00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النازعات من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 369 ـ 406 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[369]

سُورَة النَّازِعَات

مَكيَّة

وعدد آياتِها سِتّ وَأربَعُون آية

[371]

 

«سورة النّازعات»

محتوى السورة:

تبحث هذه السورة كسابقتها مسائل «المعاد»، وتتلخص مواضيعها عموماً بستة أقسام:

1 ـ التأكيد مراراً على مسألة المعاد وتحققه الحتمي.

2 ـ الإشارة إلى أهوال يوم القيامة.

3 ـ عرض سريع لقصة موسى(عليه السلام) مع الطاغي فرعون، تسلية للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنين، وأنذاراً للمشركين الطغاة، وإشارة إلى ما يتربت على إنكار المعاد من سقوط في مستنقع الرذيلة.

4 ـ طرح بعض النماذج المظاهر قدرة الباري سبحانه في السماء والأرض، للإستدلال على إمكان المعاد والحياة بعد الموت.

5 ـ تعود الأيات مرّة اُخرى، لتعرض بعض حوادث اليوم الرهيب، وما سيصيب الطغاة من عقاب وما سينال الصالحون من ثواب.

6 ـ وفي النهاية، يأتي على خفاء تاريخ وقوع يوم القيامة، والتأكيد على حتمية وقوعه وقربه.

وسميت السورة بـ (النازعات) لورود هذه الكلمة في أوّل آية، وبها تبدأ السورة من بعد البسملة.

فضيلة السورة:

وروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «من قرأ سورة والنازعات لم يكن حبسه

[372]

وحسابه يوم القيامة إلاّ كقدر صلاة مكتوبة حتى يدخل الجنّة»(1).

وعن الإمام الصادق، أنّه قال: «مَن قرأها لم يمت إلاّ ريّان، ولم يبعثه اللّه إلاّ ريّان، ولم يدخله الجنّة إلاّ ريّان»(2).

وليس غربياً أن ينال الإنسان بكل ما ذكر جزاءً من عند اللّه، إذا ما أمعن في محتوى السورة وتدبّر إشاراتها الموقظة للنفوس الغافلة، والمعرِّفة بوظائف الإنسان في حياته، فمن لم يكتف بترديد ألفاظ السورة، وعمل بها بعد الإمعان والتدبر فحري أن يجزى بما وعد الحق.

* * *

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص428.

2 ـ المصدر السابق.

[373]

الآيات

وَالنَّــزِعَـتِ غَرْقاً(1) وَالنَّـشِطَـتَ نَشْطاً (2)وَالسَّـبِحَـتِ سَبْحاً(3) فَالسَّـبِقَـتِ سَبْقاً(4) فَالمُدَبِّرَتِ أَمْرَاً(5)

التّفسير

القسم بالملائكة:

جاء القسم القرآني بخمسة أشياء مهمّة، لتبيان حقيقة وحتمية تحقق يوم القيامة «المعاد»، فيقول:

(والنازعات غرقاً....).

وقبل البدء بالتّفسير لابدّ من توضيح معاني بعض الكلمات..

«النازعات»: من (النوع)، ونزع الشيء جذبه من مقرّه، كنزع القوس عن كبده، ومنه نزع العداوة والمحبّة من القلب(1). وبذلك تشمل الاُمور المعنوية أيضاً.

(الغَرق): بالفتح (على وزق الشفق)، هو الرسوب في الماء، (على قول كثير من أهل اللغة)، ويأتي كذلك فيمَن غمره البلاء.

______________________________

1 ـ مفردات الرغب، مادة (نزع).

[374]

و«الغرْق»: (على وزن الفرْق)، يقول عنه (ابن منظور) في لسان العرب: إنّه اسم اُقيم مقام المصدر الحقيقي، بمعنى الإغراق، والإغراق بالنزع هو: أن يباعد السهم ويسحب القوس إلى آخر نقطة ممكنة، ويضرب مثلاً للغو والإفراط.

ومن هنا يتّضح أنّ المعنى المقصود في هذه الآية ليس الغرق في الماء، بل هو القيام بعمل ما إلى أقصى حدّ ممكن.(1)

«النّاشطات»: من (النشط)، هي العُقد التي يسهل حلها، وبئر (إنشاط): هي القريبة القعر يخرج دلوها بجذبة واحدة، ويقال للإبل التي تتحرك من غير أن يُحدى لها (النشيطة).. فيكون المعنى عموماً: هو التحرك بسهولة.

«السابحات»: من (السبح)، وهو الحركة السريعة في الماء أو الهواء ولهذا تطلق السابحات على: السباحة في الماء، الحركة السريعة للخيل، وأيّة حركة سريعة في عمل ما.. و«التسبيح»: هو تنزيه اللّه تعالى من كل عيب ونقص، وأصله: الحركة السريعة في عبادة اللّه تعالى.

«السابقات»: من (السبق)، وهو التقدم في السير، وبما أنّ السبق لا يتمّ إلاّ بالحركة الأسرع فهو يتصمّن معنى الشرعة كذلك.

«المدبرات»: من (التدبير)، وهو التفكير في عاقبة الاُمور، وأرادت الآية القيام بالأعمال على أحسن وجه.

وبعد هذه التعريفات الموجزة نشرع بالتفسير:

إنّ القسم بهذه الاُمور الخمسة قد لفّته هالة من الإبهام والغموض وتبعث على التأمل والتعمق أكثر لمعرفة المراد من هذه الأقسام وأنّها لمن تشير، وأي شيء تقصد؟

وقد عرضت تفاسير مختلفة، وقيل الكثير بخصوص هذا الموضوع، إلاّ أنّ

______________________________

1 ـ راجع: لسان العرب، تفسير مجمع البيان، تفسير الكشّاف، ومجمع البحرين.

[375]

معظمها تدور حول ثلاثة محاور:

الأوّل: إنّ القسم المذكور يتعلق بالملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفّار والمجرمين، ولكون تلك الأرواح قد رفضت التسليم للحق، فيكون فصلها عن أجسادها بشدّة.

ويتعلق كذلك، بالملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين برفق ويُسر، وسرعة في إتمام الأمر.

والملائكة التي تسرع في تنفيذ الأوامر الإلهية.

ثمّ الملائكة التي تتسابق في تنفيذ الأوامر الإلهية.

وأخيراً، يتعلق القسم بالملائكة التي شؤون العالم بأمره سبحانه وتعالى.

الثّاني: تعلق القسم بالنجوم التي تغرب من اُفق لتنتقل إلى اُفق آخر وبحركة دائبة لا تعرف السكون.

فبعض منها تمشي الهوينا، والبعض الآخر واسعة الخطوات.

وتراها سابحة في السماء.

وتتسابق فيما بينها.

وأخيراً، تشترك في تدبير اُمور الكون، بما لها من تأثيرات، (كنور الشمس وضياء القمر بالنسبة إلى الأرض).

الثّالث: تعلق القسم بالمجاهدين في سبيل اللّه، أو بخيولهم الخارجة من أوطانهم بعزم شديد لتجول في ميادين القتال بنشاط وتمكن.

و... تتسابق فيما بينها... مع الجول والتسابق تعمل على إرادة وتدبير اُمور الحرب.

وقد جمع بعض المفسّرين هذه الآراء، فبعضها مقتبس من الأوّل، والقسم الآخر من الثّاني أو الثالث، لمعنى خاص، ولكنّ الأصل في كلّ ذلك يعود إلى

[376]

التّفاسير الثّلاثة المذكورة(1).

ولا يوجد أيّ تضاد بين كلّ ما ذُكر، ويمكن أن تكون الآيات قد رمزت إلى كلّ هذه المعاني... وعموماً يبدو أنّ التفسير الأوّل أقرب من غيره، للأسباب التالية:

أوّلاً: تناسبه مع يوم القيامة.. هو ممّا تدور السورة حوله عموماً.

