• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : مؤلفات الدار ونتاجاتها .
              • القسم الفرعي : الترجمة .
                    • الموضوع : درجات ومراحل تعلّم القرآن الكريم والاستئناس به .

درجات ومراحل تعلّم القرآن الكريم والاستئناس به

ترجمة دار السيّدة رقيّة (ع) للقرآن الكريم

(القسم الأول)

يحمل القرآن الكريم في طيّاته الكثير من المفاهيم التعليميّة العميقة التي أخذت بعين الاعتبار جميع ما يحتاجه البشر؛ بل إنّ هذه المفاهيم ـ وعلى الرغم من مرور أربعة عشر قرناً ـ قد بقيت حيّةً طريّةً تسير بالإنسان نحو الكمال والفلاح. ومن الطرق التي تجعل هذا الإنسانَ يسير في طريق الحق والصراط المستقيم هي الاُنس بالقرآن الكريم.

إنَّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع تعاملاً خاصّاً مع هذا الكتاب السماوي؛ إذ يغترف كلُّ واحد منهم وينهل من هذا الكلام العذب الإلهي حسب قابليته وكفاءته، لذلك نرى أنَّ المفسّرين يجعلون للاُنس بالقرآن درجاتٍ ومراتبَ، وهي تبدأ من وضع القرآن الكريم في البيت، وتتدرّج بالنظر إلى آياته الكريمة والاستماع إلى تلاوته، وقراءة آياته وحفظها، وكذلك التدبّر فيه، وتنتهي بالعمل به الذي يُعدّ من أسمى مراتب الاستئناس بالقرآن الكريم إلى جانب المراحل الاُخرى؛ كالتفسير والتأويل و... إلخ.

والإنسان يمكنه من خلال الاستئناس بالتعاليم القرآنيّة والأحاديث الشريفة للأئمّة الهداة (عليهم السّلام) أن يهيِّئ لنفسه أجواءً تمكّنه من الاستفادة التامّة من هذه التعاليم الربّانية والتمسّك بها؛ كي يصل إلى أعلى مراتب الاُنس بالقرآن الكريم ودرجاته.

ونحن في هذه المقالة نحاول أن نسلّط الضوء على مراتب ودرجات الاستئناس بالقرآن الكريم.

يُعدّ القرآن الكريم من أهمّ الموائد السماويّة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على عباده لهدايتهم وكمالهم، وكلُّ إنسان لا بدَّ وأن ينال من هذه المائدة بقدر استطاعته الفكريّة وإدراكه وجهده.

إنَّ الأحاديث الشريفة للأئمّة الهداة (عليهم السّلام) قد أشارت إلى هذا المعنى، وهذا ما تجسّده الرواية الشريفة عن الإمام الحسن (عليه السّلام) في هذا الغرض، أنّه قال: (كتابُ الله (عزّ وجلّ) على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة، واللطائف والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء (عليهم السّلام)) [عوالي اللئالي: 4/ 105].

وقد صرّح الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) بأنّ للقرآن ظهراً وبطناً، وعدّها سبعة أبطن، فيقول: (إنّ للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطنٌ إلى سبعة أبطن) [عوالي اللئالي 4/ 107].

وكما قلنا، إنّ المفسرين ـ استناداً إلى روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) ـ قد جعلوا للاستئناس بالقرآن مراتب ودرجات، نشير إلى بعضها:

1. حفظ المصحف الشريف في البيوت (وهو أمر موجود منذ القدم)

من الاُمور المألوفة عند الناس هو التبرّك ببعض الأشياء والاحتفاظ بها في بيوتهم ومحالّهم. وقد يكون تركيز الروايات على حثّ الناس للاحتفاظ بالمصحف الشريف في البيوت هو لإبعادهم عن بعض الخرافات والترّهات.

يقول الإمام الصادق (عليه السّلام): (إنّه ليعجبني أن يكونَ في البيت مصحفٌ؛ ليطرد الله (عزّ وجلّ) به الشياطينَ) [ثواب الأعمال / 103].

لكن، قد يوجد في بعض الروايات ما يعارض ظاهرها هذا الأمر؛ كالحديث المرويّ عن الإمام الصادق (عليه السّلام) نفسه الذي يقول فيه: (ثلاثةٌ يشكون إلى الله (عزّ وجلّ): مسجدٌ خرابٌ لا يُصلِّي فيه أهلُه، وعالمٌ بين جهّال، ومصحفٌ معلّقٌ قد وقع عليه غُبارٌ لا يُقرأ فيه) [الخصال / 142].

