00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الجن من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 75 ـ 120)  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[75]

سُورَة الجِنّ

مَكيَّة

وَعَدَدُ آيَآتِهَا ثَمان وَعشرُون آية

[77]

 

«سورة الجن»

محتوى السورة:

تتحدث هذه السورة حول نوع من الخلائق المستورين عن حواسنا، وهم الجن، كما سمّيت السورة باسمهم، وأنّهم يؤمنون بنبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن خضوعهم للقرآن وإيمانهم بالمعاد، وأنّ فيهم المؤمن والكافر وغير ذلك، وفي هذا القسم من السورة (19) آية من (28) آية تصحح ما حُرّف من معتقدات حول الجن، وهناك قسم آخر من السورة يشير إلى التوحيد والمعاد، والقسم الأخير يتحدث عن علم الذي لا يعلمه إلاّ ما شاء للّه.

فضيلة سورة الجن:

ورد في حديث عن الرّسول الأكرم: «من قرأ سورة الجن اُعطي بعدد كلّ جني وشيطان صدق بمحمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وكذّب به عتق رقبة».(1)

وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق(عليه السلام): «من أكثر قراءة (قل اُوحي) لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجن ولا نفثهم ولا سحرهم، ولا كيدهم، وكان مع محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول: ياربّ، لا اُريد منه بدلاً، ولا أبغي عنه حولاً».

وطبعاً التلاوة مقدّمة وتمهيد لمعرفة محتوى السورة والتدبّر بها، ثمّ العمل بما فيها.

* * *

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص365.

[78]

الآيات

قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً(1) يَهْدِى إِلَى الْرُّشْدِ فَأمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدَاً(2) وَأَنَّهُ تَعَـلَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَـحِبَةً وَلاَ وَلَداً (3)وأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً(4) وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنْسُ والْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً(5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَال مِّنَ الْجِنَّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)

سبب النّزول

ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (29 ـ 32) مطابق لسبب نزول هذه السورة، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة، وتوضح سبب النّزول باختصار كما يلي:

1 ـ انطلق الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سوق عكاظ في الطائف بعد قدومه من مكّة ليدعو الناس إلى الإسلام، فرجع بعد رفض الناس لدعوته إلى واد يدعى وادي الجن، وبقي فيه ليلاً وهو يقرأ القرآن، فاستمع إليه نفر من الجن فآمنوا به ثمّ راحوا

[79]

يدعون قومهم إليه.(1)

2 ـ عن ابن عباس قال: كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) منشغلاً بصلاة الصبح، وكان يقرأ فيها القرآن، فاستمع إليه الجن وهم يبحثون عن علّة انقطاع الأخبار من السماء، فقالوا: هذه الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم ليبلغوا ما سمعوا.(2)

3 ـ بعد وفاة أبي طالب(عليه السلام) اشتدّ الأمر برسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فعزم على الذهاب إلى الطائف ليبحث عن أنصار له، وكان أعيان الطائف يكذبونه ويؤذونه، ويرمونه بالحجارة حتى اُدميت قدماه(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالتجأ متعباً إلى ضيعة من الضياع، فرآه غلام صاحب الضيعة وكان اسمه «عداس»، فآمن بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ثمّ رجع إلى مكّة ليلاً وصلّى صلاة الصبح وهو بنخله، فاستمع إليه نفر من الجن من أهل نصيبين أو اليمن، وكانوا قد مرّوا بذلك الطريق فآمنوا به(3).

وقد نقل بعض المفسّرين ما يشابه هذا المعنى في أوّل السورة، ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى، وهو أنّ علقمة بن قيس قال: قلت لعبد اللّه بن المسعود: من كان منكم مع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الجن؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة فقلنا: اغتيل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أو استطير، فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلاً من نحو حراء، فقلنا: يارسول اللّه، اين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، وقلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال: «إنّه أتاني الجن فذهبت أقرئهم القرآن»(4).

* * *

______________________________

1 ـ تفسير علي بن ابراهيم على ما نقله تفسير نور الثقلين، ج5، ص19 (مع الإختصار).

2 ـ صحيح البخاري، مسلم، ومسند طبقاً لما نقله صاحب (في ظلال القرآن) ج7، ص429 (بإختصار).

3 ـ مجمع البيان، ج9، ص92، وسيرة ابن هشام، ج2، ص62 ـ 63 (باختصار).

4 ـ مجمع البيان، ج10، ص368.

[80]

التّفسير

القرآن العجيب!!

نرجع إلى تفسير الآيات بعد ذكر ما قيل في سبب النّزول

يقول اللّه تعالى: (قل أوحي إليّ أنّه استمع نفرٌ من الجن فقالوا إنّا سمعنا قرآناً عجباً)(1).

التعبير بـ (اُوحي إليّ) يشير إلى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشاهد الجنّ بنفسه بل علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي، وكذلك يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلاً وشعوراً وفهماً وإدراكاً، وأنّهم مكلّفون ومسؤولون، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي، وبين المعجز وغير والمعجز، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد، هذه بعض الخصوصيات لهذا الموجود المستور الحي الذي يمكن الإستفادة منها في هذه الآية، ولهم خصوصيات اُخرى سوف نبيّنها في نهاية هذا البحث، وإنّ شاء اللّه تعالى.

إنّ لهم الحقّ في أن يحسبوا هذا القرآن عجباً، لِلَحنِه العجيب، ولجاذبية محتواه، ولتأثيره العجيب، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئاً وقد ظهر من بين الاُميين، وكلام عجيب في ظاهره وباطنه ويختلف عن أيّ حديث آخر ولهذا اعترفوا بإعجاز القرآن.

لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (12) آية، وكل منها تبدأ  بـ (أن) وهي دلالة على التأكيد(2).

______________________________

1 ـ نفر: على قول أصحاب اللغة والتّفسير: الجماعة من 3 الى 9.

2 ـ المشهور بين علماء النحو أنّ (إن) في مقول القول يجب أن تقرأ بالكسر كما هي في الآيات الاُولى، وأمّا في الآيات الأُخرى المعطوفة عليها فإنّها بالفتح، ولهذا اضطر الكثير من المفسّرين أن يجعلوا لهذه الآيات تقديرات أو مبررات أُخرى، ولكن ما الذي يمنعنا من القول أنّ لهذا القاعدة أيضاً شواذ، وهي جواز القراءة بالفتحة في موارد يكون العطف فيه على مقول القول، وما يدل على ذلك آيات هذه السورة.

[81]

فيقول أوّلاً: بأنّهم قالوا: (يهدي إلى الرّشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحداً)التعبير بـ «الرّشد» تعبير واسع وجامع، ويمكن أن يستوعب كل امتياز، فهو الطريق المستقيم من دون اعوجاج، وهو الضياء والوضوح الذي يوصل المتعلقين به إلى محل السعادة والكمال.

وبعد إظهار الإيمان ونفي الشرك باللّه تعالى ينتقل كلامهم إلى تبيان صفات اللّه تعالى: (وإنّه تعالى جدّ ربّنا ما اتّخذ صاحبة ولا لداً).

«جد»: لها معان كثيرة في اللغة، منها: العظمة، والشدّة، والجد، والقسمة، والنصيب، وغير ذلك، وأمّا المعنى الحقيقي لها كما يقول الراغب في المفردات فهو «القطع»، وتأتي بمعنى «العظمة» إذا كان هناك كائن عظيم منفصل بذاته عن بقية الكائنات، وكذلك يمكن الأخذ بما يناسب بقية المعاني التابعة لها، وإذا ما أطلقنا لفظة «الجد» على والدي لأبوين فإنّما يعود ذلك إلى كبر مقامهما أو عمرهما، وذكر آخرون معاني محدودة لهذه الكلمة فقد فسّروها بالصفات، والقدرة، والملك، والحاكمية، والنعمة، والاسم، وتجتمع كل هذه المعاني في معنى العظمة، وهناك ادعاء في أنّ القمصود هنا هو الأب الأكبر «الجد» وتشير الرّوايات إلى أنّ الجنّ ولقلّة معرفتهم اختاروا هذا التعبير غير المناسب، هذا إشارة إلى نهيهم عن ذكر هذه التعابير(1).

ويمكن أن يكون هذا الحديث ناظراً إلى الموارد التي يتداعى فيها هذا المغهوم، وإلاّ فإنّ القرآن يذكرهذا التعبير بلحن الموافق في هذه الآيات، وإلاّ لم وقد ذكر هذا التعبير أيضاً في نهج البلاغة، كما في الخطبة (191): «الحمد للّه الفاشي في الخلق حمده، والغالب جنده، والمتعالي جدّه».

وورد في بعض الرّوايات أنّ أُنس بن مالك قد قال : كان الرجل إذا قرأ سورة

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص368، ونور الثقلين، ج5، ص435، وذكر هذا المعنى في تفسير علي بن إبراهيم.

[82]

البقرة جد في أعيننا(1).

على كل حال فإنّ استعمال هذه اللفظة في المجد والعظمة مطابق لما ورد في نصوص اللغة، ومن الملاحظ أنّ خطباء الجن معتقدون بأنّ اللّه ليس له صاحبة ولا ولد، ويحتمل أن يكون هذا التعبير نفيّ للخرافة المتداولة بين العرب حيث قالوا: إنّ للّه بنات لزوجة من الجن قد اتّخذها لنفسه، وورد هذا الإحتمال في تفسير الآية (158) من سورة الصافات: (وجعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نسباً).

ثمّ قالوا: (وإنّه كان يقول سفيهنا على اللّه شططاً).

ويحتمل أنّ التعبير بـ «السفيه» هنا بمعنى الجنس والجمع، أي أنّ سفهاءنا قالوا: إنّ للّه زوجة وأطفالاً، واتّخذ لنفسه شريكاً وشبيهاً، وإنّه قد انحرف عن الطريق، وكان يقول شططاً، واحتمل بعض المفسّرين أنّ «السفيه» هنا له معنى انفرادي، والمقصود به هو «ابليس» الذي نسب إلى اللّه نسب ركيكة، وذلك بعد مخالفته لأمر اللّه، واعتراضه على اللّه في السجود لآدم(عليه السلام) ظنّاً منه أنّ له الفضل على آدم، وأنّ سجوده لآدم بعيد عن الحكمة.

ولمّا كان ابليس من الجن، وكان قد بدا منهُ ذلك، اشمأز منه المؤمنون من الجن واعتبروا ذلك منه شططاً، وإن كان عالماً وعابداً، ولأن العالِم بلا عمل، والعابد المغرور من المصاديق الواضحة للسفيه.

«شطط» على وزن وسط، وتعني الخروج والإبتعاد عن قول الحقّ، ولهذا تسمّى الأنهار الكبيرة التي ترتفع سواحلها عن الماء بـ «الشط».

ثمّ قالوا: (وإنّا ظننا أن لن تقول الإنس والجنّ على اللّه كذباً).

