• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : علوم القرآن الكريم .
                    • الموضوع : بحث في إعجاز القرآن الكريم .

بحث في إعجاز القرآن الكريم

إعداد الطالب: علي حميد إسماعيل / العراق

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيه سيد المرسلين محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.

اللهمّ اهدنا بالقرآن، ووفّقنا لفهمه وتدبّره والعمل به، وثبّتنا على هداه، وأعنّا على تحمّل أعبائه وإبلاغه {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أو أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].

القرآن هو المصدر الأول للإسلام، وأقدس كتاب لدى المسلمين، وخاتم الكتب السماوية، وبه تثبت نبوّة رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) وبه تقوم الحجة على الناس جميعاً إلى يوم القيامة بالتزام الاسلام ديناً، لأنه معجزة، ولخلود ما فيه من إعجاز، وهو المصدر الوحيد، بإجماع المسلمين، لم تمتد اليه يد التحريف أو الزيادة أو النقصان.

سنتطرّق في هذا البحث المتواضع (إعجاز القرآن) إلى ثلاثة محاور وكل محور يدور حول موضوع معيّن؛ فالمحور الأول يتطرّق إلى أصل الإعجاز لغوياً وتعريفه اصطلاحاً ومناقشة التعاريف الاصطلاحية التي ستذكر.

أما في المحور الثاني سنبحث القرآن؛ معجزة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وسنأخذ وجوه إعجاز القرآن الكريم في بلاغته وفصاحته ومعارفه وذكره لقصص الأمم السابقة وتنبؤه بالأمور الغيبية التي ذكرها قبل أن تحدث وغيرها من الأمور التي تثبت إعجازه.

أما في المحور الثالث فسنتناول وبشكل مختصر جداً بعض الشبهات حول إعجاز القرآن الكريم ومناقشتها وقد نقلت هذه الشبهات ومناقشتها من كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم (رض)، وكذلك تطرّقت إلى موضوع خلود القرآن الكريم ولو باختصار شديد.

وأتمنى من الله العلي القدير أن يوفقنا لخدمة القرآن الكريم وبجعلنا من العاملين به،  والحمد لله رب العالمين.

 

المحور الأول: الإعجاز في اللغة والاصطلاح

الإعجاز لغة: 

مصدر مزيد فيه من (عجز) إذا لم يستطع إمراً، ضدّ (قدر) إذا تمكن منه. يقال: أعجزه الأمر، إذا حاول القيام به فلم تسعه قدرته، وأعجزت فلاناً: إذا وجدته عاجزاً أو جعلته عاجزاً. [تلخيص التمهيد، محمد هادي معرفة، ج2، ص 11]

الإعجاز اصطلاحاً:

* فهو مصطلح يطلق على كل أمر خارق للعادة، إذا قرن بالتحدّي وسلم عن المعارضة، يظهره الله على يد أنبيائه ليكون دليلاً على صدق رسالتهم [نفس المصدر السابق].

* أو هو أمر يعجز البشر متفرقين أو مجتمعين عن الإتيان بمثله [موجز علوم القرآن للدكتور داوود العطار ، ص48].

* أو هو أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه [نفس المصدر السابق ص48].

وبالموازنة بين الاصطلاحين الأخيرين نجد امتياز الثاني على الأول بما يلي:

1- تضمنه إمكان حدوث المعجزة على يد بشر، في حين أن المتبادر من الأول تعميم العجز على جميع البشر. وإذا كان كذلك، فمن هو صاحب المعجزة إذاً؟ اللّهم إلا إذا فهمنا أن المقصود منه: هو عجز البشر بما هم بشر عن الإتيان بها.

2- في التعريف الأخير من أن المعجزة هي ما يأتي به مدّع لمنصب إلهي، ودون ذلك ليس بمعجزة، فمن جاء باكتشاف أو اختراع عجز عنه سائر الناس لجهلهم المؤقت، فما ذلك بمعجزة، وفي هذا تحديد سديد؛ لأنّ الجهل عجز آني وليس أبدياً، من جهة،  ولأنّ الإعجاز في مقابل الجهل ليس بخرق لنواميس الطبيعة، من جهة أخرى.