ثانياً: نسبة الترابط الموجودة بينه وبين الآيات المشابهة للآيات المبحوثة في أوّل سورة المرسلات.

ثالثاً: ملائمة تفسير: (فالمدبّرات أمراً) للملائكة التي تدبّر شؤون العالم بأمر اللّه، والذين لا يتخلفون ولو لحظة واحدة في تنفيذ ما يؤمرون به، كما تشير الآية (27) من سورة الأنبياء إلى ذلك: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون)، وخصوصاً أنّ (تدبير الأمر) ورد بصيغة مطلقة من دون أيّ قيد أو شرط.

وعلاوة على كلّ ما تقدم فثمّة روايات في تفسير الآيات المبحوثة يتناسب معها التفسير الأوّل، ومن جملتها:

ما روي عن علي(عليه السلام) في تفسير (النّازعات غرقاً)، إنّه قال: «إنّها الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفّار عن أبدانهم بشدّة كما يغرق النازع بالقوس فيبلغ بها غاية المسد)(2).

وروي عنه(عليه السلام) في تفسير: «والناشطات» و«السابحات» و«فالمدبرات» ما

______________________________

1 ـ وثمّة رأي يقول: المقصود بهذا القسم، تلك الحركات الطبيعية والإرادية والصناعية للموجودات، فمثلاً: تتحرك النطفة حركة طبيعية، فتنفصل من صلب الأب لتستقر في رحم الاُم، ثمّ تديم مسيرها بهدوء، ولتسرع بعد ذلك، ثمّ تبدأ المواد الحياتية بالتسابق في النطفة حتى يتشكل في النهاية إنسان كامل الهيئة لتقوم بتدبيره، وكذا الحال بالنسبة للحركات الإرادية حيث يبدأ الإنسان باتخاذ قرار معين وبعده يتحرك بهدوء لتجسيد اُولى خطوات التنفيذ، ثمّ يسرع الخطوات، ويتسابق مع الآخرين، ويقوم بكلّ ذلك لتدبير أمره وحياته الإجتماعية والوسائل الصناعية لا تبتعد عن هذا التسلسل، كما في المراحل التي تطويها الطائرة في مسيرها. (إلاّ أنّ هذا التفسير يفتقد الدليل).

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص497، الحديث 4.

[377]

يشبه ذلك(1).

ويمكن توجيه هذا التفسير بشكل أتم، إذا ما اعتبرنا مسألة قبض أرواح المؤمنين والكفّار مصداق من مصاديق التّفسير وليس كلّ محتواه، وعليه فالملائكة هم المقصودون بالأقسام المذكورة بصورة عامّة، ويتمّ تنفيذ الأمر الإلهي من قبلهم على خمس مراحل: الحركة الشديدة الناتجة من عظمة صدور الأمر الإلهي.. الشروع بالتنفيذ بخطوات هادئة.. الإسراع في خطوات التنفيذ.. فالتسابق.. ومن ثمّ يكون تدبير الأمر.

وعلى أيّة حال، فقبض الأرواح من قبل الملائكة مصداق لمفهوم كلّي، ويعتبر الأرضية الممهدة لبقية البحوث التي تتناولها السورة حول «المعاد».

* * *

ملاحظتان

ويبقى، بعد كلّ ما تقدم، سؤالان:

الأوّل: ما سبب مجيء «النازعات» و«الناشطات» بصيغة المؤنث؟

الثّاني: كان القسم في الآيات الثلاثة الاُولى بـ «الواو»، وفي الآيتين الرابعة والخامسة استعملت «الفاء» عوضاً عن «الواو».. فهل هي للعطف أم للتفريع؟

الجواب الأوّل: «النازعات» جمع (نازعة)، وهي الطائفة أو المجموعة من الملائكة التي تعمل على تنفيذ ما اُمرت به، وكذا الحال بالنسبة لـ «الناشطات» وبقية صيغ الجمع الاُخرى... وبما أنّ (الطائفة) مؤنث لفظي، فقد جاء الجمع بصيغة المؤنث السالم.

الجواب الثّاني: يمكننا القول: أنّ التسابق الحاصل هو نتيجة الحركة السريعة

______________________________

1 ـ المصدر السابق، الحديث 7 ـ 8 ـ 12.

[378]

المقصودة في «السابحات»، وتدبير الاُمور نتيجة لمجموع هذه الحركة.

وآخر ما ينبغي قوله في هذا المجال: إنّ القسم الوارد في الآيات الخمسة الاُولى من السورة، إنّا هو قسم على أمر محذوف (وهو جواب القسم)، ولكنّ قرينة المقام وما تشير إليه الآيات التالية يبيّن البعث والحشر والقيامة، وحتمية تحققها، فيكون التقدير لجواب القسم: (لتبعثن يوم القيامة ولتحشرنّ ولتحاسبن).

* * *

[379]

الآيات

يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ(6) تَتْبَعُهَا الرِّادِفَةُ(7) قُلُوبٌ يَومَئِذ وَاجِفَةٌ(8) أَبْصَـرُهَا خَـشِعَةٌ(9) يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ(10) أَءِذَا كُنَّا عِظَـماً نَّخِرَة(11) قَالُواْ تِلْكَ إِذَاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ(12) فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ(13) فإِذَا بِالسَّاهِرَةِ(14)

التّفسير

صيحة الموت المرعبة!

بعد أن أكّد القرآن الكريم على حقيقة القيامة وحتمية وقوعها في الآيات السابقة، تتعرض الآيات أعلاه لبعض ما يصاحب يوم القيامة من علامات وأحداث، فتقول: (يوم ترجف الرّاجفة)، أي: يوم تحدث الزلزلة العظيمة المهولة.

ثمّ: (تتبعها الرّادفة).

«الراجفة»: من (الرجف)، بمعنى الإضطراب والتزلزل، ولذا يقال للأخبار التي توقع الإضطراب بين أوساط الناس بـ (الأراجيف).

«الرادفة): من (الردف)، وهو الشخص أو الشيء الذي يأتي بعد نظيره تتابعاً،

[380]

ولذا يقال لمن يركب خلف آخر، (رديفه).

ويعتقد كثير من المفسّرين بأنّ «الراجفة»: هي الصيحة ونفخة الصور الاُولى التي تعلن عن موت جميع الخلائق، و«الرادفة»: هي الصيحة ونفخة الصور الثّانية التي يبعث فيها الخلق مرّة اُخرى ليعيشوا يوم القيامة(1).

وعليه، فالآيتان تشيران إلى نفس ما أشارت إليه الآية (68) من سورة الزمر: (ونفخ في الصور فصعق مَن في السماوات ومَن في الأرض إلاّ مَن شاء اللّه ثمّ نفخ فيه اُخرى فإذا هم قيام ينظرون).

وقيل: «الراجفة»: إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر الأرض، و«الرّادفة»: إشارة إلى الزلزلة التي تدمّر السماوات..

والتّفسير الأوّل كما يبدو أقرب للصواب.

وتأتي الآية الاُخرى لتقول: (قلوب يومئذ واجفة).

فقلوب العاصين شديدة الإضطراب خوفاً من الحساب والجزاء.

«واجفة»: من (الوجف)، بمعنى سرعة السير، و(أوجفت البعير): حملته على الإسراع، وتستعمل أيضاً للإضطراب الشديد لما يصاحبه من اهتزاز وإسراع.

ويكون التزلزل الداخلي من الشدّة بحيث يظهر على وجوه كلّ المذنبين، ولذا يقول القرآن: (أبصارها خاشعة)(2).

فيبدو الإضطراب والخوف ظاهراً على أعين المذنبين، وتتوقف حركتها وكأنّها قد فقدت حاسة النظر لما أصابها من خوف شديد.