لعل هذا الكلام اشارة إلى التقليد الأعمى للغير، حيث كانوا يشركون باللّه وينسبون إليه الزوجة والأولاد، وفهنا يقولوا: لقد كنّا نصدقهم بحسن ظننا بهم

______________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص6801.

[83]

ونقول بمقالتهم الخاطئة، وما كنّا نظنهم يتجرؤون على اللّه بهذه الأكاذيب، ولكننا الآن نخطّىء هذا التقليد المزيف لما عرفنا من الحق والإيمان بالقرآن، ونقر بما التبس علينا، بانحراف المشركين من الجنّ.

ثمّ ذكروا احدى الانحرافات للجن والإنس وقالوا: (وأنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً).

«رهق» على وزن (شفق) ويعني غشيان الشيء بالقهر والغلبة، وفُسّر بالضلال والذنب والطغيان والخوف الذي يسيطر على روح الإنسان وقلبه ويغشيه، وقيل إنّ هذه الآية تشير إلى إحدى الخرافات المتداولة في الجاهلية، وهي أنّ الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلاً قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه(1).

وبما أنّ الخرافات كانت منشأ لإزدياد الإنحطاط الفكري والخوف والضلال فقد جاء ذكر هذه الجملة في آخر الآية وهي: (فزادوهم رهقاً).

وذكر في الآية (رجال من الجن) ممّا يستفاد منه أنّ فيهم اُناثاً وذكوراً(2)، على كل حال فإنّ للآية مفهوماً واسعاً، يشمل جميع أنواع الإلتجاء إلى الجنّ، والخرافة المذكورة هي مصداق من مصاديقها، وكان في أوساط العرب كهنة كثيرون يعتقدون أنّ الجن باستطاعتهم حلّ الكثير من المشاكل وإخبارهم بالمستقبل.

* * *

______________________________

1 ـ مجمع البيان، ج10، ص369، وروح المعاني، ج28، ص85.

2 ـ نقل عن بعضهم في تفسير الآية أعلاه أنّ لجوء جماعة من الإنس بالجن ادّى إلى أن يتمادى الجن في طغيانهم وظنوا أن بيدهم زمام الاُمور المهمّة، والتّفسير الأوّل أوجه (والضمير حسب التّفسير الأوّل في (زادوا) يرجع إلى الجن، والضمير «هم» يرجع إلى الإنس، بعكس التّفسير الأوّل).

[84]

الآيات

وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً(7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَـهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـعِدَ لِلَّسْمِعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الأَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً(9) وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأَرْضِ أِمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً(10)

التّفسير

كنّا من قبل نسترق السمع ولكن...

يشير سياق الآية إلى استمرار حديث المؤمنين من الجن، وتبيان الدعوة لقومهم، ودعوتهم إلى الإسلام بالطرق المختلفة، وفيقولون: (وأنّهم ظنّوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحداً).

لذا تبادروا لإنكار القرآن وتكذيب نبوّة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكننا عند سماعنا لآيات القرآن أدركنا الحقائق، فلا تكونوا كالإنس وتتخذوا طريق الكفر فتبتلوا بما ابتلوا به.

وهذا تحذير للمشركين ليفيقوا عند سماعهم لكلام الجن وتحكيمهم

[85]

وليتمسكوا بالقرآن وبالنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال البعض: إنّ الآية (أن لن يبعث اللّه أحد) تشير إلى إنكار البعث لا إلى إنكار بعثة الأنبياء، وقال آخرون: إنّ هذه الآية والتي قبلها هي من كلام اللّه تعالى وليست من كلام مؤمني الجنّ، وإنّها آيات عرضية جاءت في وسط حديثهم، والمخاطبون هم مشركو العرب، وطبقاً لهذا التّفسير يكون المعنى هكذا، يا مشركي العرب، إنّهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه أحداً، ولمّا سمعوا الذكر أدركوا خطأهم، وقد حان لكم أن تفيقوا، ولكن هذا القول يبدو بعيداً، بل الظاهر أن الخطاب هو لمؤمني الجن والمخاطبون هم الكفار منهم.

ثمّ يشيرون إلى علامة صدق قولهم وهو ما يدركه الجن في عالم الطبيعة، فيقولون: (وأنّا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً)(1)(2).

وكنّا في السابق نسترق السمع من السماء ونحصل على أخبار الغيب ونوصلها إلى أصدقائنا من الإنس ولكننا منعنا من ذلك الآن: (وأنّآ كنّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً)أليس هذا الوضع الجديد دليل على حقيقة التغيير العظيم الحاصل في العالم عند ظهور الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وكتاب اللّه السماوي، لماذا كانت لكم القدرة على استراق السمع والآن سلبت منكم هذه القدرة؟ أليس معنى هذا انتهاء عصر الشيطنة والكهانة والخداع، وانتهاء ظلمة الجهل بشروق شمس الوحي والنّبوة؟

«شهاب» لهب من النار، ويطلق أيضاً على الأنوار النّارية الممتدة في السماء، وهي قطع حجرية صغيرة متحركة في الفضاء الخارجي للكرة الأرضية، كما يقول علماء الفلك، وتتأثر بجاذبية الأرض عند وصولها إلى مقربة منها فتسقط على شكل شعلة نارية حارقة، لأنّها عندما تصل إلى طبقات الهواء

______________________________

1 ـ «لمسنا» من لمس، وتعني هنا الطلب والبحث.

