• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : أسباب تأخّر تطبيق دولة العدل الإلهي في الأرض .

أسباب تأخّر تطبيق دولة العدل الإلهي في الأرض

أوّلاً: استيعاب النظريّة الإلهيّة

لأنّ البشرية في ذلك الوقت لم تستوعب بَعد النظريّة الإلهيّة المتكاملة للعدل، ولم يحدث فيها المفاسد وسفك الدماء وأشكال الظلم والمشاكل والفظائع التي حدثت في التاريخ فيما بعد على مرّ الدهور والأزمان، فكيف تُطالب البشريّة بتطبيق العدل وهي لا تعرف له معنى؟! فهي لم ترَ الظلم لتعرف الأمر المعاكس له.

فلو قلنا لأحد ـ مثلاً ـ : لا يجوز لك شرب الخمر، وهو لم يرَ خمراً أبداً في حياته ولا يعرف له معنى، لكان طلبنا هذا غير منطقي.

ولهذا السبب أيضاً، تمّ إدخال آدم (عليه السلام) الجنّة فترةً من الزمن ثمّ اُخرج منها، فكان إدخاله فقط ليتعلّم طريقة إغواء الشيطان ويتعرّف على تلبيس إبليس (عليه اللّعنة)، أي: فترة تعليميّة قبل بدء مرحلة التكليف والمحاسبة على الأعمال.

ولذلك، يعتقد الشيعة بعصمة آدم (عليه السلام) وأنّ مخالفته للأمر الإرشادي لم تكن معصية؛ حيث لم يدخل بَعد المرحلة العمليّة، وإنّما قال الله له: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [سورة طه: 117]، أي: بالكدّ في الدنيا والتعب في العمل لتحصيل الرزق، كما نصّت على ذلك أكثر التفاسير بدليل قوله تعالى: {فَتَشْقَى}، ولم يقُل سبحانه: فتشقيا؛ لأنّ الرجل هو الذي تجب عليه النفقة على زوجته، وهو الذي يكدّ على عياله في العادة، ثمّ إنّه من الواضح من الآيات السابقة في سورة البقرة التي تتحدّث عن إخبار الله سبحانه وتعالى الملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة: 30]، أنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم من البداية ليعيش في الأرض لا في الجنّة.

ثانياً: ابتلاء البشر واختبارهم

لأنّ الله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيا دار ابتلاء واختبار للإنسان وأعطاه حرّيّة الاختيار للطريق الذي يريد أن يسلكه في الحياة، وفي الآخرة يُثاب المحسن ويُعاقب المُسيء، فلو أجبر سبحانه العباد منذ البداية على الطاعة والإيمان لانتفت الحكمة من هذا الاختبار، ففي دولة المهدي (عليه السلام) تقلّ فرص الاختيار وتضيق الطرق على الملحدين والمنحرفين، فإمّا أن يهتدي الشخص بمحض إرادته ـ خصوصاً بعد أن يرى دلائل صدق الإمام وعدله ـ أو يُجبر على الإسلام والطاعة رغماً عن أنفه، أو عليه أن يختار الموت بسيف الإمام إذا ما أصرّ على عناده واستكباره، كما قال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة: 33]، وقوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [سورة آل عمران: 83].

فعن أبي عبد الله (عليه السلام) في تفسير الآية السابقة قال: (إذا قام القائم (عليه السلام) لا يبقى أرض إلا نودي فيها بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله) [تفسير العياشي: ج1، ص183].

وعن حذيفة بن اليمان عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم واحد لبعث الله فيه رجلاً اسمه اسمي، وخلقه خلقي، يكنّى أبا عبد الله، يبايع له الناس بين الركن والمقام، يرد الله به الدين ويفتح له فتوحاً، فلا يبقى على وجه الأرض إلا من يقول لا إله إلا الله) [المنار المنيف: ص148، الحاوي للسيوطي ج2 ص63].

كما أنّ الله سبحانه جعل الحياة الدنيا مجالاً للصراع بين الخير والشرّ، فكان لهذا جولة، وللثاني جولة اُخرى وهكذا، وحتى الفترات التي انتصر فيها الحقّ بقيادة بعض الأنبياء (عليهم السلام) لم تستمرّ طويلاً؛ إذ أعقبها عصور من الظلم والإفساد، فكان لابدّ ـ إذاً ـ أن تكون الخاتمة للحقّ والعدل، والانتصار للخير في نهاية الصراع، فلا يقوم بعده للشرّ قائمة، فلو كانت دولة الحقّ في منتصف الطريق ثمّ انتهت وجاءت بعدها دول الظلم، فلا معنى لدولة العدل هذه، وحينئذٍ ستكون جولة فقط في هذا الصراع الدائر بين الحقّ والباطل.