وفي الآية التالية ينتقل الحديث من أخبار يوم القيامة إلى الحياة الدنيا:

______________________________

1 ـ ينبغي ملاحظة أنّ فعل (رجف) قد يأتي متعدياً وقد يأتي لازماً، فعلى الحالة الاُولى تكون «الراجفة» بمعنى الزلزلة العظيمة التي تزلزل كلّ الأرض والموجودات، وعلى الحالة الثّانية تعني الأرض دون غيرها ـ فتأمل.

2 ـ يعود ضمير «أبصارها» إلى القلوب، التي تشير هنا إلى معنى (النفوس والأرواح)، وترجع الإضافة إلى أنّ مركز تأثيرات حواس الإنسان إنّما من روحه، وما يظهر من اضطراب وخوف على الأعين هو نتيجة لما يسيطر على الروح من خوف.

[381]

(يقولون أإنّا لمردودون في الحافرة).

«الحافرة»: من (الحفر)، بمعنى شقّ الأرض، وما ينتج من ذلك يسمى (حفرة)، يقال: حافر الفرس، تشبيهاً لحفرة الأرض في عَدوِه، و«الحافرة»: كناية لمن يُرد من حيث جاء، كما لو سار إنسان على أرض، فيترك فيها حفراً لتحمل آثار قدمه، ثمّ يعود إلى نفس تلك الحفر، فالحافرة: تعني الحالة الاُولى(1).

وتستمر الآية في سرد كلامهم: (أإذا كنّا عظاماً نخرة)(2).

فهكذا هو حال ودأب منكري المعاد وعلى الدوام باستفسارهم الدائم حول المعاد، وبقولهم المعروف: كيف للعظام البالية النخرة والتي تحولت إلى ذرات تراب أن تعود مرّة اُخرى جسماً كاملاً، والأكثر من هذا.. أن تسري فيه الحياة ولكنّهم لم يفقهوا إلى أنّهم خلقوا من ذلك التراب، فكيف أصبحوا بهذه الهيئة الحيّة بعد أن لم يكونوا شيئاً؟

«نخرة»: صفة مشبهة، من (النخر)، بمعنى الشجرة المجوفة البالية، والتي إذا دخل فيها الهواء أعطت صوتاً معيناً، مثله (النخير)، وعمم الإستعمال ليشمل كلّ شيء بال في حال تآكل وتلاش.

ولا يكتفي منكرو المعاد بحال الإعتراض على ما وعدهم به الباري سبحانه، بل وتحولوا إلى حال الإستهزاء بأحد اُصول دين اللّه!: (قالوا تلك إذاً كرّة خاسرة).

وثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية يقول: إنّهم جادون في قولتهم غير مستهزئين، لأنّهم يعتقدون أن لو كان ثمّة عود ورجعة فهي عبث زائد وخاسر، إذ لو كانت الحياة الطيبة هي التي نعيشها، فلماذا لا تخلد؟ وإن كانت سيئة فما فائدة العود؟

______________________________

1 ـ اسم فاعل هنا بمعنى اسم المفعول، فالحافرة إذاً بمعنى المحفورة.

2 ـ وتقدير الجملة مع محذوفها: (أئذا كنّا عظاماً نخرة نرد أحياءً) أو (أئنا لمبعوثون).

[382]

ويمكن اعتبار «الحافرة» الواردة في: (أإنّا لمردودون في الحافرة) قرينة لهذا الإحتمال، بلحاظ كونها بمعنى (الحفرة).

ولكنّ المعروف بين المفسّرين هو التّفسير الأوّل.

وقد عبّرت الآية السابقة عن قولهم بصيغة المصارع «يقولون» اشارةً إلى دوام ترديدهم لما يقولون به، في حين ذكر الفعل في الآية المبحوثة بصيغة الماضي «قولوا» إشارة إلى أنّهم قليلاً ما يقولون ذلك.

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يعود القرآن الكريم إلى مسألة القيامة، وبلسان قاطع، يقوق: (فإنّما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة).

فالأمر ليس بمستصعب على الخالق القادر، فما أن يصدر الأمر الإلهي لنفخة الصور الثّانية حتى تعود الحياة ثانية إلى جميع الخلائق، نعم.. فتشرع كلّ تلك العظام النخرة وما صار منها تراباً للتجمع على الهيئة الاُولى، وليخرج الناس من قبورهم بعد أن تسري فيهم روح الحياة!

«الزجرة»: بمعنى صيحة بشدّة وانتهار، ويراد بها: نفخة الصور الثّانية.

«زجرة واحدة»: إشارة إلى سهولة الأمر أمام قدرة اللّه سبحانه وتعالى، وإلى سرعة تنفيذ أمره سبحانه (لقيام القيامة)... فبصوت واحد من ملائكة القيامة، أو من صور إسرافيل يرتدي جميع الأموات لباس الحياة من جديد ليحضروا عرصة المحشر للحساب.

«الساهرة»: من (السهر)، وهو الأرق، وقيل: لأرض القيامة «الساهرة» لذهاب النوم عن العيون لما سيصابون به من أهوال مرعبة. وقيل: الساهرة: اسم للصحراء، لأنّ جميع الصحاري مخيفة، وكأنّ الخوف فيها يطرد النوم من العين(1).

* * *

______________________________

1 ـ لسان العرب: سهر، مجمع البيان: ج10، ص429; وتفسير القرطبي، ج10، ص6990.

[383]

الآيات

هَلْ أَتَـكَ حَدِيثُ مُوسَى(15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوى(16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلِى أَن تَزَكَّى(18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى(19) فَأَرَاهُ الأَيَةَ الْكُبْرَى(20) فَكَذَّبَ وَعَصَى(21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى(22) فَحَشَرَ فَنَادَى(23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى(24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاَْخِرَةِ وَالاُْولَى(25) إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى(26)

التّفسير

إفتراء فرعون!

يشير القرآن الكريم بهذه المقاطع البيانية إلى بعض مشاهد قصّة موسى(عليه السلام)وفرعون، والتي تتناول عاقبة الطغاة عبر التاريخ، وما حدى بفرعون من مصير أسود، ليستذكر مشركو قريش وطغاتهم تلك الواقعة، وليعلموا أن من كان أقوى منهم لم يتمكن من مقاومة العذاب الإلهي.

ويشير البيان القرآني كذلك، إلى المؤمنين بأن لا يخافوا من قوّة الأعداء

[384]

الظاهرية، لأنّ دمارهم وهلاكهم على اللّه أسهل من أن يتصور.. فهذا البيان القرآني إذاً، تسلية لقلوب المؤمنين وترطيباً لخواطرهم.

فيتوجه الحديث إلى النبيّ(عليه السلام) بصيغة الإستفهام: (هل أتاك حديث موسى)ليشوق السامع ويهيئه لاستماع القصّة ذات العبر.

ثمّ يقول: (إذ ناداه ربّه بالواد المقدّس طوى)(1).

«طوى»: يمكن أن يكون إسماً لأرض مقدّسة، تقع في الشام بين (مدين) و(مصر)، وهو الوادي الذي كلّم اللّه تعالى فيه موسى(عليه السلام) أوّل مرّة.

وقد رود الاسم أيضاً في الآية (12) من سورة طه: (إنّي أنا ربّك فاخلع نعليك إنّك بالواد المقدّس طوى).

وقد تكون «طوى» صفة من (الطي)، إشارة إلى ما انطوت عليه تلك الأرض من القداسة والبركة.

أو كما يقول الراغب في مفرداته، إشارة إلى حالة حصلت له على طريق الاجتباء، فكان ينبغي عليه السير في طريق طويل، ليكون لائقاً لنزول الوحي ولكن اللّه تعالى طوى له هذا الطريق وقرّب له الهدف.

