاً كفار سواءً كانوا ممّن قبِلوا كتاباً سماويّاً ظاهراً حال كونه محرّفاً واقعاً، أو لم يقبلوا بكتاب أصلاً كعبّاد الأوثان.

التبعيض: فإنّها تكون ناظرةً إلى حالهم بعد الدعوة، فالآية موبّخة لذلك القِسم الذي بقي على كفره وضلاله.

اختلف التعبير عمّن أُنزل إليهم الكتاب، فعُبّر عنهم بـ﴿أَهْلِ الْكِتابِ تارةً، وبـ﴿أُوتُوا الْكِتابَ تارةً اُخرى، وعندئذٍ يقال في الفرق بين التعبيرين:

بأنّ المراد من أهل الكتاب هم أتباع الديانات السماوية المعهودة، ومن هنا عطفهم على المشركين وهم عبّاد الأوثان.

وأنّ المراد بـ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مَنْ أُنزل إليهم الكتاب بمعنى: توجّه الخطاب إليهم كما في قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [سورة البقرة، 213] فالحديث فيها إنّما هو عن عامّة الناس الذين أُرسل إليهم الرسل.

ولكن النتيجة عند عدم تقبّل الهدى الإلهيّ كانت واحدة، ألا وهو التفرّق عن الهدى، سواءً كان هذا التفرّق في ضمن ديانة سماوية واحدة كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ [سورة الزخرف، 63-65]، أو لم يكن في ضمن ديانة واحدة كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [سورة البقرة، 253].

إنّ من الموارد التي كثُر فيها الاختلاف بين المفسّرين، هي الآية الأولى من هذه السورة إلى درجة قيل: إنّها من أصعب الآيات القرآنية نظماً وتفسيراً!.. ومن هنا لزم للمتأمّل في القرآن الكريم، أن يكون واجداً لدرجة من الفطنة والتسديد لحلّ مشكلاتها.

وليعلم أنّ كلمة ﴿مُنْفَكِّينَ هي التي أثارت هذا الغموض، وذلك لعدم ذِكر متعلّقها أوّلاً، ثمّ لو جعلنا متعلّقها هو (الكفر) كما يظهر، فمعنى الآية: أنّهم سينفكّون عن كفرهم بعد مجيء البيّنات، والحال أنّهم بقوا على كفرهم بعدها، بل ازدادوا عناداً ومواجهة للرسالة كما قال تعالى في آية لاحقة: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فقيل في الجواب عن ذلك وجهان:

الأوّل: إنّ المراد منها هو عدم الانفكاك عن القاعدة العامّة السارية في الأمم، والتي يبيّنها قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [سورة التوبة، 115] و﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء، 15] وتفسير البيّنة بإرسال الرسول المشار إليه في الآية اللاحقة يتمّ في هذا السياق، إذ كانت الحجّة تامّة عليهم بإرسال ﴿الْبَيِّنَةُ ولكنّهم بعد إتمام هذه الحجّة تفرّقوا بعدها بين منكر ومعترف، ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [سورة البقرة، 89].

الثاني: إنّهم كانوا يدّعون عدم انفكاكهم عمّا كانوا عليه، إلا إذا جاءتهم البيّنة الصارفة لهم عمّا هم فيه، ولكن بعد مجيء البيّنة تفرّقوا عن الإيمان الموعود به، وبعبارة اُخرى: بعد تحقّق واقع ﴿جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وبعد أن علّقوا الإيمان بمجيئها ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ لم يلتزموا باتباع هذه البيّنة، بل تفرّقوا عنها.

إنّ الحديث عندما يكون عن النبي (ص)، فإنّه حديث عمّن يحمل صفتين:

الأولى: وهي أنّه صاحب ﴿الْبَيِّنَة الواضحة، وهي ملازمة للحجّة المنجّزة، فصارت كل أقواله وأفعاله واقعة في هذا السياق.

الثانية: أنّه يتلو ﴿صُحُفاً مُطَهَّرَةً والتي لا يصل إليها الباطل من تحريف البشر ومسّ الشياطين، والمشتملة على التعاليم المكتوبة على العباد مثل قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [سورة البقرة، 183] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ [سورة البقرة، 216] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [سورة البقرة، 180] و﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [سورة البقرة، 178] والتي تقوم بمصالحهم خير قيام بتمامه وكماله ـ كما تفيده تاء المبالغة في كلمة القيّمة ـ قيام القيّم بأمر اليتامى.

