• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : تفسير القرآن الكريم .
              • القسم الفرعي : تفسير الجزء الثلاثين .
                    • الموضوع : 108ـ في تفسير سورة الكوثر .

108ـ في تفسير سورة الكوثر

 سماحة العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ

 1- إنّ هذه السورة القرآنية، وهي من أصغر سور القرآن الكريم، لا تختلف في سبكها وسياقها عن باقي السور الطوال، فيشملها التحدّي المذكور في القرآن ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة يونس: 38]، وهذه صورة من صور الإعجاز في القرآن الكريم، حيث إنّه تحدّى أفصح فصحاء العرب للإتيان بثلاث آيات كما في هذه السورة .

2- تميّزت هذه السورة في أنّها استعملت مفردات لم يتكرّر مثلها في القرآن الكريم من "الكوثر" و"النحر" و"الشانئ" و"الأبتر".. وحقّ للنبي (صلّى الله عليه وآله) أن يميّزه الله تعالى بسورة متميّزة من حيث المفردات المستعملة فيها، وعلى رأسها مفردة ﴿الْكَوْثَرَ الدالّة على كلّ خير كثير.

3- إنّ القرآن الكريم في منتهى الدقّة والحكمة في كلّ استعمالات الألفاظ فيه، ومنه استعمال ضمير المتكلّم العائد إلى ذات الجلالة: فتارة يأتي بصيغة المفرد؛ كقوله تعالى: ﴿أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [سورة الحجر: 49]، وكقوله: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ [سورة البقرة: 186]، المُشعر بالقرب من العبد، وفيه مقتضى المؤانسة والدلال، كما هو واضح في خطاب الله تعالى لموسى (عليه السلام): ﴿إِنَّني‏ أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْني‏ وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري [سورة طه: 14]، وتارة يأتي بصيغة الجمع، وهي في مفتتح أربع سور من القرآن الكريم وهي: ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [سورة الفتح: 1]، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [سورة نوح: 1]، ﴿إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر: 1]، ﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ، ويجمعها عظمة الفعل المسند إلى الله تعالى من: الفتح المبين، وإرسال أوّل نبي من اُولي العزم ـ هو الأب الثاني للبشر ـ ، وإنزال خاتم الكتب السماوية، والامتنان بالكثير من الخير.. وبينها أيضاً ما لا يخفى من الترابط؛ فالحديث عن: رسالة اُولي العزم، والكتاب الإلهي، والعترة المعادلة له، والظفر الخارجي الضامن لنجاح الدعوة.

4- إنّ الإكرام قد يتمّ من دون تمليك في البين، كما لو سلّط المكرم أحدهم على المنفعة دون العين، ولكن الإعطاء هنا ظاهر في التمليك، وفيـه تمام الإكرام، أضف إلى أنّ إضافتـه إلى المخاطب ﴿أَعْطَيْناكَ؛ وهو النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، يُشعر بأنّ لوجوده الشريف خصوصية في هذا العطاء، فاستحقاقه للكوثر دخيل أيضاً في هذا العطاء؛ لأنّ قابلية القابل موجب لفاعلية الفاعل أيضاً.

5- تعددّت الآراء في تفسير ﴿الْكَوْثَرَ إلى درجة عجيبة؛ أنهاه بعضهم إلى ستة وعشرين معنى، والذي يجمعها جامع الخير الكثير؛ ولكن الأوفق لسياق السورة هي "الذرّية الكثيرة" لمقابلتـه بـ﴿الْأَبْتَرُ كجـزاء لمن اتّهم النبي (صلّى الله عليه وآله) بأنّه عديم العقب، وللأمر بنحر الناقة ـ على تفسير ـ وهو المناسب لتقديم الأضحية عند رزق الذرّية.. ولا يخفى أنّ هذه السورة من موارد الإخبار بالغيب، وهو ما يعبّر عنه بملاحم القرآن الكريم؛ لأنّ هذه البشارة جاءت في مكّة، والنبي (صلّى الله عليه وآله) غريب قلّ ناصروه!.. والحال أنّ شانئه كان صاحب شأن وجاه، والواقع الخارجي شاهد على صدق هذه النبوءة القرآنية شأن باقي النبوءات، فلم يحفظ نسل أحد في التاريخ كما حفظ نسل النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله).

6- إنّ الإبهام في كلمة ﴿الْكَوْثَرَ ـ الذي أوقع المفسّرين في هذا الاختلاف ـ قد يُراد منه بيان سعة دائرة هذا الخير الكثير، فقد ذهبت الأقوال إلى مدى بعيد، بدأ من التفسير بـ"علماء الاُمّة" إلى القول: بإنّه "نهر في الجنّة"، وهذه هي عادة القرآن الكريم في إبهام بعض الكلمات: لتحريك العقول من ناحية، وإرجاعها أخيراً إلى متمّم القرآن، والمتمثّل بالعترة الطاهرة.

