• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : مصداقية قيم الثورة في شخصية الثائرين (مسلم بن عقيل نموذجاً) .

مصداقية قيم الثورة في شخصية الثائرين (مسلم بن عقيل نموذجاً)

 الشيخ عبدالجليل المكراني

إنّ من الممكن قراءة الثورات البشرية والإنسانية عموماً  وتقييم تلك الثورات على ضوء نقطتين:

النقطة الأولى: تقييم الثورة من خلال مبادئها وشعاراتها، وهذا ما تقوم عليه الآن كثير من الدراسات التاريخية والسياسية في الميدان التحليلي التاريخي والاجتماعي والثقافي، وليس من أولويات هذا المنهج اكتشاف القيم الثورية في الثائرين وانطباع المبادئ الثورية في سلوكهم، بمعنى حاكمية هذه القيم على مسيرة أصحاب الثورة وتحديد أهدافهم الاجتماعية والثقافية والسياسية، فليس من شان هذا المنهج التفتيش عن مصداقية هذا الثائر أو ذاك، وليس المهم في مثل هذا المنهج التطابق بين الشعارات والإعلام وبين الواقع والتطبيق.

وأمامنا الآن الثورات المعاصرة والحديثة التي ترفع شعار حقوق الإنسان والتحرر، لكن نجد فيها خلاف هذه الشعارات من القتل والانتهاك والتعدّي على الحقوق.

النقطة الثانية: دراسة الثورة من خلال شخصيات الثائرين ومقدار حضور القيم والمبادئ الثورية في منطق الثوار وسلوكهم.

ولنأخذ الآن نموذجاً من الثائرين الكربلائيين الذين تجسدت فيهم قيم الثورة، ولا نقصد بذلك إلاّ تمثّل شخصية أبي الأحرار ومبادئه المقدّسة في أخلاقيتهم الثورية في البعد الشخصي والاجتماعي.

والنموذج الذي نتحدث عنه هو الشهيد مسلم بن عقيل رائد الثورة الحسينية وسفير الحسين ومبعوثه إلى أهل الكوفة الذين كاتبوا الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ يطلبون منه القدوم إليهم،  وكانوا المجتمع المرشح لتتحقق في  ربوعه أهداف الثورة على النظام الأموي، وانتشال الأمّة الإسلامية  من رقّ العبودية الأموية، لكنّ الكوفيين لم يكونوا  على قدر المسؤولية من التحرر والإفلات من حالة الاستعباد والتحوّل نحو العزّة والكرامة التي كانوا يأملون بها.

إنّ شخصية الثائر الشهيد مسلم بن عقيل تمثّل تشخيصاً وتجسيداً في الخارج لما كان الإمام الحسين يصبو إليه من هذه الثورة  والنهضة المقدسة، فالإمام الشهيد لم يكن بهدف تغيير سلطة زمنية مؤقتة فقط، ولم يكن يهدف إلى تحرير السلطة السياسية التي اغتصبها الطلقاء وأبناؤهم وإرجاعها إلى أهلها الحقيقيين والشرعيين، بل الأمر أعمق وأبعد من هذا؛ فإنّ الإمام ـ عليه السلام ـ كان يؤسس من جديد لدولة العدل والإسلام، دولة تسودها الأحكام الإلهية التي أنزلها الله تعالى على نبيه الكريم، وقد عمد إلى إزالتها الأمويون بكل ما يمتلكون من قوة وبطش وبمختلف الأساليب، وقد أعطت هذه الثورة الحسينية أهدافها الآنية وتحققت بمجرد إراقة ذلك الدم الطاهر على أرض كربلاء.

مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ لا يغدر ولا يفتك

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الإيمان قيد الفتك))([1]).

