• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : شهر رمضان وعيد الفطر .
                    • الموضوع : مراتب هجر القرآن الكريم .

مراتب هجر القرآن الكريم

الشيخ طالب الخزاعي

{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}(1) .

القرآن الكريم كتاب الله المنزَّل على رسوله ليقود به المجتمع الإنساني نحو الهداية ليسمو ويتكامل في توجهه إلى الله تعالى مجسّداً لمفاهيم وقيم القرآن في فكره وعاطفته وسلوكه، باعتباره دستور الحياة في جميع أبعادها ومجالاتها.

أُنزل لينظم حياة الإنسان ويغيّر عقيدته إلى عقيدة إسلامية وضميره إلى ضمير إسلامي وسلوكه إلى سلوك إسلامي، ولا يتحقق ذلك إلاّ بالاهتمام بالقرآن الكريم اهتماماً ينسجم مع دوره الرسالي وينسجم مع ثقله في الحياة باعتبار صدوره من خالق الإنسان والكون ونزوله على قلب أرقى النماذج الإنسانية.

ويبدأ الاهتمام بالقرآن الكريم بقراءته بتدبّر وإمعان وفهم معانيه الظاهرة وحفظ بعض آياته كحدٍّ أدنى، ثمّ يتدرج الاهتمام بالاطلاع على تفاسيره المحكمة ومعرفة بعض بواطنه، والاطلاع على أسباب النزول وموارده.

والقدر المشترك هو قراءة القرآن بتدبّر والاستمرار على القراءة والاستشهاد بالآيات القرآنية في المجالس والمحافل والمنتديات، وتأتي المراحل اللاحقة بأن يكون التفكير تفكيراً قرآنياً، والعواطف عواطف قرآنية، والسلوك سلوكاً قرآنياً.

والاهتمام بالقرآن الكريم ضرورة شرعية وعقلائية، وقد اعتاد العقلاء في جميع مراحل الحياة الإنسانية الاهتمام بدستورهم على اختلاف دياناتهم وعقائدهم وإن كانت وضعية، فالأولى بالمسلمين الاهتمام بدستورهم الخالد الذي رسم لهم طريق الحق والهداية والاستقامة في الدنيا والآخرة، وأنقذهم من ظلمات الوهم والخرافة، ومن الانحراف والخطيئة لينهض بهم في التوجه إلى الكمال والسمو والارتقاء.

والآية التي افتتحنا بها بحثنا بيّنت حزن وشكوى النبي(صلى الله عليه وآله) بين يدي الله (عزّ وجلّ) من هجران الأمّة للقرآن وعدم الاهتمام به.

هذه الشكوى التي لا زالت إلى يومنا هذا مستمرة؛ لأنّ القرآن عند كثير من المسلمين لا يقرأ إلاّ في المقابر والمآتم، أو في المراسم والتشريفات، ولا يتعاملون مع القرآن إلاّ على أنّه مجموعة أوراد وأذكار، يتلونه تلاوةً مجرّدة عن الروح، ويهتمون أشدّ الاهتمام بالتجويد ومخارج الحروف وحسن الصوت, ويستخدمونه في زخرفة المساجد باعتباره عنواناً من عناوين الفن المعماري، ويقرؤونه لشفاء المرضى أو لحفظ المسافرين، أو لافتتاح المنازل الجديدة، غافلين أو متغافلين عن لبّه ومحتواه، هاجرين برامجه البنّاءة، تاركين التفكر به والتأمل فيه باعتباره الدستور الإلهي الذي أنزله على قلب المصطفى(صلى الله عليه وآله) ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وليعيش الناس السعادة الحقيقية في ظل تعاليم القرآن وأحكام الإسلام العظيم.

وهجر القرآن ـ وهو تركه والإعراض عنه ـ له عدّة مراتب وصور، نستعرض أهمّها، وهي:

الأُولى: ترك قراءته وتلاوته

قراءة القرآن وتلاوته مقدّمة للارتباط بالله تعالى وبأوامره ونواهيه وإرشاداته، والارتباط بمفاهيم الإسلام وقيمه وموازينه، وبذلك يكون ترك قراءة القرآن وتلاوته بداية الإعراض عن المنهج الإلهي، وعدم الرغبة في التكامل على ضوئها.