ربّما يكون سببُ هذا التعارض بين الروايتين ناظراً إلى اختلاف درجات الناس في معرفتهم للقرآن الكريم، لذلك يمكن تأويل هذا الأمر؛ بأنّ الشخص الذي لا يتمكّن من النظر إلى المصحف الشريف أو تلاوته ينبغي عليه ـ على أقل التقادير ـ أن يحتفظ بمصحف في بيته، لكن الشخص الذي أنعم الله عليه ورزقه فهم وإدراك الآيات الشريفة، إذا ما نأى بنفسه عن القرآن الكريم فهو بمنزلة الكفر بنعمة الله واستحقّ العذاب، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

إذاً، الاحتفاظ بالمصحف الشريف في البيت والاهتمام به، يمكن أن نعدّه مقدّمة للوصول إلى المراتب العُليا من الاُنس بالقرآن الكريم.

2. النظر إلى المصحف الشريف

بعد مرحلة الاحتفاظ بالمصحف الشريف في البيت، نأتي إلى مرحلة النظر إليه. فإذا كانت الروايات الشريفة قد حثّت على الاحتفاظ بالقرآن الكريم في البيوت، فمن الاُولى أن يكون النظر إليه أمراً مطلوباً في نظر الشرع المقدّس، حتّى إنّ بعض الروايات قد عدّت النظر إلى المصحف الشريف نوعاً من العبادة.

عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) أنّه قال: (قلت له: جُعلت فداك! إنّي أحفظ القرآن على ظهر قلبي، فأقرأه على ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال لي: بل اقرأه وانظر في المصحف فهو أفضل؛ أما علمتَ أنّ النظر في المصحف عبادة) [الكافي 2 / 614].

وفي رواية اُخرى يعدّ فيها الإمام الصادق (عليه السّلام) القرآن عهداً إلهيّاً ينبغي للمسلم أن ينظر إليه؛ حيث يقول (عليه السّلام): (القرآنُ عهدُ الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرءِ المسلمِ أن ينظر في عهده) [الكافي 2 / 609].

ويشبّه الإمام السجّاد (عليه السّلام) أيضاً الآيات الشريفة للقرآن الكريم بأنّها خزائن ينبغي النظر إليها، فيقول (عليه السّلام): (آياتُ القرآنِ خزائنُ، فكلّما فتحتَ خِزانةً ينبغي لك أن تنظر ما فيها) [الكافي 2 / 609].

ومن خلال ما ذكرنا من روايات يمكننا أن نستنتج أنّ النظر إلى المصحف الشريف قد أكّد عليه الأئمّة (عليهم السّلام)؛ باعتباره مقدّمة للاستفادة الكاملة من القرآن الكريم والاستئناس به، كما يتّضح مدى أهمّيّة هذا الأمر عند غير المتمكّنين من تلاوة المصحف الشريف، إذ يمكنهم ـ والحال هذه ـ الاستفادة من الأنوار الساطعة لهذا الكتاب الإلهي والاستئناس به من خلال النظر إليه.

3. الاستماع إلى القرآن

المرتبة الثالثة من مراتب الاُنس بالقرآن الكريم هي الإنصات والاستماع إلى هذا الكلام الإلهي، وإذا صادف أنّ أحداً لم يتمكّن من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، فبإمكانه أن يستمع ويستمتع بلذيذ آيات القرآن الملكوتيّة؛ لذلك لا بدَّ للإنسان أن يسكت إذا سمع تلاوة لآيات الذكر الحكيم؛ إجلالاً وإكراماً لكلام الله تعالى.

لكنّنا نرى ـ للأسف الشديد ـ أنّ البعض لا يراعي أدب الاحترام عند تلاوة آيات الذكر الحكيم في المجالس، وهذا خطأ كبير يتنافى مع وجوب إجلال وإكرام القرآن الكريم.

وقد أمر الأئمّة الهُداة (عليهم السّلام) الناس بالإنصات والاستماع عند تلاوة آيات القرآن. قال الإمام الصادق (عليه السّلام): (إذا قُرئ عندك القرآنُ وجب عليكَ الإنصات والاستماع) [بحار الأنوار85/23].

وقد أشار الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى هذه الحقيقة المهمّة، وهي أنّ من شروط شمول الناس بالرحمة الإلهيّة هو الإنصات والاستماع لآيات الذكر الحكيم عند تلاوتها، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف/204].

