• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : السيرة والمناسبات الخاصة .
              • القسم الفرعي : النبي (ص) وأهل البيت (ع) .
                    • الموضوع : العطاء بين عدالة الأمير وكرم المجتبى .

العطاء بين عدالة الأمير وكرم المجتبى

 

بقلم: سماحة العلامة الحجة السيد حسين الياسين
نظراً لما عرف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من تفانيه في تحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع والذي يتجلّى لنا واضحاً في شواهد عديدة؛ من أبرزها ما جرى بينه وبين أخيه عقيل بن أبي طالب، تلك الحادثة التي يصورها لنا الإمام (عليه السلام) قائلاً: ولقد رأيت عقيلاً وقد أملق حتى استماحني من بركم صاعاً وعاودني في عشر وسق من شعيركم يقضمه جياعه......الخ. [مناقب آل أبي طالب: ج1، 375-376]. 
نظراً لذلك فقد تعطي هذه الصورة تصوراً سلبياً عند البعض اتجاه المنهج الذي نهجه الإمام الحسن (عليه السلام) ذلك المنهج الذي تجلّى فيه الكرم والسخاء في أتم صوره حتى سمّي (عليه السلام) لذلك بكريم أهل البيت (عليهم السلام) حيث يربطه بالتصرف في بيت المال، فيُتساءل حينئذٍ عن وجه المباينة بين السيرتين فيه، ما قد يؤدي إلى التشكيك في بعض ما ورد عن كرم الإمام الحسن (عليه السلام) واعتباره أمراً مرفوضاً أو مبالغاً فيه.
ولكي تعالج هذه الإشكالية، علينا أن ندرس الأمر على أساس هذه النقاط:
1- إنّ صفة الكرم والسخاء هي من الصفات المحمودة المطلوبة من سائر الناس فضلاً عن قادتهم المعصومين، بل إنّ المعصوم وبلحاظ كونه القدوة والأسوة، لابد وأن يكون الأفضل في هذه الصفة كما هو الحال في سائر الصفات والسمات الكمالية، وبالمناسبة نذكر هذه الأبيات المروية عن الإمام الحسن (عليه السلام) في هذا المجال وهي:
إنّ السخاء على العباد فريضة           لله يقرأ في كتاب محكم
وعد العباد الأسخياء جنانه              وأعد للبخلاء نار جهنم
من كان لا تندى يداه بنائل              للراغبين فليس ذاك بمسلم     
[بحار الأنوار،ج43، ص342]
ومن هنا، نجد أنّ هذه الصفة موجودة في الأئمة (عليهم السلام) جميعاً وإن تفاوتوا في ذلك بحسب الظاهر، نتيجة اختلاف الظروف والمناسبات أو نتيجة تغلّب صفة أخرى ظاهراً في أحدهم دون الآخر (عليهم السلام) ولو لكونها وقعت موقع التركيز لعوامل مختلفة.
لذلك فإنّ المتتبع لسيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) يجد نماذج من مصاديق هذه الصفة مشابهة لما يروى من نماذج عن الإمام الحسن (عليه السلام)، فمنها على سبيل المثال: أنّ أعرابياً سأله، فأمر له بألف، فقال الوكيل: من ذهب أو فضة؟ فقال: كلاهما عندي حجران، فأعط الأعرابي أنفعهما له.
وقال له ابن الزبير: (إني وجدت في حساب أبي أنّ له على أبيك ثمانين ألف درهم، فقال له: إنّ أباك صادق، فقضى ذلك. ثم جاءه فقال: غلطت فيما قلت، إنما كان لوالدك على والدي ما ذكرته لك، فقال: والدك في حل والذي قبضته مني هو لك). وغير ذلك.
2- إنّ هذه الصفة ترتبط بالشخص ارتباطاً ذاتياً. ونقصد من ذلك أنها صفة قائمة بنفس الشخص بحيث تؤثر على فعله خارجاً فيبذل من أمواله الشخصية بما يقتضي اطلاق لفظ الكريم عليه، وعلى هذا فإنّ من يبذل من غير أمواله لا يكشف بذله عن تلك الصفة ولا يستحق اسم الكريم.
3- إنّ لهذه الصفة أهميتها الإعلامية - خصوصاً في بعض الظروف والأحوال - حيث تكون وسيلة مهمة في تحقيق بعض الأهداف المطلوبة، لذلك نجد دورها المهم سلباً وإيجاباً على مرّ التاريخ.
