• الموقع : دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم .
        • القسم الرئيسي : المقالات القرآنية التخصصية .
              • القسم الفرعي : العقائد في القرآن .
                    • الموضوع : بحث في حقيقة (نسيان الأنبياء) .

بحث في حقيقة (نسيان الأنبياء)

 

بقلم: الشيخ محمد العبيدان
تضمن القرآن الكريم آيات قد يظهر منها ما ينافي بعضالقوانين الإسلامية العقدية، كقانون العصمة، حيث تمسك المخطئة ببعض آياته مدعيندلالتها على منافاة العصمة، وظهورها في صدور المعصية من الأنبياء، مما يمنع ثبوتمبدأ العصمة المطلق لهم.
ومن الآيات التي تمسك المخطئة بها أيضاً لنفي قانونالعصمة المطلق، ما تضمنته آياته، من حديث حول صدور النسيان من الأنبياء(ع)، فلاحظحديث القرآن الكريم عن نسيان آدم(ع)، حيث قال تعالى:- (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)[1].
وأخبر عن نسيان يوسف(ع)-بناءً على أن الضمير فيالآية يعود على النبي يوسف(ع)، أما لو قيل كما هو الظاهر أن الضمير فيها يعود علىالسجين الذي طلب منه النبي يوسف(ع) أن يذكره عند ربه، فلا ربط لها بالمقام، كما هوواضح[2]- فقال سبحانه:- (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)[3]. كما تحدث عن نسيان الكليم موسى(ع)،عندما قال تعالى:- (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا)[4]، فإن ملاحظةما صدر من الكليم موسى(ع) من عهدٍ مسبقٍ مع العبد الصالح، في قوله تعالى:- (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)[5]، تفيد أنه قد أصابه الذهولوالغفلة عن ذلك العهد المسبق، فلاحظ.
ولاريب أن القارئ لآيات الكتاب العزيزعندما يقف على مثل هذه الآيات، ويستمع إلى مثل تلك الدعاوى فإنها تثير عنده تساؤلاتعديدة، وما لم تتم معالجتها، قد تتحول إلى شبه، تسلب منه المعتقد الحق، وتجعلهينحرف عن الجادة القويمة، وهذا يستدعي أن يعمد إلى دراسة مثل هذه الآيات، أو لا أقلالقيام بدراسة نموذج منها، حتى تتضح الرؤية الحقيقة حولها، ويمكن بعد ذلك تطبيقبقية الآيات على ذلك.
هذا ومن الآيات التي تضمنت الحديث حول النسيان ونسبةصدوره إلى الأنبياء، والأوصياء(ع)، قوله تعالى:- (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا  * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)[6]، فقد تضمنت حكايةنسيان الأنبياء(ع)، وأن ذلك كان بفعل الشيطان، ذلك أن الفتى قد أحال صدور النسيانمنه على الشيطان، عندما قال:- (وما أنسيناه إلا الشيطان)، فعندها سوف يخطر في الذهنالسؤال التالي: هل للشيطان دور في حياة الأنبياء، حتى أنه كان سبباً لوقوع النسيانلفتى موسى(ع)؟ وكيف نتصور وجود هذا الدور، مع البناء على أن لهم عصمةمطلقة؟
مضافاً إلى خطور سؤال آخر لا يقل أهمية عن السؤال السابق، وهو ما هوالمقصود من النسيان في مثل هذه الآيات، وهل هو فعلاً يتنافى وقانون العصمة الذيجعله الله سبحانه وتعالى للأنبياء والأوصياء(ع)، أم لا، فإن كان منافياً فيلزم منذلك تحديد دائرة جريانه، وإن لم يكن منافياً، فلابد من بيان المقصود من هذه الآيات،وعرضها بما يكون رافعاً لمبدأ المنافاة ظاهراً.