في منطق الثورات والانتفاضات والانقلابات التي حدثت على مدى التاريخ فإنّ  الفتك  بالعدو ومحاولة القضاء عليه هي شرعة الثائرين ومنهجهم في إنجاح الثورة وتحقيق الانتصار، ويشتد الأمر إذا كان العدو دموياً وسفاكاً، لكن هذا المنطق قد رفضه مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ رفضاً قاطعاً، ولم يكن ليغدر أو يفتك؛ لأنّ رسالته ومهمته التي بعث من أجلها إلى الكوفة أعظم من قتل شخص أو الانتقام من طاغية عن طريق الغدر، هذه الرسالة التي أريد لها أن تكون ملهم ومنهاج الأمم والأحرار على مدى عمر البشرية وتحقيق العدل وسقوط آخر دكتاتور ومستبد على وجه الأرض. فلقد أجمع المؤرخون على أنّ مسلم بن عقيل كان متمكناً من قتل ابن زياد والفتك به والانتقام  منه وبالتالي تصفية العقل المدبّر الذي قام بإجهاض الثورة وقتل الذرية الطاهرة، لكن منطقه ومنهجه يختلف تماماً عن منهج الانتقام والتنكيل والغدر؛ لما يحمله من مبادئ سامية ثورية تريد نشر العدل وتطبيق مكارم الأخلاق التي تمثلت بنبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول أبو الفرج الأصفهاني: ومرض شريك بن الأعور، وكان كريماً على ابن زياد، وكان شديد التشيع، فأرسل إليه عبيد الله إنّي رائح إليك العشية فعائدك. فقال شريك لمسلم: إنّ هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاقتله، ثم اقعد في القصر وليس أحد يحول بينك وبينه، فإن أنا برأت من وجعي من أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها.

فلمّا كان العشي أقبل ابن زياد لعيادة شريك بن الأعور، فقال لمسلم: لا يفوتنّك الرجل إذا جلس. فقام إليه هانئ فقال: إنّي لا أحب أن يقتل في داري، كأنّه استقبح ذلك.

فجاءه عبيد الله بن زياد فدخل وجلس وسأل شريكاً: ما الذي تجد ومتى اشتكيت؟ فلمّا طال سؤاله إيّاه ورأى أنّ أحداً لا يخرج خشي أن يفوته، فأقبل يقول:

ما الانتظارُ بسلمى أن تحيّوها

حيّوا سُليمى وحيّوا من يحيّيها

كأسُ المنيةِ بالتعجيلِ فاسقوها

لله أبوك! اسقنيها وإن كانت فيها نفسي. قال ذلك مرتين أو ثلاث.

فقال عبيد الله وهو لا يفطن: ما شأنه، أترونه يهجر؟ فقال له هانئ: نعم ـ أصلحك الله ـ ما زال هكذا قبل غياب الشمس إلى ساعتك هذه.

ثم قام وانصرف، فخرج مسلم فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: خصلتان، أمّا إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره. وأما الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي صلّى الله عليه وآله: >إنّ الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن<. فقال له شريك: أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً([2]).

وهنا لا بد من وقفة قصيرة نشير فيها إلى أنّ المؤمن الحقيقي الذي تمحّض الإيمان في قلبه لا يفتك مقابل تمرير بعض مصالحه الشخصية، وكذا لا يظلم الآخرين في قبال تحقيق غاية له، أو يغدر كي يبلغ طموحاً معيناً يجول في خاطره، أو يغش على حساب اكتساب منفعة معينة، وهكذا... وهذا إنّما يعني أنّ المؤمن يحكمه ويقيده من فعل الرذائل والأفعال الناقضة للإيمان هو إيمانه الصحيح.

الحرية قيمة أساسية في شخصية الثائر مسلم بن عقيل

إنّ من الشروط الأساسية في الفعل الثوري والتغييري كون الثائر على درجة كبيرة من التحرر وعدم الاستسلام للظروف والأوضاع؛ لأنّ أي خضوع أو تنازل فإنّه يسبب خفوت الجذوة الثورية في نفوس الأمّة والجماهير، ولعل من الأسباب المهمّة لعدم نجاح كثير من الثورات وتحقيقها لأهدافها هو تنازل قادة الثوار عن التحرر والإباء ومواجهة خدش العزّة والكرامة. لكن هذا التنازل والخضوع لا نجد له صورة أو شبحاً في كربلاء فضلاً عن عينه، فإنّ منطق أبي الأحرار ـ الإمام الحسين عليه السلام ـ كان يمثّل القمّة في إعلان رفض كلّ أنواع الامتهان والاستذلال والاستعباد التي مارستها السلطة الأموية الغاشمة، ولا يفقد هذه القيمة المعنوية توقّع الموت والقتل والنهاية المأساوية للقائد؛ لأنّ الثورة هي التمرّد المطلق.

