• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 103 ـ في تفسير سورة العصر .

103 ـ في تفسير سورة العصر

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3).

1 ـ إنّ في هذه السورة ـ على قصرها ـ صوراً من التأكيد، فهي تبتدئ بالقَسَم وهو من أجلى صور التأكيد، أضف إلى التأكيد بـ ﴿إِنَّ، ثمّ التأكيد باللام، ثمّ استعمال الجملة الاسمية، ولعلّ السرّ في كل ذلك: إنّ المُقْسَم عليه في غاية الخفاء عند عامّة الناس؛ ألا وهو حقيقة الخُسر المطبق على كل الخلق إلا مَن خرج بالدليل.

وعليه، فمَن لم يرَ في نفسه إيماناً وعملاً صالحاً كاملاً بنحو القطع واليقين، اندرج تحت عموم الخُسر.

وبكلمة جامعة: فإنّ الخُسر لا يحتاج إلى دليل بخلاف عكسه، فمن شكّ في الاستثناء لزمه الخُسر الدائم ويا له من تخويف لمن كان له قلب!.

اختلفت الأقوال كثيراً في تفسير ﴿الْعَصْرِ بين مَن يقول:

إنّه وقت العصر من النهار، وهذا قَسَم في ضمن القَسَم بالأوقات الاُخرى المستوعبة لساعات اليوم الكامل من: (الفجر)، (والصبح)، (والنهار)، (واللّيل)، (والضحي).

إنّه إشارة إلى عصر زمني متميّز، يتمثّل بعصر النبي (ص) وعصر الإمام المهدي (ع)؛ ففي الأوّل بدأت الدعوة، وفي الثاني يتجدّد الدين بعد اندراسه.

إنّه إشارة إلى صلاة العصر، لكونها هي الصلاة الوسطى التي خُصّت بالذكر من بين الصلوات جميعاً في قوله تعالى: ﴿حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى [سورة البقرة، 238].

إنّه إشارة إلى مطلق الزمان، وهو الظرف الذي يتحقّق فيه العمل وهو بدوره منشأ لكل خير وشرّ، كما أنّ ﴿لَعَمْرُكَ [سورة الحجر، 72] إشارة إلى خصوص زمان حياة النبي (ص).

لا يصحّ أن نطلق عنوان الخُسر على ما عدا الإنسان، فإنّ كل المخلوقات من البهائم وغيرها مسخّرة لأمرٍ شاءه خالقها لها، وهي تسير على هداها مصداقاً لقوله تعالى: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [سورة طه، 50] حتى لو كانت لدغة من أفعى، أو نهشة من سبُع ضار.

ولكن هذا العنوان لا ينطبق إلا على الإنسان الذي قد ينحرف عمّا رُسم له من طريق العبودية فيقع في الخُسر كما عبّرت عنه الآية، وبهذا يتنزّل عن مستوى البهائم التي لا خسران في سعيها على كل حال.

إنّ استعمال الحروف في القرآن الكريم تابع لأهداف القرآن ـ شأنها في ذلك شأن الاسم والفعل ـ والمتمثّلة في تربية الإنسان تربية ربّانية، وهذا لا يتمّ إلا بالزجر والتخويف والوعد والوعيد؛ كل ذلك بحسب مقامه!

والملاحظ في هذه السورة ـ بناء على هذه القاعدة في الحروف ـ أنّ الله تعالى يعبّر عن الإنسان بأنّه ﴿لَفِي خُسْرٍ فكأنّه يشبّه الإنسان بمظروف منغمس في إناء الخُسر، فيحيطه الخُسر في كل مكان إحاطة ماء الإناء بما فيه، وهذه مبالغة في بيان الخسارة، ويا لها من مبالغة!

إنّ الخُسر ـ كما فُسِّر في اللّغة ـ هو انتقاص رأس المال، ومن المعلوم أن رأس مال الإنسان يتمثّل في عمره، وهو في انتقاص دائم منذ أن ولدته أمّه، وهذه حقيقة بديهية.. فما تحوّل منه إلى زادٍ في آخرته، فإنّه رأس مال ينتقل من عالم إلى عالم آخر، فلا خُسر في البين أصلاً.

وأمّا لو فنيت ساعات العمر في ما يُسخط الله تعالى، ليشمل ساعات المعصية وترك الواجب؛ بل في غير ما يرضيه ليشمل ساعات الغفلة واللّهو؛ فإنّه هدرٌ لهذا المال لا نقلٌ له.. فكم هي بديهية الخسران المدلول عليه في هذه الآية؟!

إنّ هناك آثاراً جليّة للإيمان والعمل الصالح ـ ويجمعها جميعاً عنوان النجاة من الخُسر ـ فمنها أن يحيا الإنسان حياة طيبة في الدارين لقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [سورة النحل، 97]، والودّ عند الخالق والمخلوق ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا [سورة مريم، 96]، والدخول في الرحمة الإلهيّة ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ [سورة الجاثية، 30].

إنّ النتائج في عالم الطبيعة لا تتحقّق إلا بعد اجتماع جميع مقدّماتها؛ كالإحراق المستلزم لوجود النار والحطب وانتفاء مانع الإحراق، والأمر كذلك في عالم الأرواح فإنّ الفوز فيه أيضاً لا يتحقّق إلا من خلال اجتماع هذه العناصر جميعاً، وهي: ﴿آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا، فأيّ خلل في أيّ من هذه المقدّمات يوجب الخسران.