هذا ويلزم قبل الإجابة عنهذين التساؤلين، وغيرهما، معرفة المقصود من فتى موسى(ع)، وهل أنه من أصحاب العصمةالمطلقة، لكونه نبياً، أو كونه وصياً، وبالتالي يكون صدور النسيان منه منافياًلقانون العصمة، مما يجعل الآية الشريفة مقصداً للمخطئة في الاستدلال بها علىذلك.
فتى موسى:
لقد اتفق المفسرون، وعلماء الحديث من الفريقين على أنالمقصود بفتى موسى(ع) في الآية الشريفة، هو وصيه يوشع بن نون، وقد تضمنت النصوص أنهكان مجمعاً لمقامي النبوة والوصاية، بمعنى أنه كان نبياً مرسلاً من قبل الله تعالى،وفي نفس الوقت كان وصياً لنبي الله الكليم موسى(ع)، وقائماً بشؤون القيادة والخلافةالدينية والسياسة في بني إسرائيل. فمن النصوص التي الدالة على كونه نبياً، ما جاءعن أمير المؤمنين(ع) عندما كان في الجامع في الكوفة، فقام له رجل من أهل الشاموسأله عن مسائل، وكان مما سأله أن قال: أخبرني عن ستة من الأنبياء لهم إسمان؟فقال(ع): يوشع بن نون، وهو ذو الكفل، ويعقوب، وهو إسرائيل، والخضر، وهو حلقيا،ويونس وهو ذو النون، وعيسى وهو المسيح، وهو أحمد صلوات الله عليهمأجمعين[7].
وعن أبي حمزة الثمالي-في حديث طويل-عن الإمام أبي جعفرالباقر(ع)، أنه قال: ثم إن الله تبارك وتعالى أرسل يوشع بن نون إلى بني إسرائيل منبعد موسى، فنبوته بدؤها في البرية التي تاه فيها بنو إسرائيل، ثم كانت أنبياءكثيرون منهم، من قصه الله عز وجل على محمد(ص)، ومنهم من لم يقصه علىمحمد(ص)[8].
ومثل ذلك ما ذكره غواص بحار الأنوار، العلامة المجلسي(قده)، فيحديث طويل عن الإمام أبي جعفر الباقر(ع) قال: ولما توفي موسى(ع) بعث الله يوشع بننون بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبياً إلى بنيإسرائيل[9].
ومن النصوص التي تدل على إمامته، ما أخرجه شيخنا الكليني(ره) عنالإمام الباقر(ع) أنه قال: وكان وصي موسى يوشع بن نون(ع)، وهو فتاه الذي ذكره اللهعز وجل في كتابه[10].
ومنها: ما عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، في كتاببصائر الدرجات، أنه قال: وأوصى موسى إلى يوشع بن نون، وأوصى يوشع بن نون إلى ولدهارون، ولم يوص إلى ولد موسى، لأن الله له الخيرة، ويختار من يشاء ممنيشاء[11].
والمتحصل مما تقدم من النصوص التي ذكرنا، وما لم يذكر أن يوشع بننون كان مجمعاً لمنصبي النبوة، لكونه مرسلاً لبني إسرائيل، وإماماً ووصياً وخليفةلنبي الله موسى(ع)، والقائم بالأمر من بعده، وهو الذي ورد توصيفه في القرآن الكريمبفتى موسى(ع)، والظاهر أن منشأ هذا التوصيف يعود لملازمته للكليم(ع) في كافةتحركاته، في الحضر والسفر، والظاهر أن ذلك كان لإعداده لتحمل مسؤولية النبوةوالإمامة، من خلال إفاضة علوم النبوات عليه، وإعطائه مواريث الرسالات، مضافاً إلىأنه كان موكلاً بخدمة الكليم موسى(ع).