يقول أبو عبد الله الحسين عليه السلام: ((ألا وأنّ الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت، وحجور طهرت، ونفوس أبية، وأنوف حمية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وأنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وكثرة العدو وخذلة الناصر)). ثم وصل هذا الكلام بشعر فروة بن مسيك المرادي:

فإن نهزمَ فهزامون قِدماً

وإن نغلبَ فغيرُ مغلبينا

وما أن طَبُنا جبنٌ ولكنْ

منايانا ودولةُ آخرينا

إذا ما الموتُ رفع عن أناس

كلاكله أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكم سرواةَ قومٍ

كما أفنى القرونَ الأولينا

فلو خلد الملوكُ إذاً خلدنا

ولو بقيَ الكرامُ إذاً بقينا

فقلْ للشامتينَ بنا أفيقوا

سيلقى الشامتون كما لقينا([3]).

وهذا المنطق والمنهج كان منطبعاً في شخصية رسول الحسين وسفيره مسلم بن عقيل سلام الله عليه، فالموت والقتل هو سمة الأولياء والصالحين والأنبياء ومَن سار على طريقهم من الأحرار والأباة، ولم يكن مسلم يخشى من القتل أو ملاقاة الحتوف والرجال، وهو الذي عرف بشجاعته وبسالته، فقد واجه جيش السلطة العاتية في الكوفة لوحده، وأعلن الجهاد والمعركة مقابل عسكر ابن زياد، وكانت الرجال تنهزم بين يديه وهو يأخذ بالرجل فيلقي به على سطح الدار، حتى طلب ابن الأشعث المدد والجند  من ابن زياد لعنة الله عليه.

وفشلت جيوش أهل الكوفة، وعجزت عن مقاومة البطل العظيم، فقد أشاع فيهم القتل، وألحق بهم خسائر فادحة، وأسرع الخائن الجبان ابن الأشعث يطلب من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال، فقد عجز عن مقاومة مسلم، ولامه الطاغية قائلاً: (سبحان الله! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به، فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة).

وثقل هذا التقريع على ابن الأشعث، فراح يشيد بابن عقيل قائلاً: أتظن أنّك أرسلتني إلى بقال من بقالي الكوفة أو جرمقاني من جرامقة  الحيرة، وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام، وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام.

وأمدّه ابن زياد بقوى مكثفة من الجيش، فجعل البطل العظيم يقاتل وحده وهو يرتجز:

أقسمتُ لا أقتلُ إلاّ حراً

وإن رأيت الموتَ شيئاً نُكرا

أو يخلط البارد سخناً مراً

ردّ شعاع الشمسِ فاستقرا

كلّ امرئ يوما يلاقي شراً

أخافُ أن أكذبَ أو أغرا([4]).

الالتزام بالموقف الشرعي

من القيم الثورية الإسلامية الالتزام بالموقف الشرعي والذي يعني العبودية والطاعة المطلقة لله جل وعلا في كل المواقف وأحلك الظروف، ولا يمنع هذا الالتزام أن يكون الطرف المعادي ممّن تخلى عن القيم الأخلاقية والإنسانية وتمحّض بالضلال والابتعاد عن الالتزام الشرعي والأخلاقي. وهذا ما تمثل في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ عندما جعل الخليفة عمر أمر الخلافة من بعده في ستة نفر كان علي ـ عليه السلام ـ أحدهم، فإنّه عليه السلام عندما ساومه عبد الرحمن بن عوف على التخلّي عن مبادئه وقيمه الإسلامية التي يؤمن بها في قيادته الأمة والصدّ عمّا يحمله من عقائد وأخلاق قيادية والانقياد نحو سيرة أخرى مضى عليها الخليفتان الأول والثاني، رفض ذلك رفضاً قاطعاً تاركاً وراءه ما يحلم جميع الناس بالتمسّك به وهو خلافة الأمّة وقيادتها، وما ذلك إلاّ لأجل احترامه قيمه ومبادئه والتزامه بمواقفه الشرعية التي تقرّبه من طاعة الله جلّ وعلا. ولو أنّه عليه السلام التزم بالأعراف السياسية التي تبيح وسائل الغدر والنفاق في سبيل الوصول إلى الحكم لما آلت الخلافة إلى عثمان، فقد ألحّ عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه شريطة أن يسير على سيرة الشيخين فامتنع من إجابته وصارحه أنّه يسوس الأمّة على ضوء كتاب الله الذي وعاه وعلى ضوء سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وليس غيرهما رصيد يعتمد عليه في عالم التشريع والسياسة في الإسلام.