2 ـ «حرس» على وزن قفص، جمع حارس، وقيل اسم جمع لحارس، وتعني الشديد الحفاظ.

[86]

الكثيفة وتصطدم لها تتحول إلى شعلة نارية، ثمّ تصل إلى الأرض بصورة رماد، وقد ذكرت الشهب كراراً في القرآن المجيد، وأنّها كالسهام ترمى صوب الشياطين الذين يريدون أن يسترقوا السمع من السماء، وقد أوردنا بحوثاً مفصّلة حول كيفية إخراج الشياطين من السماء بالشهب، وما يراد من استراق السمع، وذلك في ذيل الآية (18) من سورة الحجر وما يليها، وفي ذيل الآية (10) من سورة الصافات وما يليها.

«رصد» على وزن حسد، وهو التهيؤ لانتظار شيء ويُعبّر عنه بـ (الكمين) وتعني أحياناً اسم فاعل بمعنى الشخص أو الشّيء الذي يكمن، وهذا ما أُريد به في هذه الآيات.

ثمّ قالوا: (وأنّا لا ندري أشرٌّ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربّهم رشداً).

أي مع كل هذا فإنّنا لا ندري أكان هذا المنع من استراق السمع دليل على مكيدة تراد بأهل الأرض، أم أراد اللّه بذلك المنع أن يهديهم، وبعبارة أُخرى أنّنا  لا ندري هل هذه هو مقدمة لنزول البلاء والعذاب من اللّه، أم مقدمة لهدايتهم، ولكن لا يخفى على مؤمني الجن أنّ المنع من استراق السمع الذي تزامن مع ظهور نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو مقدمة لهداية البشرية، وانحلال جهاز الكهانة والخرافات الأُخرى، وليس هذا إلاّ إنتهاءً لعصر الظلام، وابتداء عصر النّور.

ومع هذا، فإنّ الجن ولعلاقتهم الخاصّة بمسألة استراق السمع لم يكونوا يصدقون بما في ذلك المنع من خير وبركة، وإلاّ فمن الواضح أنّ الكهنة في العصر الجاهلي كانوا يستغلون هذا العمل في تضليل الناس.

والجدير بالذكر أنّ مؤمني الجنّ صرّحوا بالفاعل لإرادة الهداية فنسبوه إلى اللّه، وجعلوا فاعل الشرّ مجهولاً، وهذا إشارة إلى أنّ ما يأتي من اللّه فهو خير، وما يصدر من الناس فهو الشرّ وفساد إذا ما أساءوا التصرف بالنعم الإلهية، ثمّ إنّ

[87]

المفروض أن يذكر لفظ «الخير» في مقابل «الشرّ»، ولكن بما أنّ الخير هنا تعني الرّشد والهداية، لذا اكتفى بذكر المصداق فقط.

* * *

[88]

الآيات

وَأَنَّا مِنَّا الصَّـلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً (11)وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً (12)وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقَاً(13) وَأَنَّا مِنَّآ المُسْلِمُونَ وَمِنّآ القِـسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً(14) وَأَمَّا القَسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً(15)

التّفسير

إنّ سمعنا الحقّ فأطعناه:

في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالّين فيقولون: (وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائق قدداً).

ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أن وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة لبعضهم، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة، ومحال أن يشرق نور الهداية في قلوبهم.

[89]

ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية، وفيهم الصالح والطالح، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية، وأساساً فإنّ أحد العوامل المؤثرة في التبليغ هو إعطاء الشخصية للطرف المقابل، وتوجيهه إلى وجود عوامل الهداية والكمال في نفسه.

واحتمل أيضاً أنّ الجن قالوا ذلك لتبرئة ساحتهم من موضوع الإساءة في مسألة استراق السمع أي: وإن كان منّا من يحصل على الأخبار عن طريق استراق السمع ووضعها بأيدي الأشرار لتضليل الناس، ولكن لا يعني ذلك أنّ الجن كلهم كانوا كذلك، ولهذه الآية تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن، لأنّ كثير من الناس يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والإنحراف، وسياق هذا الآية يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة، صالحون وطالحون.

«قدد» على وزن (ولد) وهو جمع قد، على وزن (ضد) وتعني المقطوع، وتطلق على الجماعات المختلفة، لأنّها تكون على شكل قطع منفصلة عن بعضها.

وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون: (وأنّا ظننا أن لن نعجز اللّه في الأرض ولن نعجزه هرباً) وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من جزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الجملة الأُولى إشارة إلى الفرار من قبضة القدرة الإلهية في الأرض، والجملة الثّانية إشارة إلى الفرار المطلق، الأرض والسماء.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية هو أنّه الجملة الأُولى إشارة إلى أنّه لا يمكن الغلبة على اللّه، والجملة الثّانية إشارة إلى أنّه لا يمكن الفرار من قبضة العدالة، فإذا لم يكن هناك طريق للغلبة ولا للفرار، فلا علاج إلاّ التسليم لأمر اللّه تعالى وعدالته .

[90]

وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين: (وأنّا لمّا سمعنا الهدى آمنا به) وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلاً، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى أمر لم نكن فاعليه.

ثمّ بيّنوا عاقبة الإيمان في جملة قصيرة واحدة فقالوا: (فمن يؤمن بربّه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً).

«بخس»: على وزن (شخص) ويراد به النقص على سبيل الظلم.

