• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : القرآن والمجتمع .
                    • الموضوع : استعداد الإنسان وتفضيله على المخلوقات .. نظرة قرآنيّة .

استعداد الإنسان وتفضيله على المخلوقات .. نظرة قرآنيّة

بقلم الطالبة: سلوى ملك

مبرّة حبيب بن مظاهر الأسدي

قال تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [سورة الأحزاب: 72ـ73].

هاتان الآيتان، آخر آيتين من سورة الأحزاب، وهما تبيّنان قيمة الإنسان إمام كافّة مخلوقات الله تعالى، وأنّه كيف حمل ما لم تستطع حمله السموات المبنيّة والأرضين المدحية والجبال الراسخات، فحملها الإنسان، واستطاع بذلك أن يحمل أسمى رسالة على وجه الأرض ألا وهي رسالة الله العظيمة وبها تميّز الانسان وحمل وسام الشرف على صدره من بين مخلوقاته عزّ وجلّ.

ولعلّ يتبادر إلى الذهن الكثير من التساؤلات مثل:

ما المراد بالأمانة؟

ما معنى أنّها عرضت على السموات والأرض والجبال؟

لماذا رفضت حمل هذه الأمانة؟

كيف حملها الإنسان؟

ما معنى أنّه كان ظلوماً جهولاً؟

الأمانة ـ أيّاً كانت ـ هي شيء يودع عند الغير ليحتفظ به ثمّ يردّه إلى من أودعه، فالأمانة المذكورة شيء ائتمن الله الإنسان عليه ليحفظ سلامته واستقامته ثمّ يردّه إليه سبحانه كما أودعه، لكن، ما هي الأمانة التي أراد الله من الجبال الشامخة والأرضين والسموات أن يحملنها ولكنّها أبت؛ بل وأشفقت منها؟

فإن قلنا: إنّ الامانة هي مسألة التوحيد، فإنّ السموات والأرضين وغيرهما هي أساساً موحّدة لله وتسبّحه وتحمده، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [سورة الإسراء: 44].

وإن قلنا: إنّ المقصود بالأمانة هي الدين الحقّ بتفاصيله، فإنّ الآية تصرّح بحمل الإنسان كائناً من كان، مؤمناً أو غير مؤمن، فمن لم يكن مؤمناً لا علم له به، فكيف يحمله؟! ومن ناحية اُخرى: الآية التالية بيّنت أنّ هناك مؤمناً ومنافقاً ومشركاً، فلا يترتّب على الاعتقاد بالدين الحقّ والعلم بالتكاليف نفاق وشرك وإيمان، إذاً، لا ينطبق حمل الأمانة على هذا المعنى.

والبعض قال: إنّ الأمانة هي عقل الإنسان، والبعض قال: هي نعم الله؛ مثل: أعضاء الجسم وغيرها، فهي أمانة يجب المحافظة عليها، والبعض قال: هي الواجبات والتكاليف الشرعية؛ مثل: الصلاة والصوم والحج، نعم، التكاليف مطلوبة، لكنّها تُعدّ مقدّمة لحصول الولاية الإلهية وتحقّق صفة العبودية الكاملة فهي المعروضة بالحقيقة والمطلوبة لنفسها [انظر: الميزان في تفسير القرآن: ج16، ص351]، وبعضهم قال: هي الوفاء بالعهود وحفظ الأمانات التي يأخذها الناس من بعضهم البعض [راجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج13، ص369].

هذه التفاسير لا تتناقض ولا انتفاء بينها، لكنّها جزء من مفهوم الأمانة.

إذاً، ما هي الأمانة؟

هناك شيء يمتلكه الإنسان وتفقده السموات والأرض، فالإنسان موجود أوجد الله فيه بالفطرة استعدادات وقابليات يستطيع من خلالها ـ إذا استغلّها أحسن استغلال ـ أن يصل إلى مصداق خلافة الله على أرضه، ويستطيع أن يصل إلى قمّة العظمة والشرف والكمالات باكتساب المعرفة وتهذيب النفس، فكما قال تعالى في سورة التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [سورة التين: 4ـ6]، فالإنسان يستطيع أن يصل إلى الكمال بالاعتقاد الصالح والعمل الصالح وسلوك في طريق الكمال بالارتقاء من الحضيض إلى أوج الإخلاص الذي هو أن يخلصه الله لنفسه، فلا يشاركه فيه غيره فيتولّى هو سبحانه تدبير أمره، فالإمامة هي الولاية الإلهية وكمال صفة العبودية الذي يحصل للإنسان عن طريق المعرفة والعمل الصالح، ولكن الإنسان هذا يختلف عن باقي الكائنات والتي منها الجبال والسموات والأرض، فهي تخضع لله وتسبّحه وتمجّده، لكن كلّ ذلك ذاتي وتكويني واجباري، أمّا الإنسان فإنّه مخير، فهو بإرادته اختار هذا الطريق ويبدأ فيه من الصفر في طريقه إلى الله ويصعد إلى سلّم الارتقاء والتكامل إلى ما لا نهاية، لذلك أبت السموات والأرضين والجبال أن تحمل تلك الأمانة؛ لأنّها غير واجدة لخصائص حمل تلك الأمانة ـ الاستعدادات والقابليات ـ بل وأشفقت منها، أي: ضعفت عن حملها؛ لأنّها غير مؤهّلة، وتعبير الحمل يدلّ على أنّها ثقيلة حتى تحمل.

