• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 105 ـ في تفسير سورة الفيل .

105 ـ في تفسير سورة الفيل

 العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

 

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5).

1 ـ إنّ التعبير بـ ﴿أَلَمْ تَرَ بدلاً من (ألم تعلم) للدلالة على وضوح الأمر إلى درجة وكأنّه يُرى بالحواسّ الظاهرة، ومن المعلوم أنّ واقعة الفيل زامنت ولادة النبيّ (ص) فكأنّها ـ لتحقّق وقوعها ـ صحّ أن يُستفهم عنه وكأنّه عاصرها ورآها بعينه!

وهذا التعبير يناسب غرابة هذا الحدث، وسنخ عقوبة أصحابه بما لم يمرّ نظيره في التاريخ، فلزم مثل هذا الاستفهام التقريري، وهو ما ورد في القرآن الكريم تارةً بالنسبة للمحسوسات الواضحة عند البشر ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [سورة الحج: الآية 63] وتارةً للأمور الخافية عنهم كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الْأَرْض [سورة الحج: الآية 18].

والمطلوب عموماً هو أن يصل العبد إلى درجة انكشاف الحقائق الغيبية له كانكشاف الحقائق الشهودية لديه.

2 ـ إنّ الله تعالى في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ يطلب من المخاطب أن يتأمّل في كيفية الفعل لا في أصل صدوره ؛ فإنّ النظرة البلهاء لما جرى من إهلاك أصحاب الفيل، لا تستتبع في حدّ نفسها تأثّراً واعتباراً، حيث إنّ الناظر غير الناطق يشترك مع الناطق في أصل رؤية الأفعال.

ولكنّ المطلوب من ذوي الألباب هو التحليل والتجزئ، وتسرية الحكمة فيما جرى إلى ما سيأتي، وهو الهدف الأساس من نقل قصص الغابرين كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ سيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبين [سورة الأنعام، 11] فجاء الأمر بالسير أوّلاً، ثمّ النظر ثانياً، ثمّ الاعتبار بكيفيّة العواقب ثالثاً.

3 ـ ورد التعبير بالربّ مسنداً إلى المخاطبين من الأنبياء وغيرهم في القرآن الكريم في أكثر من مئتي مورد، مع إنّه تعالى منسوب إلى الوجود برمّته وهو الأوفق بمقام الربوبية، فإنّ النسبة إلى الكل أوجه من النسبة إلى الجزء، ولا يُعدل عن ذلك إلا لوجه وجيه، ومنها ما في مثل هذه السورة، فإنّ المقام فيها ذِكر لعظمة الربّ المنتقم من أعدائه بما لا يخطر على بال أحد، فكانت نسبة الربّ بهذه الصفة القاهرة إلى النبي (ص) من موجبات تثبيت فؤاده ومن معه من المؤمنين.

ولا يخفى ما فيه أيضاً من الدلال ؛ لأنّ توجيه الخطاب ـ من بين كل الموجودات ـ إلى نفسه الشريفة، فيه من اللّطف والعزّة ما يزيل عنه كل هموم الدعوة إلى الله تعالى.

4 ـ إنّ كلمة الصاحب تُطلق عادةً في موارد التجانس في الخلقة ؛ كالإنسان مع بني جنسه: سواءً اتفق معه في ملّته ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ﴾ [سورة القمر، 29] أو كان مجانباً له في ذلك ﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وهُوَ يُحاوِرُه [سورة الكهف، 37] ولكن إطلاق الصحبة على غير العاقل في علاقته بالإنسان ﴿بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ لا تصحّ إلا للدلالة على معنى بليغ، وهو المراد في هذه السورة: حيث إنّ راكب الفيل لطغيانه صار كمثل ذلك الحيوان في بطشه، بفارق أنّ الأوّل أراد هدم البيت عن قصد وعمد، والثاني أراد ذلك بمقتضى خلقته التي خلقها الله تعالى عليه وذلّلها لعباده، وإن قيل: إنّها أبت هدم البيت.

5 ـ إنّ التعبير بـ﴿بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ يُشعر بأنّ معتمد هؤلاء الطغاة على أسبابهم المادية، ومنها اصطحابهم للفيلة الجامعة بين القوّة والهيبة ؛ فكان ركونهم إليها مصحّحاً لإطلاق أنّهم أصحابها.