3- إنّ المعجزة خرق للعادة الجارية، والقوانين الطبيعية، دون أن تكون مستحيلة بذاتها، بحيث يبطلها العقل، كإبطال اجتماع النقيضين، أو ارتفاعهما، بل هي محكومة بقانون العلّية العام؛ لأنّها تصرف ما وراء الطبيعة بالطبيعة.

4- تضمّن التعريف الأخير: أنّ ثبوت العجز دليل صدق دعوى المنصب الإلهي، أو أنّ دعوى المنصب الإلهي، تثبت بعد ثبوت دعوى الإعجاز.

ويمكن القول أنّ المعجزة هي: ما يأتي به إنسان بتأييد إلهي، ويعجز عنه غيره، غير مستحيل بذاته عقلاً، ويخرق السنن الطبيعية، إثباتاً لمنصب الهي يدَّعيه.

فعناصر المعجزة الأساسية بناء على هذا التعريف:

1- عَجْز الآخرين عنها.

2- إنّها خرق لقوانين الطبيعة.

3- إنّها ليست مستحيلة عقلاً.

4- إنّها في صدد إثبات دعوى المنصب الإلهي.

 لذا، فإنّ من يأتي بأمر بناء على الحس والتجربة، ليس بمعجزة، لعدم توافر خرق القوانين الطبيعية فيه. فالصعود إلى القمر مثلاً أو المريخ ليس بمعجز؛ لأنه قائم على التجارب، مسبوق بتعلم وتدارس وتجارب، فاقد لصفة خرق قوانين الطبيعة، وكذا الحال في معالجة الأمراض مثلا بالإيحاءات النفسية، أو المواد المشعة، أو أي ابتكار لمرض عضال، ولأن عجز الآخرين عن القيام بمثل هذه الأمور، ليس عجزاً مطلقاً بل هو عجز نسبي، سببه عدم التعلم، أو الجهل بالتجربة، فكما صعد إلى القمر إنسان غربي، صعد إليه إنسان شرقي، ولهذا فإن مثل هذه الأمور ليس فيها خرق للعادة الطبيعية الجارية في تسخير قوى الطبيعة لمشيئة الإنسان، بل هي موافقة لها متفقة معها تماماً. ولا تعدو أن تكون إخضاع قوى الطبيعة لإرادة الانسان.

والقرآن الكريم يقرّر حقيقة لطف الله تعالى، بتذليل قوى الأرض والسماوات لعقل الإنسان. قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} [لقمان: 20] وواضح أن النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله) بما جاء به من القرآن العزيز قد خرق النواميس الطبيعية، وجاء بمعجز من غير سبق تعلّم وتعليم، معجز للإنس والجن، على أن ما جاء به لا يحيله العقل؛ لأنه (صلّى الله عليه وآله) لا يدعيه من نفسه بل من الله تعالى.

المحور الثاني

لكل رسول معجزة كدليل على نبوته ورسالته، وأنه مرسل من قبل ربه، إذ بدون ذلك لا تقع حجة الله على الخلق بالإيمان برسله، فمهما سمت أخلاق الرسول وعلت همته، وجادت قريحته، وتوقد ذهنه، وإن اقتعد المكانة الاولى في قومه، فإن كل هذا لا يكفي دليلاً على أنه مرسل من قبل الله، فلا يمكن للعقل ان يصدق ويذعن ويعترف بأن هذا رسول إلا بما يظهره الله على يديه من معجزات، لذا فإن الله تعالى قد بعث كل رسول إلى قومه، وأظهر على يديه المعجزات التي شأنها أن تجعل قومه يدركون إدراكاً يرفع عنهم كل لبس وغموض أن هذا رسول من عند الله، وليس بمدع عليه، لذا كانت معجزات كل نبي ورسول نابعة من بيئته، ومتناسبة مع قومه، فتأتيهم على وفق ما برعوا فيه حتى يكون ذلك أدعى لإيمانهم، ولإقامة الحجة لأن المعجزة لا تحقق الغاية منها إلا إذا حصل التحدي بها ولا يتحقق التحدي لأمة من الأمم لا تعرف شيئاً عن المتحدّى به.

فهناك معجزة موسى (عليه السلام) التي كانت في عصاه، وهي تتلاءم مع قوم برعوا في السحر، إذ احترفوا السحر حرفة، ويدلنا على معرفة قومه بالسحر تلك الآيات القرآنية التي تحدثت عن فرعون ودعوته للسحرة في زمنه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [يونس: 79]  وغيرها من الآيات واستجاب له السحرة {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113] ثم وقع التحدي بين السحرة وموسى (عليه السلام) وانتهى التحدي  بإيمان السحرة أجمعين بالله ربّ العالمين.