سلطان الشيطان على البشر:
ثمإنه بعد الفراغ عن معرفة من هو الفتى الذي تحدث القرآن الكريم عنه، وأنه أحدالأنبياء والأوصياء، وهذا يستدعي ثبوت مقام العصمة المطلقة له، المنافي لوجود سلطةللشيطان عليه، كيف يمكن الجمع بين هذا القانون، وبين ما جاء في الآيةالمباركة؟
إن الإجابة على ذلك تستوجب أن نحيط في البداية بدور الشيطان فيالحياة البشرية من خلال المعرفة بما له من سلطان عليهم، وفي ما تكون؟
عندالعودة إلى الآيات القرآنية الشريفة، يمكن أن يتحدد دور الشيطان في الحياةالإنسانية في ثلاث مراحل، بينها ترابط أولي، بمعنى أنه لا يصل الشيطان للمرحلةالثانية إلا بعد استكماله عملية التسلط على الإنسان في المرحلة الأولى، فمتى فرغمنها انتقل للمرحلة التي تليها، وهكذا. وتلك المراحل الثلاثة هي:
الأولى: الوسوسة والمناجاة الخفية من إبليس للبشر، فقال تعالى:- (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ  * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)[12]

وتتم عملية الوسوسة من خلال عرضه لما يودإغواء الإنسان به، ولهذا يأتيه فيقول له افعل كذا، أو اترك هذا الأمر، ويكون ذلكبعرضه صوراً خيالية توجب دخول الإنسان في الأوهام بمقدار مساحة عمله، فهو يستفيدكثيراً في هذا المجال من قوة الوهم والخيال عند الإنسان، فيحتل جانباً من النفسالانسانية ويؤثر عليها، وعندما نقول قوة الوهم والخيال، فنحن نشير إلى خروج قوةالعقل عن تخصصه، وعدم قدرته للسيطرة عليها، لأنها من المجردات، والوسوسة مجرد عرض،فلاحظ.
ولا يذهب عليك أن هذه الوسوسة الصادرة منه تـتمثل فيأشياء:
منها: الوعد، قال عز من قائل:- (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء)[13]، وقال سبحانه:- (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)[14].
ومنها: التخويف، قال تعالى:- (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ)[15]
ومنها: التـزيـين، قال تعالى:- (قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[16].
ولا يخفى أنللتـزيـين صوراً، فقد يكون التـزيـــين من خلال ظهور الدنيا بصورة الاستقلال وجمالالغاية والمقصد، وقد يكون بتـزيـين الشهوات، قال تعالى:- (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)[17] ، وقد يكون بتـزيـين الأعمال، قال تعالى:- (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)[18]
ومنها: النـزغ، ويقصد به الإغراء، قال تعالى:- (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[19].
ومنها: الأمربالفواحش والرذائل، قال تعالى:- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[20]، ومنها: إيقاع العداوةوالبغضاء، و الصد عن السبيل، وغيرها من سبل الشيطان، والوسوسة.
الثانية: الاتباع والتأثر بذلك التـزيـين والوسوسة، ويمكن أن يعبر عنها بتعبير آخر مفاده،مرحلة التلقي للأوامر الشيطانية، والذي عبرت عنه آيات القرآن باتباع خطوات الشيطان،وفي هذه المرحلة يصبح الإنسان مأموراً من الشيطان، نعم لا يبلغ الإنسان غالباً فيهذه المرحلة حالة القنوط من الرحمة الإلهية، ولا يصل إلى مرحلة اليأس من روح اللهسبحانه، بمعنى أن المأمور من قبل الشيطان قد يكون معترضاً عليه، ورافضاً لأمره،فلاحظ.
الثالثة: مرحلة الطاعة للشيطان وتنفيذ أوامره، وهي أشد خطورة منالمرحلتين السابقتين، ذلك أن الإنسان عندما يبلغ إليها، فهذا يعني أن الشيطان قدنجح في تحقيق مراده، ووصل إلى حالة التسلط على الإنسان، وصار ولياً له.