7- شاءت الإرادة الإلهيّة أن يجعل الخير الكثير متحقّقاً في ذرّية النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) من خلال ابنته فاطمة (عليها السلام)، وذلك في زمان كانت الاُنثى مظهراً للشؤم، ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [سورة النحل : 58] .. كما شاء أن يجعل كلمته وروحه المسيح (عليه السلام) من خلال اُنثى كمريم البتول (عليها السلام)، وفي هذا درس بليغ: أنّ البركات متوجّهة لعالم الأرواح، وأنّ الاُنوثة والذكورة من سمات عالم الأبدان التي لا خصوصية لها في تلقّي الفيض الإلهي.

8- إنّه من الممكن جعل هذه السورة استجابة للوعد الإلهي في سورة "الضحى" ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى‏ [الآية: 5]؛ لأنّ الإتيان بسورة كاملة للوعد بإعطاء ﴿الْكَوْثَرَ يُفهم منه: أنّ هناك أمراً مهمّاً ينتظر النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) وبه يكون تمام سروره ورضاه.. ولا شكّ أنّ عطيّة فاطمة (عليها السلام) فيها رضا رسول الله تعالى لتجلّي آثارها في الدنيا: ذرّية كثيرة، وفي الآخرة: شفاعة لهذه الاُمة.

9- إنّ الله تعالى عندما أنعم على نبيّه (صلّى الله عليه وآله) بفتح مكّة؛ أمره بالتسبيح والاستغفار ﴿ورَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ [سورة النصر: 2-3]، كنوع من أنواع الشكر للمنعم الفاتح، ولكن عندما أنعم عليه بنعمة ﴿الْكَوْثَرَ؛ أمره بالصلاة بما فيها من التسبيح والاستغفار ﴿فَصَلِّ.. وبهذا يُعلم ما لهذا ﴿الْكَوْثَرَ من أثر في دخول الناس في دين الله أفواجاً في كلّ العصور، لا في زمان فتح مكّة فحسب!..

10- إنّ صلاة النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يُعقل أن تكون لغير الرّب، ومع ذلك فإنّ الآية أكّدت على جهة هذه الصلاة، وأنّها مختصّة بالله تعالى، فكلّ عمل ـ وإن كان عظيماً صادراً من عظيم ـ إذا لم يكن لوجه العظيم؛ فهو حقير لا وزن له.

11- إنّ هناك مقابلة بين سورة "الكوثر" و"التكاثر"، رغم أنّهما من اشتقاق واحد: فالكثرة في الاُولى توجب العبادة ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ، وفي الثانية توجب الالتهاء عن ذكر الله تعالى ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [سورة التكاثر: 1].. وفي الاُولى: بشارة واضحة بإعطاء الكوثر، وفي الثانية: تهديد صريح بـ ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [سورة التكاثر: 3-4].. وفي الاُولى: فإنّ الدعوة إلى الصلاة تسوق عبده إلى محاريب العبادة، وفي الثانية: فإنّ الكثرة تسوقهم إلى المقابر لتعداد الموتى من العشيرة ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ [سورة التكاثر: 2].

12- إنّ هناك ارتباطاً واضحاً بين ﴿أَعْطَيْناكَ و﴿فَصَلِّ، فاستذكار العطيّة الإلهيّة موجب للصلاة بين يديه، وهو ممّا يورث الخشية والخشوع، وهذا سبيل من سبل الإثارة الباطنية للعباد ﴿فَصَلِّ كلّما رأوا في أنفسهم إدباراً، كما إنّه سبيل من سبل دعوة العباد إلى الله تعالى بتذكيرهم بالنعم، مقدّمة للدعوة إلى الطاعة، فقد ورد في الحديث القدسي: (أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى (عليه السلام) حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، وَحَبِّبْ خَلْقِي إِلَيَّ. قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَفْعَلُ؟.. قَالَ: ذَكِّرْهُمْ آلَائِي وَنَعْمَائِي لِيُحِبُّونِي).

13- إنّ إسناد الرّب إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) في ﴿لِرَبِّكَ، فيه إشعار بأنّ التفضّل الإلهي الذي ذُكر في هذه السورة وغيرها إنّما هو من رشحات الربوبية؛ فلولا تعهّد ربّ العالمين برفع ذكر حبيبه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) لمّا وقعت هذه الكرامة الممتدّة طوال العصور.. فقد ذكر الرازي في تفسير ﴿الْكَوْثَرَ أنّه أولاده، ثم عقّب قائلاً: لأنّ هذه السورة إنّما نزلت ردّاً على من عابه (عليه السلام) بعدم الأولاد، فالمعنى: أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مرّ الزمان، فانظر كم قُتل من أهل البيت، ثمّ العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني اُميّة في الدنيا أحد يُعبأ به!.. ثمّ انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء: كالباقر، والصادق، والكاظم، والرضا (عليهم السلام)، والنفس الزكيّة، وأمثالهم!..