«رهق»: على وزن (سقف) يراد به ـ وكما أشرنا من قبل ـ غشيان السيء بالقهر، وقال البعض: إنّ البخس هو عدم نقصان شيء من حسناتهم، والرهق: هو عدم إضافه شيء إلى سيئاتهم، قيل البخس: هو نقص الحسنات، والرهق: التكاليف الشاقة، على كل حال فالمراد هو أن المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيراً كان أو صغيراً فإنّهم يستوفون أُجور ذلك بلا نقص أو قلّة، وصحيح أن العدالة الإلهية غير منحصرة بالمؤمنين، لكنّ الطالحين ليس لهم عمل صالح، فليس هناك ذكر لاُجورهم.

وفي الآية الأُخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون: (وأنّا منّا المسلمون ومنّا القاسطون(1) فمن أسلم فأُولئك تحروا رشداً).(2)

(وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً).

الملاحظ في الآيات أن كلمة «المسلم» جاءت مقابل كلمة «الظالم»، وإشارة إلى أن ما يقي الإنسان من الظلم هو الإيمان، وإذا لم يكن الفرد مؤمناً فإنّه سوف يظلم بأي شكل من الأشكال، وكذا تشير إلى أنّ المؤمن الحقيقي هو

______________________________

1 ـ «القاسط» من أصل (قسط) وتعني التقسيم العادل، فإن أتت على وزن (أفعال)، (أقساط) فإنّها تعني إجراء العدالة، وإذا استعملت بصورة الثّلاثي المجرّد كما في هذه الآية فإنّها تعطي معنى الظلم والإنحراف عن سبيل الحقّ.

2 ـ «تحروا»: من أصل تحري وتعني توخيه وقصده.

[91]

المؤمن الذي لا يظلم، كما في حديث النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «المؤمن من آمنه الناس على أنفسهم وأموالهم».(1)

وجاء في حديث آخر عنه(صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».(2)

والتعبير بـ (تحروا رشداً) يشير إلى أنّ المؤمنين إنّما يتوجهون إلى الهدى بالتحقيق والتوجه الصادق، وليس بالغفله والأغماض، وجزاءهم الأوفى هو نيلهم الحقائق التي بظلها ينالون النعم الإلهية، والظالمون هم في أسوأ حال، حيث إنّهم حطب لجهنم، أي أنّ النار تلتهب في أعماق وجودهم.

* * *

______________________________

1 ـ تفسير روح البيان، ج10، ص195.

2 ـ اُصول الكافي، ج2، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.

[92]

الآيات

وَأَلَّوِ اسْتَقَـمُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاََسْقَيْنَـهُم مَّآءً غَدَقاً (16)لِنَفْتِنَهُمْ فِيْهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً(17) وَأَنَّ الْمَسَـجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أحَداً (18)وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً(19)

التّفسير

الفتنة باغدق النعمة:

هذه الآيات تشير ظاهراً إلى استمرار الجن في حديثهم مع قومهم: (وإن كان بعض المفسّرين يعتبرون هذه الآية معترضة بين كلام الجن) ولكن اعتراضها خلاف الظاهر، وسياق هذه الآيات يشابه السابقة والذي كان من كلام الجن، ولذا يستبعد أن يكون هذا الكلام هو لغير الجن.(1)

______________________________

1 ـ من الملاحظ أنّ السبب الوحيد الذي دعا المفسّرين إلى أن يعتبروا هذا الكلام من كلام اللّه تعالى وأنّها جملة اعتراضية هو ضمائر (المتكلم مع الغير) ففي موضع يقول: لأسقيناهم ماءً غدقاً، وفي موضع آخر يقول: لنفتنهم فيه، ولكن لا ضمير عندما نعتبر هذه التعابير من باب النقل، كما لو تحدث شخص عن صاحبه فيقول: إنّ فلاناً يعتقد بأنّي شخص حسن، (بالطبع هو لم يستعمل كلمة (أنا) وإنّما استعمل كلمة (هو) ولكن القائل يختار مثل هذا التعبير).

[93]

على كل حال فإنّ سياق الآيات السابقة يشير إلى ثواب المؤمنين في يوم القيامة، وفي هذه الآيات يتحدث عن ثوابهم الدّنيوي فيقول: (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً)

ننزل عليهم مطر رحمتنا، ونذلل لهم منابع وعيون الماء الذي يهب الحياة وبوجود الماء يوجد كل شيء وعلى هذا فإنّنا نشلمهم بأنواع النعم.

«غدق» على وزن شفق، وتعني الماء الكثير

القرآن المجيد اكّد ولعدّة مرات على أنّ الإيمان والتقوى ليست فقط منبعاً للبركات المعنوية، بل تودّي إلى زيادة الأرزاق والنعم والعمران، أي (البركة والمادية).

(لنا بحث مفصل في هذا الباب في نفس المجلد في تفسير سورة نوح(عليه السلام)ذيل الآية 12 تحت عنوان الرابطة بين الإيمان والتقوى وبين العمران).

الملاحظ حسب هذا البيان أنّ سبب زيادة النعمة هو الإستقامة على الإيمان، وليس أصل الإيمان، لأنّ الإيمان المؤقت لا يستطيع أن يظهر هذه البركات، فالمهم هو الإستقامة والإستمرار على الإيمان والتقوى، ولكن هناك الكثير ممن تزل أقدامهم في هذا الطريق.