4- إنّ مما لا شك فيه أنّ للمال دوره الفعّال في هذه الصفة بحسب الاثبات والواقع الاجتماعي؛ فهو أداة للكريم بها يبرز كرمه وسخاءه، ومن دونه لا يستطيع أن يقنع الآخرين بوجود هذه الصفة فيه، فالكرم في هذا الواقع مال + بذل.
وعلى هذا فليس من الصحيح ما قد يصوّر من أنّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا يعيشون الفقر دائماً وطوال حياتهم. نعم، جودهم وإنفاقهم في سبيل الله قد يستوجب في بعض الأحيان خلو أيديهم من المال وقد يضطرهم ذلك إلى الاقتراض.
وعلى أساس هذه النقاط يمكننا معالجة المشكلة، فعلى أساس النقطة الأولى نعرف أنّ ما يروى عن كرم الإمام الحسن (عليه السلام) مهما بلغ ليس مجانباً للحقيقة؛ لأنّ ذلك مما يتطلّبه مقام الإمامة كما بيّن.
وعلى أساس النقطة الثانية نعرف أنّ الإمام الحسن (عليه السلام) كان يصرف من أمواله وليس من بيت المال كما قد يُتصوّر، وكان منشأ للإشكال، الأمر الذي لا مصحّح له ولا دليل عليه. والذي يمكن أن يدّعى دلالته على ذلك من النصوص: 
1- عن أبي الحسن المدائني، قال: خرج الحسن و الحسين وعبد الله بن جعفر (عليهم السلام) حجاجاً، ففاتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز بخباء لها فقالوا: هل من شراب؟ فقالت: نعم. فأناخوا بها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة، فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك، وقالوا لها: هل من طعام؟ قالت: لا، إلا هذه الشاة فليذبحنها أحدكم حتى أهيئ لكم شيئاً تأكلون. فقام إليها أحدهم فذبحها وكشطها، ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا ثم أقاموا حتى أبردوا، فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون إليك خيراً، ثم ارتحلوا ... فأمر الحسن (عليه السلام) فاشترى لها من شاة الصدقة ألف شاة وأمر لها بألف دينار .. [بحار الأنوار: ج 43، ص 348]
2- وفد أعرابي المدينة فسأل عن أكرم الناس بها، فدلّ على الحسن (عليه السلام) ... وأنشأ:
لم يخب الآن من رجاك ومن           حرك من دون بابك الحلقة
أنت جواد وأنت معتمد                  أبوك قد كان قاتل الفسقة
لولا الذي كان من أوائلكم              كانت علينا الجحيم منطبقة
قال فسلم ... وقال: يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فقال: هاتها قد جاء من هو أحق بها منا، ثم نزع برديه ولف الدنانير فيها وأخرج يده من شق الباب حياءً من الأعرابي، وأنشأ:
خذها فإني إليك معتذر            واعلم بأني عليك ذو شفقة
...................
لكن ريب الزمان ذو غير        والكف مني قليلة النفقة
هذا، وقد روي في البحار أنّ الإمام هنا هو الحسين (عليه السلام) [ج44-ص190]
3- إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) قد أعطى خراج العراق لمدة سنة على ثلاثة أبيات فقط، وعندما عوتب على ذلك قال: أما سمعتم ما قال:
لا يكن جودك لي          بل يكن جودك لله
فلو كانت الدنيا كلها لي وأعطيتها إياه كانت في ذات الله قليلاً. [دراسات وبحوث في التاريخ الاسلامي ص49].
لكن الواقع عدم دلالتها على ذلك؛ أما الأول: فإنّ الشياه وإن كانت من أموال الصدقة إلا أنّ الإمام (عليه السلام) اشتراها، كما في النص.
وأما الثاني: فإنّ مال الحجاز لا يدل على كونه مالاً خاصاً ببيت المال؛ بل قد يكون من الأموال الشخصية للإمام الباقية في الحجاز، فإنّ لهم هناك بلحاظ أنه موطنهم الأم أملاكاً وضياعاً، كما دلّت عليه الأخبار. ويشهد على ذلك اعتذار الإمام بضيق كفه وعدم توفر المال لديه، فإنه واضح في أنه أعطاه من أمواله الشخصية.