ويعتبر ترك القراءة والتلاوة من أدنى مراتب وصور هجر القرآن حيث يترك مهملاً ومهجوراً، لا يقرأ ولا يُتلى، فتراه موضوعاً للزينة أو للبركة والحفظ أو للقسم به عند الحاجة إلى ذلك.

وقد جاءت روايات النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته(عليهم السلام) لمعالجة هذا الجانب من هجر القرآن وتركه، لتبيّن الآثار الإيجابية لقراءته والفوائد المترتبة على قراءته، ولدفع الآثار السلبية المترتبة على عدم قراءته .

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):  (إذا أحبَّ أحدُكُم أن يُحدِّث ربَّه فليقرأ القرآن)(2) .

وقال(صلى الله عليه وآله):  (من قرأ القرآن فكأنّما استدرجت النبوّة بين جنبيه، غير أنّه لا يُوحى إليه)(3) .

وقال(صلى الله عليه وآله):  (إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن)(4) .

وتعتبر قراءة القرآن من أهم الوسائل للاتصال بالله (عزّ وجلّ)، ومن أقوى الروابط لتقوية الأواصر بين العبد وربّه.

فقد ورد عن الإمام السجاد(عليه السلام):  (لو مات من بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)(5) .

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):  (من أنس بتلاوة القرآن لم توحشه مفارقة الإخوان)(6) .

وقراءة القرآن تجعل أجواء المنزل وأجواء الأسرة أجواءً روحانية تتسامى فيها النفوس وتتوجه نحو الاستقامة والصلاح.

قال أمير المؤمنين(عليه السلام):  (البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويذكر الله عزّ وجلّ فيه، تكثر بركته، وتحضره الملائكة، وتهجره الشياطين، ويضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الأرض، وإنّ البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ولا يذكر الله عزّ وجلّ فيه، تقلّ بركته، وتهجره الملائكة، وتحضره الشياطين)(7) .

وتكون آثار قراءة القرآن أقوى وأسرع إذا كان قارئ القرآن شاباً؛ لأنّ قلب الشاب غض طري لم يتمكن منه الشيطان، والسيئات بعد لم تتحكم فيه، ولم تسلب نقاوة فطرته وسلامة ضميره فيكون استعداده أكثر لتقبل القرآن وأحكامه والتفاعل مع إرشاداته وبرامجه البنّاءة، فتراه مندمجاً مع القرآن اندماج اللحم بالدم، فيكون هواه قرآنياً، وأحاسيسه قرآنية، وعقله وفؤاده قرآنياً، وإرادته قرآنية.

فقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام):  (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن، اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان حجيزاً عنه يوم القيامة)(8) .

وقد جاء التأكيد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) على فضل قراءة القرآن في المصحف على القراءة عن ظهر قلب، ومن هذه الأحاديث ما رواه إسحاق بن عمار سائلاً الإمام الصادق(عليه السلام):  (جعلت فداك إني أحفظ القرآن عن ظهر قلبي فأقرأه عن ظهر قلبي أفضل أو أنظر في المصحف؟ قال: فقال لي: لا, بل اقرأه وانظر في المصحف، فهو أفضل أما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة)(9) .

وعنه (عليه السلام): (من قرأ في المصحف متّع ببصره، وخفف عن والديه، ولو كانا كافرين)(10) .

وأيضاً عنه (عليه السلام) يرفعه إلى النبي(صلى الله عليه وآله) قال:  (ليس شيء أشد على الشيطان من القراءة في المصحف نظراً والمصحف في البيت يطرد الشيطان)(11) .

الثانية: ترك التدبّر بالقرآن

التدبّر بالقرآن هو استشعار لمفاهيمه وأحكامه ليتفاعل معها العقل والقلب والضمير، أمّا تركه فهو مقدّمة لعدم الانطلاق وراء إرشاداته، فالقراءة بمفردها لا تكفي وإن كانت مطلوبة إلاّ أنّها تبقى مجرّد ألفاظ تطلق باللسان ولا تتعداه إلى خلجات النفس، وترك التدبّر يعني عدم الرغبة في المزيد من التهيؤ لإصلاح النفس وتغييرها.