والحال بأنّ معتمد المؤمنين في سرّائهم وضرّائهم على العزيز المقتدر، وهو مفاد قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [سورة محمد، 11] وشتّان بين مولى حقيقيّ يدافع عن أوليائه، وبين من لا مولى له، أو له مولى لا مولوية له!

6 ـ إنّ التعبير عن فعل الكفار بالكيد ـ كما ورد بالنسبة إلى أبرهة وجنوده ـ يُشعر بحالة من الخبث الباطني ؛ لأنّ الكيد هي المواجهة بحيلة وغدر، خلافاً للمواجهة العلنية في الميدان، وبهذا كان قبح الفعل فيه أشنع!

ومنه يُعلم أنّ الأمر لم ينحصر في هدم البيت، بل كان لهم من خبث النوايا ما لا يعلمه إلا الله تعالى ومنها: ما عُلم من أنّهم أرادوا تحويل زائري البيت الحرام إلى كعبة مضاهية له، بناها أبرهة في اليمن.

7 ـ إنّ مكر الكفار ليس بالأمر الهيّن حيث يصفه القرآن الكريم قائلاً: ﴿وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [سورة إبراهيم، 46] وهو لشدّته ممّا قد يوقع الوهن والخوف في نفوس المؤمنين، فكان لا بُدّ من ذِكر ما يُزيل هذا الوهن كقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر، 14] و﴿إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج، 38] و﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ويُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمد، 7] و﴿قَدْ مَكَرَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِد [سورة النحل، 26] و ﴿وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ [سورة فاطر، 10].

ومنها ما في هذه السورة: من أنّ مكرهم في تضليل؛ أي: في ضياع لا يصل إلى هدفه، فلا تجري الأمور على وفق مرادهم رغم دقّة مكرهم، كما أنّ دعاءهم في نار جهنم أيضاً لا يصل إلى هدف الإجابة لقوله تعالى: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾ [سورة الرعد، 14].

والملفت هنا: إنّ الضلال نُسب إلى فعلهم، وقد ورد التعبير نفسه بالنسبة إلى ذواتهم وذلك في قوله تعالى: ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة، 7] فالضال لا يترشّح منه إلا الضلال: في الفعل والقول، وفي الحال والمآل معاً.

8 ـ لقد جمع القرآن الكريم في هذه السورة بين تعبيرين تنحلّ بهما عقدة نسبة الأفعال إلى غير الله تعالى في جنب نسبته إليه، وذلك بالتفريق بين الأصيل والوكيل، إذ إنّ الله تعالى يسند ـ في أوّل السورة ـ الفعل إلى نفسه قائلاً: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ ثمّ يردفه بالقول: ﴿تَرْمِيهِمْ فيسند الفعل إلى الطير، ومن المعلوم أنّه لا منافاة بين التعبيرين، لعدم المنافاة بين الوكيل والأصيل، وهذه القاعدة تسري في كل الموارد التي يحقّق فيها العبد فعلاً بإذن الله تعالى، ومنها قوله تعالى: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [سورة الزمر، 42] والذي يجتمع مع قوله تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [سورة السجدة، 11] بل إنّ الأمر أصرح في قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى [سورة الأنفال، 17] فصار التصريح بنفي أثر الفعل أصالة من الرامي، وإن صدر منه الفعل.

ومن مجموع ما ذُكر: ترتفع الغرابة فيما يصدر من عباد الله الصالحين من غرائب الأمور، فإنّها بمنزلة ﴿تَرْمِيهِمْ بعد ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ.

9 ـ إنّ هناك مقابلة طريفة بين الفيل والطير الأبابيل ـ وهي الجماعات المتفرّقة من ذلك الطير المهاجم ـ فصارت المقابلة بين طائر صغير وبين أكبر الحيوانات السائرة، فلم يشفع لها كبَر حجمها ولا ما عليها من الجنود المجنّدة، ما دامت المشيئة الإلهية استقرّت على الإهلاك.