عدمسلطة الشيطان على الأنبياء:
ثم إن هذا الذي ذكرناه من ثبوت السلطان للشيطانعلى البشر، هل يتصور شموله للأنبياء والأوصياء(ع) أيضاً، فيقال: بأن ما كان ثابتاًله من سلطة على البشر، ثابت له أيضاً على الأنبياء والأوصياء، أيضاً أملا؟
الصحيح أنه لا مجال للالتـزام بثبوت ذلك له عليهم، وذلك لما زودهم اللهسبحانه وتعالى به من العصمة المانعة من أن يتأثروا بوساوس إبليس وأن يستجيبوالغوايته، ولهذا لا يتصور فيهم أن يتبعوه في ما يدعو له من الانحراف عن الصراطأبداً، فلا يصدر منهم الذنب، ولا يصدر منهم الخطأ والسهو والنسيان، ولا يصدر منهمكل ما يوجب الإخفاق عن إصابة الحق. فلاحظ. ويشير إلى ذلك قوله تعالى:- (إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[21].
دور الشيطان في حياة المعصومين:
وإذا لم يكنللشيطان دور في حياة المعصومين من خلال المراحل الثلاث التي تقدمت، فهل يعني ذلكأنه لا دور له في حياتهم أبداً، أم أن له دوراً إلا أنه يختلف عن ذلك الدور الذييكون في حياة عامة الناس، وإذا كان له دور فما هو، وفي أي شيء يكون، وكيفنتصوره؟
إن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو القول بثبوت الدور الشيطاني فيحياة المعصومين، بل قد يدعي البعض أنه لا يختلف دوره في حياتهم عن دوره في حياةبقية البشر، ويستشهدون لذلك بالآيات القرآنية التي يظهر منها تسلط الشيطان عليهمكتسلطه على بقية الناس، كما في آيات النسيان المنسوب إليهم.
لكن هذا التبادرغير صحيح، ذلك أننا وإن كنا نلتـزم بثبوت الدور للشيطان في حياة المعصومين، إلا أنهيختلف تماماً عن الدور الذي يكون له في حياة الناس، بل هو دور محدود وضيق جداً،ويتجلى ذلك واضحاً عندما يعود القارئ إلى آيات القرآن الكريم، فإنه يجد انحصار دورهفي حياتهم في خصوص مفردة واحدة، وهي محاربته للأنبياء والأوصياء(ع) في إبلاغالرسالات الإلهية.
محاربة الشيطان للمعصومين:
وهذا الدور يتجلى عندمايحيط الإنسان بما طلبه الشيطان من وعد من الباري سبحانه وتعالى، لما أخرجه منالجنة، وصرح حينها عن أهدافه التي سوف يعملها، من صد عن سبيل الله تعالى، وإغواءلذرية آدم(ع)، وإضلالهم عن طريق الحق، ولا يختلف أثنان في كون هذه الأهداف تتنافىوالأهداف المقدسة التي بعث الأنبياء، وأقيم الأوصياء(ع) من أجلها.
وبالجملة،إن المستفاد من الآيات الشريفة أن هناك حرباً بين الشيطان والأنبياء، يسعى الشيطانمن خلالها في إيجاد المعوقات والعراقيل التي تحول بينهم وبين الوصول إلى أهدافهمالتي ينشدونها، وفي نفس الوقت يحقق هو ما يصبو له من أهداف.
ويشهد لماذكرناه، ما جاء في قصة نبي الله أيوب(ع)، في قوله تعالى:- (واذكر عبدنا أيوب إذنادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب)[22]، إذ ليس المقصود وجود تسلط للشيطان حتىعلى نفسه الشريفة، وإنما كان للشيطان دور في إغواء قومه، إذ مضافاً إلى جعلهمكفاراً مفسدين في الأرض، وسوس لهم أن يجتنبوه، ويبتعدوا عنه، ويخرجوه من بلدهم، حتىبلغ بهم الأمر إلى التشكيك في نبوته، فقالوا بأنه لو كان نبياً ما ابتلى بماأصابه.