فلابدّ ـ إذاً ـ أن تكون دولة العدل الإلهي هذه في نهاية المطاف وخاتمة للصراع وقبل قيام الساعة، كما قال تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [البيان في أخبار صاحب الزمان: ص528، كشف الغمة: ج3، ص280، ينابيع المودة: ص301].

وعن مقاتـل بن سليمان في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [سورة الزخرف: 61]، قال: (هو  المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون قيام الساعة وأماراتها) [كشف الغمّة: ج3 ص292].

ولقد حرصت أكثر الأحاديث التي تكلّمت عن الإمام المهدي (عليه السلام) على التأكيد بأنّه لا يكون إلا في آخر الزمان، وبعضها بالقول: لو لم يبقَ إلا آخر يوم من الدنيا، وبعضها بالقول: قبل قيام الساعة.

فعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (أبشروا بالمهدي، فإنّه يأتي في آخر الزمان على شدّة وزلازل، يسع الله له الأرض عدلاً وقسطاً) [دلائل الإمامة: ص467. إثبات الهداة: ج7، ص147].

وعن جابر بن عبد الله الأنصاري عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) قال: (المهدي يخرج في آخر الزمان) [غيبة الطوسي: ص178. منتخب الأثر: ص168. إثبات الهداة: ج3 ص502].

وعنه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً قال: (يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي، اسمه كإسمي، وكنيته ككنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً) [تذكرة الخواص ص363. منتخب الأثر: ص182. إثبات الهداة: ج3، ص607].

وعنه (صلّى الله عليه وآله) أيضاً قال: (لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي، أجلى، أقنى، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت قبله ظلماً، يكون سبع سنين) [فرائد السمطين: ج2، ص324. دلائل الإمامة: ص281].

ثالثاً: النضج الفكري

لأنّ البشريّة في ذلك الوقت لم تصل بَعد لمرحلة النضج الفكري، وكانت تسير نحو التكامل الإنساني والتطوّر المستمرّ في الفكر والثقافة وتحصيل العلوم وحصول التجارب، وغير ذلك من التطوّر البشري.

ولذلك، كانت رسالة كلّ نبي من الأنبياء أو الرسل أكثر شمولاً لمتطلّبات الحياة ومتطلّبات العصر من الرسول السابق له، ومكمّلة لرسالته، إلى أن جاء النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) حينما وصلت البشريّة لمرحلة من التطوّر الفكري، بحيث تستطيع أن تستوعب هذا المشروع الإلهي الكبير، فوضع الدستور المتكامل للحياة والذي يمثّل ـ أيضاً ـ دستور الدولة الإلهيّة الموعودة، ونزلت هذه الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سورة المائدة: 3].

وبذلك اُكملت الرسالات السماويّة، ووضعت النظريّة المتكاملة لأهل الأرض، وجاءت رسالة النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) خاتمةً لجميع الرسالات وناسخةً لها جميعاً.

ولعلّ هناك مَن يتساءل: ما دام الدين قد اكتمل، والبشريّة وصلت لمرحلة النضج الفكري عندما جاء النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فلماذا لم تطبّق هذه الحكومة الإلهيّة في حينها على كلّ الأرض؟ وما دام قد وُضع الدستور المتكامل لكلّ البشر؛ فلماذا لم يوضع موضع التنفيذ الفعلي في جميع المعمورة؟ ولماذا يبشّر النبي بالمهدي من ولده في آخر الزمان وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً؟ ولماذا لا يكون النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) هو المنفّذ لهذه الحكومة الموعودة؟

والجواب: إنّ البشريّة في ذلك الوقت ـ واقعاً ـ وصلت لمرحلة النضج الفكري، بحيث تستطيع فهم هذا المشروع الإلهي الكبير، إلا أنّها لم تصل بَعد لإمكانيّة التطبيق العملي لهذا الدستور الكامل في جميع الكرة الأرضيّة، ولم تصل بَعد لمرحلة الاستعداد الحقيقي للتطبيق الفعلي لهذا المشروع.

فعلى سبيل المثال لا الحصر: إذا راجعنا الروايات التالية، نفهم أنّ في زمن المهدي (عليه السلام) لن يكون هناك غني وفقير! فحينما يطبّق العدل على الجميع، سيكون الكلّ غنيّاً، ولا وجود للمحتاجين في ذلك المجتمع المثالي.

فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (يخرج المهدي حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويطاف بالمال في أهل الحواء ـ أي أهل الحي ـ فلا يوجد أحد يقبله) [عقد الدرر في أخبار المنتظر: ص166].