والمراد بأنّه عزّ وجلّ عرضها عليها: هو المقارنة، فإنّها عندما قارنت حجم هذه الأمانة مع ما لديها من قابليات واستعدادات أعلنت عدم لياقتها واستعدادها عن تحمّل تلك الأمانة العظيمة.

فحملها الإنسان رغم صغر حجمه ـ لاشتماله على صلاحية الحمل ـ {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} كيف؟ لأنّ الإنسان خالٍ من العدل والعلم، وإنّما لديه القابلية للتلبّس بذلك، ممّا يفاض عليه بالارتقاء من حضيض الظلم إلى أوج العدل والعلم. فبالرغم من أنّ قبول الأمانة يُعدّ مفخرة عظيمة وميزة بارزة للإنسان إذا حفظها، ويذمّ عليها إذا خانها، فيكون ظالماً لنفسه جاهلاً بما تعقبه هذه الأمانة لو خانها من سوء العاقبة والهلاك الاليم، أوليس آدم الذي كان على رأس السلسلة الآدمية وممتّعاً بالعصمة اعترف بأنّه قد ظلم نفسه: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف: 23]، وقد قال تعالى: {ظَلُومًا جَهُولًا} فالظلوم والجهول وصفان من الظلم، والجهل يطلق وصفهما على من كان من شأنه الظلم والجهل.

ثم قال تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. قال السيّد الطباطبائي (قدّس سرّه) في تفسير الميزان: >اللام للغاية، أي: كانت عاقبة هذا الحمل أن يعذّب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، وذلك أنّ الخائن للأمانة يتظاهر في الأغلب بالصلاح والأمانة وهو النفاق، وقليلاً ما يتظاهر بالخيانة لها، ولعلّ اعتبار هذا المعنى هو الموجب لتقديم المنافقين والمنافقات في الآية على المشركين والمشركات< [الميزان في تفسير القرآن: ج16، ص351].

أضاف صاحب الأمثل إلى هذا الرأي بأنّ من قال أنّ اللام في (ليعذّب) بأنّها لام العلّة فتكون هناك جملة مقدّرة، وعلى هذا يكون تفسير الآية: كان الهدف من عرض الأمانة أن يوضع كلّ البشر في بوتقة الاختيار ليُظهر كلّ إنسان باطنه فيرى من الثواب والعقاب ما يستحقّه.

وهناك اُمور بيّنتها الآية الكريمة كما وضّحها تفسير الأمثل:

1. تقديم أهل النفاق على المشركين في الآية لتظاهر المنافق بأنّه أمين في حين أنّه خائن، أمّا خيانة المشرك فهي واضحة مكشوفة، لذا، إنّ المنافق يستحقّ حظّاً أكبر من العذاب.

2. يمكن أن يكون سبب تقديم هاتين الفئتين على المؤمنين هو ما ورد في ختام الآية السابقة {ظَلُومًا جَهُولًا}، وهاتان الصفتان تناسبان المنافق والمشرك، فالمنافق ظالم، والمشرك جاهل.

3. كلمة (الله) وردت مرّة للمنافقين والمشركين، ومرّة اُخرى للمؤمنين، ذلك لأنّ عقاب المنافقين والمشركين واحد، أمّا حساب المؤمنين مختلف عنهما.

4. يمكن أن يكون قوله تعالى بكلمة (التوبة) للمؤمنين بسبب أنّ أكثر المؤمنين لديهم حالة من الخوف ممّا يصدر عنهم أحياناً من الذنوب والمعاصي، لذا فإنّ كلمة التوبة تعطيهم الطمأنينة بأنّ ذنوبهم ستغفر، أو لأنّ توبة الله على عباده تعني رجوعه عليهم بالرحمة، ونعلم أنّ كلّ الهبات والعطايا والمكافآت قد اُخفيت في كلمة (الرحمة).