ثمّ أشار القرآن إلى تعليمات اللّه عزّوجلّ إلى موسى(عليه السلام) في الوادِ المقدّس: (اذهب إلى فرعون إنّه طغى فقل هل لك إلى أن تزكّى) وبعد التزكية وتطهير الذات تصبح لائقاً للقاء اللّه، وسوف أهديك إليه عسى أن تخشع وتترك ما أنت عليه من المنكرات: (وأهديك إلى ربّك فتخشى).

ولمّا كانت كلّ دعوة تحتاج إلى دليل صحتها، يضيف القرآن القول: (فأراه الآية الكبرى)(2).

______________________________

1 ـ اعتبر أكثر المفسّرين «إذ» ظرف زمان متعلق بـ «حديث» ويصح الإعتبار لو كانت بمعنى نفس الحادثة وليست حكايتها.. وثمّة احتمال آخر، يقول «إذ»: ظرف متعلق بفعل محذوف تقديره (اذكر)، فالتقدير: (اذكر إذ ناداه...) ـ فتأمل.

2 ـ إنّ الفاصلة الزمنية ما بين توجيه الأمر الإلهي إلى موسى(عليه السلام) وبين إرائة المعجزة كانت كبيرة، ولكنّ البيان القرآني اختصرها في هذا الموضع.

[385]

ولكن، ما الآية الكبرى؟ هل هي عصا موسى(عليه السلام) التي تحولت إلى أفعى عظيمة، أو إخراج يده بيضاء، أم كليهما؟ (على اعتبار أنّ الألف واللام في «الآية الكبرى» إشارة إلى الجنس). وعلى أيّة حال، فالمهم في المسألة إنّ موسى(عليه السلام)استند في بدء دعوته على معجزة «الآية الكبرى».

لقد وردت في الآيات الأربعة المذكورة جملة ملاحظات، هي:

1 ـ طغيان فرعون يمثل علّة الأمر الإلهي لذهاب موسى(عليه السلام) إليه... وتبيّن لنا هذه الملاحظة: إنّ من جملة الأهداف المهمّة في حركة الأنبياء هي هداية الطغاة أو مجاهدتهم.

2 ـ راح موسى(عليه السلام) يدعو فرعون بلين ورفق واُسلوب جميل، وباُسلوب مرغّب دعاه لأن يتطهر (طهارة مطلقة من الشرك والكفر، ومن الظلم والفساد) وتنقل لنا الآية (44) من سورة طه هذا المعنى: (فقولا له قولاً ليناً).

3 ـ وثمّة إشارة لطيفة رودت بخصوص رسالة الأنبياء(عليهم السلام)، فدعوتهم للحق تعتمد على محاولة تطهير الناس وإعادتهم إلى فطرتهم السليمة.

كما وأشار البيان القرآني إلى أنّ المخاطبة قد تمّت بكلمة «تزكّي» بدلاً من (اُزكيك)، للدلالة على أنّ التزكية الحقّة إنّما هي تلك النابعة من الذات، ولا تُبنى باُسس موضوعية خارجية.

4 ـ ذكرت الهداية بعد التزكية، للدلالة على أنّ التزكية مقدّمةً وبمثابة الأرضية المهيئة للهداية.

5 ـ إنّ تعبير «إلى ربّك» في حقيقة تأكيد على أنّ مَن أهديك إليه هو مالكك ومربيك، فَلِمَ الميل عنه؟!

6 ـ «الخشية» نتيجة للهداية: (وأهديك إلى ربّك فتخشى)، وبما أنّ الخشية لا تحصل إلاّ بمعرفة حقّة، فتكون ثمرة شجرة الهداية والتوحيد هي الإحساس بالمسؤولية الملقاة على العواتق أمام جبار السماوات والأرض، ولهذا تقول الآية

[386]

(28) من سورة فاطر: (إنّما يخشى اللّه، من عباده العلماءُ).

7 ـ ابتدأ موسى(عليه السلام) اُسلوب دعوته بالهداية العاطفية ثمّ تدرج إلى الهداية العقلية والمنطقية حتى أرى فرعونَ الآية الكبرى.

وقد بيّن لنا البيان القرآني أفضل طرق الدعوة والإرشاد، حيث ينبغي إحاطة مَن يُراد هدايته بالرعاية والعطف وتحسيسه بحسن نيّة الداعية أو المرشد، ومن ثمّ تأتي مرحلة الدليل المنطقي والحوار العلمي.

لكنّ فرعون المتجبّر قابل كلّ تلك المحبّة، اللطف، الدعوة بالحسنى والآية الكبرى، قابل كلّ ذلك بالتجبّر الأعمى والغرور الأبله: (فكذّب وعصى).

وكما يظهر من الآية المباركة فإنّ التكذيب مقدمة العصيان ومرحلة سابقة له، كما هو حال التصديق الإيمان باعتباره مقدّمة للطاعات.

وازداد فرعون عنوّاً: (ثمّ أدبر يسعى)(1).

وقد هددت معجزة موسى(عليه السلام) كل وجود فرعون الطاغوتي، ممّا دعاه لأن يبذل كل ما يملك من قدرة لأجل إبطال مفعول المعجزة، فتراه وقد أمر أتباعه وجنوده لجمع كلّ سحرة البلاد ـ على كثرتهم في تلك الحقبة الزمنية ـ ونودي في الناس بأمره ليشاهدوا مشهد إبطال المعجزة من قبل السحرة، وليظهروا مثلها!!: (فحشر فنادى).

مع أنّ كلمة «حشر» ذكرت بصورة مطلقة مبهمة، ولكننا نستطيع معرفة تفصيل الأمر من خلال الآيات القرآنية الاُخرى، ففي الآيتين (111 و112) من سورة الأعراف، يكمل تفصيل ذلك: (وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم).

وكذا الحال بالنسبة لكلمة «نادى»، فيمكننا التوصل لمعناها من خلال الآية

______________________________

1 ـ يمكن اعتبار «ثمّ» في الآية إشارة إلى المدّة التي استغلها فرعون ليدرس ويخطط لكيفية مواجهة موسى(عليه السلام)، لأنّ «ثمّ» عادة ما تستعمل للتعبير عن الفاصلة الزمنية بين الأحداث.

[387]

(39) من سورة الشعراء، والتي تناولت نفس الموضوع: (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون).

ولم يكتف فرعون بكذبه وعصيانه، ومقاومته لدعوة الحق والوقوف أمامها، بل وتعدى حدود المخلوق بصورة مفرطة جدّاً، وافترى على اللّه وعلى نفسه بأقبح ادعاء، حينما ادعى نفسه الربوبية على شعبه وأمرهم بطاعته!: (فقال أنا ربّكم الأعلى).

نعم.. فحينما يقبع المتجبّر في عرش الغرور، وحينما تلّفه أمواج الأنانية المفرطة، حينها.. سيجرفه تيار الإفراط لأن يدعي لنفسه الربوبية، بل ويجره فقدان بصيرته، وانحسار فطرته بين ظلمات أنانيته لأن يدعي أنّه (ربّ الأرباب)!!

وأوصل فرعون قولته إلى الناس ليخبرهم بأنّه لا يعارض ما لهم من أصنام يعبدونها، لكنّه فوقها جميعاً فهو (المعبود الأعلى)!

وألطف ما في الأمر، إنّ فرعون نفسه كان أحد عبدة الأصنام، بشهادة الآية (127) من سورة الأعراف: (أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك)، فادعاءه بأنّه (الربّ الأعلى) قد سرى حكمه حتى على آلهته لتكون من عبيده!..نعم، فهكذا هو هذيان الطواغيت.

وقد ادعى فرعون بأكثر من (ربّ الأرباب)، ليضيف إلى هذيان الطغاة حماقة، حينما ورد قوله في الآية (38) من سورة القصص: (ما علمت لكم من إله غيري)!...