وقد ذكر الشيخ الطبرسي عدّة أقوال في تفسير هذه الآية الكريمة، فقال: (اختلف في الوقت المأمور بالإنصات للقرآن والاستماع له، فقيل: إنّه في الصلاة خاصة خلف الإمام الذي يؤتمّ به إذا سُمعت قراءته... [وقيل:] كان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم، ويسلّم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل فقال لهم: كم صلّيتم؟ أجابوه، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالاستماع. وقيل: إنه في الخطبة، أمروا بالإنصات والاستماع إلى الإمام يوم الجمعة... وقيل: إنّه في الخطبة والصلاة جميعاً... وأقوى الأقوال الأوّل؛ لأنّه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلاّ في حالة قراءة الإمام في الصلاة؛ فإنّ على المأموم الإنصات والاستماع، فأمّا خارج الصلاة فلا خلاف أنّ الإنصات والاستماع غير واجب) [مجمع البيان 4/419].

وقد استدلّ بعض العلماء من بعض الروايات استحباب سكوت وإنصات إمام الجماعة إذا ما سمع أحد المأمومين يتلو آيةً من آيات القرآن، وبعد أن ينتهي المأموم من تلاوة الآية يشرع الإمام بتكملة قراءته، كرواية الإمام الصادق (عليه السّلام) عن جدّه أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه كان في صلاة الصبح، فقرأ ابن الكواء وهو خلفه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر/65]، فأنصت الإمام علي (عليه السّلام)؛ تعظيماً للقرآن حتّى فرغ من الآية، ثمَّ عاد في قراءته، ثمَّ أعاد ابن الكواء الآية فأنصت علي (عليه السّلام) أيضاً، ثمَّ قرأ، فأعاد ابن الكواء فأنصت علي (عليه السّلام)، ثمَّ قال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم/60]، ثمّ أتمّ السورة ثمّ ركع. [وسائل الشيعة 8/368].

وقد ذكر العلماء نقاطاً مهمّة بخصوص استحباب الإنصات عند تلاوة آيات الذكر الحكيم، فقد استحسنوا الإنصات والاستماع عند تلاوة القرآن، إلاّ أنّهم لم يفتوا بوجوب ذلك. وقد دلّت الآية الكريمة: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} مضافاً إلى الإجماع والروايات الاُخرى على الاستحباب دون الوجوب، لكنّ هناك مورداً واحداً قد يُفهم منه الوجوب، وهو في صلاة الجماعة؛ حيث ينبغي للمأموم أن يسكت ويستمع إلى قراءة الإمام، حتّى إنّ بعض الفقهاء استدلّ بهذه الآية على سقوط قراءة الحمد والسورة للمأموم في هذه الصلاة.

ويرى الإمام الصادق (عليه السّلام) أنّ مجرّد الاستماع إلى القرآن دون القراءة فيه أجر وثواب. قال (عليه السّلام): (مَن استمع حرفاً من كتاب الله (عزَّ وجلَّ) من غير قراءة كتب الله له حسنةً ومحا عنه سيئةً ورفع له درجةً) [الكافي 2/612].

وفي آية اُخرى يُشير الباري (عزّ وجلّ) إلى الكفّار ممّن انعدم فيهم الجانب الخُلُقي، ويسعون إلى قلب الحقائق وجرّ الناس إلى أفكارهم المنحرفة، ببيان جانب من أساليب الإعراض عن النبي (صلّى الله عليه وآله) التي كانت يتوسّل بها الكفار آنذاك؛ حيث كانوا يحاولون منع الناس من الاستماع إلى آيات الذكر الحكيم بافتعال جوٍّ من الضوضاء واللّغو فيه، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت/26].

ذهب أحد المحقِّقين إلى أنّ السبب الكامن وراء إعراض مشركي قريش ورؤسائها هو خوفهم من فقدان مكانتهم الاجتماعيّة، ويقول: إنّ أقوى سلاحاً كان عند النبي (صلّى الله عليه وآله) لبعث الخوف والرعب في قلوب أعدائه هو القرآن الكريم؛ لأنّهم على علم تامٍّ بأنّ أعدى أعداء الرسول (صلّى الله عليه وآله) لو ذهب بغية أذيّته والاستهزاء به، واستمع إلى آيات القرآن الكريم، فلا يمتلك نفسه حينئذٍ، ولكان يعدل عمّا كان عليه، ويتحوّل إلى مدافع وموالٍ حقيقي للرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله)، لذا فإنّهم منعوا من الاستماع إلى الآيات القرآنيّة والحديث مع الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله).