وفي هذا أيضاً درس في جميع المواجهات بين المؤمنين وغيرهم طوال التاريخ، فلا ينبغي الاعتداد بعددهم وعدتهم، إذا أراد الله تعالى إهلاكهم بأبسط الأسباب كالريح، والصاعقة، والطير.

10 ـ إنّ قريشاً كانت عاكفة على عبادة الأصنام منذ زمن بعيد، وهذا الموقف الاعتقادي ليس بأقلّ من الموقف الخارجي من إرادة هدم البيت، ومع ذلك لم ينزل عليهم مثل هذا العذاب، ولعلّ الفارق في الأمر هو تحدّي أصحاب الفيل لصاحب البيت لا عن جهل وقصور، أضف إلى أنّ الأمر تعدّى إلى حقوق المخلوقين أيضاً ـ ولو كان فيهم من العصاة ـ وذلك لأنّهم في حمى الأمن الإلهي، فكانت لهم حصانة بذلك، فكيف وفيهم من العباد الصالحين كعبد المطلب، الذي فوّض أمر البيت لحاميه قائلاً:

لا هُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْنَعُ رِحلَهُ فَامنَعْ حَلاَلَكْ

 

 

لا يغلِبَنَّ صَليبُهُم وَمُحَالُهُمْ عَدْواً محَالَكْ

     

11 ـ إنّ الرمية المُهلكة التي قامت بها الطير لم تكن بالأمر الهيّن البسيط، فمن أين جاءت بالسجّيل؟!.. وكيف سدّدت رميتها بما جعلتهم كالعصف المأكول؟!.. ومن أين خرجت هذه الأسراب، وإلى أين عادت؟!

ومن مجموع هذه التساؤلات نعلم أنّ هناك شعوراً والتفاتاً بإلهام من الله تعالى لهذه الموجودات، شأنها في ذلك شأن باقي الطيور التي وصفها الله تعالى قائلاً في كتابه الكريم: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ﴾ [ سورة النحل، 79].

وكم من القبيح بعدها أن يكون الطير مسخّراً لله تعالى، دون ابن آدم الذي يتمرّد على ربّه متحدّياً له!

12 ـ إنّ الهجوم على البيت وهدمه لم يتوقّف على جلب الفيلة إلى أرض مكة، إذ كانت تغنيهم إغارة الخيول ثمّ الهدم بالمعاول مثلاً، ولكن القوم أرادوا إدخال الرعب في قلوب أهل مكة، بحيوان لم يألفوه من قبل ألا وهي الفيلة، وهذا يدخل في سياق الحرب النفسية المعهودة في الحروب.

ولكنّ الله تعالى أهلك جند الكافرين ؛ مع ما كان لهم من قوى غير مألوفة لإرعاب أهل مكة، ولهذا لا ينبغي الاعتداد بما هم عليه من القوّة ما دام الاعتقاد قائماً على أن ﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [سورة البقرة، 165] وهذا سارٍ في العصور جميعاً.

13 ـ إنّ الانتقام الإلهيّ في الدنيا متناسب مع عظمة الجريمة، حيث ينوّع الله تعالى أنواع العقاب في قوله تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [ سورة العنكبوت، 40] وكان حاصل العذاب أنّ الأبدان المُعذّبة كانت تأخذ أشكالاً مختلفةً: فمنها ما كانت كالنخلة المقتلعة من الأرض كما يقول تعالى: ﴿فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ﴾ [سورة الحاقة، 7] ومنها من مات أصحابها في داره بلا حراك ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ [سورة الأعراف، 78].

ولكن عندما يصل الحديث إلى أصحاب الفيل، فإنّه تعالى يذكُرهم بوصفٍ لا نظير له؛ أي: ﴿كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ وهو قشر الزرع الذي تعصف به الرياح بعدما أُكل حبّه أو أكلته الدودة، فلا تبقى له باقيه وهذا خلافاً لمن مات جاثماً في داره.

ولعلّ السرّ في هذه العقوبة النادرة ـ حين نزول العذاب وبعد العذاب ـ هو ما كان عليه جيش أبرهة، من التحدّي لقدسيّة بيته الحرام، فأزال الله تعالى وجودهم كما حاولوا هم إزالة رمز توحيده.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1875
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 17
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24