14- إنّ هذه السورة على اختصارها في ثلاث آيات، خاطبت النبي (صلّى الله عليه وآله) خمس مرّات بضمير الخطاب الظاهر، ﴿لِرَبِّكَ، والمستتر ﴿وَانْحَرْ، فكأنّ محور السورة هو النبي (صلّى الله عليه وآله) وإن كان المراد بيان نعمة ﴿الْكَوْثَرَ مقابل ما ذكره شانئُه.

15- إنّ تفسير ﴿انْحَرْ بنحر الناقة ـ على تفسير أنّ المراد هي الأضحية في العيدين أو مطلقاً ـ تدلّ على الارتباط المتحقّق في مجمل القرآن الكريم بين: أداء حقّ الخالق والمخلوق، كما هو الملاحظ في الأمر بالصلاة والزكاة، وكالنهي عن السهو عن الصلاة، ومنع الماعون.. وعليه، فإنّ شكر نعمة ﴿الْكَوْثَرَ تكون: تارة بالصلاة، وتارة بإطعام المساكين، فلا يغني أحدهما عن الآخر، كما لا يُغني الشكر اللّفظي أو القلبي المجرّد عنهما.

16- إنّ الأمر بالنحر ـ على تفسير أنّه رفعُ اليدين إلى النحر عند تكبيرة الإحرام ـ بعد الأمر بالصلاة، يُشعر بأهمّية هذا الجزء الركني من الصلاة؛ فهو أوّلاً: يقارن بدء الدخول في الحرم الإلهي عند العروج بالصلاة، وثانياً: يشتمل على ذكر من أهمّ الأذكار، فإنّ غاية المدح الإلهي تتمثّل في العجز عن الوصف والمدح؛ وهو معنى التكبير.

17- إنّه من الممكن القول: إنّ من أفضل العطايا الإلهيّة لعبده؛ هي الذرية الصالحة، ومن أفضل صور الشكر؛ هي الصلاة بين يديه متّصلاً بتلك النعمة، لما يدل عليه حرف الفاء ﴿فَصَلِّ، وتقديم الأضحية متقرّباً إليه تأسّياً بما أمر الله تعالى نبيّه (صلّى الله عليه وآله) ﴿وَانْحَرْ.

18- إنّ الله تعالى ما ترك مناسبة إلا ودافع فيها عن نبيّه الأكرم (صلّى الله عليه وآله)؛ إذ هو المدافع عموماً عن المؤمنين ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج: 38]؛ فكيف بحبيبه المصطفى؟!.. فقد اتّهموه بالجنون؛ فدافع عنه ربّه قائلاً: ﴿ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [سورة القلم: 2]، ونفوا عنه الرسالة ﴿لَسْتَ مُرْسَلًا [سورة الرعد: 43]؛ فدافع عنه قائلاً: ﴿اِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [سورة يس: 3]، ونسبوا إليه الشعر ﴿لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [سورة الصافات: 36]؛ فدافع عنه قائلاً: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [سورة يس: 69]، ومنه ما في هذه السورة إذ نسبوا إليه عدم العقب؛ فدافع عنه قائلاً: ﴿إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [سورة الكوثر: 3]، ولم يتوقف الأمر إلى حدّ القول؛ بل إنّ الله تعالى أبان للجميع في مقام العمل صدق هذا الوصف.

19- إنّ المجازاة الإلهيّة متناسبة مع فعل العبد، فمن اتّهم النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بأنّه أبتر لا عقب له ـ وخاصّة بعد موت ولده القاسم وعبدالله ـ لا بدّ وأن يكون جزاؤه من سنخ استهزائه؛ ألا وهو "البتر" المُفسّر بـ"من لا دين له ولا نسب"، وهو المتحقّق خارجاً: فلم يُرفع لهم ذكر، ولم تبق لهم باقية؛ بخلاف من: رفع الله ذكره، وأعطاه نسلاً مباركاً إلى يوم القيامة.

20- إنّ كلّ عمل ذي بال لا ينتسب إلى الله تعالى، فهو أبتر سواء كان في علاقة العبد مع ربّه: كالصلاة، أو مع غيره: كنحر الأضاحي، فتوسّطت كلمة ﴿لِرَبِّكَ بين ﴿فَصَلِّ و﴿انْحَرْ، كما توسّطت في بيان الجانب السلبي كلمة ﴿يُرَاؤُونَ بين ﴿صَلاتِهِمْ و﴿يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [سورة الماعون: 5-7].. وعليه، فإنّ الرياء يمحق كلّ عمل، كما إنّ الإخلاص يربّي كلّ طاعة.

21- إنّ التهديد ببتر الشانئ ـ وكأنّه هو الوحيد الذي لا عقب له باستعمال ضمير الفصل الدالّ على التأكيد أو الاختصاص ـ لا يختصّ بشانئ بعينه، فإنّ مورد النزول لا يخصّص الوارد، فكلّ مبغض للنبي (صلّى الله عليه وآله) مصيره إلى البتر والانقطاع في كلّ العصور، وخاصّة أنّ التعبير باسم الفاعل لا الفعل الدالّ على ثبوت الجزاء لصاحب تلك الصفة في كلّ الأحوال.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1871
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24