وعلى أيّة حال، فقد حلّ بفرعون منتهى التكبر والطغيان، فأخذه جبّار السماوات والأرض سبحانه أخذ عزيز مقتدر: (فأخذه اللّه نكال الآخرة والاُولى)(1)

______________________________

1 ـ «نكال»: منصوب بنزع الخافض، والتقدير: (فأخذه اللّه بنكال الآخرة) ويحتمل كونه مفعول مطلق للأخذ، بمعنى (نكّل)، فيكون التقدير: (نكّل اللّه ناكال الآخرة).

[388]

«النكال»: لغةً: العجز والضعف. ويقال لِمَن يتخلف عن دفع ما استحق عليه (نكل). و(النِكل) ـ على وزن فكر ـ القيد الشديد الذي يعجز معه الإنسان على عمل أيّ شيء.

و«نكال»: في الآية يقال للعذاب الإلهي الذي يؤدي إلى عجز الإنسان، ويُخيف الآخرين، فيعجزهم عن ارتكاب الذنب،.

«نكال الآخرة»: عذاب جهنّم الذي سينال فرعون وأصحابه ومَن سار على خطوه، و«عذاب الاُولى»: إشارة إلى إغراق فرعون وأصحابه في نهر النيل.

وتقديم «نكال الآخرة» على عذاب الدنيا، لأهميته وشدّة بطشه.

وقيل: «الاُولى»: تشير إلى كلمة فرعون الاُولى في مسير طغيانه حين ادّعى (الاُلوهية)، كما جاء في الآية (38) من سورة القصص.

و«الآخرة»: إشارة الى آخر كلمة نطق بها فرعون حين ادّعي (الرّبوبية العليا)، فعذّبه اللّه بالغرق في الحياة الدنيا نتيجة ادّعائيه الباطلين.

وقد اُشير لهذا المعنى فيما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) قوله: «إنّ الفترة ما بين قوله الاُولى والآخرة كانت أربعين عاماً، وقد أخّر اللّه تعالى عذابه كلّ هذه المدّة إتماماً للحجّة عليه»(1).

ويوافق هذا المعنى صيغة الفعل الماضي الواردة في الآية «أخذ» والذي يفهم منه تنفيذ كلّ العقاب في الدنيا، وتعضده الآية التالية التي تَعِدُّ العذابَ عبرةً للآخرين.

______________________________

1 ـ وفي مجمع البيان، ج10، ص432، رواية اُخرى تحمل نفس المضمون عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأكثر تفصيلاً، نور الثقلين، ج5، ص500.

[389]

ويستخلص القرآن نتيجة القصّة: (إنّ في ذلك لعبرة لِمَن يخشى).

فتبيّن الآية بكلّ وضوح، إنّ وسائط سلك طريق الإعتبار مهيئة لمن سرى في قلبه الخوف والخشية من اللّه، واعترته مشاعر الإحساس بالمسؤولية، ومَن رأى العبرة بعين معتبرة اعتبر.

نعم.. فقد اُغرق فرعون، واُهلك ملكه ودولته، وصار درساً شاخصاً لكل فراعنة وطواغيت ومشركي الزمان، وعبرةً لمن سار على نهجه الفاسد لكل عصر ومصر، ولا يجني مَن سار على خطاه سوى ما جنيت به يداه، وهي سُنّة اللّه، ولا تغيير ولا تبديل لسنّته جلّ شأنه.

* * *

بحث

بلاغة القرآن:

بنظرة ممعنة في الآيات الإحدى عشر المبحوثة، تتجلى لنا ذروة فصاحة وبلاغة القرآم الكريم، فبعبارات موجزة وسريعة، عرضت قصّه موسى(عليه السلام) مع فرعون وبتفصيل بياني محكم، حيث تناولت: بيان سبب الرسالة، هدف دعوة الرسالة، وسائل التطهير، كيفية الدعوة، اُسس مواجهة مخططات الأعداء، نماذج من الإدعاءات الباطلة، والإنتقام من الطغاة... فكل هذا وما حمل بين ثناياه من دروس حيّة للإنسانية، قد ورد في هذه الآيات القليلة الموجزة!

* * *

[390]

الآيات

ءَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَـهَا(27) رَفَعَ سَمْكَـهَا فَسَوَّاهَا(28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـهَا(29) وَالاَْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـهَا(30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَـهَا(31) وَالْجِبَالَ أَرْسَـهَا(32) مَتَـعاً لَّكُمْ وَلاِءَنْعَـمِكُمْ(33)

التّفسير

اللمسات الرّبانية في عالم الطبيعة ونظام الكون:

ينتقل البيان القرآني مرّة اُخرى إلى عالم القيامة، بعد ذكر تلك اللمحات البلاغية في قصّة موسى(عليه السلام) مع فرعون، فيعرض صوراً من قدرة اللّه المطلقة في عالم الوجود، ليستدل به على إمكان المعاد، ويشرح بعض النعم الإلهية على البشرية (التي لا تعدّ ولا تحصى)، ليحرك فيهم حس الشكر والذي من خلاله يتوصلون لمعرفة اللّه.

وابتدأ الخطاب باستفهام توبيخي (لمنكري المعاد) هل أنّ خلقكم (وإعادتكم إلى الحياة بعد الموت) أصعب من خلق السماء: (أأنتم أشدُّ خلقاً أم

[391]

السماء بناها)(1).

والآية في واقعها جوابٌ لما ذكر من وقولهم في الآيات السابقة: (أإنّا لمردودون في الحافرة) ـ أي هل يمكن أن نعود إلى حالتنا الاُولى ـ فكلّ إنسان ومهما بلغت مداركه ومشاعره من مستوى، ليعلم أنّ خلق السماء وما يسبح فيها من نجوم وكواكب ومجرّات، لهو أعقد وأعظم من خلق الإنسان... وإذاً فَمَن له القدرة على خلق السماء وما فيها من حقائق، أيعقل أن يكون عاجزاً عن إعادة الحياة مرّة اُخرى إلى الناس؟!

ويضيف القرآن في بيان خلق السماء، فيقول شارحاً بتفصيل: (رفع سمكها فسواها).

«سمك»: ـ على وزن سقف ـ لغةً: بمعنى الإرتفاع، وجيئت بمعنى (السقف) أيضاً، وعلى قول الفخر الرازي في تفسيره: إنّ الشيء المرتفع لو قيس ارتفاعه من الأعلى إلى الأسفل فالنتيجة تسمّى (عمق)، أمّا لو قيس الإرتفاع من الأسفل إلى الأعلى فهو (سمك)(2).

«سواها»: من (التسوية)، بمعنى التنظيم، وهي تشير إلى دقّة التنظيم الحاكمة على الأجرام السماوية، وإذا اعتبرنا «سمكها» بمعنى «سقفها»، فهي إشارة إلى الغلاف الجوي الذي حفّ وأحاط بالكرة الأرضية كالسقف المحكم البناء، والذي يحفظها من شدّة آثار الأحجار السماوية، والشهب، والأشعة الكونية والمميتة والمتساقطة عليها باستمرار.

وقيل: إنّ «سواها» إشارة إلى كروية السماء وإحاطتها بالأرض، حيث أنّ التسوية هنا تعني تساوي الفاصلة بين أجزاء هذا السقف نسبة إلى المركز الأصلي (الأرض)، ولا يتحقق ذلك من دون كروية الأرض وما حولها (السماء).

______________________________

1 ـ في الآية حذف، والتقدير: (أم السماء أشدّ خلقاً). و«بناها»: جملة استئنافية، وهي مقدّمة للآيات التالية.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، ج31، الآية المبحوثة.

[392]

وقيل أيضاً: إنّ الآية تشير إلى ارتفاع السماء والأجرام السماوية وبعدها الشاسع عن الأرض، بالإضافة لإشارتها للسقف المحفوظ المحيط بالأرض.