والآية الأُخرى إشارة إلى حقيقة أُخرى بنفس الشأن، فيضيف: (لنفتنهم)هل أنّ كثرة النعم تتسبب في غرورهم وغفلتهم؟ أم أنّها تجعلهم يفيقون ويشكرون ويتوجهون أكثر من ذي قبل إلى اللّه؟

ومن هنا يتّضح أن وفور النعمة من إحدى الأسباب المهمّة في الإمتحان الإلهي، وما يُتفق عليه هو أنّ الإختبار بالنعمة أكثر صعوبة وتعقيداً من الإختبار بالعذاب، لأنّ طبيعة ازدياد النعم هو الإنحلال والكسل والغفلة، والغرق في الملذات والشهوات، وهذا ما يُبعد الإنسان عن اللّه تعالى ويُهيء الأجواء لمكائد الشيطان، والذين يستطيعون أن يتخلصوا من شراك النعم الوافرة هو الذاكرون للّه

[94]

على كلّ حال، غير الناسين له تعالى، حيث يحفظون قلوبهم بالذكر من نفوذ الشياطين(1).

ولذا يضيف تعقيباً على ذلك: (ومن يعرض عن ذكر ربّه يسلكه عذاباً صعداً).

«صعد»: على وزن (سفر) وتعني الصعود إلى الأعلى، وأحياناً الشِعب المتعرجة في الجبل، وبما أنّ الصعود من الشعاب المتعرجة عمل شاق، فإنّ هذه اللفظة تستعمل بمعنى الأُمور الشّاقة، وفسّرها الكثير بمعنى العذاب الشّاق، وهو مماثل لما جاء في الآية (17) من سورة المدّثر حول بعض المشركين: (سأُرهقه صعوداً).

ولكن، أنّه مع أنّ التعبير أعلاه يبيّن كون هذا العذاب شاقّاً شديداً فإنّه يحتمل أن يشير إلى اليوم الطويل، وعلى هذا الأساس فإنّه يبيّن في الآيات أعلاه رابطة الإيمان والتقوى بكثرة النعم من جهة، رابطة كثرة النعم بالإختبارات الإلهية من جهة أُخرى ورابطة الإعراض عن ذكر اللّه تعالى بالعذاب الشاق الطويل من جهة ثالثة، وهذه حقائق اُشير إليها في الآيات القرآنية الأُخرى كما نقرأ في الآية (124) من سورة طه: (ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً).

وكذا في الآية (40) من سورة النمل عن لسان سليمان(عليه السلام): (هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر أم أكفر)، وما جاء في الآية (28) من سورة الأنفال: (واعلموا أنّما أموالكم وأولادكم فتنة).

وقال مؤمنو الجن في الآية الأُخرى وهم يدعون إلى التوحيد: (وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً) وللمساجد في هذه الآية تفاسير عديدة منها:

______________________________

1 ـ احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من «الطريقة» هو سبيل الكفر وزيادة النعم الحاصلة نتيجة للإستقامة في هذه الطريقة في الحقيقة هي مقدمة العقوبات ومصداق الإستدراج في النعم، ولكن هذا التّفسير لا يتناسب أبداً مع سياق الآيات السابقة واللاحقة.

[95]

أوّلاً: قيل هي المواطن التي يُسجد فيها للّه تعالى كالمسجد الحرام وبقية المساجد، وبشكل أعم هي الأرض التي يصلّي فيها ويسجد عليها، وهو مصداق القول الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً».(1)

وهذا ردّ لمن اتّخذ الأصنام والأوثان للعبادة فأشرك باللّه، ومن اتّخذ الكعبة معبداً للأصنام، أو انصرف إلى إحياء الطقوس المسيحية حيث (التثليث) أو عبد الأرباب الثّلاثة في الكنائس واللّه تعالى يقول: (إنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً)

ثانياً: المراد بالمساجد السبعة الأعضاء السبعة، فيجب أن يكون وضعها على الأرض خالصاً للّه، ولا يجوز أن يكون لغيره، كما ورد في الحديث عن الإمام محمّد بن علي الجواد(عليهما السلام) وهو يجيب المعتصم في مجلسه الذي كان قد جمع فيه العلماء من أهل السنة حيث سأله عن يد السارق من أي موضع يجب أن تقطع؟ فقال بعض الجالسين تقطع من الساعد واستدلوا في ذلك بآية التيمم، وقال آخرون من المرفق واستدلوا في ذلك بآية الوضوء، فأراد المعتصم جواب ذلك من الإمام الجواد(عليه السلام) فرفض وقال: «أعفني عن ذلك» فأصرّ عليه المعتصم.

فقال الإمام الجواد(عليه السلام): «ما قيل في ذلك خطأ، وإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أُصول الأصابع فتترك الكف». فقال: وما الحجّة في ذلك؟

قال الإمام(عليه السلام): «قول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): السجود على سبعة أجزاء، الوجه، واليدين، والركبتين، والرجلين، فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يد يسجد عليه، وقال اللّه تعالى شأنه: (وإنّ المساجد للّه...) أي إنّ هذه الأعضاء السبعة خاصّة للّه، فما كان للّه لا يقطع»(2).

______________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج2، ص970، الحديث 3.

2 ـ وسائل الشيعة، ج18، ص490 (أبواب حدّ السرقة الباب الرّابع الحديث 5).

[96]

فتعجب المعتصم لجواب الإمام(عليه السلام) وأمر أن تقطع يد السارق من مفصل اُصول الأصابع، كما قال الإمام(عليه السلام) وذكرت في ذلك أحاديث كثيرة.(1)

ولكن الأحادث المنقولة بها الشأن هي مرسلة غالباً، أو أنّ سندها ضعيف، وهناك نقائض لها ليس من السهل الإجابة عليها، فمثلاً ما هو مشهور في أوساط الفقهاء أنّ السارق إذا ما سرق للمرّة الثّانية تقطع الأقسام الأمامية لقدمه، ويتركون كعب القدم سالماً (هذا بعد إقامة الحدّ عليه جزاء السرقة الاُولى) والواضح أنّ الأصبع الكبير للقدم يعتبر من المساجد السبعة، وكذا في شأن المحارب فإنّ إحدى عقوباته هو مقطع قسم من اليد والقدم.

