• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : دروس قرآنية تخصصية .
              • القسم الفرعي : التفسير .
                    • الموضوع : النور المبين في تفسير القرآن الكريم (الدرس الثالث) .

النور المبين في تفسير القرآن الكريم (الدرس الثالث)

سماحة الشيخ ابراهيم الانصاري البحراني

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(الفاتحة/1)

الصفتان قد وردتا في موردين من هذه السورة المباركة:

أحـدهما: في البسملة وهي الآية الأولى.

وثانيهما: في الآية الثالثة.

وقد وردتا في أربع سور أخرى مكررة، ففي البقرة كررت في الآية 163 وفي النمل كرِّرت في الآية30، وفي فصِّلت الآية2 والحشر الآية22 ومن الواضح أنَّ التكرار ليس من باب التأكيد بل له سرٌّ آخر، وفي بيان الفرق بينهما في خصوص الفاتحة قد أبدى المفسرون آراء مختلفة، سوف نشير إلى بعضها فيما بعد إن شاء الله.

الصفتان في اللغة

إنَّ صفتي الرحمن والرحيم بعد اسم الجلالة لهما الأهمية الكبيرة قياساً لسائر صفاته تعالى، وذلك لافتتاح الكتاب بهما فمن اللازم أن نتحدَّث عنهما بالتفصيل:

قال في لسان العرب:

“رحم: الرحمة: الرقة والتعطف والمرحمة مثله وقد رحمته وترحمت عليه وتراحم القوم: رحم بعضهم بعضا. والرحمة: المغفرة وترحمت عليه أي قلت رحمة الله عليه. واسترحمه: سأله الرحمة والله الرحمن الرحيم: بنيت الصفة الأولى على فعلان لان معناه الكثرة وذلك لأن رحمته وسعت كل شيء وهو أرحم الراحمين فأما الرحيم فإنما ذكر بعد الرحمن لأن الرحمن مقصور على الله عز وجل، والرحيم قد يكون لغيره”

وقال في المفردات:

“رحم: الرحم رحم المرأة…ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة يقال رَحم ورُحم قال تعالى:

{وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} (الكهف/80،81)

والرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وقد تستعمل تارة في الرقّة المجردة،وتارة في الإحسان المجرد عن الرقة، نحو رحم الله فلانا، وإذا وصف به الباري فليس يراد به إلا الإحسان المجرد دون الرقة، وعلى هذا روى أن الرحمة من الله إنعام وإفضال، ومن الآدميين رقة وتعطف”

أقـول:

والشاهد على أنَّ الرحِم أيضاً من نفس المقولة هو ما وردت من أحاديث في هذا المجال منها:

((عن عمرو بن جميع قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام مع نفر من أصحابه فسمعته وهو يقول: إن رحم الأئمة عليهم السلام من آل محمد صلى الله عليه وآله ليتعلق بالعرش يوم القيامة وتتعلق بها أرحام المؤمنين، يقول: يا ربِّ صلْ من وصلنا، واقطع من قطعنا قال: فيقول الله تبارك وتعالى: أنا الرحمن وأنت الرَحِم شققتُ اسمك من إسمي، فمن وصلك وصلتُه ومن قطعك قطعتُه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: الرحم شجنة من الله عز وجل))(معاني الأخبار ص302)

معنى الشجن:

“الشجن: الهم والحزن والجمع أشجان وشجون. قال الجوهري: والشجنه والشجنه عروق الشجر المشتبكة. وبيني وبينه شجنة رحم، وشجنة رحم أي قرابة مشتبكة. والشجن والشجنة والشجنة: الشعبة من الشيء. والشجنة: يعني قرابة من الله مشبكة كاشتباك العروق شبهه بذلك”.

الجمع بين الرحمن والرحيم

إنَّ الرحمن و الرحيم كالندمان والنديم وهما على وزن فعلان وفعيل وقد تحدَّث المفسرون تبعاً لأهل اللغة حول هذين الصفتين كثيراً والآراء فيهما متضاربة.