وهكذا هو من تربّى في هذا البيت العلوي وتغذّى من علمه واكتسب من أخلاقه الطاهرة الكريمة، فقد حافظ مسلم بن عقيل في اللحظات الأخيرة من مواجهة الطاغية ابن زياد على هذه القيمة الثورية، إذ لم يكن يرى أنّ عدوانية أهل الكوفة وخروجهم على خطّ الشريعة ممّا يبرر له التخلّي عن التزامه الشرعي والديني مهما يكن ذلك الأمر كبيراً أو صغيراً.

روى المؤرخون: (ثم أدخل على عبيد الله بن زياد ـ لعنه الله ـ فلم يسلّم عليه، فقال له الحرس: ألا تسلّم على الأمير؟ فقال: إن كان الأمير يريد قتلي فما سلامي عليه؟! وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه. فقال له عبيد الله لعنه الله: لتقتلن. قال أكذلك؟ قال: نعم. قال: دعني إذاً أوصي إلى بعض القوم. قال: أوصِ إلى مَن أحببت. فنظر ابن عقيل إلى القوم ـ وهم جلساء ابن زياد ـ وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر، إنّ بيني وبينك قربة دون هؤلاء، ولي إليك حاجة وقد يجب عليك لقرابتي نُجْح حاجتي، وهي سرّ. فأبى أن يمكّنه من ذكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمّك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد لعنه الله، فقال له ابن عقيل: إنّ عليّ بالكوفة ديناً استدنته مذ قدمتها، تقضيه عنّي حتى يأتيك من غلتي بالمدينة، وجثتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين مَن يردّه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك. قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هاتِ فإنّه لا يخوّن الأمين، ولا يؤتمن الخائن. قال: كذا وكذا.

قال: أمّا مالك فهو لك ولسنا نمنعك منه فاصنع فيه ما أحببت. وأمّا حسين فإنّه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه. وأمّا جثته فإنّا لا نشفعك فيها، فإنّه ليس لذلك منّا بأهل، وقد خالفنا وحرص على هلاكنا([5]).

نعم فقد اجتمعت في شخصية مسلم بن عقيل ـ عليه السلام ـ أسمى القيم التي صدع بها أبو عبد الله الحسين، فكان مسلم بن عقيل هو أنموذج الشخصية الحسينية  التي ارتسمت أخلاقية الحسين في سلوكها وحياتها بعدما كانت الأمّة خاضعة للهوان والذلّة الأموية.

سقتكَ دماً يابنَ عمّ الحسينِ

مدامعُ شيعتك السافحه

ولا برحتْ هاطلاتُ الدموعِ

تحييك غاديةً رائحه

لأنّكَ لم تروَ من شربةٍ

ثناياك فيها غدتْ طائحه

رموكَ من القصرِ إذ أوثقوك

فهل سلمتْ فيك من جارحه

تجرُّ بأسواقهم في الحبال

ألستَ أميرُهم البارحه

أتقضي ولم تبكِكَ الباكياتُ

أمالكَ في المصرِ من نائحه

لئن تقضي نحباً فكم في زَرود

عليكَ العشيةَ من صائحه

 

([1]) عوالي اللآلئ 2: 241.

([2]) مقاتل الطالبيين: 65.

([3]) مثير الأحزان: 40.

([4]) حياة الإمام الحسين 2: 359.

([5]) مقاتل الطالبيين: 67.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1607
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 11 / 18
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28