ثالثاً: قيل إنّ المراد بالمساجد هو السّجود، أي أنّ السجود يجب أن يكون دائماً للّه تعالى ولا يكون لغيره، وهذا خلاف ظاهر الآية حيث لا دليل عليه.

ويستفاد من مجموع ما قيل أنّ ما يناسب ظاهر الآية هو التّفسير الأوّل، وكذا يناسب ظاهر الآيات السابقة واللاحقة في شأن التوحيد، وتخصيص العبادة للّه، والتّفسير الثّاني يمكن أن يكون موسعاً لمعنى الآية، وأمّا الثّالث فلا دليل عليه.

ويضيف في إدامة الآية بياناً عن التأثير غير العادي للقرآن المجيد وقيام الرّسول للدّعاء فيقول: (وأنّه لما قام عبد اللّه يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا)(2)، أي عندما كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم للصلاة، فإنّ طائفة من الجن كانوا يجتمعون عليه بشكل متزاحم.

«لبد»: على وزن (فِعَل) وتعني الأشياء المجتمعة المتراكمة، وهذا التّعبير بيان لتعجب الجنّ ممّا يشاهدونه من عبادته(صلى الله عليه وآله وسلم) وقراءته قرآناً لم يسمعوا كلاماً يماثله، وقيل في ذلك قولان آخران:

______________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص439 و440

2 ـ ما يطابق هذا التّفسير وكون هذه الآية من حديث مؤمني الجنّ فإنّ إتيان الضمير الغائب بدل المتكلم هو من باب الإلتفات، أو من باب أنّ بعضهم يبيّن حال البعض الآخر.

[97]

الأوّل: أنّهم ـ أي الجن ـ يبيّنون حال أصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمجتمعين عليه المقتدين به في صلاته إذا صلّى والمنصتين لما يتلوه كلام اللّه، والمراد من ذلك هو الإقتداء الجنّ بهم والإيمان في ذلك.

الثّاني: لبيان حال المشركين، أي لمّا قام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعبد اللّه بالصلاة كاد المشركون بازدحامهم أن يكونوا عليه لبداً مجتمعين متراكمين ليستهزئوا به.

والوجه الأخير لا يلائم هدف مبلغي الجن الذين أرادوا ترغيب الآخرين في الإيمان والمناسب هو أحد القولين السابقين.

* * *

ملاحظة

التّحريف في تفسير الآية: ( وأنّ المساجد للّه )

إنّ مسألة التوسل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبأولياء دين اللّه(عليهم السلام) تعني اتّخاذهم وسيلة وذريعة الى اللّه تعالى، وهذا ممّا لا يتنافى مع حقيقة التوحيد ولا مع آيات القرآن، بل هي تأكيد على التوحيد وعلى أنّ كلّ شيء هو من عند اللّه، وأُشير إلى الشفاعة وطلب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) المغفرة للمؤمنين في كثير من آيات القرآن(1) وبهذا يصرّ بعض المبتعدين عن التعاليم الإسلامية والقرآن الكريم على إنكار شيء من قبيل التوسل والشفاعة.

وقد تذرعوا بعدة ذرائع لإثبات مقاصدهم، منها ما يقولهم: إنّ الآية: (وأنّ المساجد للّه فلا تدعوا مع اللّه أحداً) تعني أنّ اللّه يأمر ألاّ تدعوا معه أحداً، ولا ندعوا غيره أو نطلب الشفاعة من غيره! والإنصاف أنّ ما قالوه لا يناسب سياق الآية ولا يرتبط هذا المعنى بالآية، بل الهدف من الآية نفي الشرك، أي جعل

______________________________

1 ـ بحثنا مسألة (الشفاعة في نظر القرآن والحديث) بحثاً مفصلاً في ذيل الآية (48) من سورة البقرة وحول حقيقة (التوسل) في ذيل الآية (35) من سورة المائدة.

[98]

الشيء مع اللّه في مرتبة واحدة في العبادة أو طلب الحاجة، وبعبارة أُخرى أنّ المشرك هو من يبتغي الحوائج من غير اللّه تعالى، ويجعل له الخَيَرة ويظن أنّ قضاء حوائجه منه.

كما أنّ كلمة (مع) في الآية: (فلا تدعوا مع اللّه أحداً) تشير إلى هذا المعنى، وهو ألاّ يجعل مع اللّه أحداً، ويكون ذلك مبدءاً للتأثير المستقل، وليست نفياً لتشفع الأنبياء أو جعلهم وسطاء عند اللّه تعالى، بل إنّ القرآن الكريم يطلب أحياناً ذلك من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه وأحياناً اُخرى يأمر بطلب الشفاعة من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما نقرأ في الآية (103) من سورة التوبة : (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم).

وكذا الآية (97) من سورة يوسف عن لسان إخوته وهم يخاطبونه أباهم: (ياأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا منّا خاطئين)

فلم يرفض النّبي يعقوب(عليه السلام) ذلك الطلب، بل وعدهم في ذلك وقال: (سوف أستغفر لكم ربّي).