قال الشيخ محسن قراءتي: إنّ المقصود من كلمة {الْغَوْا فِيهِ}؛ أي: قوموا بأيّ عمل فيه لغو؛ سواء كان كلاماً أم عملاً؛ كالصفير والتصفيق والضوضاء، أو خلق حالة من الشكّ والترديد والحيرة بين الناس؛ لكي يستطيعوا من خلال هذه الأساليب أن يبعدوا الناس عن طريق الحقّ، ولا يسمعوا صوت العدالة.

وفي قبال هذه الفئة الضالّة ممّن حاول منع الناس من الاستماع إلى الآيات الشريفة، يذكر لنا القرآن الكريم فئةً اُخرى، وهم الذين يخرّون للأذقان سُجّداً إذا تُليت عليهم آيات الرحمن: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم/58].

إنّ الاستماع لآيات الذكر الحكيم في الحقيقة هو استماع لأوامر الباري (عزّ وجلّ)، لذلك يجب على المستمع الطاعة والتسليم لهذه الأوامر الإلهيّة.

4. قراءة القرآن

إنّ قراءة كتاب الله سبحانه وتعالى هي أحد الطرق التي تجعل الإنسان متّصلاً بمصدر الوحي الإلهي ومتنعّماً ببركاته. وقد عبّرت الآيات الكريمة والروايات الشريفة عن قراءة القرآن الكريم بتعبيرين هما: القراءة والتلاوة.

وقد فرّق البعض بين القراءة والتلاوة، يقول الراغب الإصفهاني: (... والقراءة ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل، وليس يقال ذلك لكلِّ جمع. لا يقال: قرأت القوم إذا جمعتهم. ويدل على ذلك أنّه لا يقال للحرف الواحد إذا تفوه به قراءة) [مفردات غريب القرآن / 402].

يعدّ أحد الباحثين في مجال القراءة أنّ الهدف والغاية من التركيز على القراءة في زمن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) هو لأجل صون ألفاظ القرآن الكريم من التحريف والتبديل، ويقول: إنّ قراءة القرآن هي عبارة عن أداء عين الكلمات التي نزلت على قلب الرسول الكريم بصورة صحيحة ودقيقة؛ لصونها من التحريف.

ويُعدّ هذا العمل في حدّ ذاته عملاً عباديّاً بغضّ النظر عن فهم معاني الكلمات، فمجرّد القراءة يُعدّ نوعاً من العبادة، وأمّا التفكّر في المعاني فهو عمل عباديّ آخر؛ فقد كان المسلمون والقرّاء في صدر الاسلام يركّزون على أداء الكلمات بصورة دقيقة وصحيحة دون أيّة زيادة أو نقصان؛ أي: كما نزلت على قلب الرسول الخاتم (صلّى الله عليه وآله)، ويهتمّون كثيراً بالنطق والأداء الصحيح للكلمات، ويحرصون على الاستماع والنقل الصحيح للآيات حتّى يعلم الجميع ـ وإلى الأبد ـ أنّ القرآن الموجود بين الدفّتين هو الذي جاء عن النبي (صلّى الله عليه وآله).

أمّا بخصوص التلاوة، فيقول الراغب الإصفهاني: (تَلاه: تبعه متابعة ليس بينهم ما ليس منها، وذلك يكون تارة بالجسم وتارة بالاقتداء في الحكم، ومصدره: تُلُوٌّ وتُلْوٌ، وتارة بالقراءة وتدبّر المعنى، ومصدره: تِلاوَة {والْقَمَرِ إِذا تَلاها}، أراد به ها هنا الاتباع على سبيل الاقتداء والمرتبة... والتلاوة تختص باتباع كتب اللَّه المنزلة، تارة بالقراءة، وتارة بالارتسام لما فيها من أمر ونهي، وترغيب وترهيب، أو ما يتوهم فيه ذلك، وهو أخصّ من القراءة، فكل تلاوة قراءة، وليس كل قراءة تلاوة. لا يقال: تلوت رقعتك، وإنّما يقال في القرآن في شيء إذا قرأته وجب عليك اتباعه) [مفردات غريب القرآن/ 75].

إذاً، يمكننا القول بأنّ التلاوة تتعلّق وتختصّ بالكتب السماويّة والإلهيّة، وتعني القراءة التي تتضمّن التدبّر والتفكّر والإتّباع، أمّا القراءة فتشمل قراءة الكتب والرسائل ... وتعني ضمّ الحروف والكلمات بعضها إلى بعض.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الآيات والروايات ترى أنّ القراءة والتلاوة مترادفتان وبمعنى واحد، كما في الآية: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس/ 16].