إنّ الآية عدَلت عن تسمية أهل الكتاب باليهود والنصارى، وإنّما ذكرتهم بقيد إيتاء الكتاب ليكون ذلك مزيداً من الإدانة لهم، فلا عذر لهم بعدما تمّت عليهم الحجّة من خلال كتبهم السماوية غير المحرّفة، والتي من ضمنها البشارة بنبيّ آخر الزمان ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف، 6].

وينبغي الالتفات إلى عظمة النبي (ص) المتجلّية من خلال هذه الآيات، إذ يستفاد منها أنّ مَن لم يؤمن به (ص) كان في عداد مَن لم يؤمن بالله تعالى أصلاً أو جعل له شريكاً؛ فمصيرهم جميعاً إلى النار ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ.

وهذا هو السرّ أيضاً في عدم ذِكر الاسم الصريح للنبي (ص) بل ذُكر بوصف الرسالة ﴿رَسُولٌ مِنَ اللهِ فهذا تعظيم له، كما كان قيد إيتاء الكتاب إدانة لغيره.

إنّه من الممكن القول بأنّ السرّ في عدم ذِكر المشركين عطفاً على ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في آية (التفرّق) بينما ذكروا في صدر السورة: هو أنّ الحديث إنّما هو عن التفرّق والتحزّب شِيَعاً وفِرَقاً، وهذا ممّا يعقل تحقّقه في أصحاب الفكر والدين المدوّن ـ ولو كان باطلاً ـ وأمّا المشركون فهم دون هذا المستوى من الانقسام إلى فئات وجهات، لبساطة معتقدهم بل لسخافته، فلا معنى لذِكر تفرّقهم على ما لا قوام له!

إنّ هناك فرقاً بين مَن يعبد الله تعالى (طمعاً) في جنّته أو (خوفاً) من ناره، وبين مَن يعبد الله تعالى (مخلصاً) له طالباً رضاه، وإن علم لاحقاً أنّ جزاءه عند ربّه ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فمثَله في ذلك كمَن يغتسل لله تعالى وإن كان يعلم أنّ أثره إزالة الغبار عن بدنه، فالعلم بالأثر لا ينافي الإخلاص في العمل، بل المنافي هنا إنّما هو قصد الأثر.

وليُعلم أنّه قلّ مَن وصل إلى هذه الدرجة التي عَبّر عنها الله تعالى بصفةٍ اسمية قائلاً: ﴿مُخْلِصِينَ ولم يعبّر عنها بحركةٍ فعليّة؛ أي: يخلصون.

إنّ روح الديانات السماوية إنّما هي روح واحدة، تتمثّل ـ بعد الإيمان بالله تعالى وبالنبيّ المرسل في كل عصر ـ بالعبادة المتّصفة بقيدين:

الإخلاص ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فما كان لغير الله تعالى لا يُسمّى عبادةً حقّاً، وإن كان مشتركاً مع العبادة الصحيحة في صورتها.

مجانبتها للإفراط والتفريط، وهو معنى ﴿حُنَفاءَ أو من لوازمها إن فسّرناه بالاستقامة، فإنّ الرهبان في النصرانية جانبوا الاعتدال، فأفرطوا في العبادة المدّعاة لأنفسهم، تاركين ما عليهم من الواجبات تجاه الغير: كمقارعة الظالمين، وخدمة المحرومين.

ومن المناسب أن نعلم أنّه قد روي عن النبي (ص) في نفي مثل هذه الرهبانية: «إن لكل أمة رهبانية، وإن رهبانية أمتي: الجماعات، والجمعات، وتعليم بعضهم بعضاً شرائع الدين» [بحار الأنوار، ج67 ص115].

ما من ريب أن جزئيات الشريعة تختلف من شريعة إلى شريعة، ولكن المشترك فيما بينها ـ على ما يُفهم من آيات القرآن الكريم ـ هي الصلاة والزكاة كقوله تعالى: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، وقوله تعالى: ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، 31]، طبعاً مع اختلاف الشرائع في جزئيات تلك العبادتين.