وكذا ما جاء في قصة نبي الله يوسف(ع)، في قوله تعالى:- (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)[23]،فإن النـزغ هو الإغواء بالدخول في أمر لإفساده، وقد وسوس الشيطان لأخوة يوسف(ع) مناجل إيذائه، وإفساد الأمر بينهم.
دائرة ترك الأولى الإرشادي:
هذا وقديجعل من ضمن أدوار الشيطان في حياة المعصومين ترك الأولى الإرشادي، ويمثل لذلك بماورد في قصة نبي الله تعالى آدم(ع)، على أساس أن النهي الذي كان موجهاً إليه(ع)، لميكن نهياً تحريمياً، وإنما كان نهياً إرشادياً غايته النصح، ومخالفة مثل هذا الأمرلا توجب مخالفة للعصمة، ذلك أنها تشبه مخالفة المريض قول الطبيب في شرب الدواء،ويشهد لكون المخالفة الصادرة منه(ع) لا تخالف قانون العصمة، كون الأولى الذي دعيإلى فعله، ومخالفته ليسا مخالفين للواقع، بل كلاهما صحيح، ومطابقان له، إلا أنالأوفق بمقام النبوة هو الاتيان بالأولى، وعدم مخالفته.
وبكلمة، إن تركالأكل من الشجرة كان مباحاً، كما أن الأكل منها كان مباحاً، إلا أن تركها أكثرمحبوبية لله سبحانه وتعالى، والأكل منها ليس مبغوضاً إليه، فلا يوجد في البين معصيةأصلاً[24].
دائرة ترك الأولى المولوي:
وهو يختلف عن الأولى الإرشادي،في أنه صادر من الشارع المقدس من باب السيادة والولاية على العبد، إلا أن هذاالصادر ليس أمراً إلزامياً، بل هو أمر ندبي يثاب المكلف على فعله، ويتحصل على الأجروالثواب، إلا أنه لا يكون مستحقاً للعقاب متى خالفه وتركه. نعم لا إشكال في أنفعلها أولى من تركها كما هو واضح.
وعلى هذا لا تعد المخالفة الصادرة منالأنبياء في هذا المضمار منافية لقانون العصمة، ذلك أنك قد عرفت أن ذلك لا يعدمخالفة أصلاً، على أن القول بأن ذلك لا يتناسب ومقام النبوة، لا يخرج عن دائرة أنحسنات الأبرار، هي سيئات المقربين، لأن المقربين قد يؤمر بما لا يؤمر به الأبرار،فتدبر[25].
والإنصاف، أن البناء على ثبوت دور للشيطان في حياة المعصومين فيهذين الموردين يعتمد على الالتزام بكون المخالفة الصادرة من النبي آدم(ع) مثلاًمخالفة للأولى، أما لو بني على أن هناك معنى آخر لها، فلا يكون المثال مصداقاًللمدعى، وتفصيل ذلك في غير هذا المقام.
ثم إنه بعد التسليم بمثل هذينالأمرين من دور الشيطان في حياة العصومين، إلا أن ما يلزم التوجه إليه أن وسوستهإليهم تختلف عن وسوسته إلى بقية العنصر البشري، فهو يتسلط على البشر، إلا أنه لايكون كذلك بالنسبة للمعصومين، بل يكون الحديث بينهم مشافهة فيرونه ويرونهم ويبديلهم النصح بحسب زعمه مباشرة[26].