إنّ القراءة وضمّ حروف القرآن بعضها إلى البعض الآخر لم يكن من عمل الإنسان؛ بل إنّ هذا الإعجاز في البلاغة والفصاحة كان بإرادة من الله سبحانه وتعالى.

وقد حثّ أولياء الله على قراءة القرآن في البيت؛ فتكثر بركته، وتحضر فيه الملائكة، وتتركه الشياطين، ويضيء لأهل السماء، فقد قال أمير المؤمنين علي (عليه السّلام): (البيت الذي يُقرأ فيه القرآن ويُذكر الله (عزّ وجلّ) فيه تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإنّ البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن، ولا يُذكر الله (عزّ وجلّ) فيه تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين) [الكافي 2/ 61].

تلاوة القرآن حقّ تلاوته

إنّ الله سبحانه وتعالى يبيّن لنا معنى التلاوة في القرآن بأنّها الاتّباع والتفكّر والتدبّر، والذين يتلون الكتاب حقّ تلاوته هم المؤمنون حقّاً: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة/ 121].

فعدم إعطاء الكتاب الكريم حقّه من التلاوة يؤدّي إلى سقوط الإنسان من مراتبه الإيمانيّة، لهذا، أشار بعض المفسّرين بخصوص (حقّ التلاوة) إلى نقاط مهمّة؛ وهي أنّ حقّ تلاوة القرآن هو العمل بأحكامه وتعاليمه، وقالوا: إنّ الناس في تعاملهم مع القرآن على ثلاث فئات:

أ ـ الفئة الاُولى؛ هي التي صبّت جلّ اهتمامها على نطق الألفاظ والحروف من مخارجها، فأصحابها منشغلون دوماً بالوقف والوصل، وحروف الإدغام والمدّ، ولا شأن لهم بالمعاني فضلاً عن العمل بها، فهم كما قال القرآن فيهم: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة/ 5].

ب ـ الفئة الثانية؛ هي التي تجاوز أصحابها الألفاظ والكلمات واهتمّوا بمعاني الآيات واستغرقوا فيها، فعرفوا معاني الآيات، إلاّ أنّهم كانوا بعيدين عن العمل بذلك، لذا اكتفوا بالمعرفة وتركوا العمل.

ج ـ الفئة الثالثة، وهم المؤمنون حقّاً؛ إذ جعلوا القرآن نصب أعينهم يعملون بما فيه، وجعلوه برنامجاً متكاملاً لحياتهم الاجتماعيّة، فجعلوا قراءة الألفاظ والتفكّر في معانيها وإدراكها مقدّمة للعمل بهذا الكتاب الإلهي المقدّس، فنراهم في كلّ مرّة يتلون الكتاب يحسّون وكأنّ روحاً جديدة قد دبّت فيهم، وهذا هو (حقّ التلاوة).

قال الإمام الصادق (عليه السّلام) في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ}: (يرتّلون آياته، ويتفقّهون به، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخافون وعيده، ويعتبرون بقصصه، ويأتمرون بأوامره، وينتهون بنواهيه) [تفسير الميزان 1/ 266].

وذكر المفسّرون أقوالاً مختلفة في تفسير {حَقَّ تِلاوَتِهِ}، فقال بعضهم: إنّها تلاوة المؤمنين الذين يتلون القرآن تلاوة حسنة بخضوع وخشوع مع تأنّي وتدبّر في آياته. وقال آخرون: يقرؤون أوصاف النبي (صلّى الله عليه وآله) في الكتاب ويبيّنونها بشكل جميل، ولا يكتمون منها شيئاً. وقال غيرهم: أي إنّ المؤمنين يحرّمون ما حرّمه القرآن ويحلّلون ما حلّله. ويعتقد غيرهم بأنّ المقصود من ذلك هم الذين يعملون بمحكماته، ويؤمنون بمتشابهاته، ويتركون فهم وبيان معانيه وحقائقه إلى أهلها.

ويمكن الجمع بين كلّ هذه الأقوال أيضاً، فتكون جميع هذه المعاني صحيحةً.

وقد عدّ الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) قراءة القرآن أداةً ووسيلة لجلاء القلوب من الصدأ، فكان يقول: (إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: فما جلاؤها؟ قال: ذكر الله وتلاوة القرآن) [الدعوات للراوندي/ 237].

المقالة مقتبسة من مجلة (استاد) الفصليّة (بالفارسيّة)، التابعة لجامعة المصطفى (ص) العالميّة ـ العدد 2 ـ 1390 هـ ش. ترجمة دار السيّدة رقيّة (ع) للقرآن الكريم.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1662
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 05 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29