ولعلّ السرّ في هذا الاشتراك: إنّ الصلاة تنظّم العلاقة بين العبد وربّه، والزكاة تنظّم العلاقة بينه وبين خلقه، والصلاة فيها مجاهدة باطنية من التوجّه القلبي إلى الله تعالى، والزكاة فيها مجاهدة خارجية من قطع التعلّق بالمال، ويجمعهما الانقطاع إليه في كل ما أمر المولى به، ليكون العبد كالطريق المعبّد الذي لا يعيق السائر فيه.

وليعلم أنّ مجموع ما في الشرائع ينطبق عليه التعبير بـ ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ، سواءً بمعنى:

دين الكتب القيّمة: فيكون إشارة إلى كل الكتب السماوية.

خصوص دين النبي الخاتم (ص): لأنّ شرائعه قائمة بمصالح العباد.

أنّ الدين ذو قيمة: لما فيه من المعاني السامية.

إنّ روح الآيات الواردة في هذه السورة المباركة شاهدة على عالمية الدعوة الإسلامية، وأنّ الأديان السابقة وإن كانت حجّة على أهلها قبل ظهور الإسلام، إلا أنّه مع إرسال النبي الخاتم والشريعة الخاتمة، لم يبقَ مجال لأيّ دين غير الإسلام.

ومن هنا لا ينبغي الانبهار بأيّ إنجاز ديني أو إنساني خارج إطار الإسلام الحنيف، لما ورد من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ [سورة آل عمران، 19] فإنّ قبول الأعمال منوط بالتقوى، ولا معنى للتقوى إذا كانت الحركة في غير الجادّة التي أرادها الله تعالى، وإن كان الفعل حسناً في ظاهره.

ينبغي التأسّي بخُلُق من أخلاق الله تعالى ممّا هو مذكور في هذه السورة؛ ألا وهو عدم مؤاخذة الغير إلا بعذر: فلا نؤاخذ الجاهل أوّلاً، وإن آخذناه فإنّنا نؤاخذ المقصّر من الجاهلين، وإذا آخذنا المقصّر منهم أخرجناه من جهالته.

وذلك أنّ الله تعالى لم يؤاخذ عباده إلا بعد إتمام البيّنة الواضحة من صحف مطهّرة نزلت بتعاليم قيّمة، بمعنى: (قائمة بمصالح العباد)، أو بمعنى: (الاستقامة بلا اعوجاج) عكس ما عليه الشرائع البشرية والقوانين الوضعية، لما فيها من مخالفة الفطرة السليمة، وتفويت مصالح العباد الواقعية.

إنّ الله تعالى في هذه السورة، قدّم الوعيد على الوعد، فذكر جزاء ﴿شَرُّ الْبَرِيَّةِ ثمّ أردفها بجزاء ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ولعلّ السرّ في ذلك: أنّ مصبّ الآيات في أوّل السورة، ما كان عليه أهل الكتاب والمشركين من الباطل، فكان الأنسب في مقام بيان الجزاء ذِكر ما هو متعلّق بصدر السورة.

أضف إلى أنّ منزلة الوعيد بالنسبة إلى الوعد، كمنزلة الدواء إلى الغذاء: فلا بُدّ من الردع ممّا يضر أوّلاً، ثمّ الحثّ على ما ينفع ثانياً.

إنّ العبد إذا جمع ـ من خلال مدرسة الأنبياء ـ بين الإيمان والعمل الصالح، صار ممّن يقال في حقّه بصدق: إنّه خير مَن خلق الله تعالى على أرضه، بناءً على أنّ وصف البرية شامل لكل مخلوق بما في ذلك الملائكة لأنّها من ضمن من برّأه الله تعالى، والمستفاد من النصوص أنّ بعض الخلق خير من الملائكة، وقد يكشف عن ذلك أمر الله تعالى بالسجود لآدم (ع) ولم يُبعث بعدُ بالرسالة، وذلك لما كان فيه من قابلية التكامل والصعود إلى مرحلة تفوْق الملائكة!

ومن الممكن أن نجعل آية الإشارة إلى خير البرية وشرّها، تنويها على قوسي الصعود والنزول في الخلق، نظير ما ورد في سورة التين ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [سورة التين، 4-5].

لا يخفى ما في التعبير بـ(عند) من لطف في قوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ وذلك لأنّ ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هم الذين حصروا طمعهم فيمَن عنده مثل هذا الجزاء، ولا يعنيهم ما عند غيرهم من الجزاء الفاني!

كما يمكن تفسيرها بمعنى: أنّ جزاءهم بمثابة الوديعة عند أمين، يُرجعها لهم في وقت يكون صاحبُها في أشدّ الحاجة إليها!