وقل مثل ذلك في معجزة عيسى (عليه السلام)، حين برع قومه في الطب، فجعل المعجزة من جنس ما عرفوا وبرعوا، جعل الله على يد عيسى إحياء الموتى قبل دفنهم أو بعده، وجعل مسحة من يديه ترد الأعمى بصيراً وتبرئ الأكمه والأبرص ويكون سليماً، وأي معجزة أعظم من احياء الموتى، وأعلم الناس ادراكاً لهذه المعجزة هم اولئك الذين يعرفون الطب وعلومه، وهم اقدر الناس على التمييز بين إحياء حقيقي أو إحياء مزعوم، قادرون على معرفة الفارق بين حياة حقيقية بعد موت محقق أو اغفاؤه نتيجة سكرات المرض ثم صحوة منه.

وقل مثل ذلك في معجزة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله)، فلقد بعث الله تعالى محمداً (صلى الله عليه وآله) في قوم كان الكلام بضاعتهم، فرسان البلاغة والفصاحة والبيان، الشعر والخطب البليغة زادهم وشرابهم، قصيدة تجذبهم فتكون وكأنها معبود لهم، فتعلق في الكعبة أعز مكان وتكون من المعلقات، كانت اسواقهم تبادلاً وتداولاً، يتبادلون بضائعهم ويتداولون اشعارهم.

فجاءتهم معجزة من جنس ما عرفوا وألفوا، فتحداهم بالمعروف عندهم والمألوف لديهم [منقول من كتاب (المنار في علوم القرآن) ص 27 للدكتور محمد علي الحسن].

ونحن سنأخذ هنا بعض وجوه الاعجاز في القرآن [منقول من كتاب (موجز علوم  القرآن)ص57 للدكتور داوودالعطار]:

1-      بلاغة القرآن وفصاحته:

كما ذكرنا سابقاً في هذا البحث ان القرآن الكريم قد نزل في امة كانوا فرساناً للبلاغة والفصاحة والبيان وكان زادهم وشرابهم الشعر والخطب البليغة، فتحداهم القرآن وهم ما هم عليه من قدرة في البلاغة لا تدانى ولا تضارع، وقوة في البيان لا تضاهى ولا تبارى وسرعة في البداهة لا تجارى مع ما تخلقوا به من عزائم وحمية وهمم وعصبية، والقرآن طيلة ثلاث وعشرين سنة – تقريباً – يقرع أسماعهم، بأنهم عاجزون عن مباراته، فيما جاء به من كلام قرن بين الايجاز والبلاغة، والبيان والفصاحة وهو بلسان عربي مبين، ليس شعراً ولا نثراً، يفهمه العرب، وهو خارج عن مألوفهم.

ومع هذا التحدي المثير المهيج، ما استطاعوا إلا النفور والالتجاء إلى خوض الحروب، وبذل الانفس والاموال، لصد دعوته، دونما جرأة على مجاراته. فلما لم تحصل معارضة منهم، تحقق انهم عاجزون عنها.

2-      المعارف القرآنية:

نجد في القرآن الكريم من المعارف الاعتقادية، وما يطابق العقل السليم ويوافق البرهان القويم، فقد تعرض إلى صفات الله تعالى، وذكر الانبياء والرسل السابقين واقام الدلائل على المعاد، بأسلوب عقلي رصين، يستحيل معه على بشر – أمي كالنبي (صلّى الله عليه وآله) نشأ في بيئة جاهلية، مشركة وثنية، أن يأتي بمثله، وبما احتوى من فلسفة شاملة كاملة ومن دون سبق تعلم أو دراسة:

أ‌-       صفات الله:

جاء في القرآن الكريم {وَإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]

{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]

{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24]

{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة: 117] وغيرها من الآيات، فهل بإمكان بشر أمي ان يأتي  من عنده  بمثل هذه الفلسفة، وهذه المعارف التي يعنو لها العقل اذعاناً وتسليماً؟!.

