• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : قصص الأنبياء (ع) .
                    • الموضوع : أوّل لقاء مع فرعون الجبار .

أوّل لقاء مع فرعون الجبار

آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (حفظه الله)

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [سورة طه: 42-48].

الآن وقد أصبح كلّ شيء مهيّأ، وكلّ الوسائل قد جعلت تحت تصرّف موسى، فقد خاطب الله سبحانه موسى وهارون بقوله: اذهب أنت وأخوك بآياتي، التي تشمل المعجزتين الكبيرتين لموسى (عليه السلام)، كما تشمل كلّ آيات الله وتعليماته التي هي بذاتها دليل على أحقّيّة دعوته، خاصّة وأنّ هذه التعليمات العظيمة المحتوى ظهرت على يد رجل قضى أهم سنيّ حياته في (رعي الأغنام)!

ومن أجل رفع معنويّاتهما، والتأكيد على بذل أقصى ما يمكن من المساعي والجهود، فقد أضاف سبحانه قائلاً: {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} وتنفيذ أوامري، لأنّ الضعف واللّين وترك الحزم سيذهب بكلّ جهودكما أدراج الرياح، فاثبتا ولا تخافا من أيّ حادثة، ولا تهنا أمام أي قدرة.

بعد ذلك، يبيّن الهدف الأصل لهذه الحركة، والنقطة التي يجب أن تكون هدفاً لتشخيص المسار، فيقول: اذهبا إلى فرعون إنّه طغى، فإنّه سبب كلّ الشقاء والتعاسة في هذه المنطقة الواسعة، وما لم يتمّ إصلاحه فسوف لا ينجح أيّ عمل؛ لأنّ عامل تقدّم الاُمّة أو تخلّفها، سعادتها أو شقائها وبؤسها هو قادتها وحكامها، ولذلك يجب أن يكونوا هدفكما قبل الجميع.

صحيح أنّ هارون لم يكن في ذلك الحين حاضراً في تلك الصحراء، ولكنّ الله أطلعه على هذه الحوادث كما ذكر المفسّرون، وقد خرج من مصر لاستقبال أخيه موسى لأداء هذه المهمّة، إلا أنّه لا مانع مطلقاً من أن يخاطبا معاً، وتوجّه إليهما مأموريّة تبليغ الرسالة، في الوقت الذي لم يحضر غير أحدهما.

ثم بيّنت الآية طريقة التعامل المؤثّرة مع فرعون، فمن أجل أن تنفذا إليه وتؤثّرا فيه فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكّر أو يخشى والفرق بين {يَتَذَكَّرُ} و {يَخْشَى} هنا هو أنّكما إذا واجهتماه بكلام لطيف، رقيق، ملائم، وتبيّنان في الوقت ذاته المطالب بصراحة وحزم، فيحصل أحد الاحتمالين: أن يقبل من صميم قلبه أدلّتكما المنطقيّة ويؤمن، والاحتمال الآخر هو أن يخاف على الأقلّ من العقاب الإلهي في الدنيا أو الآخرة، ومن زوال ملكه وقدرته، فيذعن ويسلم

ولا يخالفكما.

ويوجد احتمال ثالث أيضاً، وهو أنّه لا يتذكّر ولا يخشى، بل سيستمرّ في طريق المخالفة والمجابهة، وقد اُشير إلى ذلك بكلمة (لعل) وفي هذه الصورة فإنّ الحجّة قد تمّت عليه، وعلى كلّ حال فإنّ القيام بهذا العمل لا يخلو من فائدة.

لا شكّ أنّ الله تعالى يعلم عاقبة عمله، إلا أنّ التعبيرات المذكورة آنفاً درس لموسى وهارون وكلّ المصلحين والمرشدين إلى طريق الله.

ومع هذه الحال، فقد كان موسى وهارون قلقين من أنّ هذا الرجل القويّ المتغطرس المستكبر، الذي عمّ رعبه وخشونته كلّ مكان، قد يقدم على عمل قبل أن يبلغ موسى (عليه السلام) وهارون (عليه السلام) الدعوة، ويهلكهما، لذلك قالا ربّنا إنّنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى.

على كلّ حال، فإنّ موسى وهارون كانا مشفقين من شيئين: فإمّا أن يقسو فرعون ويستخدم القوّة قبل أن يسمع كلامهما، أو أنّه يقدم على هذا العمل بعد سماعه هذا الكلام مباشرة، وكلتا الحالين تهدّد مهمّتهما بالخطر.