قال الفارسي:

“إنما قيل بسم الله الرحمن الرحيم فجيء بالرحيم بعد استغراق الرحمن معنى الرحمة لتخصيص المؤمنين به فيقوله تعالى: وكان بالمؤمنين رحيما كما قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق ثم قال: خلق الإنسان من علق فخص بعد أن عم لما في الإنسان من وجوه الصناعة ووجوه الحكمة ونحوه كثير”.

قال الزجاج:

“الرحمن اسم من أسماء الله عز وجل مذكور في الكتب الأول ولم يكونوا يعرفونه من أسماء الله”

(أقول والشاهد لذلك هو قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ} ولعلَّ عدم معروفيته هو السبب لعدم استعماله في غير الله فتأمَّل).

وحكى الأزهري عن أبي العباس:

“جمع بينهما لان الرحمن عبراني والرحيم عربي”

قال الجوهري:

“الرحمن والرحيم اسمان مشتقان من الرحمة ونظيرهما في الله نديم وندمان وهما بمعنى ويجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد كما يقال فلان جاد مجد إلا أن الرحمن اسم مختص لله تعالى، لا يجوز أن يسمى به غيره ولا يوصف. ألا ترى أنه قال: “قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن”؟ فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره وهما من أبنية المبالغة ورحمن أبلغ من رحيم والرحيم يوصف به غير الله تعالى فيقال: رجل رحيم ولا يقال رحمن”

الصفتان في القرآن

ونحن نحاول أن نصل إلى حقيقة الأمر فيهما و ذلك من خلال القرآن نفسه، فنقول:

أمّا الرحمن:

فلا يطلق إلا على الله تعالى من حيث إن معناه لا يصح إلا له، فهو الذي وسع كل شئ رحمةً. قال تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(طه/5)

ولعلَّه إشارة إلى سعة الرحمة لأنَّ العرش هو الذي له إشراف كامل على ما سواه، ولهذا قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}(الفرقان/59)

أنظر إلى كلمة الرحمان فهي تبين أنَّ الذي استوى على العرش هو الرحمان، فهذه الصفة هي التي تتَّسم بهذه الصبغة، أعني الوسعة والاستيعاب، ونظراً إلى الرحمانية لا تفاوت في الخلق أصلاً بل الأشياء كلُّها من هذا المنظار في مستوى واحد.

قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ…}(الملك/3)

فكلُّ خير من الرحمان كما أنَّ العذاب باعتباره مظهر لغضب الله تعالى فهو من الرحمان، وأمّا الشر بما هو شرّ فلا علاقة له بالله لأنَّه أمرٌ عدمي، وإليه يشير الحديث :

((إنّ الخيرَ في يديك والشرَّ ليس إليك)) (فلاح السائل ص132 ومصباح المتهجِّد ص36)

ومن هذا المنطلق قال إبراهيم الخليل، يخاطب أباه :

{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (مريم/45)

والحاصل إنَّ النعم العامة في الكون، ناشئة من رحمانية الله، فطيران الطير بل عدم سقوطه ليس هو إلا مظهراً لرحمانيته تعالى:

{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (الملك/19)

وتعليم الإنسان وخلقه أيضاً من تجلِّيات الرحمن حيث قال:

{الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ} (الرحمن/1،3)

ومع التأمل في السورة كلِّها والغور في النعم المذكورة فيها يمكننا أن نصل إلى حقيقة هذه الصفة، فكل ما هو مذكور هناك ليست إلا آثاراً من الرحمانية وهي آلاء الله للإنس والجن بما هو ربٌّ لهما فيقول تعالى:

{فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ويكرر هذه الآية ليهديهم إليه، لعلَّهم بالنظر إلى مثل هذه النعم التي تصل إليهم رغم كفرهم و إلحادهم يهتدون إليه تعالى.

ومن الجدير بالذكر ما ورد في قصَّة مريم عليها السلام:

{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} (مريم/25،26)

فلعلَّ ذكر خصوص الرحمان باعتبار أنَّها قد لاحظت في صومها جانباً آخر من أجله نذرت وذلك هو التخلُّص ممن كانوا بصدد توجيه الاتهام لها . فربَّ صومٍ يكون لله باعتباره هو الرحيم لا الرحمن وربَّ صوم يكون لله وحده من غير توجُّهٍ إلى أيِّ أمرٍ آخر ، والأخير هو المستوى الراقي من العبادة .