وقد جاء الحثّ الأكيد على التدبّر في القرآن الكريم في آيات الكتاب العزيز والسنّة المطهرة، فأمّا الكتاب فقد وردت هذه المفردة في أربعة موارد، هي:

1 ـ قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(12) .

2 ـ قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(13) .

قال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ}(14) .

4 ـ قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}(15) .

وأمّا السنّة المطهرة فقد جاءت مؤكدة على ما أشارت إليه آيات الكتاب العزيز على ضرورة التدبّر في القرآن، وأن تكون القراءة واعية ومستنطقة لأبعاد الآيات القرآنية، وسابرة لأغوارها ومستجلية لمفاهيمها وأهدافها ومتوقفة عند عجائبها ومحركة للقلوب بفهم معانيها.

فهذا النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله) يبيّن لنا كيف تكون القراءة الواعية عندما يسأل عن قوله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}(16) :  (بيّنه تبياناً، ولا تنشره نشر البقل، ولا تهزّه هزَّ الشعر، قفوا عند عجائبه، حركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة)(17) .

وقال الإمام علي(عليه السلام):  (ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه)(18) .

وأيضاً عنه(عليه السلام):  (تدبّروا آيات القرآن واعتبروا به، فإنه أبلغ العبر)(19) .

وما أروع ما قاله إمامنا زين العابدين(عليه السلام):  (آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر فيها)(20) .

فالقراءة التي ملئها التدبر والتعمّق والإمعان في آيات الكتاب العزيز تكون نتائجها الانفتاح على معالم القرآن وأسراره والإطلاع على كنوزه وخزائنه المودعة فيه من قبل الله عزّ وجلّ.

حتى يصل صاحب هذه القراءة إلى مقام استلهام عطاءات القرآن واستنطاق مفاهيمه واستخراج أحكامه، التي قد تفوت الكثير ممّن يقرأ القرآن بلا تدبّر وتعمّق وإمعان.

وممّا يؤيد ذلك ما يرويه الشعبي عندما دخل على الحجاج الثقفي في يوم عيد الأضحى... فقال الحجاج: ما أفضل ما يتقرب به إلى الله في مثل هذا اليوم؟ فقال له الشعبي: هو الأضحية يا أمير. فقال: فإني سأضحي اليوم برجل من أتباع أبي تراب.

يقول الشعبي: فقلت في نفسي لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم، ثمّ أخرج رجلاً يرفلُ بقيوده فلما رآه الحجاج قال له: ألا زلت تزعم بأن الحسن والحسين ابنا رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: بل القرآن يقول ذلك، فقام إليه الحجاج وقال: لئن لم تأتني بآية من كتاب الله كما قلت لأضحين اليوم بك، ثم قال له: إياك أن تأتني بقوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(21) .

فقال الرجل: بل آية أُخرى.

يقول الشعبي: فاستذكرت في قلبي الآيات القرآنية فلم أجد فيها ما أراده الحجاج غير هذه الآية فتيقنت من قتل ذلك الرجل، وإذا بالرجل يبادر فيقرأ قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ}(22) .

ثمّ سأله: فمن أين أُعتبر عيسى من ذرية إبراهيم(عليه السلام)، فأجابه الحجاج: عن طريق أمه مريم÷، فقال: فكذلك الحسن والحسين‘ إنّما هما ابنا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن طريق أمهما فاطمة÷.

فقال الحجاج: ادفعوا إليه عشرة آلاف درهم(23) .

وهذا الرجل هو يحيى بن يعمر العامري البصري.

ويمكن للحظة من لحظات التدبّر أو ومضة من ومضات التأمل في آية من آيات الكتاب الحكيم تغيّر حياة الإنسان وتنقله من عالم الظلمات إلى عالم النور، ومن مستنقع الضلال والانحراف إلى واحة الهداية والرشاد.

وهذا الكلام ليس من وحي الخيال والتصوّر بل من واقع الحقيقة والمشاهدة.