ب‌-     إرسال النبيين:

جاء في القرآن الكريم: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [البقرة: 213]

ج- المعاد:

ومما جاء بشأن المعاد قوله تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان: 28]

{... قلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34]

{...كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ...} [الأنبياء: 104]

{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ...} [غافر: 57 ]

{يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ...} [الحج: 5]

 ان الابتداء ايجاد من غير احتذاء، فمن هو قادر على الابتداء كان اولى ان يكون قادراً على الاعادة بطريق الاحق.

3-      استقامة بيان القرآن:

      ومن دلائل الاعجاز في القرآن وكونه وحياً إلهياً: ما جاء به من معالم الرشاد والهداية، كالحقائق الإلهية والنبوءات، وما وضع من قواعد تشريعية في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتجريم والعقاب، وغيرها، وما اورد من نظم العبادات وفضائل الاخلاق، وما سرد من احداث التأريخ، وما عرض من علوم كونية وفلكية وطبيعية، وما ضرب من امثلة، وساق من حكم ومواعظ، وما ذكر من احتجاجات عقلية مذهلة، وما بين من تصوير للدنيا ووصف لمشاهد البرزخ والقيامة، ونحو ذلك، وهو ينزل نجوماً في مدة ثلاث وعشرين سنة، في ظروف متفاوتة: ليلاً ونهاراً، في مكة والمدينة، في الحرب والسلم، في المحنة والرخاء، في عام الفتح وعام الحزن، وعلى سعة ما جاء به فليس فيه ادنى اختلاف أو تعارض أو تناقض من أوله إلى نهايته.

ولو لم يكن القرآن روحاً من امر الله لاقتضى حدوث الاختلاف والتعارض والتفرق وعدم الملائمة بين أجزائه ومباحثه. فإن الشاعر العربي ينظم القصيدة حولاً ثم يعيدها فيجد الحشو والزيادة والنقصان ونحو ذلك.

{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء: 82]

4-      تشريعات القرآن:

مما يدهش كل عاقل، ولا يمكن تعليله إلا بكون القرآن وحياً من العليم الحكيم، هو هذا التشريع الامثل للإنسانية، والقانون الأقوم للحياة، الذي جاء به لتنظيم شؤون المجتمع البشري، وكلما مرّ قرن وجاء آخر، اثبت اصالته وشموله للهيمنة على جميع شؤون الحياة، على احسن وأكمل وجه. وسنشير فيما يلي إلى بعض القواعد الكلية، التي اصبحت اليوم من مبادئ دساتير الدول، ومواثيق المنظمات والاتفاقات الدولية، دون ان نتوغل في بيان دلالاتها وعمقها وشمول أحكامها:

أ‌-       الحكم بالعدل:

قال تعالى: {اِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْل...} [النحل: 90 ]

{... وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ...} [النساء: 58]

ب‌-     حقن الدماء:

{وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إلا بِالحَقِّ...} [الإسراء: 33]

{... أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً...} [المائدة: 32]

ج-تحريم الفساد:

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]

د- جعل المسؤولية شخصية:

{...لاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...} [الأنعام: 164 ]

هـ- تفضيل السلم على الحرب:

{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا....} [الأنفال: 61]

و- تشريع الدفاع قطعاً لدابر الفتنة والعدوان:

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]

ز- فرض المساواة، وجعل التفاضل على اسس موضوعية متاحة للجميع هي التقوى والعلم والجهاد:

{... انَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...} [الحجرات: 13 ]

{... قلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...} [الزمر: 9]

{... وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 95]

ولقد جاء القرآن الكريم بالأحكام الاعتقادية، والأخلاقية والعلمية التي تشمل العبادات والمعاملات سواء ما تعلق منها بتنظيم احكام الاسرة كالنكاح والطلاق  والارث، أو الاحكام المالية، كالبيع والرهن وسائر العقود واحكام القضاء والشهادات واليمين واحكام الجرائم والعقوبات، واحكام نظام الحكم وحقوق الحاكم والمحكومين وواجباتهم، واحكام العلاقات الدولية من معاهدات واتفاقات في حالتي السلم والحرب، واحكام الاجانب، والاحكام المتعلقة بموارد الدولة، ومصارفها، والثروات العامة....الخ.

5-      قصص القرآن وأنباؤه الغيبية:

انطوت السور القرآنية على كثير من أخبار القرون الاولى والامم الغابرة والشرائع الدائرة، منذ بدء الخليقة حتى بعثة النبي (صلى الله عليه وآله)، في وقت لم يكن يعرف القصة الواحدة إلا المتفرغ من أحبار أهل الكتاب.