إلا أنّ الله سبحانه قد أجابهما بحزم، ف‍قال: لا تخافا إنّني معكما أسمع وأرى، وبناءً على هذا، فمع وجود الله القادر معكما في كلّ مكان، الله الذي يسمع كلّ شيء، ويرى كلّ شيء، وهو حاميكما وسندكما، فلا معنى للخوف والرعب.

ثمّ يبيّن لهما بدقّة كيفيّة إلقاء دعوتهما في محضر فرعون في خمس جمل قصار قاطعة، غنيّة المحتوى، ترتبط أوّلها بأصل المهمّة، والثانية ببيان محتوى المهمّة، والثالثة بذكر الدليل والسند، والرابعة بترغيب الذين يقبلونها، وأخيراً فإنّ الخامسة تكفّلت بتهديد المعارضين.

فتقول أوّلاً: فأتياه فقولا إنّا رسولا ربّك، والجميل هنا أنّهما بدل أن يقولا: (ربّنا) فإنّهما يقولان: (ربّك)، ليثيروا عواطف فرعون وإحساساته تجاه هذه النقطة بأنّ له ربّاً، وأنّهما رسولاه، ويكونان قد أفهماه بصورة ضمنيّة أنّ ادعاء الربوبيّة لا يصحّ من أيّ أحد، فهي مختصّة بالله.

ثمّ تقول: فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذّبهم. الصحيح أنّ دعوة موسى لم تكن من أجل نجاة بني إسرائيل من قبضة الفراعنة فقط، بل كانت ـ وبشهادة سائر آيات القرآن ـ تهدف أيضاً إلى نجاة فرعون والفراعنة أنفسهم من قبضة الشرك وعبادة الأوثان. إلا أنّ أهمّية هذا الموضوع، وارتباطه المنطقي بموسى كان السبب في أن يضع إصبعه على هذه المسألة بنفسه؛ لأنّ استغلال واستعباد بني إسرائيل مع كلّ ذلك التعذيب والأذى لم يكن أمراً يمكن توجيهه.

ثمّ أشارت إلى دليلهما ووثيقتهما، فتقول: قولا له: قد جئناك بآية من ربك فإنّا لا نتكلّم اعتباطاً أو جزافاً، ولا نتحدّث من دون أن نمتلك الدليل، وبناء على هذا، فإنّ العقل يحكم بأن تفكّر في كلامنا على الأقل، وأن تقبله إن كان صحيحاً ومنطقيّاً.

ثمّ تضيف الآية من باب ترغيب المؤمنين: {وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}.

وهذه الجملة يمكن أن تشير أيضاً إلى معنى آخر، وهو أنّ السلامة في هذه الدنيا، والعالم الآخر من الآلام والعذاب الإلهي الأليم، ومن مشاكل الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، من نصيب اُولئك الذين يتّبعون الهدى الإلهي، وهذه في الحقيقة هي النتيجة النهائيّة لدعوة موسى.

وأخيراً، فإنّ الله يأمرهما أن يفهماه العاقبة المشؤومة للتمرّد على هذه الدعوة وعصيانها، بقولهما له: إنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى.

من الممكن أن يتوهّم متوهّم عدم تناسب هذه العبارة والحوار الملائم، اللّذين كانا قد اُمرا بهما. إلا أنّ هذا خطأ محض، فأيّ مانع من أن يقول طبيب حريص باُسلوب مناسب لمريضه: كلّ من يستعمل هذا الدواء سيشفى وينجو، وكلّ من يتركه فسينزل به الموت.

إنّ هذا بيان لنتيجة التعامل غير المناسب مع واقع ما، ولا يوجد فيه تهديد خاص، ولا شدّة في التعامل. وبتعبير آخر: فإنّ هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون بدون لف ودوران، وبدون أيّ تغطية وتورية.

قدرة الله العجيبة

لقد رأينا كثيراً ـ على مرّ التاريخ ـ اُناساً أقوياء هبّوا للوقوف بوجه الحقّ، إلا أنّ الله سبحانه لم يستخدم ويعبّئ جنود الأرض والسماء من أجل سحقهم وتدميرهم في أيّ مورد من الموارد، بل إنّه يغلبهم بسهولة وبساطة، وبصورة لا تخطر على ذهن أحد، خاصّة وأنّه في كثير من الموارد يبعث هؤلاء نحو أسباب موتهم، ويوكل مهمّة إعدامهم إليهم أنفسهم!