وعلى أيّة حال، فالآية قد نهجت بذاتِ سياق الآية (57) من سورة المؤمن: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون).

ثمّ تنتقل بنا الآية التالية إلى إحدى الأنظمة الحاكمة في هذا العالم الكبير، الكبير، (نظام النور والظلمة)،: (وأغطش ليلها وأخرج مرعاها)

فلكلّ من النور والظلمة دور أساس ومهم جدّاً في حياة الإنسان وسائر الأحياء من حيوان ونبات، فلا يتمكن الإنسان من الحياة دون النور، لما له من ارتباط وثيق في حركة وإحساس ورزق وأعمال الإنسان، وكذا لا يتمكن من تكملة مشوار حياته من غير الظلمة، والتي تعتبر رمز الهدوء والسكينة.

«أغطش»: من (الغطش)، بمعنى الظلام، ولكنّ الراغب في مفرداته يقول: وأصله من «الأغطش» وهو الذي في عينه شبه عمش.

«الضحى»: إنبساط الشمس وامتداد النهار(1).

وتنتقل بنا الآية الاُخرى من السماء إلى الأرض، فتقول: (والأرض بعد ذلك دحاها).

«دحاها»: من «الدحو» بمعنى الإنبساط، وفسّرها بعضهم: (والأرض بعد ذلك دحاها).

وللمعنيين أصل واحد، لوجود التلازم بينهما.

ويقصد بدحو الأرض، إنّها كانت في البداية مغطاة بمياه الأمطار الغزيرة التي انهمرت عليها من مدّة طويلة، ثمّ استقرت تلك المياه تدريجياً في منخفظات الأرض، فشكلت البحار والمحيطات، فيما علت اليابسة على أطرافها، وتوسعت

______________________________

1 ـ يرجع ضميرا «ليلها» و«ضحاها» إلى السماء، فنسبة النور والظلمة إلى السماء باعتبار أنّ لهما منشأ سماوياً.

[393]

تدريجياً، حتى وصلت لما هي عليه الآن من شكل، (وحدث ذلك بعد خلق السماء والأرض)(1).

وبعد دحو الأرض، وإتمام صلاحيتها لسكنى وحياة الإنسان، يأتي الحديث في الآية التالية عن الماء والنبات معاً: (أخرج منها ماءها ومرعاها).

ويظهر من التعبير القرآني، إنّ الماء قد نفذ إلى دخل الأض باديء ذي بدء، ثمّ خرج على شكل عيون وأنهار، حتى تشكلت منهما البحيرات والبحار والمحيطات.

«المرعى»: اسم مكان من (الرعي)(2)، وهو حفظ ومراقبة اُمور الحيوان من حيث التغذية وما شابهها.

ولهذا، تستعمل كلمة (المراعاة) بمعنى المحافظة والمراقبة وتدبير الاُمور، وكلّ مَن يسوس نفسه أو غيره يسمّى (راعياً)، ولذا جاء في الحديث الشريف: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».

ثمّ ينتقل البيان القرآني إلى «الجبال»، حيث ثمّة عوامل تلعب الدور المؤثر في استقرار وسكون الأرض، مثل: الفيضانات، العواصف العاتية، المدّ والجزر، والزلازل.. فكل هذه العوامل تعمل على خلخلة استقرار الأرض، فجعل اللّه عزّوجلّ «الجبال» تثبيتاً للأرض، ولهذا تقول الآية: (والجبال أرساها)(3).

«أرسى»: من (رسو)، بمعنى الثبات، وأرسى: فعل متعد، أي، ثَبَّتَ الجبال في مواقعها.

وتلخص الآية التالية ما جاء في الآيات السابقة: (متاعاً لكم ولأنعامكم).

______________________________

1 ـ فسّر بعض المفسّرين «بعد ذلك» في الآية، بمعنى (إضافة لهذا)، فيكون معنى الآية: (إضافة إلى ما في الآيات السابقة فالأرض دحاها).

2 ـ واعتبره البعض: مصدراً ميمياً، بمعنى الحيوانات السائمة، ولكنّ المعنى المذكر أعلاه أقرب.

3 ـ بحثنا مفصلاً موضوع الجبال وأهميتها في حياة الإنسان وفي تثبيت الأرض، في ذيل الآية (3) من سورة الرعد ـ فراجع.

[394]

نعم.. فالسماء رفعها.

خلق نظام النور والظلمة.

دحى الأرض.

أخرج من الأرض ماءً ونباتاً.

أرسى الجبال لحفظ الأرض.

هيأ مستلزمات عيش الإنسان، وسخر له كلّ شيء.

كلّ ذلك، ليغرف الإنسان من نِعم اللّه، ولكي لا يغفل عن طاعة اللّه والوصول لساحة رضوانه جّل شأنه.

وما جاء في الآيات يبرز قدرته سبحانه على المعاد من جهة، ويدلل من جهة اُخرى على وجود اللّه تعالى وعظمة شأنه، ليدفع المخلوق إلى الإذعان بسلامة سلك طريق معرفة اللّه وتوحيده.

* * *

[395]

الآيات

فَإِذَا جَآءَتِ الطَّامَةُ الْكُبْرَى(34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الاِْنْسَـنُ مَا سَعَى(35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى(36) فَأَمَّا مَن طَغى (37)وَءَاثَرَ الْحَيـوةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هَىَ الْمَأْوَى(39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى الْنَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى(41)

التّفسير

التنزّه عن الهوى:

وتتجه عدسة آيات القرآن الكريم لتعرض لنا جوانباً من صور عالم القيامة، وتبدأ بتصوير تلك الداهية المذهلة التي تصيب مَن عبد أهواءه في الحياة الدنيا: (فإذا جاءت الطامة الكبرى)(1).

«الطامة»: من (الطم) ـ على زنة فنّ ـ وهو في الأصل بمعنى ملء الفراغ

______________________________

1 ـ يقول بعض المفسّرين، إنّ جواب الشرط في «إذا» الشرطية، يأتي في الآيات (فأمّا مَن طغى... وأمّا مَن خاف مقام ربّه...)ولكن الأفضل أن نقول: إنّ الجزاء محذوف يدل عليه ما في الآيات التالية، والتقدير: (فإذا جاءت الطامة الكبرى، يجز كلّ إنسان بما عمل)، وقيل: يستفاد جزاء الشرط من «يوم يتذكر الإنسان» ـ ولكنّه بعيد.

[396]

والحفر، ويطلق بالطامة على كلّ شيء بلغ حدّه الأعلى، ولهذا فقد اُطلقت على الحوادث المرّة والصعاب الكبار، وهي في الآية تشير إلى يوم القيامة لما فيها من دواهي تغطي بهولها كلّ هول، واُتبعت بـ «الكبرى» زيادة في التأكيد على أهمية وخطورة يوم القيامة.

ويضيف: حال حلول الحدث... سيفلت الجميع من نياط غفلتهم، ويتذكروا ما زرعوا لحياتهم: (يوم يتذكر الإنسان ما سعى).

وأنى للتذكر بعد فوات الأوان!

وإذا طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما أفسدوا ويتداركوا الأمر، فسيقرعون بـ (كلاّ).

وإذا ما اعتذروا تائبين، فلا محيص عن ردّهم، بعد أن أوصدت أبواب التوبة بأمر الجبّار الحكيم.

وعندها: لا يبقى لهم إلاّ الحسرة والندامة، والهم والغم، وكما تقول الآية (27) من سورة الفرقان: (يوم يعضّ الطالم على يديه).

وثمّة نكتة في الآية ترتبط بصيغة الفعل «يتذكر»، فقد جاء الفعل مضارعاً ليدل على استمرارية التذكر، فالإنسان أمام ذلك المنظر الرهيب، وقد اُزيلت الحجب عن قلبه وروحه، سيرى الحقائق بعينها شاخصة أمامه، ولا ينسى حينها ما اكتسبت يداه من أعمال.