والقرآن في عرضه تلك الاحداث، وسرده تلك الوقائع، كأنه شاهد عيان يعرض التفاصيل، ويصور كل  المشاهد تصويراً كأنها شخوص متحركة.

وفي الاخبار أمور بالمغيبات عن أمور هامة، وقد وقعت هذه الامور كلها وكما اخبر عنها. وفي كل حال يؤكد القرآن على عدم علم النبي (صلّى الله عليه وآله) بهذه الامور قبل ان توحى إليه:

{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 3]

أ-القصص:

قصة آدم:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11]

قصة موسى:

{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]

قصة هارون:

{وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الاعراف: 142]

قصة فرعون:

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4]

قصة داوود وسليمان:

{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]

قصة إبراهيم:

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أو نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} [البقرة: 140]

وهكذا بالنسبة إلى زكريا ويحيى وعيسى ونوح وهود وشعيب وسائر الأنبياء والمرسلين، ومسك ختامهم:

قصة محمد (صلّى الله عليه وآله):

{وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أو قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]

ب-الأنباء الغيبية:

كان القرآن واثقاً جازماً من وقوع الاحداث المهمة التي أنبأ عن وقوعها، وقد وقع جميع ما أنبأ به، دون أدنى خلاف.

ولا ريب أن هذا الجانب من جلائل وجوه إعجازه، ودلائل كونه وحياً من الله تعالى.

قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الآيتان 2و3 من الروم]. ولقد وقع الغلب للروم بأقل من عشرة سنين وهو معنى (بضع) سنين.

وقال تعالى: {أ َمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر الآيتان 44و45] مخبراً عن قول ابي جهل يوم بدر: (نحن ننتصر اليوم من محمد واصحابه) فأباده الله، وأخزى جمعه ونصر المسلمين.

وقال سبحانه: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7]

وقد نزلت في واقعة بدر، والمسلمين على ما هم عليه من الضعف والقلة، والاشفق من الهزيمة، والكافرون على ما هم عليه من العدة والعدد، وقد وفى الله للمؤمنين بوعده، ونصرهم وقطع دابر الكافرين.

وكقوله تعالى: {...لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ...} [الفتح: 27]

وكقوله: {... لَن يَضُرُّوكُمْ إلا أَذًى...} [آل عمران: 111]

فالإخبار بالغيب، وتحقق صدقه، لا يكون من بشر اطلاقاً {انْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى*عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4و5]

6-      الاشارات العلمية:

ذكر القرآن في معرض الاستدلال والاحتجاج، وبيان دلائل وآيات قدرة الله تعالى، بعض الاشارات العلمية التي لم يكتشف أمر بعضها إلا في عصر الذرة، والأقمار، وغزو الفضاء، منها قوله تعالى:

أ‌-       {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]

وفيها إشارة إلى تأريخ المجموعة الشمسية، ووحدتها في الأصل، وانفصال الأجرام بعضها عن بعض تدريجياً.

كما ان فيها اشارة إلى اصل الحياة وهو الماء.

ب‌-     {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 22]

وتشير الآية إلى دور الرياح في هطول الامطار، ودورها في التفريغ الكهربائي بين شحنات السحاب، ودرها في نقل لقاح النبات... الخ.

ج- {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40]

{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وفيها اشارات إلى بيضوية الأرض إذ لو كانت مسطحة لكان مشرق واحد ومغرب واحد. وكذلك عبّر تعالى عن خلق الأرض بـ (دحاها) والدحية هي البيضة.

د- {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]. وفيها اشارة إلى ان الزوجية منبثة في كل الموجودات من حيوانات ونباتات وجمادات. وان الذرة زوج ففيها الالكترون السالب والبروتون الموجب.

ه- {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة: 6]. فإن فلم المشواف أثبت امكانية حفظ وتخليد دقائق الأعمال.

وإذا كان هذا من عمل الانسان  فالأمر أيسر وأهون بالنسبة للخالق البارئ المصور.

و- {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2]، {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ} [الحجر: 14]، {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وفيها اشارات إلى فتح الأسفار الفضائية وعلى انها تتم بمسارات منحنية وليست مستقيمة. فإذا ما قدّر للناس القيام برحلات إلى القمر أو سائر الكواكب فإن سيرهم سيكون باتجاهات منحنية أو منعرجة.

