• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 102 ـ في تفسير سورة التكاثر .

102 ـ في تفسير سورة التكاثر

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلْهَكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8).

1 ـ إنّ القرآن الكريم جعل فاعل الإلهاء هو التكاثر، وكأنّ التكاثر صار بمثابة المتحكّم في الوجود الإنساني، فبدلاً من أن يكون الإنسان هو السائق لنفسه في الجهة التي يريدها، فإنّ الأمور الاعتبارية ـ كتوهّم الجاه بالأولاد والأموال ـ تصبح سائقة له!

وعليه، فإنّ الحلّ الجامع، هو مجاهدة النفس لإخراجها من دائرة سيطرة الأوهام والعقد، إلى حالة الزهد بما هو في الخارج ـ وهو المورث للعزّة الباطنية ـ بدلاً من تركه، وقد روي أنّه: «ما من رجل تكبّر أو تجبّر إلا لذلّة وجدها في نفسه» [الكافي، ج2، ص312].

إنّ طلب الكثرة ثمّ الفخر بما طلبه المتكاثِر، يكون عادةً في الأموال والأولاد، ولكن النفس ـ التي لا تشبع ـ من الممكن أن يتعلّق حبّ كثرتها في أمور اُخرى: كالعمر ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة البقرة، 96]، والمسكن ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [سورة الشعراء، 128] والأطعمة ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا [سورة البقرة، 61].

وبعبارة جامعة: فإنّ الآية الأولى ﴿أَلْهَكُمُ التَّكَاثُرُ أبهمت متعلّق التكاثر، ليشمل كل صور الالتهاء بالدنيا ممّا ذكر وغيرها، وإن كانت الآية الثانية ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ تشير إلى خصوص التكاثر بالأولاد.

إنّ على المعتقد بيوم الجزاء، تجنّب كل ما يلهيه عن التزوّد لذلك العالم الآخر، فإنّ حقيقة المُلهي هو ما يشغلك عمّا هو أهم، ولازمة هذا التعريف: إنّ الانشغال عن الأهمّ بالمهمّ يُعدّ أيضاً في دائرة اللّهو وإن لم يلتفت صاحبه إلى ذلك، لعدم وضوح اللّهوية فيها.

وكم ينطبق هذا التعريف على كثير من النشاط الدائب لأهل الدنيا في دنياهم ـ وإن لم يشعروا بذلك ـ ما دام ذلك السعي لا يرتبط بالأبدية والخلود!.

إنّ التكاثر المذموم في هذه السورة، قد يكون ناظراً إلى:

نفس التكاثر في جانب الأولاد والأموال فتكون الكثرة بنفسها مذمومة؛ لأنّه من مصاديق الالتهاء بنفس المتاع، طبعاً خرج من ذلك مَن لم يلهه شيء عن ذِكر الله تعالى، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ [سورة النور، 37].

التفاخر والتباهي بالكثرة المدّعاة ولو لم تكن متحقّقة؛ فيكون الذمّ لهذه الحالة النفسية التي يعيشها هذا الواهم، فيلتهي بذلك أيضاً عن آخرته، فملاك الالتهاء فيهما واحد، سواء تحقّق شيء في الخارج أم لم يتحقّق.

قيل [الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص351] في تفسير قوله تعالى: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ أنّ مفهوم الخطاب الإلهي، هو أنّ التكاثر ألهاكم في هذه الدنيا إلى ساعة الموت، حيث زرتم فيها المقابر بمعنى زيارة مَن يُراد دفنه، ولكن الأجلى من هذا التفسير: هو أنّ البعض شغله التكاثر والفخر بالرجال إلى درجة أخذ يذهب إلى المقابر، ليضيف الأموات إلى عداد الأحياء؛ تكثيراً للعدد عند تحدّي الغير!

فكم هو سخيف بني آدم عندما يجعل ملاك التفاضل في الموهوم؛ إذ إنّ كمال الحي لا علاقة له بكمال حي آخر، فكيف إذا كان صاحبُ الكمال ميّتاً؟!.. وكيف إذا لم يكن في البين كمال أصلاً كتفاخر أهل الجاهلية، كما قيل [الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص353] في شأن نزول هذه الآيات؟!

إنّ ترك ذِكر المتعلّق في قوله تعالى: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ وإبهامه، يدلّ على عظمة ما سيعلمه المتكاثر من الجزاء يوم القيامة، وفي هذا كمال التخويف لصاحبه، وخاصّة إنّ الله تعالى كرّر الردع بـ﴿كَلاَّ أكثر من مرّة في هذه السورة المباركة!

وليُعلم أنّ الآية ذكرت جزاءً ولكن بنحو الإجمال، فقالت: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ من دون تفصيلٍ لأنواع العذاب، كما في باقي السور الكريمة، وهذا أبلغ في التهديد كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [سورة الأنعام، 30] حيث لم يذكر ما يجري عند الوقوف على الله تعالى في هذه الآية.

إنّ الآية الكريمة جعلت الموجب للردع عن الالتهاء بالتكاثر، هو ذلك العلم اليقيني الذي لا يخالطه ريب، وقيل في تعريفه: «إنه الاعتقاد الجازم المطابق الثابت الذي لا يمكن زواله، وهو في الحقيقة مؤلف من علمين: العلم بالمعلوم، والعلم بأن خلاف ذلك العلم محال» [الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص351].

وعليه، فإنّ ما عدا هذا العلم لا يكفي لأن يكون رادعاً كعبادة الجاهلين، فإنّ مَن لا علم له لا خشية له، ومن هنا ارتفعت درجة العلماء على العُبّاد والزُّهّاد.