وتشخص الآية التالية ما سيقع: (وبرزت الجحيم لمن يرى).

فالجحيم موجودة، كما تشير إلى ذلك الآية (54) من سورة العنكبوت: (وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)، ولكن حجب الدنيا تمنعنا من رؤيتها، وأمّا في يوم الفصل، يوم البروز، فسيبرز كلّ شيء ولا يستثنى من ذلك جهنّم.

وجملة «لمن يرى»، تشير إلى رؤية جهنّم من قبل الجميع بلا استثناء (الصالح والطالح)، فهي غير خافية عن الأنظار.

[397]

وقيل: إنّها لمن سيكون له نظر في يوم القيامة، لأنّ الآية (124) من سورة طه قد صرّحت بأنّ البعض سيحشر أعمى: (ونحشره يوم القيامة أعمى)، ويعتمد ستكون أكثر المفسّرين على التّفسير الأوّل لمناسبته للمقام، لأنّ رؤية جهنّم من قبل العاصين ستكون أكثر إيلاماً لهم، إضافة إلى أنّ العمى المشار إليه، ربّما يكون في موقف معين من مواقف يوم القيامة، وليس دائماً(1).

وفي الآيات الثلاثة التالية، يشير القرآن إلى حال المجرمين والطغاة يوم القيامة: (فأمّا مَن طغى وآثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم هي المأوى)(2).

والآية الاُولى تشير إلى فساد عقائد الطغاة، لأنّ الطغيان ينشأ من الغرور، والغرور من نتائج عدم معرفة الباري جّل شأنه.

وبمعرفة عظمة وجلال اللّه يتصاغر الإنسان ويتصاغر حتى يكاد لا يرى لنفسه أثراً، وعندها سوف لن تزل قدمه عن جادة العبودية الحقة، ما دام سلوكه يصب في رافد معرفة اللّه.

والآية الثانية تشير إلى فسادهم العملي، لأنّ الطغيان يوقع الإنسان في شراك اللذائذ الوقتية الفانية ذروة الطموح ومنتهى الأمل، فينساق واهماً لأنّ يجعلها فوق كلّ شيء!

والأمران في واقعهما كالعلة والمعلول، فالطغيان وفساد العقدة مفتاح فساد العمل وحبّ الدنيا المفرط، ولا يجران إلاّ إلى سوء عقبى الدار، نار جهنّم خالدين فيها أبداً.

وعن أمير المؤمنين علي(عليه السلام)، أنّه قال: «ومَنْ طغى ضل على عمل بلا حجّة»(3)، فالغرور يُرى صاحبه الهوى حقّ: على الرغم من عدم امتلاكه الدليل أو

______________________________

1 ـ لزيادة التوضيح، راجع ذيل الآية (124) من سورة طه.

2 ـ تقدير الآية الثالثة مع محذوفها: (هي المأوى له) أو(هي مأواه)، وحذف الضمير لوضوحه.

3 ـ نور الثقلين، ج5، ص506، الحديث 43.

[398]

الحجّة، وبالرغم من مخالفة المنطق له!.

ويأتي الدور في الآيتين التاليتين لوصف أهل الجنّة: (وأمّا مَنْ خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى).

فالشرط الأوّل للحصول على نعم الجنّة والإستقرار بها هو الخوف من اللّه من خلال معرفته (معرفة اللّه والخوف من التمرد والعصيان على أوامره)، والشرط الثاني هو ثمرة ونتيجة الشرط الأوّل أي الخوف والمعرفة ويتمثل في السيطرة على هوى النفس وكبح جماحها، فهوى النفس من أقبح الأصنام المعبودة من دون اللّه، لأنّه المنفذ الرئيسي لدخول معترك الذنوب والمفاسد، ولذا فـ «أبغض إله عُبِدَ على وجه الأرض: الهوى».

وهوى النفس هو الطابور الخامس في قلب الإنسان، نعم... فالشيطان الخارجي لا يتمكن من النفوذ إلى داخل الإنسان ما لم يوافقه الشيطان الداخلي في منحاه، ويفتح له أبواب الدخول، كما تشير إلى ذلك الآية (42) من سورة الحجر: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ مَنْ اتبعك من الغاوين).

* * *

ملاحظات

1 ـ مقام الرّب؟

جاء في الآية (40) (... مَنْ خاف مقام ربّه..)، ولم يقل (مَنْ خاف ربّه)،، فماذا يقصد بهذا المقام؟

طرحت احتمالات عديدة في جواب السؤال المذكور:

1 ـ المقام: مواقف القيامة، وهي المقامات التي سيقف فيها الإنسان بين يدي ربّه للحساب، فسيكون «مقام ربّه» ـ على ضوء هذا الإحتمال ـ بمعنى (مقامه عند ربّه).

[399]

2 ـ المقام: علم اللّه ومقام مراقبته للإنسان، بدلالة الآية (33) من سورة الرعد: (أفَمَن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت).

وبدلالة ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام): قوله: «مَن عَلِمَ أنّ اللّه يراه، ويسمع ما يقول، ويعلم مِن خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(1).

3 ـ مقام العدالة الإلهية، لأنّ العبد لا يخاف من ذات اللّه المقدّسة بل خوفه من عدل اللّه حسابه وفي الحقيقة إنّ هذا الخوف ناشيء من قياس أعماله بميزان العدل، فالمجرمون ترتعد فرائصهم وتهتزّ دواخلهم حين رؤية القاضي العادل، ولا يتحملون سماع اسم المحكمة والمحاكمة، بعكس مَن لم يقم بأي ذنب، فرؤيته للقاضي ستكون مغايرة لما داخل المجرم من إحساسات... ولا تباين بين هذه التفسيرات الثلاثة، ويمكن ادغامها في معنى الآية.

2 ـ علاقة الطغيان بعبادة الدنيا

رسمت الآيات المبحوثة وباُسلوب رائع اُصول سعادة وشقاء الإنسانية، فجسدت بريشتها البيانية زبدة تعاليم الأنبياء والأولياء عليهم السلام.

فشقاء الإنسان يكمن في طغيانه وعبادته لجواذب الدنيا، وسعادته في خوفه من اللّه وتركه ما يُبعد عن ساحة رضوانه سبحانه وتعالى.

روي عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، أنّه قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصد عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(2).

و... هوى النفس: يضع حجاباً على عقل الإنسان، يزيّن له الأعمال القبيحة،

______________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص197.

2 ـ نهج البلاغة، الخطبة 42.

[400]

يُشغل الإنسان بنفسه، يسلبه قدرة التمييز بين الصالح والطالح والتي هي أعظم نعمة على الإنسان، وبها يتميزّ الإنسان عن الحيوان، وهذا هو ما أشارت إليه الآية (18) من سورة يوسف في وقول نبيّ اللّه يعقوب(عليه السلام) لأولاده: (بل سولت لكم أنفسكم أمراً)

وباب الحديث أوسع بكثير من أن يلخص بوريقات، ولكننا سنكتفي بذكر حديثين عن أئمّة الهدى من أهل البيت(عليهم السلام)، لتناولهما مختلف جوانب الموضوع:

فعن الإمام الباقر(عليه السلام)، أنّه قال: «الجنّة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في الدنيا دحل الجنّة، وجهنّم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل النّار»(1).

وعن الإمام الصادق، أنّه قال: «لا تدع النفس وهواها، فإنّ هواها في رداها، وترك النفس وما تهوى داؤها، وكفّ النفس عمّا تهوى دواؤها»(2).

ولا يُدخِلَ اتباع الهوى جهنّم فقط، فله من الآثار السلبية حتى في الحياة الدنيا، ومن نتائجه: فقدان الأمن، وتخلخل النظام، ونشوب الحروب، وسفك الدماء، وإثارة النزاعات والأحقاد...