وخير شاهد على ذلك ما يحكى عن الفضيل بن عياض أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين ابيورد وسرخس، وعشق جارية، فبينما يرتقي الجدار إليها سمع تالياً يتلو: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ...}(24)   فقال: يا ربِّ قد آن، وقال بعضهم: وأوى إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا، فتاب الفضيل وآمنهم. وحكي أنّه جاور الحرم حتى مات(25) .

الثالثة: ترك حفظ القرآن

حفظ القرآن يساهم في استحضار مفاهيم وقيم القرآن في الذهن والقلب والإرادة لتساهم في إصلاح النفس، وأمّا ترك الحفظ فهو يعبّر عن حالةٍ نفسية لا تريد الخير والاطمئنان والصلاح لصاحبها.

وقد ورد الحثّ الشديد في السنّة المطهرة على حفظ القرآن ومداومة استذكاره.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) :  (من أعطاه الله حفظ كتابه فظنّ أنّ أحداً أعطي أفضل ممّا أُعطي فقد غمط أفضل النعمة)(26) .

وعنه(صلى الله عليه وآله):  (عدد درج الجنّة عدد آي القرآن. فإذا دخل صاحب القرآن الجنّة قيل له: إرقا واقرأ، لكلّ آيةٍ درجة فلا تكون فوق حافظ القرآن درجة)(27) .

وورد عن الإمام الصادق(عليه السلام):  (الحافظ للقرآن العامل به مع السّفرة الكرام البررة)(28) .

هذا التأكيد على حفظ القرآن وبيان مقام الحافظ للقرآن وأنّه في أعلى الدرجات؛ لأنّه يكشف عن مدى التفاعل مع القرآن وأنّه حاضر في نفس المؤمن الحافظ له، وبالتالي تكون قيم القرآن ومعانيه ومفاهيمه وزاعاً للمؤمن الحافظ في قوله وفعله ترشده إلى الهدى والصلاح وتنهاه عن الضلال والانحراف.

وتصوّر لنا بعض الأحاديث الإنسان الذي لم يحفظ شيئاً من القرآن بالبيت الخرب، وما ذاك إلاّ إشارة إلى حالة التجافي والابتعاد عن روح القرآن ومعانيه وبرامجه البنّاءة.

فقد ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله):  (إنّ الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)(29) .

وما هذا الحديث وأمثاله إلاّ دعوى للتفاعل مع القرآن والإستئناس به والتعايش معه والذوبان فيه؛ حتى تكون الروح والعقل والجسد كياناً قرآنياً يمثل الإنسان الكامل الذي يحمل فكر السماء ويسعى لتطبيقه على أرض الواقع.

ولهذا يتبيّن لنا سرّ التأكيد على مداومة حفظ القرآن واستذكاره والاجتهاد في الدعاء على حفظه وعدم نسيانه.

فقد ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله) دعاء حفظ القرآن ـ الذي علّمه لأمير المؤمنين(عليه السلام) ـ :  (اللهمّ ارحمني بترك معاصيك أبداً ما أبقيتني وارحمني من تكلّف ما لا يعنيني، وارزقني حُسن النظر فيما يرضيك، وألزم قلبي حفظ كتابك كما علّمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يُرضيك عني. اللهمّ نور بكتابك بصري، وأشرح به صدري، وأطلق به لساني، واستعمل به بدني، وقوّني به على ذلك، وأعني عليه، إنّه لا يعين عليه إلاّ أنت، لا إله إلاّ أنت)(30) .

وقد جاءت بعض الروايات لتكشف عن عظمة ما يفوت الإنسان المؤمن الناسي لما حفظه من القرآن من الثواب العظيم والمقام الرفيع.

قال الإمام الصادق(عليه السلام):  (من نسي سُورةً من القرآن مُثّلت له في صورة حسنة ودرجة رفيعة، فإذا رآها قال: من أنتِ؟ ما أحسنك! ليتكِ لي! فتقول: أما تعرفني؟ أنا سورة كذا وكذا، لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان)(31) .

الرابعة: ترك تعلّم علوم القرآن وأحكامه

لا يخفى بأنّ القرآن الكريم كتاب هداية إلهي، وهو تبيان فصّل فيه علمَ كلّ شيء تفصيلاً لا يدانيه أيَّ تفصيل مهما بلغ في البيان والوضوح. ففيه علوماً استوعبت جميع المسائل الحياتيّة التي تقوّم الوجود الأكمل؛ لأنّه منبع العلوم والفيوضات الإلهيّة.

قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(32) .

وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله):  (إنّ هذا القرآن مأدُبَةُ اللهِ، فتعلّموا من مأدبته ما استطعتم)(33) .

فالقرآن الكريم هو الغذاء الرباني للإنسان، الذي لا نفاذ له، وهو النور والهدى والبصيرة والمنبع لكلّ الأُمور الجارية في العالم باعتباره الكتاب المبين الجامع لهذه الحقائق والقضايا. ولهذا يعد تعلّم علوم القرآن وأحكامه من الأُمور الضرورية في معرفة أصول وفروع الإسلام، ومعرفة الأحداث والمواقف والشخصيات ومعرفة من له أهلية القيادة الربانيّة.

وترك تعلّم القرآن والتعرف على حقائقه واكتشاف أحكامه يؤدي إلى جمود الذهن وجمود الوعي والتخبط في المسيرة العلمية؛ لعدم التمييز بين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين تحديد المسؤولية الشرعية وعدمها.

وقد توالت توجيهات وإرشادات أهل البيت(عليهم السلام) في الحث على تعلّم علوم القرآن وأحكامه ودراسة ما فيه من أطروحات وتعاليم وتطبيقها.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):  (إن أردتم عيش السعداء وموت الشهداء والنجاة يوم الحسرة والظلّ يوم الحرور والهدى يوم الضلالة، فادرسوا القرآن فإنّه كلام الرحمن وحرزٌ من الشيطان ورجحانٌ في الميزان)(34) .

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام):  (وتعلّموا القرآن فإنّه أحسن الحديث وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنّه أنفع القصص)(35) .

وأكّد الإمام الصادق(عليه السلام) على ضرورة تعلّم القرآن ودراسته والسعي في طلبه، حيث قال:  (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلّم القرآن، أو يكون في تعليمه)(36) .

ويعتبر تعلّم القرآن من أهم المعايير لمعرفة الأفضل والأحسن من بين المؤمنين، كما أشار إلى ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله):  (خياركم من تعلّم القرآن وعلّمه)(37) .

وهذا التأكيد على دراسة القرآن وتعليمه؛ باعتباره دستور الحياة في جميع أبعادها ومجالاتها، أنزل لينظم حياة الإنسان ويغيّر عقيدته إلى عقيدة إلهية، وضميره إلى ضمير إسلامي وسلوكه إلى سلوك إسلامي، ولأنّه يعطينا المعرفة والبصيرة التي من خلالها نصل إلى مرحلة التشخيص الدقيق والسلوك الصحيح باعتبار صدوره من خالق الإنسان والكون ونزوله على قلب أرقى النماذج الإنسانية. فلا نحتاج بعد ذلك لاستجداء النظريات الوضعية والقوانين البشرية.

ولهذا تؤكد روايات أهل البيت(عليهم السلام) على فضل المعلم للقرآن وتوقيره في المجتمع الإسلامي وحسن رعايته واحترامه؛ باعتبار دوره المهم في إرساء دعائم القرآن الكريم وبيان مناهجه وأساليبه لأبناء المجتمع الإسلامي.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):  (من عَلَّمَ رجُلاً القرآن فهو مولاه، لا يخذله ولا يستأثر عليه)(38) .

وعنه(صلى الله عليه وآله):  (من عَلَّمَ عبداً آية من كتاب الله فهو مولاه، لا ينبغي له أن يخذله ولا يستأثر عليه، فإن هو فعله قصم عُررةً من عرى الإسلام)(39) .

ومن دواعي الاهتمام بالقرآن وتعليمه هو ما افترضه الشارع الإسلامي المقدس من الحقوق على الآباء للأبناء وهو حق تعليم القرآن للأولاد، وما ذلك إلاّ لبيان أهمية تعلّم القرآن وتعليمه؛ لكي ينشأ الجيل الإسلامي نشأةً قرآنية وليرتقي بجيل المستقبل إلى الكمال المنشود والحياة السعيدة في ظل الإسلام وتعاليم القرآن المجيد.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله):  (حق الولد على والده أن يُحسِّن اسمه، ويزوّجه إذا أدرك، ويعلّمه الكتاب)(40) .