إنّ العلم ـ وخاصّة إذا وصل إلى مرحلة عالية من اليقين ـ يكون حجّة على صاحبه، فإنّه من أهمّ البواعث على التخلّص من مكدرات الباطن.. لذا فقد عدّه المولى ـ في ختام السورة ـ أداةً لكسر حالة التكاثر والتفاخر المذكورَين في صدر هذه السورة، فإذا لم يحقّق هذا العلم مثل هذه النتيجة صار موجباً للحسرة والندامة غداً، ومن هنا جاء وصف يوم القيامة بـ﴿يَوْمَ الْحَسْرَةِ [﴿وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ سورة مريم، 39].

وليُعلم أنّ العامل في الدنيا وغير العامل فيها ـ عند الحسرة على حدٍّ سواء ـ ومثاله في ذلك كمثل مَن كان مع ذي القرنين لمّا دخل الظلمات فوجد خرزاً، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز، وعندما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر، فالذين أخذوا منها كانوا في غمٍّ إذ قصّروا في الأخذ منها، والذين لم يأخذوا كانوا أيضاً في غمٍّ إذ لم يأخذوا منه أصلاً!.. فهكذا تكون أحوال أهل القيامة، عند النظر إلى ما فاتهم من الخير أيّام الحياة الدنيا.

إنّ الرؤية في قوله تعالى: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ من الممكن أن نقول عنها بأنّها رؤية القلب الذي من الممكن أن يرى حقائق هذا الوجود:

إجمالاً كما يقع لعامّة المؤمنين الذين يصفهم أمير المؤمنين (ع) عند وصف يقينهم بالله تعالى قائلاً: «لا تراه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» [نهج البلاغة، 258].

وتفصيلاً كما وقع لإبراهيم الخليل (ع) حيث يقول الله تعالى عنه: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [سورة الأنعام، 75].

ويؤيّد هذا التفسير: إنّ الله تعالى عطف على هذه الرؤية ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ تلك الرؤية الاُخرى في القيامة قائلاً: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ وهي رؤية الحسّ بعدما كانت رؤية الباطن.

إنّ لليقين درجات متردّدة بين: علم اليقين، وعين اليقين، وحقّ اليقين، ومثّلوا لذلك: برؤية الدخان، ثمّ رؤية النار، ثمّ ملامستها.. فاليقين حاصل في الحالات الثلاث ولكن بتفاوت واضح في البين، وهذه الدرجات المتفاوتة لليقين منطبقة على اليقين بالآخرة: ففرقٌ بين اليقين به في الدنيا ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ واليقين بها في الاُخرى ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ.

فالمطلوب من أهل اليقين أن يصعّدوا من درجة يقينهم إلى ما يقرب من عين اليقين، وهو ما وقع للمتقين على ما وصفهم أمير المؤمنين (ع) قائلاً: «فهم والجنّة كمن قد رآها؛ فهم فيها منعّمون.. وهم والنار كمن قد رآها؛ فهم فيها معذّبون» [نهج البلاغة، 303].

إنّ الخطاب بـ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ وإن كان في سياق ذِكر أهل التكاثر، إلا أنّه عامّ يشمل جميع من أنعم الله تعالى به على العباد وإن خصّه البعض بالنعم المعنوية؛ لأنّ الله تعالى أجلّ من أن يسأل عمّا ـ أعطاه مثلاً ـ من الطعام والشراب، فإنّ هذا ينافي ما عليه كرماء أهل الدنيا، ويؤيّد ذلك ما رُوي عن الإمام الصادق (ع) حيث قال: «الله أكرم وأجلّ من أن يطعمكم طعاماً فيسوغكموه، ثم يسألكم عنه، ولكن يسألكم عما أنعم عليكم بمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله» [الكافي، ج6، ص270].

والدليل على ذلك: إنّ سؤال خزنة النار من أهلها يوم القيامة، إنّما هو عن أمرٍ معنوي، ألا وهو إتيان النذير ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [سورة الملك، 8].

إنّ البعض ينظر إلى ما أُعطي من المتاع فيراها نعمة محضة، من دون أن يلتفت إلى أنّ نعمتية النعمة إنّما تتمّ إذا صُرفت في طاعة الله تعالى، وإلا تحوّلت إلى نقمة على صاحبها، لأنّها من موجبات المعاتبة أو المعاقبة بعد السؤال عنها يوم القيامة، حيث يقول تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.

ومن المعلوم أنّ الطريق الأمثل لشكر هذه الأنعم، هو ما بيّنته الشريعة من خلال تشريعاتها المتعلّقة بـ(الأبدان) كالصوم و(الأموال) كالزكاة أو (الأرواح) كالصلاة المعراجية أو (الحقوق) كصلة الأرحام مثلاً.

فعدم الالتفات إلى ما في الشريعة من أحكام قد يُوقع العبد في عكس ما ذُكر، ومن هنا كان الشاكرون لأنعم الله تعالى، هم الأقلّون عدداً ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [سورة الأعراف، 10]!

إنّ البعض قد يتوهّم وجود حالة من التنافي بين هذه الآيات الناهية عن التفاخر بالمال والولد وغيرهما، وبين الآية الدالّة على التحدّث بالنعم كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى، 11].

والجواب عن ذلك: إنّ التحدّث بالنعم ـ سواءً بإظهارها خارجاً أو الحديث عنها ـ يكون بهدف راجح: إمّا بإظهار الشكر عملاً، أو لتشجيع الغير على التأسّي به فيما أنعم الله تعالى عليه، وهذا يجانب تماماً الفخر والتباهي الذي يعود إلى اتّباع الهوى، لا طاعة الهدى.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1879
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19