وهذا الإحساس بـ(عندية) الجزاء عند الله تعالى، يبعث حالة من الارتياح عند المؤمن، فلا يستعجل في الدنيا ثمار عمله ـ ولو كانت مزية معنوية ـ لعلمه بأنّ ما هو المدّخر له عند ربّه؛ يغنيه عن كل مزية عاجلة.

إنّ من أهمّ مقوّمات الجنّة هي صفاتها المتمثّلة بـ﴿عَدْنٍ؛ أي: الاستقرار والإقامة ﴿خَالِدِينَ و﴿أَبَداً والدالّة بجميعها على الخلود فيها، وهناك آيات اُخر تؤكّد على هذه الحقيقة، وهي ﴿لا يُخْرَجُونَ مِنْها و﴿وَمَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [سورة الحجر، 48] و﴿لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً [سورة الكهف، 108] بل قيل: إنّ الخلود خير من الجنّة، إذ قد روي عن النبي (ص) أنّه قال: «إن الخلود في الجنة خير من الجنة!.. ورضا الله خير من الجنة» [مفاتيح الغيب، ج32، ص252]؛ لأنّه لولا هذا الخلود لما تهنّأ متهنّئ بها، إذ إنّ ألم العلم بانتهاء أمد النعمة لا يجبره عظيم لذّتها!

كما أنّ الإنسان مخلوق من جسد وروح، ولكل منهما حظّه في الدنيا، فإنّ لهما أيضاً حظّاً في الآخرة، فحظّ الجسد فيها هو الجنّة الموصوفة في هذه السورة وغيرها بأنواع النعيم الحسّي من الحور والقصور، وأمّا حظّ الروح فيها فهي رضا الربّ المتعال ﴿رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ والمتمثّل بجنّة القرب الإلهي.

والملفت هنا: إنّ الله تعالى لم يذكر صفة الربوبية عند ذكر رضاه عمّن وصفهم بـ﴿خَيْرُ الْبَرِيَّةِ بل ذَكر لفظ الجلالة والذي يُعدّ من أعظم الأسماء دلالةً على الهيبة والجلالة، فهو الاسم الدالّ على الذات والصفات بأسرها؛ أي: صفات الجلال والإكرام.

إنّ غاية الكمال تتمثّل في الوصول إلى مرحلة يرضى فيها العبد عن ربّه، ويُرضى العبد فيها ربّه عنه؛ وهي مرحلة (النفس المطمئنّة) التي أشير إليها في قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [سورة الفجر، 27-28] وقد ذكرت آية ﴿لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أنّ الطريق إلى ذلك الرضا المتبادل بين العبد وربّه، هي خشية الربّ وهو الخوف المقترن بالتعظيم، كما قال تعالى عن الملائكة: ﴿وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [سورة الأنبياء، 28].

وقد ورد التعبير نفسه بالنسبة إلى العباد المؤمنين ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [سورة المؤمنون، 57] وهذه الخشية مترشّحة من العلم، لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [سورة فاطر، 28] إذ إنّ الإحساس بعظمته ومراقبته هي الرادعة عن كل قبيح، وباعثة لكل خير.

وليُعلم: إنّ هذه الحالة من الرضوان هي خير نعيم في الجنّة بل رحيقها، وهو جزاء مستقل في قبال الجنّات، حيث ذُكر قبال الجنّة في قوله تعالى: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ومن المعلوم أنّ مَن كان واجداً لهذه الصفة في الدنيا، كان متنعّماً في الدنيا بأغلى نعيم في الجنة ولو بدرجة من درجاته!

عندما يسند القرآن الكريم الخشية إلى العلماء في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [سورة فاطر، 28] فإنّه يستعمل لفظ الجلالة المشير إلى مقام الذات بكل أبعاد الجمالية والكمالية، وهو المناسب لمقام العلم الذي به تدرك الأوصاف والمقامات الربوبية، ولكن عندما يسند الخشية إلى عامّة المؤمنين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كما في هذه السورة، فإنّه يشير إلى صفة الربّ وذلك في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ، إذ أنّ للربوبية القاهرة والمدبّرة دوراً في إيصال هؤلاء إلى ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وبذلك كانت خشيتهم مرتبطة بمقام ربوبيّته.

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1890
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 01 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24