• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المشرف العام .
              • القسم الفرعي : مقالاته .
                    • الموضوع : البناء الروحي في كربلاء .

البناء الروحي في كربلاء

 الشيخ عبدالجليل المكراني

كربلا لازلت كرباً وبلا                    ما لَقِيَ عندك آل المصطفى

يستوقفنا الحسين في مطلع كلّ عامّ هجري ليوقظ في أسماعنا نداءه الأبدي الخالد في ثورته المقدّسة, وتحوّل هذا النداء على مرّ القرون إلى مدرسة معلّمها الحسين، وأرضها كربلاء، وامتدادها كلّ العالم الإنساني، وأمّا دروسها فهي الطموحات البشرية والأغراض الإنسانية النبيلة المنادية بالتحرر والعيش بسلام, والنقاء الروحي والنفسي وحفظ الكرامة والعزّة.

ما نستفيده من كربلاء

أولاً: الثقافة الفكرية الكربلائية

لا شكّ أنّ دماء الحسين ـ عليه السلام ـ وتضحيته الكبرى في ميدان الجهاد الملحمي أسّس لثقافة ورؤية دينية تختلف عن اتجاهات كثيرة في مدارس الفكر الإسلامي الديني فضلاً عن الفكر الإنساني، فثقافة عاشوراء تقوم على:

1ـ مواجهة الظالم.

2ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3ـ الجهاد، وهو باب الله و هدف المؤمنين وسبيل عزّتهم.

وهي موجز الشعارات التي أطلقها الحسين ـ عليه السلام ـ إعلاناً لثورته في نصرة الدين. وفي رحاب هذه المضامين الفكرية الحسينية، فإنّنا نبني ثقافتنا المبدأية والعقائدية؛ إذ لا يمكن لنا التفكيك بين الجانب العقائدي والديني، وبين الجانب الفكري والثوري في مسيرة سيد الشهداء؛ لأنّنا نحن الشيعة نعتقد أنّ الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ إمام معصوم وسيرته امتداد لسيرة النبي الأكرم المسدّد بالوحي الإلهي, ومواقفه هي ترجمة واقعية لأهداف القرآن الكريم ومضامينه.

وهذه الثقافة الحسينية باستطاعتها أن تجيب عن كلّ التساؤلات والاستفهامات التي نواجهها في واقعنا الشرعي والاجتماعي والسياسي بل العالمي؛ لأنّ ثورة كربلاء رسمت لنفسها نهجاً يدوم مع كلّ التغييرات والمستجدات في الساحة الإسلامية والإنسانية؛ لأنّها ثورة الحياة الكبرى الخالدة.

الحَجْر الثقافي على الشيعة

ومع تداوم الحَجْر الثقافي الذي مورس ضدّ الشيعة والذي نعاني منه إلى الآن، حجبت كتب الشيعة ومصادر الثقافة الشيعية في كثير من البلدان الإسلامية؛ إذ حرّمت الحكومات المستبدة في الفكر والمنغلقة الثقافة بيعها واقتناءها محاولة منها على تجهيل الأمّة بفكر أهل البيت عليهم السلام؛ وطمس الحقيقة الناصعة في حياة الأئمّة وعلومهم وتضحياتهم، مع استخدام أسلوب الترهيب والقتل والفتك بمَن يحاول تعريف الأمّة بمدرسة أهل البيت وعلومهم ومنزلتهم الشريفة.

فكانت ظلامة الحسين ـ عليه السلام ـ وثورته هي المنبع الوجداني والفكري في آن واحد لتوعية الأمّة، وبالخصوص أتباع مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في كلّ ذلك.

