• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : الأخلاق في القرآن .
                    • الموضوع : العبادة وظمأ الإحساس .

العبادة وظمأ الإحساس

سماحة السيد منير الخباز

{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}.

محاور المحاضرة:

1- الشخصية الإحساسية للإنسان.

2- تناغم الإحساس مع العبادة.

3- الانصعاق بنور الله.

1- الشخصية الإحساسية للإنسان:

من أجل بيان هذه النقطة – وهي أن الإنسان شخصية إحساسية ومخلوقٌ إحساسيٌ – نذكر عدة أمور:

1- أن الله عز وجل خلق عوالم ثلاثة، وكل عالم يكون منشأ وعلة للعالم الذي بعده:

1/ عالم الجبروت: وهو عالم العقول الكلية المجردة، وهو أول عالم أفيض من قِبَلِ الله، وكان الإنسان موجودًا وجودًا إجماليًا (ليس له حدود ولا تفاصيل).

2/ عالم الملكوت: وهو عالم النفوس، وفي هذا العالم خرج الإنسان من الوجود الإجمالي وأصبح ذا وجود تفصيلي، إلا أنه نورٌ يسبّح الله ويهلله ويشاهد ملكوت الله وجماله.

3/ عالم الناسوت: وهو عالم المادة الذي نعيش فيه، وهو عالم النقص والضيق؛ لأن المادة هي ما يشغل حيزًا من الفراغ، ولأن الإنسان انتقل من عالم العقول إلى عالم الملكوت إلى عالم المادة أصبح يعيش النقص والضيق؛ لأن المادة هي التي تفرض عليه ذلك، فالإنسان المادي محدودٌ بالمكان والزمان.

إذن عالم العقول كان مجردًا عن المادة وآثارها، فالإنسان لم يكن كتلة، ولم يكن يحمل صورة أو شكلاً، ثم انتقل إلى عالم الملكوت فاكتسب من المادة الصورة والشكل، ولم يكن له كتلة وعمق، وعندما وصل إلى هذا العالم (عالم الناسوت) اكتسب كتلة، فهذا العالم هو أنقص وأضيق العوالم.

2- بما أن الإنسان في عالم المادة ناقصٌ فهو إذن محتاجٌ إلى الحركة، لأن الناقص يحتاج إلى الكمال فهو يحتاج إلى حركة تخرجه من القوة إلى الفعل، فلذلك الإنسان في هذا العالم يتحرك بينما لم يكن يتحرك في العوالم السابقة، ففي عالم العقول كان كاملاً، لذلك كان ساكنًا، ولكنه عندما نزل إلى عالم المادة أصبح ناقصًا محدودًا بزمن ومكان، اضطر إلى الحركة حتى يكمل نفسه [فالحركة من شؤون عالم المادة لا العوالم السابقة].

والحركة التي يحتاجها الإنسان هي حركة زمانية من الطفولة إلى الكهولة، وهذه الحركة تكسبه خبرة وكمالاً {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}، وقد يحتاج الإنسان إلى حركة مكانية، عن النبي (صلى الله عليه وآله): "اطلبوا العلم ولو بالصين"، وقد يحتاج الإنسان إلى حركة جوهرية، وهي حركة الوجود في صميم ذاته وجوهره، مثل انتقال التصور من معلومة إلى أخرى في المحاضرة.

فالإنسان لأنه ناقصٌ يحتاج إلى الكمال، والكمال يتوقف على الحركة، والحركة قد تكون زمانية، وقد تكون مكانية، وقد تكون جوهرية.

3- أن الله عندما خلق الإنسان وأودع فيه الدافعية نحو الحركة جهّزه بأجهزة تساعده على الحركة، وهذه الأجهزة والأدوات هي التي نعبر عنها بالشخصية الإحساسية للإنسان، فما معنى الشخصية الإحساسية للإنسان؟ هي عبارة عن أن الإنسان منذ طفولته يمر بحركة دائرية فكرية تنطلق من الإحساس، ولكن كيف؟ مثلاً الطفل عندما يفتح عينه فيرى أمه تبتسم تبدأ عنده الحركة الفكرية والتي تمر بعدة محطات بالترتيب:

1/ المعرفة الحسية: صورة الابتسامة تنقلها العين إلى الدماغ.

2/ المعرفة الخيالية: يملك الإنسان قوة الخيال، وهي حفظ الصورة.

3/ المعرفة الوهمية: يملك الإنسان حاسة باطنية تسمى الحدس، وهي التي تنتزع المعنى من الصورة، فمثلاً: صور الأم وهي تبتسم لها معنى وجدانيٌ، وهو المحبة.

4/ المعرفة العقلية: وهي تعني أن الروح تجمع عدة صور محسوسة وتستخرج منها قاعدة عامة تسمى بالكليات، فمثلاً: الطفل يجمع عدة صور مثل أن هناك أمًا تبتسم، هناك أمٌ تقبل، هناك أمٌ تعتني، وهذه الصور إذا جمعها الطفل استخرج منها قاعدة كلية، وهي أن الأم تحب طفلها.

إذن الشخصية الإحساسية للإنسان هي الأداة والجهاز الذي يتحرك بها الإنسان {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

4- نلاحظ أن القرآن يركز على السمع أكثر من الحواس الأخرى، فهناك ما يقارب 130 آية تركز على السمع، مثل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} {أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ}، لماذا؟ لنكتتين:

1/ نكتة طبيعية: ما أقرّه علم الطب الحديث أنّ أول حاسة تعمل وآخر حاسة تنطفئ هي حاسة السمع، فالجنين أول حاسة تعمل لديه هي السمع، ولذلك يستحب للأم الحامل أن تقرأ القرآن دائمًا، وآخر حاسة تتوقف هي السمع، فإذا وُضِعَ الميتُ في التراب يبقى سمعه.