وعليه نقول:

“إنَّ الرحمن يستعمل في النعم الكثيرة – من حيث العدد – الظاهرة في الدنيا، أكثر من ظهورها في الآخرة”

وأمّا الرحيـم:

فهي صفة مشبَّهة باسم الفاعل فتدلُّ على الثبوت، وتلازم عالم الاستقرار والخلود، ولهذا تصاحب صفاتاً أخرى لها نفس الصبغة وهي:“الغفـور”وقد لازمتها في خمسين مورداً، إلا أنّها قدِّمت على الغفور في مورد واحد.

وأيضاً صاحبت الرحيميَّة صفةَ “الرءوف” في أربع موارد من القرآن الكريم وصفة “التـواب” في مورد واحد و“الودود” في مورد واحد أيضاً، وهناك آية تقول:

{سَلاَمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (يس/58)

وهذا من أروع البيان، للخصوصية الموجودة فيه، فالذي يسلِّم على هؤلاء الذين وصلوا إلى هذه المنزلة هو الربّ الرحيم، وهل هناك لذَّة أفضل من هذه اللذة وما قيمة الحور والقصور في قبال هذا السلام المطلق من السلام وفي دار السلام للقلب السليم.

والحاصل:

عند التأمل فيها نعرف أنّها كالرحمن- التي كانت للمبالغة- تدلُّ على الكثرة، غير أن الكثرة في فعلان من ناحية كميَّة، كقوله تعالى:

{وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}(آل عمران/182)

أي لا يصدر منه حتَّى ظلم واحد وذلك لا للعباد خاصة بل للعبيد الشامل للحيوانات والجمادات بل الكافر أيضاً.

{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا} (مريم/93)

وأما الرحيمية:

فهي تكتب للمؤمنين خاصة وهم العباد لا العبيد.

قال تعالى:

{وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف/156،157)

من خلال الآية الكريمة نستنتج أنَّ الرحمة مع وسعتها ولكنَّها لا تشمل إلا من يتَّصف بالأوصاف التالية:

1-التقوى.

2-إيتاء الزكاة.

3-الإيمان بالآيات الإلهية.

4-تبعيَّة الرسول الأمِّي.

وذلك:

لأنَّ صيغة فعيل قد لوحظ فيه الجانب الكيفي لا الكمِّي، حيث لا كمَّ في الأمور الثابتة.

ومن هنا قال في تفسير كنز الدقائق:

“قيل: ذكرُ الرحمة بعد العالمين إشارة إلى الرحمة في خلق العالمين و أنَّه خلقها على أكمل أنواعها و أتاها كلما احتاجت إليه و ذكرها قبل مالك يوم الدين إشارة إلى الرحمة في المعاد، يوم الجزاء” (تفسير كنز الدقائق)

وهذا القائل قد أرجع صفة “الرحمن” إلى “رب العالمين” التي جاءت قبلها، وربط صفة “الرحيم” بصفة “مالك يوم الدين”.

رحمان الدنيا ورحيم الآخرة

فهو تعالى رحمان الدنيا ورحيم الآخرة كما ورد في الدعاء:

((يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة))

ولكن باعتبار آخر، يكون سبحانه رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، كما ورد في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام:

(( يا رحمان الدنيا و الآخرة و رحيمهما)) (عيون أخبار الرضا(ع)ج2ص16ح37 نور الثقلين ج1ص14 ح55)

وذلك بلحاظ الألطاف الخاصة والعامَّة، فالدنيا رغم أنَّها مملكة رحمانية الله تعالى، ولكن المؤمن فيها سوف تشمله رحيميته تعالى أيضاً، حيث الألطاف المعنوية النازلة عليه من خلال رحمة الله الواسعة وباب نجاة الأمَّة وهو الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وآله، كيف لا وقد جاء في شأنهم من خلال الخطاب لأبيهم إبراهيم عليه السلام وذريته:

{رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}(هود/73) لاحظ كلمة الرحمة فهي مطلقة غير مقيدة أصلاً وهي مع إطلاقها مفاضة عليهم فحسب، وللتأكيد على أنَّ الرحمة المطلقة خاصَّة بهم جاء ذكرهم بعطف البيان أعني “أَهْلَ الْبَيْتِ”.