وقال أمير المؤمنين(عليه السلام):  (حق الولد على الوالد أن يُحسِّن اسمه، ويُحسِّن أدبه، ويُعلِّمه القرآن)(41) .

وإذا قام الآباء بأداء هذا الحق، فيكون لهم الدور في زرع مفاهيم وقيم القرآن في قلوب وعقول وضمائر أولادهم منذ نعومة أظفارهم، حتى يتسنى لهم بالمستقبل قيادة المجتمع إلى جادة الأمان والسلام والمحبة من خلال تحكيم أحكام القرآن ومفاهيمه وقيمه في ربوع الأمة الإسلامية.

قال رسول الله(عليه السلام):  (من علّم ولداً له القرآن قلَّده الله قلادة يُعجَبُ منها الأوّلون والآخرون يوم القيامة)(42) .

الخامسة: ترك العمل بالقرآن

القرآن ليس كتاب تلاوة وتدبّر فحسب بل هو كتاب هداية للإنسان بعد مراعاة مفاهيمه وقيمه وتجسيدها في ممارسات عملية على أرض الواقع؛ ولذا فإنّ ترك العمل به وبما جاء به من مفاهيم وقيم وموازين وإرشادات يؤدي إلى الابتعاد عن المنهج الإلهي ابتعاداً حقيقياً، وله آثاره الوخيمة على حياة الفرد والمجتمع فيجعل الإنسان قلقاً مضطرباً تعيساً؛ لأنّه لم يستجب لنور الهداية والإرشاد.

فقراءة القرآن وتدبّر آياته مقدّمة للعمل بالقرآن وتطبيق أحكامه وتحكيم قيمه ومناهجه.

فهذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عندما يسأل عن معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}(43) ، قال:  (يتبعونه حقّ اتّباعه)(44) .

وكذلك الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسيره لقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ}(45) ، قال:  (يرتلون آياته، ويتفهَّمون معانيه، ويعملون بأحكامه، ويرجون وعده، ويخشون عذابه، ويتمثلون قصصه، ويعتبرون أمثاله، ويأتون أوامره، ويجتنبون نواهيه...)(46)  .

وكان من وصية أمير المؤمنين(عليه السلام):  (الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم)(47) .

فالقرآن الكريم يهتف بالعمل والتطبيق لأوامر الله والابتعاد عن نواهيه.

وتعتبر هذه المرتبة ـ ترك العمل بالقرآن ـ من أبرز مظاهر هجر القرآن وتركه والإعراض عنه.

وهذا التاريخ يضمُّ بين أوراقه شواهد كثيرة من قبل حكّام الجور والطغاة الذين عطّلوا أحكام القرآن وأبطلوا حدوده وخالفوا أوامره وارتكبوا محارمه ونواهيه.

فقد ذكر الماوردي وآخرون أنّ معاوية أُتي بلصوص فقطعهم، حتى بقي واحد من بينهم، فقال:

يميني أمير المؤمنين أُعيذها *** بعفوك أن تلقى نكالاً يُبينها

يدي كانت الحسناء لو تمَّ سترُها *** ولا تعدم الحسناء عيباً يشينها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبةً *** إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال: كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك. فقالت أُمّ السارق: يا أمير المؤمنين اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها. فخلّى سبيله، فكان أوّل حدّ ترك في الإسلام(48) .

وعلّق الأميني(قدس سره) على فعل معاوية هذا، قائلاً: أفهل عرف معاوية من هذا اللّص خصوصيّة استثنته من حكم الكتاب النهائي العام: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}(49)  أم أنّ الرأفة بأمّه تركت حدّاً من حدود الله لم يُقَم؟ وفي الذكر الحكيم: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}(50)، {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ}(51)، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا}(52)  أم أنّه كان لمعاوية مؤمِّن من العقاب غداً وإن تعمّد اليوم إلغاء حدّ من حدود الله؟ وهل نيّة التوبة عن المعصية تبيح اجتراح تلك السيئة؟! إنّ هذا لشيء عجاب...!)(53)  .