ز- {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4].

 من دقائق الخلقة بصمات الاصابع، وقد ذكرت هذه الآية الكريمة حقيقة علمية مذهلة كان لها أخطر الادوار في العلوم الجنائية تلك الحقيقة هي اختلاف بصمات أصابع اليد الواحدة، فليس في الدنيا اصبع يشبه في خطوطه اصبعاً آخر.

والجدير بالذكر ان الآية -  كسائر الآيات -  ليست بصدد  اعطاء وسيلة فذة لرجال المباحث الجنائية، ولكنها بصدد بيان عظمة وقدرة الله على البعث والنشور بكل دقة حتى اعادة خطوط أصابع كل انسان إلى ما كانت عليه في حياته. ولكن هذه الآية – كسائر الآيات – أمكن الاستفادة منها علمياً.

*القرآن هو المعجزة الخالدة:

لا نطيل الحديث في هذا الموضوع بعد كل ما ذكر إلا اننا سوف نذكر عدة أمور ذكرها السيد الخوئي في كتابه البيان في تفسير القرآن [البيان في تفسير القرآن، السيد ابو القاسم الخوئي: ص46]:

الأمر الأول: تفوق القرآن على جميع المعجزات التي ثبتت للأنبياء السابقين، وعلى المعجزات الأخرى التي ثبتت لنبينا محمد (صلّى الله عليه وآله) لكون القرآن باقياً خالداً، وكون اعجازه مستمراً يسمع الأجيال ويحتج على القرون.

الأمر الثاني: إن الشرائع السابقة منتهية منقطعة، والدليل على انتهائها هو انتهاء أمد حجتها وبرهانها، لانقطاع زمان المعجزة التي شهدت بصدقها.

     الأمر الثالث: إن القرآن يختص بخاصة أخرى، وبها تفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الأنبياء السابقون، وهذه الخاصة هي تكفله بهداية البشر، وسوقهم إلى غاية كمالهم.

فالقرآن الكريم هو معجزة ربانية وبرهان  صدق على نبوة من أنزل اليه [نفس المصدر السابق ص48].

المحور الثالث: بعض الشبهات حول إعجاز القرآن:

[علوم القرآن  للسيد محمد باقر الحكيم ص156]

لقد أثيرت حول اعجاز القرآن الكريم شبهات كثيرة وإن أكثر هذه الشبهات تستند على ملاحظة الاسلوب البلاغي لغرض اسقاط هذا الدليل الذي يعتمد عليه أحياناً في اثبات إعجاز القرآن:

ملاحظة: سنأخذ ثلاث شبهات فقط من جملة عدد من الشبهات  وإن الرد على كل شبهة سيكون بشكل مختصر أو ملخص.

*الشبهة الاولى:

ان الاعجاز القرآني يرتكز بصورة رئيسية على الفصاحة والبلاغة القرآنية، ونحن نعرف ان العرب قد وضعوا قواعد وأسساً للفصاحة والبلاغة والنطق، تعتبر هي المقياس الرئيسي في تمييز الكلام البليغ من غيره، وبالرغم من ذلك نجد في القرآن الكريم بعض الآيات التي لا تنسجم مع هذه القواعد، بل تخالفها، الامر الذي يدعونا إلى القول بأن القرآن الكريم  ليس معجزاً؛ لأنه على نهج القواعد العربية وأصولها.

الرد على هذه الشبهة:

1- إن تأسيس قواعد اللغة العربية كان في وقت متأخر عن نزول القرآن الكريم وفي العصور الأولى للدول الإسلامية، ولم تكن عملية وضع القواعد، عملية (تأسيس واختراع) من قبل واضعي اللغة، وإنما هي عملية (استكشاف) لما كان العرب يتبعه من أساليب في البيان والنطق خلال كلامهم، ولذا كان الكلام العربي الأصيل هو الذي يتحكم في صياغة القاعدة وتفصيلاتها.

وإن القرآن الكريم هو أهم تلك المصادر على الإطلاق التي اعتمد عليها واضعو هذه القواعد في صياغتها وتأسيسها، لأنه أوثق المصادر العربية والكلام البليغ الذي بلغ القمة، ولذلك نجد ان علماء العربية عندما يريدون الاستدلال على صحة أي قاعدة، يستدلون على ذلك بالآيات القرآنية، أو بالنصوص التي تثبت نسبتها إلى العرب الأوائل.