وعنه (صلّى الله عليه وآله) قال: (اُبشركم بالمهدي يبعث في اُمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسّم المال صحاحاً. فقال له رجل: ما صحاحاً؟ قال: بالسوية بين الناس، قال: ويملأ الله قلوب اُمّة محمّد صلى الله عليه وسلم غنى ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً فينادي فيقول: من له من مال حاجة ...) [معجم أحاديث الإمام المهدي (ع): ج1، ص92].

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (فحينئذٍ تظهر الأرض كنوزها وتبدي بركاتها، فلا يجد الرجل منكم يومئذٍ موضعاً لصدقته ولا لبرّه، لشمول الغنى جميع المؤمنين) [الإرشاد للمفيد: ج2، ص384-385. كشف الغمة: ج3، ص264-265].

إذاً، فلنا أن نسأل: مَن الذي سوف يعمل في الأعمال الشاقّة والمتعبة في ذلك الزمان، ومن الذي سيعمل في بعض الأعمال الدنيئة كمهنة الزبّال مثلاً، ما دام الكلّ غنيّاً ولديه المال الكافي...؟

والجواب: إنّه بعد أن ترى البشريّة من الظلم والفجائع ما لا تطيقه، وبعد امتلاء الأرض جوراً وظلماً، وبعد تجربة جميع الاُطروحات الفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وبعد فشلها جميعاً، ستصل البشريّة لحالة من اليأس، بحيث تطلب فيها إقامة دولة العدل الإلهي الموعودة.

وستطالب البشريّة بتطبيق هذا المشروع الإلهي الكبير في الأرض مهما كلّفها الأمر، وسيعمل الجميع حينئذٍ لإنجاح هذه الحكومة العادلة، وحتى إذا استدعى الأمر للعمل في الأعمال الشاقّة، طلباً للأجر والثواب من الله فقط.

ولقد جاء في بعض الأخبار أنّ في زمان الإمام المهدي (عليه السلام) لن يكون هناك أجر مالي للبضائع في أثناء البيع، وإنّما الصلاة على محمّد وآل محمّد فقط!

وحتّى إذا قلنا بعدم صحّة هذه الأخبار، إلا أنّه لن يكون هناك مانع عند أحد ما من العمل في الأعمال الشاقّة والدنيئة، ما دام في ذلك قيام الدولة الإسلاميّة وبقاؤها وديمومتها.

ولذلك، كان بعض من مهامّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) من بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) هو إيصال الاُمّة إلى هذه المرحلة من الاستعداد والجاهزيّة.

فعن بريد العجلي قال: قيل لأبي جعفر الباقر (عليه السلام): إنّ أصحابنا بالكوفة جماعة كثيرة، فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك. فقال: يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته؟ فقال: لا. قال: فهم بدمائهم أبخل. ثمّ قال: إنّ الناس في هدنة نناكحهم ونوارثهم ونقيم عليهم الحدود ونؤدي أماناتهم حتى إذا قام القائم جاءت المزاملة ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته لا يمنعه. [بحار الأنوار: ج52، ص372 ح164].

وكان كلّ إمام من الأئمّة (عليهم السلام) يقوم بمهام تتناسب مع مرحلة التطوّر في الاُمّة والوضع الاجتماعي الذي يعاصره، فنرى الإمام الحسين (عليه السلام) يقوم بثورة ضدّ يزيد، بينما الإمام زين العابدين يركّز على جانب التربية بالدعاء والعبادة، بينما نرى الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) يركّزان على المجال العلمي والفقهي.

وحينما وصلت الاُمّة في زمان الإمام العسكري (عليه السلام) لمرحلة من التطوّر بحيث تستطيع تحمّل أعباء غيبة الإمام عنها، حدثت الغيبة الصغرى ومن بعدها الغيبة الكبرى بالتدريج، حيث سبق ذلك انقطاع الأئمّة السابقين للمهدي (بعد الإمام الرضا عليه السلام) عن الاتّصال المباشر بالأوساط الاجتماعيّة لوضعهم تحت الإقامة الجبريّة في دورهم وتحت الملاحظة الدائمة من قِبل السلطات الحاكمة آنذاك، وكذلك اتّخاذ الأئمّة نظام الوكلاء بينهم وبين عامّة شيعتهم ومواليهم، تمهيداً لغيبة الإمام المهدي (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــ

(*) وقع: البوابة الجامعة لأهل البيت(ع) ـ التابعة للمجمع العالمي لأهل ‌البيت (ع)، بقلم: ماهر آل شبر، بتصرّف.

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1725
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 11 / 25
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24