وقد تجاوز الطغاة وحكام الجور على القرآن أكثر من ذلك، فوصلت الحالة أن ينصب القرآن كغرض ويرمى بالسهام ويمزّق ويُفتخر بذلك.

فهذا الوليد بن يزيد بن عبدالملك تفأل بالمصحف يوماً فخرج قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}(54) ، فألقه ورماه بالسهام وقال:

تهدّدني بجبار عنيد*** فها أنا جبّار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر*** فقل يا ربّ مزّقني الوليد(55)

وهكذا خالفوا القرآن وحاربوه وتركوا العمل به وأعرضوا عنه حتى يأتي رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوم القيامة ويقف بين يدي الله عزّ وجلّ قائلاً: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}(56) .

فنسأل الله عزّ وجلّ أن يجعلنا ممّن يتلون القرآن حقّ تلاوته ويتفهّموا معانيه ويعملوا بأحكامه ويتمثّلوا قصصه ويعتبروا بأمثاله. أنّه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين.

ـــــــــــــــ

(1) سورة الفرقان: 30.

(2) المتقي الهندي، كنز العمال: ج1 ص510 ح2257.

(3) نفس المصدر : ج1 ص525 ح2349.

(4) نفس المصدر: ج1 ص545 ح2441.

(5) الكليني، الكافي: ج2 ص602.

(6) محمد الريشهري، ميزان الحكمة: ج8 ص3338 ح16500.

(7) الكليني، الكافي: ج2 ص610.

(8) نفس المصدر: ج2 ص603.

(9) ابن فهد الحلي، عدة الداعي: ص 272.

(10) الصدوق، ثواب الأعمال: ص102.

(11) ابن فهد الحلي، عدة الداعي: ص272.

(12) سورة محمد: 24.

(13) سورة ص: 29.

(14) سورة المؤمنون: 68.

(15) سورة النساء: 82.

(16) سورة المزمل: 4.

(17) قطب الدين الرواندي، كتاب النوادر: ص164.

(18) الصدوق، معاني الأخبار: ص226.

(19) محمد الريشهري، ميزان الحكمة: ج8 ص3343 ح16536.

(20) الكليني، الكافي: ج2 ص609.

(21) سورة آل عمران: 61.

(22) سورة الأنعام: 83ـ 85.

(23) المجلسي، بحار الأنوار: ج10 ص148.

(24) سورة الحديد: 16.

(25) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: ص371.

(26) المتقي الهندي، كنز العمال: ج1 ص518 ح2317.

(27) المجلسي، بحار الأنوار: ج89 ص22.

(28) الصدوق، الأمالي: ص115.

(29) الترمذي، سنن الترمذي: ج4 ص25 ح3080.

(30) ابن فهد الحلي، عدة الداعي: ص280.

(31) الصدوق، ثواب الأعمال: 238.

(32) سورة النحل: 89.

(33) المتقي الهندي، كنز العمال: ج1 ص526 ح2356.

(34) المجلسي، بحار الأنوار: ج89 ص19.

(35) ابن شعبة الحراني، تحف العقول: ص150.

(36) الكليني، الكافي: ج2 ص607.

(37) الطوسي، الأمالي: ص357.

(38) المتقي الهندي، كنز العمال: ج1 ص532 ح2382.

(39) نفس المصدر: ج1 ص532 ح2384.

(40) نفس المصدر: ج16 ص417 ح45191.

(41) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: ج19 ص365.

(42) المتقي الهندي، كنز العمال: ج1 ص533 ح2386.

(43) سورة البقرة: 121.

(44) جلال الدين السيوطي، الدر المنثور: ج1 ص111.

(45) سورة البقرة: 121.

(46) النمازي، مستدرك سفينة البحار: ج1 ص488.

(47) الفتال النيسابوري، روضة الواعضين: ص136.

(48) ابن كثير، البداية والنهاية: ج8 ص145.

(49) سورة المائدة: 38.

(50) سورة الطلاق: 1.

(51) سورة البقرة: 229.

(52) سورة النساء: 14.

(53) الأميني، الغدير: ج10 ص214.

(54) سورة إبراهيم: 15.

(55) ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج5 ص290.

(56) سورة الفرقان: 30.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1534
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 07 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24