يقول الشاعر أبو بكر بن أبي قريعة، وهو رجل قاضٍ كان متشيعاً لكنّه يخفي تشيعه وانتماءه لمدرسة أهل البيت عليهم السلام:

يَا مَن يسائل دائباً

عن كلّ معضلة سخيفه

لا تكشفنَّ مغطىً

فلربما كشفتَ جيفه

ولربّ مستورٍ بدا

كالطبل من تحت القطيفه

إنّ الجوابَ لحاضر

لكنّني أخفيه خيفه

لولا اعتداءُ رعية

ألقى سياستها الخليفه

وسيوف أعداءٍ بها

هاماتنا أبداً نقيفه

لنشرتُ من أسرار

آل محمدٍ جملاً طريفه

تغنيكم عمّا رواه

مالك وأبو حنيفه

وأريتَكم أنّ الحسين

أصيب في يوم السقيفه

ولأيِّ حالٍ أُلحدتْ

بالليل فاطمة الشريفه

ولما حمتْ شيخيكم

عن وطء حجرتها المنيفه

أوهٍ لبنتِ محمد

ماتتْ بغصّتها أسيفه([1])

ثانياً: البناء الروحي في كربلاء

الشيء الآخر الذي نستفيده من كربلاء هو الغذاء الروحي والمعنوي، الذي تغذّينا به إشعاعات النور الحسيني المشع عبر السنين والقرون المتطاولة، فالحسين ـ عليه السلام ـ هو >مصباح الهدى وسفينة النجاة<([2]).

والذي نستلهمه ونأخذه من الحسين ـ عليه السلام ـ ما يلي:

1ـ التوكّل على الله تعالى

التوكّل على الله جلّ وعلا من أعظم الدروس والعِبر التي تؤسّس لبناء النفس والروح بناءً قوياً, فالإنسان في هذه الحياة الدنيا يواجه الصعوبات والمخاطر الشديدة في بلوغ هدفه وإنجاز مسؤوليته الدينية والشرعية والإنسانية، وفي أجواء الصراع والمحنة فإنّ الإنسان قد يفقد الأعوان والأنصار، بل إنّ الأوضاع العامّة والظروف المحيطة كلّها تتّجه إلى الوقوف بوجهه، وفي مثل هذه الحالة لا مناصّ من التوجّه إلى الله جلّ وعلا, فهو مصدر القوّة والنصر في كلّ ميادين الحياة.

إنّ في كربلاء ألواناً فريدة من السمو والعروج نحو الله وتسليم الأمر له والتوكل عليه، ففي أحلك الظروف واللحظات نجد أنّ سيد الأحرار يبرز توكّله وتوجهه المطلق إلى الله، على الرغم من كون الظروف المادية كلّها ضدّ تحرّكه, وأنّ شراسة الأعداء وإجرامهم بلغ غايته القصوى من الإرهاب والقتل والدموية.

روي عن علي بن الحسين عليه السلام: >لمّا أصبحت الخيل تقبل على الحسين ـ عليه السلام ـ رفع يديه وقال: اللهمّ أنتَ ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعُدة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد، وتقلُّ فيه الحيلة، ويخذلُ فيه الصديق، ويشمت العدوّ، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته عنّي وكشفته، فأنت ولي كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة<([3]).

2ـ السعادة الحقيقة في لقاء الله

السعادة هدف ينشده كلّ إنسان يعيش على وجه الأرض تتحرك فيه المعاني الإنسانية الصادقة، ويعيش الأجواء النفسية السليمة والنقية، فلا أحد يبحث عن الشقاء أو التعاسة والانتكاسة والظلامية، لكن الشيء الذي ينبغي التنبّه له أنّ الوسائل التي توصل الإنسان للسعادة الحقيقة لا يصيبها كل إنسان.

فالكثير من بني البشر يقصرون النظر على البعد المادي في وجودهم وحياتهم، ويتفاعلون من خلال المادة بالغريزة والشهوة واللذة الحسّية والأهداف الدنيوية الهابطة، متصوّرين أنّ هذه الأشياء ممّا تكمن فيه سعادتهم وطمأنينتهم. لكن منطق الحسين ـ عليه السلام ـ الذي هو امتداد لمنطق القرآن الكريم يطرح لنا مفهوماً للسعادة يتجاوّز ملامح المادة وإطار اللذة الحسية، وهذا المفهوم يقوم على عنوان لقاء الله جلّ وعلا، هذا اللقاء الذي يحقّق للإنسان سمو الذات وطهارة النفس.