وعلى هذا الأساس التأريخي لوجود قواعد اللغة العربية، يجب أن يكون الموقف تجاهها أن نجعل القرآن هو المقياس الذي يتحكم في صحتها وخطئها، لا أن نجعل القواعد مقياساً نحكم به على القرآن، لأن القاعدة العربية وضعت على ضوء الأسلوب القرآني، فإذا ظهر انها خلاف هذا الأسلوب، يكشف ذلك عن وقوع الخطأ في عملية استكشاف القاعدة نفسها.

2- إذا لاحظنا موقف العرب المعاصرين للقرآن الكريم – وهم ذوو الخبرة والمعرفة الفائقة باللغة العربية – وجدانهم قد أذعنوا واستسلموا للبلاغة القرآنية، وتأثروا بها، إيماناً منهم بأنه يسير على أدق القواعد والأساليب العربية في البيان والتعبير، ولو كان في القرآن الكريم ما يتنافى مع قواعد اللغة العربية وأصولها لكان من الجدير بهؤلاء الأعداء أن يتخذوا ذلك وسيلة لنقد القرآن ومنفذاً للطعن به. 

*الشبهة الثانية:

إن القرآن قد تحدث عن قصص الأنبياء، كما تحدثت الكتب الدينية الأخرى كالتوراة والإنجيل عنها، وعند المقارنة بين ما ذكره  القرآن وما ورد في التوراة والانجيل نجد ان القرآن يخالف تلك الكتب في حوادث كثيرة ينسبها إلى الأنبياء وأممهم، الأمر الذي يجعلنا نشك في أن يكون مصدر القرآن الوحي الإلهي: لسببين:

الأول: إن هذه الكتب من الوحي الإلهي الذي اعترف به القرآن، وإذا القرآن وحياً إلهياً أيضاً فلا يمكن ان يناقض الوحي  نفسه في الاخبار عن حوادث تأريخية واقعية.

الثاني: ان هذه الكتب ما زالت تتداولها أمم هؤلاء الأنبياء، وهم بطبيعة ارتباطهم الديني والاجتماعي بأنبيائهم، لابد وأن يكونوا أدق اطلاعاً على أحوالهم من القرآن، الذي جاء في أمة ومجتمع منفصل عن تأريخ هؤلاء الأنبياء.

الرد على هذه الشبهة:

إن هذه الشبهة لا يمكن ان تصمد للمناقشة كما يذكر السيد محمد باقر الحكيم في كتابه علوم القرآن إذا عرفنا ان هذه الكتب الدينية قد تعرضت للتحريف والتزوير، وان ملاحظة محتوى الخلاف بين القرآن الكريم والكتب الدينية الاخرى يدعونا بنفسه للإيمان بصدق القرآن الكريم، بعد أن نجد أن التوراة والانجيل يذكران في قصص الأنبياء مجموعة من الخرافات والأوهام يتجاوزها القرآن الكريم، وينسبان إلى الأنبياء أعمالاً ومواقف لا يصح نسبتها اليهم، ولا تليق برسل الله، والقوام على شريعته ودينه، بل لا تليق بمصلحين عاديين من عامة البشر، وقد عرفنا في موضوع اعجاز القرآن الكريم ان إحدى النقاط المهمة التي يظهر فيها إعجاز القرآن الكريم عرضه لقصص الأنبياء وحوادثهم، بشكل يبعث اليقين في نفوسنا أن مصادر هذا العرض ليست الكتب الدينية، ثم يأتي هذا العرض منسجماً ومؤتلفاً مع النظرة الواقعية الصحيحة للأنبياء والرسل، الأمر الذي يدلل على أن مصدره هو الوحي الإلهي.  

*الشبهة الثالثة:

إن أسلوب القرآن في تناول الأفكار والمفاهيم وعرضها لا ينسجم مع أساليب البلاغة العربية، ولا يسير على الطريقة العلمية في المنهج والعرض، وذلك لأنه يجعل الموضوعات المتعددة متشابكة بعضها مع بعض، فبينما يتحدث القرآن في التأريخ، ينتقل إلى موضوع آخر في من الوعد والوعيد والحكم والامثال والاحكام وغير ذلك من الجهات، فلا يجعل القارئ قادراً على الالمام بالأفكار القرآنية، مع ان الموضوعات القرآنية لو كانت معروضة على شكل فصول وموضوعات مستقلة لكانت الفائدة المترتبة عليها أعظم والاستفادة منها أسهل.