وهذه التحلية إنَّما حصلت بعد ذلك التنزُّه الإلهي وإذهاب الرجس مطلقاً عنهم ثمَّ التطهير المطلق حيث قال:

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الاحزاب/33)

الفضل و الرحمة

ثمَّ إنَّ هناك آيات كثيرة قد كرِّرت فيها صفتي الفضل والرحمة كقوله تعالى:

{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيم}(النور/20)

والظاهر أنَّ الفضل يكون في الدنيا والرحمة في الآخرة،كما تدل عليه الآية التالية:

{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}(النور/14)

وهذا من باب اللف و النشر المرتَّب(كقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}{…وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

فالفضل متعلِّق بالدنيا والرحمة مرتبطة بالآخرة، ولذلك قال تعالى: {اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ…} (النحل/71)

وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}(النساء/34)

فهذا التفضيل إنَّما هو في الجانب الجسمي الظاهري وأيضاً العاطفي لا البعد الروحي المعنوي كما يشهد لذلك قوله تعالى:

{فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ}(النساء/34)

ومن الواضح إنّ الصلاح أمر نفسي باطني، يرتبط بروح المرأة، في قبال الفضل الذي هو أمر ظاهري راجع إلى عالم الدنيا وتنظيم شؤون الأسرة.

وقال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}(النساء/95)

ولا تخفى عليك لطافة الآية حيث كرِّرت فيها كلمة الفضل.

فالأولى:

إشارة إلى الجانب الدنيوي فهي درجةً فقط حيث أنَّ القاعدين معدودون من المؤمنين فلا يمنعون من فضائل الدنيا ما دام أنَّ الله يُعطيها للكافرين ومن هنا قال: “وكلاً وعد الله الحسنى” فلعلَّ الدرجة هي ما يمنح هؤلاء المجاهدين في الدنيا من منزلة وشأن ووجاهة.

والثانية:

إشارة إلى الجانب الأخروي الذي هو أجر عظيم فلاحظ النكرة الدالة على علوِّ الشأن، مضافاً إلى الصفة أعني عظيماً.

ثمَّ وكأنَّ السائل يسأل ما هو مستوى هذا الأجر؟ فجواباً عليه يقول تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء/96)

فانظر الفرق الكبير بين الموردين وتأمّل في “منه” و “مغفرة” و“رحمة” ثم “آخر الآية”، كلُّ هذه قرائن مقالية تؤكِّد على أنَّ الفضل هنا فضل ثابت أخروي مرتبط برحيميَّته تعالى.

اختصاص الإسمين بالله

ويعتقد الكثير من المفسِّرين عدم جواز استعمال الرحمن لغير الله كما مرَّ في أقوال اللغويين، وجواز استعمال الرحيم في غير الله للذي كثرت رحمته، استناداً إلى قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة/128)

ولكنَّ:

الظاهر أنَّ الأمر ليس كذلك بل الصفتان مختصَّتان بالله ولا يصح استعمالهما في غيره تعالى، وهذا ما يظهر من قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة/1)

اللهم إلا أن يكون الاستعمال مجازياً.

ومن هنا أرجع الإمام (قده) مقام الرحمانية ومقام الرحيميَّة إلى الوجود، إلا أنَّه قال:

“مقام الرحمانية الذي هو بسط الوجود، ومقام الرحيمية الذي هو بسط مقام كمال الوجود.” (الأربعون حديثاً ص698)

فالإيجاد على أيِّ حال مختص به تعالى في جميع مراحله، بل مع الدقة سوف لا نرى مراتب حقيقيَّة للإيجاد أصلاً {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر/50)

وقال:

“إن الرحمة الرحيمية أيضا من الرحمة العامة وعدم شمولها الأشقياء من جهة نقصانهم لا من ناحية تحديد الرحمة، ولهذا كانت الهداية والدعوة عامة لجميع العائلة البشرية كما يدل عليه القرآن الشريف، وبنظر آخر: الرحمة الرحيمية أيضا مختصة للحق تعالى وليس لغيره فيها شركة” (الاداب المعنوية للصلاة ص400)