وعليه، فإنّ الذي آمن وعمل صالحاً بإطلاق الكلمة، ولكنّه ترك التواصي بالحقّ والصبر؛ فإنّه أخلّ بركن من أركان الخروج من الخسران.

ومن هنا، فلا ينبغي لأهل العبادات في الخلوات، والتاركين لأمر إصلاح العباد أن يُعجبوا بأعمالهم؛ لأنّه لا فرق في تخلّف الأثر عند ترك أيّ جزء من أجزاء ذلك المركب، كما في مثال الإحراق.

كما أنّ هناك خسراناً وربحاً نسبيّين في تجارة الدنيا: فيُعدّ أحدهم رابحاً قياساً لخاسر آخر، وخاسراً قياساً إلى رابح أكبر، فكذلك الأمر في تجارة الآخرة: فمَن يعمل ببعض الصالحات ويترك بعضها الآخر ـ كفسّاق المؤمنين ـ فإنّه لا يحقّق الفوز الأكمل، بل هو في خُسر نسبيّ قياساً إلى تارك جميع الصالحات، وهذا الاعتقاد من الممكن أن يحثّ البعض على العمل بباقي الصالحات، ليخرج من هذا الخُسر النسبيّ إلى فوز أكمل!

ولا يخفى أنّ هذه النسبية لا تتأتّى في الإيمان، فمن له خلل في أصل إيمانه كمنكر النبوّة ـ مثلاً وإن اعتقد بالتوحيد  ـ فإنّه لا يُعدّ فالحاً أبداً، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء، 150-151].

إنّ هناك فرقاً بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين التواصي بالحقّ المأمور به في هذه السورة، فالأوّل قد يكون واقعاً بين المؤمن والفاسق، كما قد يكون جهة واحدة: فهناك فرد آمر وناه، وهناك فرد آخر مأمور ومنهيٌّ.

ولكنّ التواصي قد يكون بين المؤمنين أنفسهم، بل قد يكون بين خواصّهم، فكل واحد منهم آمر ومأمور في الوقت نفسه، وذلك لأنّ العبد مهما بلغ من الكمال فإنّه بحاجة إلى من يذكّره، والله تعالى هو القائل: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات، 55].

ومن الممكن القول في هذا المجال: إنّ التواصي له شعبتان:

شعبة تتعلّق بما يرتبط بالعلاقة مع الخالق، ويناسبه التواصي بالصبر على الطاعة والمعصية والبلاء.

وشعبة تتعلّق بالعلاقة مع المخلوق، ويناسبه التواصي بالحقّ لئلا يضيع حقٌّ من أيّ ذي حق.

إنّ النجاة من الخُسر تحتاج إلى عناية من الله تعالى؛ وذلك أنّ كل آنٍ من آنات الحياة لهي مفردة يمكن أن تتّصف بالفوز أو الخسران، وأنّ العبد مهما بالغ في المراقبة والمحاسبة، فإنّه لا يمكنه الانفلات من الغفلة في جميع هذه الآنات وخاصّة مع الشياطين المتربّصة بقلب بني آدم والحائمة حوله، والتي تلتقمه بمجرّد الغفلة عن الذكر، وتخنس عند ذِكره لربّه كما يفهم من بعض الروايات، ومن هنا لزم تحقّق الفضل المتوجّه إلى العبد ليبطل أثر هذه الغفلة، فإنّ وجود بعض آنات الغفلة يحقّق عنوان الخسر ولو بلحاظ تلك الآنات القليلة.

ولذا، جاءت هذه الآيات مؤكّدة على هذه الحقيقة ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة النساء، 83﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ [سورة النور، 21﴿فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة، 64].

ومن المعلوم أنّه بموازاة هذا الفضل الإلهي في دفع الخسران، هناك التواصي بين العباد لدفع ذلك أيضاً، وهو ما ورد ذكره في هذه السورة.

ما من شكٍّ أنّ التواصي بالحقّ والصبر يندرج تحت العمل الصالح، ولكنّه خُصّ بالذِكر في هذه السورة لأنّه يوجب تخفيف الخسران في الأعمار، وهو أفدح من الخسارة في الأموال!

كما أنّ التواصي بالصبر يندرج ضمن التواصي بالحقّ، إلا أنّه خُصّ بالذكر لما في الصبر أيضاً من ضمان لتقبّل الوصية بالحقّ، فإنّ الوعظ والوصية ثقيلة على نفوس العباد، وذلك لمنافاتها لمقتضى إنّية النفس وعدم الاعتداد برأي الغير.

إنّ هذه السورة القصيرة تبيّن لنا فلسفة الوجود برمّتها، وذلك بالإشارة إلى:

حركة الإنسان في الحياة، وإنّها في خُسر مستمرّ رغم أنّ ظاهر حركته هو التقدّم والنموّ.

إنّ الخروج من هذا الأصل الأوّلي، لا يكون إلا بالقرْن بين الإيمان والعمل الصالح في علاقة الإنسان مع نفسه.

إنّه لا بُدّ من القرن بين التواصي بالحقّ والتواصي بالصبر؛ ليُضاف إلى وازعية دعوة الأنبياء للأمّة وازعية الفرد لنفسه، ثمّ وازعية المجتمع بعضهم لبعض، وبذلك يتحقّق التكامل البشري.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1877
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24