ونرى في قصّة فرعون هذه، أنّ عدوّه الأصلي ـ أي: موسى ـ قد تربّى في أحضانه، وهو الذي رعاه، ونشأ في كنفه! ومن الطبيعي أنّ ذلك كان بتخطيط الله سبحانه.

والأروع من ذلك أنّ قابلة موسى (عليه السلام) ـ طبقاً لنقل التواريخ ـ كانت من الأقباط، والنجّار الذي صنع صندوق نجاته كان من الأقباط أيضاً، والذين أخرجوا الصندوق من الماء كانوا من حرّاس فرعون، والذي فتح الصندوق كانت امرأة فرعون، واستُدعيت اُمّ موسى من قبل أتباع فرعون لتكون مرضعة له، وكانت مطاردة موسى (عليه السلام) بعد حادثة قتل الرجل القبطي قد تمّت من قبل الفراعنة، وكانت سبب هجرته إلى مدين ليقضي فترة من التعليم والتكامل في مدرسة النبي (شعيب).

نعم، عندما يريد الله سبحانه أن يظهر قوّته فهكذا يفعل، ليعلم كلّ العصاة والمتمرّدين أنّهم أصغر من أن يقفوا أمام إرادة الله ومشيئته.

التعامل المناسب مع الأعداء

إنّ أوّل أوامر القرآن من أجل النفوذ إلى قلوب الناس ـ مهما كانوا ضالّين ومنحطّين ـ هو التعامل المناسب المقترن بالمحبّة والعواطف الإنسانية، أمّا التوسّل بالعنف فإنّه يتعلّق بالمراحل التالية حينما لا يؤثّر التعامل برفق، فالهدف هو جذب الناس ليتذكّروا، وليبصروا طريقهم، أو أن يخافوا من العواقب المشؤومة للعمل السيّئ لعلّه يتذكّر أو يخشى.

إنّ كل عقيدة يجب أن تمتلك جاذبيّة، ولا تبعد الأفراد عنها بدون مبرّر، وقصص ووقائع الأنبياء وأئمّة الدين (عليهم السلام) تبيّن بوضوح أنّهم لم ينحرفوا عن هذا المنهج والمسير أبداً طوال حياتهم.

نعم، من الممكن أن لا تؤثّر أساليب المحبّة واللّطف في القلوب الداكنة عند بعض الناس، ويكون الطريق مقتصراً على استعمال العنف في المكان المناسب، إلا أنّه ليس قانوناً عامّاً وأساسيّاً للبدء في العمل، فإنّ المحبّة هي البداية والمسلك الأوّل، وهذا هو الدرس الذي تذكره لنا الآية آنفة الذكر.

ممّا يلفت النظر أنّنا نقرأ في بعض الروايات: إنّ موسى كان مأموراً بأنّ ينادي فرعون بأحسن أسمائه، فربّما يؤثّر ذلك في قلبه المظلم.

سؤال وجواب

من الممكن أن يتساءل البعض عند قراءة هذه الآيات، وهو: لماذا يقلق موسى ويضطرب ويتردّد مع تلك الوعود الإلهيّة، إلى أن يقول الله سبحانه له بصراحة: اذهبا فإنّني معكما أسمع كلّ الكلام، وأرى كلّ شيء، ولا مجال للقلق مطلقاً؟

ويتّضح جواب هذا السؤال من أنّ هذه المهمّة كانت ثقيلة جدّاً، فإنّ موسى (عليه السلام) ـ الذي كان راعياً للأغنام ـ يريد أن يذهب مع أخيه فقط إلى حرب رجل قويّ مقتدر، ومتمرّد عاصٍ، والذي يحكم بلداً قويّاً في ذلك الزمان. ثمّ إنّ هذه الدعوة تبدأ من دعوة فرعون نفسه، لا أن يذهبا أوّلاً إلى الآخرين ليعدّا الأنصار والجيوش؛ بل يجب أن يقدحوا أوّل شرارة في قلب فرعون، وهذه في الحقيقة مهمّة معقّدة جدّاً، وصعبة للغاية.

إضافة إلى أنّ للعلم والمعرفة درجات ومراتب، فكثيراً ما يعلم الإنسان بشيء يقيناً، إلا أنّه يرغب أن يصل إلى مرحلة علم اليقين والاطمئنان المطلق، كما أنّ إبراهيم مع إيمانه القطعي بالمعاد، فإنّه طلب من الله أن يريه مشهداً من إحياء الموتى في هذه الدنيا، ليطمئنّ أكثر.

مختصر من كتاب: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الآيات الكريمة ـ سورة طه: 42-48

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1729
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 12 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24