3 ـ فريقان لا ثالث لهما

تحدثت الآيات محل البحث عن فريقين من الناس، أمّا من طغى وعبد هواه فمأواه جهنّم خالداً فيها، وأمّا من اتقى وخاف مقام ربّه فالجنّة مأواه أبداً.

وثمّة فريق ثالث لم تتطرق له الآيات، وهم المؤمنين الذين قصروا في أداء بعض الأعمال والوظائف، أو أصابهم بعض تلوثات هوى النفس الأمارة بالسوء، فهؤلاء وإن كانوا فريقاً ثالثاً ـ حسب لظاهر ـ إلاّ أنّهم سرعان ما يلتحقون بأحد

______________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص507، الحديث 45.

2 ـ المصدر السابق، الحديث 46.

[401]

الفريقين، فأمّا مَن يحمل أرضية شموله بالعفو الإلهي فسيلتحق بركب المتقين، وأمّا مَن ثقلت كفة ذنوبه فسيحشر مع القابعين في أودية النّار، ولكنها لا تكون مكانهم ومأواهم الأبدي.

* * *

[402]

الآيات

يَسئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـهَا(42) فِيمَ أَنْتَ مِن ذِكْرَاهَا(43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَـهَآ(44) إِنَّمَآ أَنْتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـهَا(45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـهَا(46)

التّفسير

يوم القيامة: الوقت المجهول!

تتعرض الآيات أعلاه لإجابة المشركين ومنكري المعاد حول سؤالهم الدائم عن وقت قيام الساعة (يوم القيامة): فتقول أوّلاً: (يسألونك عن الساعة أيّان مرساها)(1).

والقرآن في مقام الجواب يسعى إلى إفهامهم بأنّه لا أحد يعلم بوقت وقوع

______________________________

1 ـ جاءت كلمة «المرسى» بهذا الموضع مصدراً، على مالها من استعمال اُخرى، فتأتي تارة اسم زمان ومكان، وتارة اُخرى اسم مفعول من «الإرساء»، معناها المصدري هو: الوقوع والثبات، ويستخدم المرسى كمكان لتوقف السفن، وفي تثبيت الجبال على سطح الأرض، وكقوله تعالى في الآية (41) من سورة هود: (وقال اركبوا فيها بسم اللّه مجراها ومرساها)، والآية (32) من سورة النازعات: (والجبال أرساها).

[403]

القيامة، ويوجه الباري خطابه إلى حبيبه الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّك لا تعلم وقت وقوعها، ويقول: (فيم أنت من ذكراها).

فما خفِّي عليك (يامحمّد)، فمن باب أولى أن يُخفى على الآخرين، والعلم بوقت قيام القيامة من الغيب الذي اختصه اللّه لنفسه، ولا سبيل لمعرفة ذلك سواه إطلاقاً!

وكما قلنا، فسّرُ خفاء موعد الحق يرجع لأسباب تربوية، فإذا كان ساعة قيام القيامة معلومة فستحل الغفلة على جميع إذا كانت بعيدة، وبالمقابل ستكون التقوى اضطراراً والورع بعيداً عن الحرية والإختيار إذا كانت قريبة، والأمران بطبيعتهما سيقتلان كلّ أثر تربوي مرجو.

وثمّة احتمالات اُخرى قد عرضها بعض المفسّرين، ومنها: إنّك لم تبعث لبيان وقت وقوع يوم القيامة، وإنّما لتعلن وتبيّن وجودها (وليس لحظة وقوعها).

ومنها أيضاً: إنّ قيامك وظهورك مبيّن وكاشف عن قرب وقوع يوم القيامة بدلالة ما روي عن النبىّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حينما جمع بين سبابتيه وقال: «بعثت أنا والقيامة كهاتين»(1)

ولكنّ التّفسير الأوّل أنسب من غيره وأقرب.

وتقول الآية التالية: (إلى ربّك منتهاها).

فاللّه وحده هو العالم بوقت موعدها دون غيره ولا فائدة من الخوض في معرفة ذلك.

ويؤكّد القرآن هذا المعنى في الآيتين: (34) من سورة لقمان:(إنّ اللّه عنده علم الساعة)، وفي الآية (187) من سورة الأعراف: (قل إنّما علمها عند ربّي).

وقيل: المراد بالآية، تحقق القيامة بأمر اللّه، ويشير هذا القول إلى بيان علّة ما

______________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج29، ص29; وذكرت ذات الموضوع في: تفاسير (مجمع البيان)، (القرطبي)، (في ظلال القرآن) بالإضافة لتفسير اُخرى، في ذيل الآية (18) من سورة محمّد.

[404]

ورد في الآية السابقة، ولا مانع من الجمع بين التّفسيرين.

وتسهم الآية التالية في التوضيح: (إنّما أنت منذر مَن يخشاها).

إنّما تكليفك هو دعوة الناس إلى الدين الحقّ، وإنذار مَنْ لا يأبى بعقاب اُخروي أليم، وما عليك تعيين وقت قيام الساعة.

مع ملاحظة، أنّ الإنذار الموجه في الآية فيمن يخاف ويخشى وعقاب اللّه، هو يشابه الموضوع الذي تناولته الآية (2) من سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين).

ويشير البيان القرآني إلى أثر الدافع الذاتي في طلب الحقيقة وتحسس المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان أمام خالقه، فإذا افتقد الإنسان إلى الدافع المحرك فسوف لا يبحث فيما جاءت به كتب السماء، ولا يستقر له شأن في أمر المعاد، بل وحتى لا يستمع لإنذارات الأنبياء والأولياء(عليهم السلام).

وتأتي آخر آية من السورة لتبيّن أنّ ما تبقى من الوقت لحلول الوعد الحق ليس إلاّ قليلاً: (كأنّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلاّ عشيّة أو ضحاها).

فعمر الدنيا وحياة البرزخ من السرعة في الإنقضاء ليكاد يعتقد الناس عند وقوع القيامة، بأنّ كلّ عمر الدنيا والبرزخ ما هو إلاّ سويعات معدودة!

وليس ببعيد... لأنّ عمر الدنيا قصير بذاته، وليس من الصواب أن نقايس بين زمني الدنيا والآخرة، لأنّ الفاني ليس كالباقي.

«عشيّة»: العصر. و«الضحى»: وقت انبساط الشمس وامتداد النهار.

وقد نقلت الآيات القرآنية بعض أحاديث المجرمين في ويوم القيامة، فيما يختص بمدّة لبثهم في عالم البرزخ..

فتقول الآية (103) من سورة طه: (يتخافتون بينهم إنْ لبثتم إلاّ عشراً)، و(يقول أمثلهم طريقة إنْ لبثتم إلاّ يوماً).

وتقول الآية (55) من سورة الروم: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما

[405]

لبثوا غير ساعة).

واختلاف تقديرات مدّة اللبث، يرجع لإختلاف القائلين، وكّل منهم قد عبّر عن قصر المدّة حسب ما يتصور، والقاسم المشترك لكلّ التقديرات هو أنّ المدّة قصيرة جدّاً ويكفي طرق باب هذا الموضوع بإيقاظ الغافل من خدره.

اللّهمّ! هب لنا الأمن والسلامة في العوالم الثلاث، الدنيا والبرزخ والقيامة...

ياربّ! لا ينجو من عقاب وشدائد يوم القيامة إلاّ مَنْ رحمته بلطفك، فاشملنا بخاصة لطفك ورحمتك..

إلهي! اجعلنا ممن يخاف مقامك وينهى نفسه عن الهوى، ولا تجعل لنا غير الجنّة مأوى..

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة النّازعات

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337037

  • التاريخ : 29/03/2024 - 02:35

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net