2/ نكتة نفسية: السمع هو البوابة المباشرة إلى الروح، نلاحظ أن كثيرًا منا إذا جمع بين السمع والبصر وجد تأثيره على النفس أكثر، فلو قرأت الكتاب بصوت فذلك يرسخ المعلومة أكثر مما لو قرأته صامتًا، فالسمع بوابة مؤثرة على الروح، ولذلك يركز القرآن على السمع.

2- تناغم الإحساس مع العبادة:

القرآن يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، كيف يتناغم الإحساس مع العبادة؟

هناك ثلاثة تعريفات للعبادة:

1- العبادة هي إظهار المملوكية: (السيد الطباطبائي)

أي: إذا أقر الإنسان واعترف بأنه مملوكٌ لله فلابد أن يظهر هذه المملوكية، فإذا أظهرها بالتسليم والإنابة كانت هي العبادة.

2- العبادة هي التأله: (السيد الخوئي)

بمعنى أن ليس كل صلاة عبادة، وإنما العبادة هي أن توحّد انقيادك العقلي للخالق فقط، فلا يتوجه إلا إليه، وهذا التوحيد هو المعبر عنه بالتأله والعبادة: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ}، ولذلك مَن توجه إلى الدنيا فقط أصبح عبدًا لها.

3- العبادة هي نقل الخضوع من القلب إلى الحس: (علماء العرفان)

أي أن تبرز الخضوع إبرازًا حسيًا، وهذا المعنى أيضًا يذكره علماء النفس ويعبرون عنه بالتلقين الحسي مقابل التلقين النفسي، والتلقين أمرٌ ضروريٌ لشخصية الإنسان، ولكنه قد يكون نفسيًا وقد يكون حسيًا:

1/ التلقين النفسي: إذا أنا وصلت إلى قاعة الامتحان في الجامعة ولكني مضطربٌ وغير واثق من نفسي، فأنا محتاجٌ قبل دخول القاعة إلى خمس دقائق تسمّى بالتلقين النفسي، فأذكر فيها أهل البيت وأقرأ القرآن وأقول لنفسي: مذاكرتي كافية، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "إذا خفت من شيء فقع فيه".

2/ التلقين الحسي: أنا إنسانٌ فرح ولا يمكن أن أنصهر بالفرح إلا إذا حوّلت الفرح من حالة نفسية إلى حسية بتزيين البيت ولبس الجديد، وحينئذٍ أنصهر بالفرح وأشعر به.

والعبادة كذلك هي نقل الخضوع من داخل النفس إلى الإحساس، فالإنسان إذا أراد أن يصلي فهناك من يصلي كعمل روتيني، ولكن هناك من يصلي وهو ينقل الخضوع من قلبه إلى جوارحه، فهو الذي يعبد ربه عبادة حقيقية.

رأى الإمام علي (عليه السلام) رجلاً وهو يعبث بلحيته في صلاته فقال: "لو خشع قلبه لخضعت جوارحه"، إذ إن العبادة هي التلقين الحسي، وهي أن تظهر الخضوع وتبرزه إبرازًا حسيًا، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}.

3- الانصعاق بنور الله:

العبادة والتوجه إلى الله لها ثلاثة مراتب عند علماء العرفان:

1- مرتبة الصعق: الصعق هو استيلاء صور حسية على الجسم بحيث يستسلم الجسم لها وينهار أمامها، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ}.

2- مرتبة المحو: المحو هو أن يستغرق الذهن في الله فلا يفكر الإنسان إلا في الله ولا يلتفت إلا إلى الله ولا يستأنس إلا بالله، فعن الإمام علي (عليه السلام): "ما رأيتُ شيئًا إلا ورأيتُ الله قبله وبعده وفوقه وتحته وفيه".

3- مرتبة المحق: وهي ذوبان إنية العبد في ربه فلا يرى في نفسه شيء يسمّى (أنا)، ذابت إنيته في خالقه، وهذه المرتبة هي التي وصل إليها الأوصياء والأولياء.

نحن البشر العاديون نقدر على المرتبة الأولى وهي الصعق، فنحن نحتاج إلى الصعق، ونحن نحتاج إلى أن ننصعق بذكر الله وبنوره، والانصعاق هو أن نصل بالعبادة إلى درجة البكاء والنحيب والضجيج، وإذا وصل الإنسان إلى مرحلة البكاء والضجيج من ذنوبه فقد وصل إلى مرحلة الانصعاق بنور الله، فنحن نحتاج إلى أن نحسّس أنفسنا بلسعة جهنم لكي نصل إلى مرتبة الانصعاق.

لماذا نحن نحتاج إلى الانصعاق؟

قلوبنا قاسية ومملوءة بالغفلة والسهو، ولذلك أعيننا جامدة لا تبكي، ولذلك يحتاج الإنسان إلى الانصعاق بذكر الله، وهناك خطوات لنصل للصعق، وهي:

1.آهة الندم: عليّ أن أتذكر ذنوبي والمعاصي التي اقترفتها، وبذلك تأخذني آهة الندم والحسرة، وهي أول خطوة.

2. القشعريرة: الإنسان إذا اهتز بدنه عندما يتذكر ذنوبه فهذه القشعريرة هي قشعريرة التوبة والإنابة.

3. البكاء والنحيب: البكاء على ما اقترفتُ من ذنوب كما يتحدث دعاء أبي حمزة عنها: "إلهي أنا الذي لم أستحيك في الخلاء...".

وهذا الانصعاق هو الذي جذب الأنصار إلى الإمام الحسين (عليه السلام).

منقول من موقع شبكة المنير

 

 


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1544
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24