النسيان في الآية الشريفة:
هذاوبعدما أتضح أنه لا دور للشيطان في حياة المعصومين(ع)، وأن دوره منحصر في إيجادالعقبات أمامهم في مقام تبليغ الرسالة الإلهية، كيف نتصور صدور النسيان من قبلهم،أو من بعضهم، والذي هو وسيلة من وسائل الشيطان التي يعمد من خلالها إلى تنفيذ مخططهفي الأرض؟
إن الإجابة على ذلك تستدعي أن يحيط القارئ بالمقصود من النسيان فيالآية الشريفة، وأود قبل ذلك الإشارة إلى نكتة مهمة في البين، وهي: إن القرآنالكريم قد استخدم في مقام حديثه عن أنبيائه عبارة النسيان، ولم يستعمل كلمةالإسهاء، فلم يذكر سهو النبي، وإنما ذكر نسيانه، فهل هذا يعني أن هناك فرقاً بينهاتين الكلمتين، أم أنهما من عين واحدة، ويشيران إلى حقيقة واحدة، ولو كانا بمعنىواحد، فلماذا استعمل القرآن كلمة النسيان، ولم يستعمل مكانها كلمة السهو، وهليمكننا أن نستبدل هذه مكان هذه؟
إن الإجابة على كل هذه التساؤلات، وغيرهاتتضح عندما نحيط خبراً بالمقصود بهاتين الكلمتين، وبيان حقيقتهما.
معنىالنسيان والسهو:
جاء ذكر كلمة النسيان في كلمات أهل اللغة[27]، والمتحصلمنها في بيان حقيقته أنه: ترك الشخص ما كان موجوداً وذاكراً له، إما عن غفلة وذهول،وإما عن قصد وعمد، وإهمال ملحوظ.
وهذا يعني أن الناسي لأمر ما لا يلزم أنيكون غافلاً عما نساه، بل قد يكون تاركاً إياه عن عمد وقصد وإرادة.
ووفقاًلهذا التعريف المذكور في كلماتهم، جعل النسيان على ثلاثة أقسام:
الأول: أنيترك الإنسان أمراً كان موجوداً وذاكراً له بسبب الغفلة والذهول.
الثاني: أنيكون ترك الإنسان للشيء الذي كان موجوداً وذاكراً له ناجماً من انشغاله بأمور أخرىتخالفه، فيكون ذلك سبباً في غفلته عن العمل بالوظيفة التي كان ذاكراًلها.
الثالث: أن يكون حصول النسيان باختيار وتعمد من الإنسان نفسه، من دونأن يكون هناك غفلة أو ذهول، ومن مصاديقه قوله تعالى:- (نسوا الله فنسيهم)[28]، إذلا يتصور أن يكون نسيانه تعالى عن ذهول وغفلة، وهذا يعني أنه عن قصد وتعمد وإلتفات،ومعناه تركه تعالى لهم بالذكر والرحمة.
وأما السهو، فإن المستفاد من كلماتأهل اللغة كون المقصود منه الغفلة عن عمل يقصده من نفسه، ولم يقع منه بعد. وهذايعني أن السهو لا يكون إلا عن غفلة وذهول حال الاتيان بالفعل، وعليه فلن تكون هناكإمكانية لتذكير الساهي أثناء سهوه[29].
ومن خلال ما ذكر بياناً لحقيقة كلاالمفهومين يتضح مدى الفرق بينهما، وأنه لا مجال لأن يكون أحدهما مكان الآخر، بل إنكل واحد منهما يشير إلى حقيقة مختلفة، نعم حقيقة النسيان أوسع، وبالتالي تكونالنسبة بينهما هي نسبة العموم المطلق، ذلك أن كل سهو نسيان، لكن ليس كل نسيان سهو،فتدبر.
والظاهر أنه ليس لهذين المفهومين في مقام الاصطلاح حقيقة أخرى غير ماجاء في كلمات أهل اللغة، وبالتالي فيكون المعنى المذكور في كلماتهم، هو المعنىالمقصود أيضاً عند علماء الاصطلاح، فلا تغفل.
ولا يذهب عليك أنه وفقاً لماقدم من بيان لحقيقتي المفهومين، سوف يكون من الخطأ الاستناد للنصوص التي تضمنت حصولالسهو من المعصوم-على فرض القبول بها-لجعلها شاهداً ودليلاً على حصول النسيان منالأنبياء بمعنى الخطأ، ذلك لأنه خلط بين موضوعين مختلفين، وحقيقتين متغايرتين، فلاتغفل.