الرد على هذه الشبهة:

تناقش هذه الشبهة على أساس نقطتين كما يذكر السيد الحكيم في كتابه:

1-      إن القرآن الكريم ليس كتاباً علمياً ولا كتاباً مدرسياً فهو ليس كتاب فقه أو تأريخ  أو أخلاق، وإنما هو كتاب هداية وتربية، وهدفه الأساسي هو إحداث التغيير الاجتماعي. والأسلوب القرآني خضع لهذا الهدف في طريقة العرض، وفي غير ذلك من الظواهر القرآنية، للتمكن من إحداث التأثير المطلوب في نفسية الإنسان المعاصر لنزول القرآن، بل ولكل انسان يستمع للقرآن الكريم أو يقرؤه. والنتائج  العظيمة التي حققها القرآن في المجتمع الجاهلي أفضل شاهد على انسجام هذا الأسلوب مع الهدف الاساسي للقرآن الكريم.

2-      إن هذه الطريقة في العرض يمكن أن تعتبر إحدى الميزات التي يتجلى فيها الإعجاز القرآني بصورة أوضح، فإنه بالرغم من هذا التشابك في الموضوعات، تمكن القرآن الكريم من الاحتفاظ بجمال الأسلوب وقوة التأثير وحسن الوقع على الاسماع والنفوس، الأمر الذي يدلل على براعة متناهية وقدرة عظيمة على عرض الموضوعات وطرح الأفكار. 

الخاتمة

نتائج البحث:

1- المعجزة هي: أن يأتي المدعي لمنصب من المناصب الالهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه.

2- لكل رسول معجزة كدليل على نبوته ورسالته، وانه مرسل من قبل ربه، اذ بدون ذلك لا تقع حجة الله على الخلق بالإيمان برسله والقرآن الكريم هو معجزة ربانية وبرهان  صدق على نبوة من انزل اليه.

3- إن وجوه الاعجاز في القرآن الكريم هي: بلاغة القرآن وفصاحته وكذلك المعارف القرآنية التي جاء بها صفات الله وارسال النبيين والمعاد، ومن ثم استقامة بيان القرآن وتشريعاته وقصصه  والأنباء الغيبية والاشارات العلمية التي جاءت فيه.

4- إن من إعجاز القرآن الكريم هو خلوده واستمراره  في كل عصر ومصر بعكس الرسالات السماوية الأخرى التي جاءت في وقت معين ثم انتهت على يد المحرفين والمزورين وتجار الدين.

5- إن القرآن الكريم سيبقى شامخاً مدى العصور أمام كل شبهة تثار حوله  فمهما كانت قوة تلك الجهة التي تثير الشبهات  فإن القرآن سيبقى الأقوى.

                                            والحمد لله رب العلمين

 

 

 

المصادر:

1-      القرآن الكريم.

2-      كتاب علوم القرآن للسيد محمد باقر الحكيم، الطبعة الاولى، نشر مؤسسة شهيد المحراب للتبليغ الاسلامي، النجف الاشرف، سنة 2005 م – 1426هجري.

3-      كتاب المنار في علوم القرآن، للدكتور محمد علي الحسن، الطبعة الاولى، دار الفكر العربي، بيروت، سنة 1998م- 1419هجري.

4-      كتاب البيان في تفسير القرآن، للسيد ابو القاسم الخوئي، الطبعة الثلاثون، مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي، ايران، قم، سنة 2003 م.

5-      كتاب موجز علوم القرآن، للدكتور داوود العطار، الطبعة الاولى، مطبعة افق، سنة 1425هجري.

6- كتاب تلخيص التمهيد،ج2، محمد هادي معرفة، الطبعة الخامسة، مؤسسة النشر الاسلامي، قم المقدسة، سنة 1426هجري

7-      كتاب تلخيص التمهيد،ج2، محمد هادي معرفة، الطبعة الخامسة، مؤسسة النشر الاسلامي، قم المقدسة، سنة 1426هجري.


  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1482
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 03 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 07 / 24