5. إنّ وصف الله تعالى بالغفور والرحيم ربّما كان في مقابل الظلوم الجهول أو لمناسبة ذكر التوبة بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات.

فالإنسان إذا رجع إلى ربّه بالتوبة، رجع الله عليه بالرحمة وتولّى أمره فهو ولي المؤمنين فيهديه إليه بالستر على ظلمه وتحليته بالعمل النافع والعمل الصالح لأنّه غفور رحيم.

هناك الكثير من الروايات التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) تفسّر هذه الأمانة بقبول ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وولده من بعده، فطريق العبودية لا يكتمل ولا يصل إلى مراتبه العليا إلا بولاية الأئمّة (عليهم السلام) التي هي امتداد لولاية الأنبياء (عليهم السلام).

جاء في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه سُئل عن آية عرض الأمانة فقال: >الأمانة: الولاية، من ادعاها بغير حق كفر< [معاني الأخبار، الشيخ الصدوق: ص110، ح3]، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال عندما سئل عن تفسير هذه الآية، فقال: >الأمانة: الولاية، والإنسان: أبو الشرور المنافق< [المصدر نفسه: ص110، ح2].

بعد فهمي للآية المباركة والرواية في هذا الشأن، أودّ أن أكتب ما راودتني من مفاهيم مرتبطة بموضوع الأمانة:

كثير ما نشعر بحالة اشتياق وانجذاب شديد لزيارة المراقد المشرّفة؛ بل القلب يشتعل حبّاً وتعلّقاً ورغبة شديدة بالقرب من عتباتهم المقدَّسة (عليهم السلام أجمعين)، وقد شعرت بهذه الحالة بالتحديد عندما كنت في طريقي لزيارة إمام المتّقين والحسين الشهيد (عليهما السلام)، تُرى ما سرّ هذا الشوق الملتهب؟ تساءلت كثيراً في حينها وجاءني الجواب وهو: نريد أن نكمل نواقصنا بقربنا منهم (عليهم السلام)، نعم، هذا الانجذاب ذو قوّة مغناطيسية عجيبة، فهو ليس بالطبيعي؛ بل هو قوّة تحمل في طيّاتها نعماً إلهية أودعها في نفوسنا، ألا وهي ولاية أهل البيت (عليهم السلام أجمعين)، فخطايانا كثيرة ومشاغلنا أكثر ونفوسنا مشتّتة بإنجاز اُمورنا الدنيويّة، فبدت أرواحُنا تنشد الكمال في عبودية الله عزّ وجلّ، تنشد الكمال في تمام الأخلاق، تنشد الكمال في الزهد بالدنيا، تنشد الكمال في فهم حقائق الاُمور، تنشد الكمال في الإخلاص لله تعالى في كلّ نية وعمل، تنشد التوكّل التامّ على الله والثقة التامّة به عزّ وجلّ، تنشد وتنشد... ، فنحن نفقد الكثير، ونريد أن نستلهمه بقربنا منهم، سواء كان بالقرب الجسدي أو الروحي، كيف لا؟! وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتلوّن، فيقال له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: >جاء وقت الصلاة، وقت أمانةٍ عرضها اللهُ على السموات و الأرض، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها< [ميزان الحكمة، الريشهري: ج1، ص216]، هذا الإمام الذي قال عنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): >لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا كافر منافق< [الخصال، الشيخ الصدوق: ص558، ح31]، ونحن عندما نريد زيارته (عليه السلام) نزوره بزيارة (أمين الله)، فهو أمين الله في أرضه وخير خليفة له بعد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) على وجه الأرض؛ خليفة لله على جميع مخلوقاته، وكلمة (أمين الله) تعني أمين لله بجميع صفاته، ونحن نقول في دعاء الندبة: فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك... ، فالإمام إنسان كامل، وأحد مقوّمات كماله أنّه أمين الله؛ لأنّ عنده خزائن التشريع والتكوين، فهُم أئمّتنا، وبهم نهتدي ونسترشد طريقنا إلى الله عزّ وجلّ.

فالأمانة التي أودعها الله في قلوبنا وهي ولايتهم (عليهم السلام)؛ فهل عرفناها؟ وهل نشعر بها وبعظمتها؟ وهل حافظنا عليها بكلّ ما نملك من قوّة؟!


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1696
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 09 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24