أقـول:

بما أنّ الدنيا دار الكثرة والتزاحم بين الأشياء، فتكون الكثرة فيها كميَّة وأمّا الآخرة فهي دار قرار ومقام وثبوت، فبطبيعة الحال تكون الكثرة فيها من ناحية الكيف قال تعالى:

{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(آل عمران/107)

وقال الإمام الصادق عليه السلام:

((وإن رحمة الله ثوابه لخلقه)). (عيون أخبار الرضا(ع) ج2 ص16)

وهذا هو الفرق الجوهري بينالرحمن و الرحيم.

وأمّا القرآن الكريم فلم يستعمل هذه الصفة في غير الله إلا في موردٍ واحد وهو قوله:

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة/128)

ومن الواضح أنَّ هاهنا قد لوحظت عناية خاصة، فالرسول له هذه الصفات بما أنَّه مظهر الإسم الأعظم وهو المرآة الصافية لله تعالى، فانظر إلى الخطاب كيف ينتقل من العام إلى الخاص فهو بالمؤمنين رءوف رحيم، فالملاحظ هنا أنَّ الخصوصيَّة تكمن في أنَّهم مؤمنون ونفوسهم نفس الرسول الذي إن عُرِف، عُرِف الله تعالى، كما في تفسير صدر المتألهين في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم:

((من عرف نفسه فقد عرف ربه)) (بحار الأنوار ج2 ص32)

حيث قال:

((إنَّ من عرف الإنسان الكامل وهو النبّي الأكرم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم فقد عرف ربَّه، إذ أنَّ الإنسان الكامل هو المثل الأعلى لله سبحانه و تعالى، فبمعرفته يعرف الإنسان ربَّه

ثمَّ قال:

قال تعالى: “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” والمراد منها نفوس الكمَّل من الأنبياء والمرسلين، لأنَّ نفسَ كلِّ واحدٍ منهم كلمة تامة نازلة من عند ربّ العالمين “كتاب مرقوم يشهده المقرَّبون” مشتملٌ على آيات الملك والملكوت وأسرار قدرة الله والجبروت…)) (الحكمة المتعالية ج7 ص20)

والله سبحانه قد منَّ على المؤمنين خاصّة لا على عامَّة الناس ببعث رسولٍ من أنفسهم. قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (آل عمران/164)

وبما أنّض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة وأهل البيت عليهم السلام بالتبع مظاهر رحيميَّة الله تعالى، فالرحيميَّة الإلهيَّة قريبة من المحسنين. قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف/56)

وليس المحسنون إلا المنتمين إليهم عليهم السلام، وتفصيل ذلك يطلب في محلِّه فمن أراد أن يطَّلع على المحسنين فليراجع الأحاديث الواردة في تفسير الآيات المباركة التي تشتمل على هذه الكلمة، وكذلك قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} (الرحمن/60)

وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل/90)

علماً بأنَّ الآية التي قبلها هي قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل/89)

والآية التي بعدها هي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (النحل/91،92)

ثمَّ راجع تفسير أهل البيت لهذه الآيات وتعَّرفْ على التي نقضت غزلها، كي تعرف مستوى غورهم في القرآن الكريم وأنَّهم بالفعل هم الذين يسمح لهم أن يمسوا القرآن الكريم الذي هو في كتاب مكنون. جعلنا الله وإيّاكم من المتمسِّكين بهم والمحشورين في زمرتهم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ثمَّ مع لحاظ الآية التي ذكرناها وقوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاَهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل/76)

والرجوع إلى الحديث المنقول في كتاب كنز العمال مسنداً:

((عن أبي جعفر في قوله تعالى: ” هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ” قال: هو أمير المؤمنين عليه السلام، يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم)) (بحار الأنوار ج24 ص24)

وأيضاً مانقل عن ابن عباس:

((هو عليٌّ عليه السلام))(بحار الأنوار ج35 ص373)

مع ملاحظة كلِّ ذلك يمكنك الوصول إلى كثير من الحقائق المتعلِّقة بأهل البيت عليهم السلام.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1694
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 09 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24