يقول الإمام الحسين عليه السلام: >فإنّي لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع هولاء الظالمين إلاّ برماً<([4]).

3ـ الحزن والألم قاعدة النصر

الحزن والألم يعتبران قاعدة للعديد من الظواهر السلبية التي تواجه حياة الإنسان وتقهر صلابته وقدرته؛ إذ مهما يحمل الإنسان من قوّة وشموخ وثبات فإنّ للأحداث المحزنة والمروعة والمشجية في حياته دوراً في تضعيف تلك القوى وإنهاك الذات.

وممّا اتهم به الشيعة من قبل أعدائهم والمخالفين لهم في العقيدة والمبدأ أنّهم أصحاب ثقافة بكائية, تقوم على تراجيديا([5]) الأحزان والآلام، يصاحب ذلك إيلام للنفس وتعذيب لها؛ بسبب أحزان ماضوية وأقدار قاسية واجهة الجماعة المؤسسة لفكرة التشيع وأتباع أهل البيت.

فالحسين ـ عليه السلام ـ المقتول بكربلاء بصورة مأساوية فجيعة أصبح المتنفّس للشيعة للفرار من الانتكاسات والهزائم التي يواجهونا في دنيا الحياة المادية، فالتجأوا إلى امتهان رثاء الموتى والبكاء على رجل قتل هو وأهل بيته في القرن الأول الهجري!

لكنّنا في ثقافتنا الحسينية نقول لهولاء الذين لم يتربّوا يوماً على ثقافة الحبّ والولاء لآل البيت، ولم يذوقوا حلاوة المودّة لريحانة النبي المختار: إنّكم أخطأتم الهدف، وحاولتم تبرير فشلكم في القضاء على نور الحسين الذي يطل منذ أمد بعيد ليكشف في كلّ عام ظلامات الأمّة وظلامات الدين والقرآن التي يصدرها الحكّام الظلمة وأتباعهم الغوغائيون.

إنّنا في المحرّم نعيش أكثر لحظات حياتنا قوّة وصلابة واستعداداً للتضحية في سبيل الله, وليس في قاموس الحسينيين والكربلائين بكاء الخوف أو الذل أو الهوان, بل إنّه بكاء الحق ونصرته والنهوض للدفاع عنه، وهذا هو ما يقوله القرآن الكريم: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}([6]).

ولم يدع القرآن الكريم مجالاً للشك في تصوير الحسّ الإنساني وتأثره بحركة مشاعره وتألمها في قضية فقد الأعزاء والأحباء والتعبير عن ذلك التأثر بالبكاء والحزن والألم، وذلك في تصوير حالة يعقوب النبي عندما فقد ابنه يوسف الصديق عليه السلام: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}([7]).

4 ــ الأمل في التغيير نحو الأفضل

لا يخفى على أحد حجم الانتكاسات الروحية والنفسية التي مرّت بها المجتمعات والأمّة الإسلامية، التي كبدتها خسائر جسيمة في فقدان كثير من أبناء الأمّة تمسكهم بمبادئ القرآن وما يرشد إليه الدين الإسلامي الحنيف، الأمر الذي أفقد الكثير ثقتهم بأنفسهم للخروج من هذا الواقع البعيد عن التعاليم الإلهية، بينما نجد في الوقت نفسه أنّ قيمة النصر والانتصار مشروطة بتغيير الواقع الفاسد في حياة الأمّة، سواء الواقع السياسي أم الاجتماعي أم الاقتصادي أم غير ذلك، إذ نلاحظ القرآن الكريم ينادي في هذه الأمّة بضرورة التغيير نحو الأفضل الموعود بالنصر والتسديد الإلهيين لهذه الجماعة، لكن كلّ ذلك مشروط بتقدم الأمّة نحو سبيل التغيير والإصلاح والتبدل الحقيقي نحو الأحسن في نظامها وعلاقاتها وتوجهها نحو الله جلّ وعلا.