النسيان في الآية الشريفة:
ولعمري أنه بعد بيان المقصود منالنسيان، وأنه يمكن أن يصدر من الإنسان بإرادته واختياره، وليس من اللازم أن يكونحصوله من الإنسان نتيجة غفلة وذهول، فلن يكون في نسيان الأنبياء(ع) والذي ذكر فيالقرآن الكريم، ما يتنافى وقانون العصمة، بل أقصى ما يمكن أن يدرج تحت عنوان مخالفةالأولى الإرشادي-بناءً على القبول به- أو تحت عنوان مخالفة الأولى المولوي، فلاحظ. ومن ذلك النسيان الصادر من فتى موسى(ع)، فهو لما رأى الحوت يعود إلى الحياة، ويأخذطريقه إلى البحر، كان من المنتظر منه أن يقوم بإخبار الكليم موسى(ع)، كونه كان يبحثعن العبد الصالح والمنطقة التي يعيش فيها، وفيها عين الحياة، وقد كانت تلك المنطقةهي المنطقة التي يبحث عنها، لكن يوشع بن نون ترك إخبار موسى(ع)، ما دعى إلى أنيسيرا مسافة طويلة أرهقتهما، وأتعبتهما كثيراً، فلو أنه أعلمه بذلك، لم يسيرا هذهالمسافة، ولم يقطعاها. وليس في هذا تسلط للشيطان عليه من جهة، وليس فيه منافاةلقانون العصمة من جهة أخرى، إذ أقصى ما يتصور أنه ترك للأولى الإرشادي، الذي كانيحسن بيوشع مراعاته، والله العالم.
ــــــــــــــــ
[1]
سورة طه الآية رقم 115.
[2]
أشار إلى أن الضمير راجع لصاحب الشراب، وليس راجعاً إلى نبي اللهيوسف(ع) جملة من الأعلام، فراجع على سبيل المثال: العلامة المجلسي في البحار ج 68 ص 113، الشهيد السيد القاضي التستري في إحقاق الحق ج 2 ص 233.
[3]
سورة يوسفالآية رقم 42.
[4]
سورة الكهف الآية رقم 73.
[5]
سورة الكهف الآيةرقم 73.
[6]
سورة الكهف الآية رقم
[7]
الخصال ص 322.
[8]
كمالالدين وتمام النعمة ص 220.
[9]
بحار الأنوار ج 13 ص 273.
[10]
الكافيج 8 ص 117.
[11]
بصائر الدرجات ص 489.
[12]
سورة الناس الآيتان رقم 4-5.
[13]
سورة البقرة الآية رقم 268.
[14]
سورة الاسراء الآية رقم 64.
[15]
سورة آل عمران الآية رقم 175.
[16]
سورة الحجر الآيتان 39-40.
[17]
سورة الأنعام الآية رقم 43.
[18]
سورة الأنفال الآية رقم 48.
[19]
سورة الأعراف الآية رقم 200.
[20]
سورة النور الآية رقم 21.
[21]
سورة الحجر الآية رقم 40.
[22]
سورة ص الآية رقم 41.
[23]
سورة يوسف الآية رقم 100.
[24]
عصمة الأنبياء ص261 (بتصرف)
[25]
عصمة الأنبياء ص 264. (بتصرف)
[26]
عصمة الأنبياء ص 262. (بتصرف)
[27]
لاحظ على سبيل المثال معجم مقايـيس اللغة ص 1025. النهايةفي غريب الحديث ج 5 ص 50. مفردات ألفاظ القرآن ص 50.
[28]
سورة التوبة الآيةرقم 67.
[29]
لاحظ المصباح المنير ج 1 ص 293. مفردات ألفاظ القرآن ص 431. معجم مقايـيس اللغة مادة(سهو).

  • المصدر : http://www.ruqayah.net/subject.php?id=1469
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 02 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 20