وأما الثالث: فيعرف أمره مما بينّاه في النقطة الثانية، وعلى هذا فلابد من كون ما أعطاه هو من ماله الخاص، وإلا لم يكن ذلك جوداً منه.
ويؤكده قوله: لا يكن جودك لي ... فإنّ الجود لله لا يكون إلا مع البذل من ماله، وليس من مال غيره. وهكذا قول الإمام (عليه السلام): فلو كانت الدنيا... فإنها واضحة في أنه أعطاه من ماله وملكه، وأنه لو ملك الدنيا أيضاً وأعطاها له لكان بالنسبة لله قليلاً.
والتعبير بخراج العراق لا بد وأن يكون بمعنى ما هو للإمام من ذلك الخراج أو ما كان مقداره مقدار خراج العراق، ولا بُعد في ذلك بعد اختلاف الخراج كماً وكيفاً بحسب السنين، ومما يبعد أن يكون المراد نفس الخراج أنّ مثل هذا التصرف لو كان لكان له ردة فعل اقتصادية على الو ضع هناك بل واجتماعية خصوصاً وأنه قد سبقتها مثلها رداً على تصرفات عثمان.
وعلى هذا الأساس نعرف لماذا لم يعطِ أمير المؤمنين (عليه السلام) عقيلاً من بيت المال زيادة على حقه، فإن العطاء من بيت المال ليس حقاً وملكاً للإمام (عليه السلام) ليتساهل فيه، بل كان موقفه في القضية هو الموقف المناسب في الوقت المناسب حيث كان بيت المال في يد من سبقه مورداً للتبديد والتوزيع على الأقرباء والمقربين، فإنّ هذا كان موجباً لأن يتخذ الإمام (عليه السلام) في هذا المجال موقفاً جاداً وخالداً في ذهن الأجيال، فضلاً عن أبناء جيله.
أما النقطة الثالثة: فعلى أساسها يفسر كرم الإمام الحسن (عليه السلام) كماً وكيفاً، فإنّ ظروفه مضافاً إلى سخاء ذاته تستدعي أن لا يرد سائلاً، بل يغدق على سائليه وملتمسي كرمه بصورة عالية وملفتة للنظر، فإنّ في ذلك جنبة إعلامية مضادة لما يحاول معاوية وأنصاره من إعطائه صفة الخليفة المتكامل الشخصية والواجد لمؤهلات الخلافة دون سواه، ما يؤدي بالنتيجة إلى جلب الأنظار نحوه وسرقة الأضواء من الإمام الحسن (عليه السلام).
كما إنّ كرم الإمام (عليه السلام) كان رداً على ما ربما كان مؤامرة دنيئة أريد بها ترغيب الناس عن الارتباط بالإمام (عليه السلام) وصد المادحين عنه كي لا يتوجه الناس إلى مكارمه التي يبثها الشعراء بما يحملونه من وسيلة مؤثرة في الناس.
حيث صورته تلك المؤامرة فقيراً لا مال له، فقد جاء في الخبر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنّ ناساً بالمدينة قالوا: ليس للحسن مال، فبعث الحسن إلى رجل بالمدينة فاستقرض منه ألف درهم، فأرسل بها إلى المصدق وقال: هذه صدقة مالنا، فقالوا ما بعث الحسن هذه من تلقاء نفسه إلا وعنده مال . [البحار: ج 43 ص351].
وبالنقطة الرابعة يمكن رفع ما يمكن أن يكون منشأ آخر للإشكال، حيث يتصور بأنّ هذا العطاء والكرم وبهذا المقدار لا يتناسب مع كونه (عليه السلام) فقيراً لا مال له، ما يعني أنه كان يقتطعه من بيت المال.
والشواهد على توفر المال لديه في فترات من حياته أنه (عليه السلام) لما استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) باع ضيعة له ليقضي دينه، ويشهد لذلك هباته لضيوفه وزوجاته ولا ينافيه ما ورد من أنه مات وعليه دين، فإنّ بذله وجوده في سبيل الله مما شك فيه، والأخبار في ذلك متواترة؛ حتى ورد أنه (عليه السلام) كان يقاسم الله في ماله، ومن الطبيعي أن تخلو يده لذلك حيناً وتمتلئ حيناً.

  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1519
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 06 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24