ولا نقصد أنّ أيام الحسين عليه السلام وشعائره هي فرصة للترويح عن النفس والانتعاش وخروج الفرد من أزمته النفسية وهروبه من الآلام والأحزان التي تحيط بحياته وتهيمن على ذاته، كما يقول ذلك أعداء ثقافة عاشوراء والجاهلون بقيم مدرسة عاشوراء. بل المقصود اكتساب المعاني الروحية التي كان يطبّقها الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه على واقع أرض كربلاء؛ إذ إنّه ـ عليه السلام ـ قد واجه أطغى الطغاة وأجرم شخصية عرفها التاريخ الإسلامي, فكان في مواجهته يسير وفق التوكل على الله والإيمان بحتمية التغيير والإصلاح الذي ينشده.

فعاشوراء تدفع عنّا اليأس القاتل، وتدفع عنّا الشعور بالخيبة والإحباط؛ لأنّ الارتباط بالحسين يعني القدرة على صنع المستحيل والسير نحو تحقيق الطموح.

إنّ الحسين ـ عليه السلام ـ قد انطلق في ميدان المواجهة وهو متيقّن بأنّه سوف ينتصر وإنْ سُفك دمُه أو قُطع رأسُه، على خلاف كثير من الثوار والمصلحين؛ لأنّ الانتصار الحقيقي هو انتصار القيم والمبادئ، وهو بذلك قد خلّد هذه القيم وشيد المبادئ والتعاليم الإسلامية، يقول عليه السلام عندما انطلق في مسار الثورة المقدّسة: >من لحق بي منكم استشهد، ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح<([8]).

رحم الله الأزري الكبير وهو يصوّر لنا هذه المواقف والدروس الكربلائية التي يتمثلها الحسينيون والباكون على أبي عبد الله، السائرين على نهجه ونهج جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله:

ومشيت مشية مطمئن حينما

أزمعت عن هذي الحياة رحيلا

تستقبل البيض الصفاح كأنّها

وفد يؤمل من نداك منيلا

فكأنّ موقفك الأبي رسالة

وبها كأنّك قد بعثت رسولا

نهج الأباة على هداك ولم تزل

لهم مثالاً في الحياة نبيلا

وتعشق الأحرار سنّتك التي

لم تبقِ عذراً للشجى مقبولا

قتلوك للدنيا ولكن لم تدم

لبني أمية بعد قتلك جيلا

ولربّ نصر عاد شرّ هزيمة

تركت بيوت الظالمين طلولا

حملتْ بصفين الكتاب رماحهم

ليكون رأسك بعده محمولا

يدعون باسم محمد، وبكر بلا

دمه غدا بسيوفهم مطلولا

لو لم تبتْ لنصالهم نهباً لما

اجترأ الوليد فمزّق التنزيلا

فكفاك تعظيما لشأوك موقف

أمسى عليك مدى الحياة دليلا([9])

السلام عليك يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلّت بفنائك، عليك منّي سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتكم. السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، ورحمة الله وبركاته.

______________________________

([1]) بحار الانوار43: 190.

([2]) مدينة المعاجز4: 52.

([3]) بحار الأنوار 45: 4.

([4]) شرح الأخبار 3: 150

([5]) التراجيدي، بمعنى المأساوي، أو المأساة.

([6]) المائدة:83.

([7]) يوسف: 84ــ 86.

([8]) مختصر بصائر الدرجات: 6.

([9]) من أخلاق الإمام الحسين للمهتدي البحراني: 281.

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1605
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 11 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24