ولهذا فإنّ مسألة التوسل وطلب الشّفاعة كما تقدم هي من المفاهيم الصريحة في القرآن.

* * *

[99]

الآيات

قُلْ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً(20) قُلْ إِنَّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلاَ رَشَداً(21) قُلْ إِنِّى لَنْ يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً(22) إِلاَّ بَلَـغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَـلَـتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـلِدِينَ فِيهَا أَبَداً (23)حَتَّى إِذا رَأَوْاْ مَا يُوعَدونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً(24)

التّفسير

الأُمور كلّها بيد اللّه لا بيدي:

في هذا الآيات يأمر اللّه تعالى نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: (قل إنّما أدعوا ربّي ولا اُشرك به أحداً) وذلك لتقوية قواعد التوحيد، ونفي كلّ أنواع الشرك، كما مرّ في الآيات السابقة، ثمّ يأمره أن : (قل إنّي لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً).

ثمّ يضيف: قل لهم بأنّي لو خالفت أمر اللّه تعالى فسوف يحيق بي العذاب

[100]

أيضاً ولن يستطيع أحد أن ينصرني أو يدفع عنّي عذابه: (قل إنّي لن يجيرني من اللّه أحدٌ ولا أجد من دونه ملتحداً)(1) وعلى هذا الأساس لا يستطيع أحد أن يجيرني منه تعالى ولا شيء يمكنه أن يكون لي ملجأ وهذا الخطاب يشير من جهة إلى الإقرار الكامل بالعبودية للّه تعالى، وإلى نفي كلّ أنواع الغلو في شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)من جهة أُخرى، ويشير من جهة ثالثة إلى أنّه الأصنام ليس فقط لاتنفع ولا تحمي، بل إنّ نفس الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً مع ما له من العظمة لا يمكنه أن يكون ملجأ من عذاب اللّه، وينهى من جهة الذرائع والآمال للمعاندين الذين كانوا يطلبون من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يريهم المعاجز الإلهية، ويثبت أن التوسل والشفاعة أيضاً لا يتحققان إلاّ بإذنه تعالى.

«ملتحداً»: هو المكان الآمن وهو من أصل (لحد)، وتعني الحفرة المتطرفة، كالذي يُتّخذ للأموات في عمق القبر حتى لا ينهال التراب على وجه الميت ويطلق على كل مكان يُلجأ ويُطمأن إليه.

ومن الملاحظ أنّ الآية: (قل إنّي لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً) وقد جعلت الضرّ في قابل الرشد، لأنّ النفع الحقيقي يكمن في الهدايه، كما في حديث الجن في الآيات السابقة إذ اتُّخِذ الشرّ في قبال الرشد، والإثنان متماثلان معاً.

ويضيف في الآية الأُخرى: (إلاّ بلاغاً من اللّه ورسالاته)(2)، وقد مرّ ما يشابه هذا التعبير مراراً في آيات القرآن الكريم، كما في الآية (92) من سورة المائدة: (إنّما على رسولنا البلاغ المبين).

وكذا في الآية (188) من سورة لأعراف: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا

______________________________

1 ـ قيل في سبب نزول هذا الآية: إنّ كفار قريش قالوا للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عُد إلى ديننا لنجيرك فنزلت الآية جواباً على قولهم (تفسير أبو الفتوح الرازي، ج11، ص293).

2 ـ بما أنّ البلاغ يتعدى بـ (عن) فقد قال البعض: إنّ (من) بمعنى (عن) ويتعلق بمحذوف تقديره (كائناً) فيكون المعنى (إلاّ بلاغاً كائناً من اللّه).

[101]

ضرّاً إلاّ ما شاء اللّه ولو كنت أعلم الغيب لإستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلاّ نذير وبشير لقوم يؤمنون).

وقيل أيضاً في تفسير هذه الآية: إنّ المعنى: قل لن يجيرني من اللّه أحد إلاّ تبليغاً منه ومن رسالاته، أي إلاّ أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى.(1)

وأمّا عن الفرق بين «البلاغ» و «الرسالات» فقد قيل: إنّ البلاغ يخص اُصول الدين، والرسالات تخصّ بيان فروع الدين.

وقيل المراد من إبلاغ الأوامر الإلهية، والرسالات بمعنى تنفيذ تلك الأوامر، ولكن الملاحظ أنّ الإثنين يرجعان إلى معنى واحد، بقرينة الآيات القرآنية المتعددة: وكقوله تعالى في الآية (62) سورة الأعراف فيقول: (اُبلغكم رسالات ربّي) وغيرها من الآيات، ويحذر في نهاية الآية فيقول: (ومن يعص اللّه ورسوله فإنّ له جهنم خالدين فيها أبداً).

الواضح أنّ المراد فيها ليس كلّ العصاة، بل المشركون والكافرون لأنّ مطلق العصاة لا يخلدون في النّار.

ثمّ يضيف: (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً).(2)

وفي المراد من العذاب في : (ما يوعدون) هل هو العذب الدنيوي أم الاُخروي أم الإثنان معاً؟ ورد في ذلك أقوال، والأوجه هو أن يكون المعنى عامّاً، وفيما يخصّ الكثرة والقلّة والضعف والقوّة للأنصار فإنّه متعلق بالدنيا، ولذا فسّره البعض بأنّه يتعلق بواقعة بدر التي كانت قوّة وقدرة المسلمين فيها ظاهرة

______________________________

1 ـ هذه الجملة مستثناة من الجملة السابقة (لن أجد من دونه ملتحداً) حسب هذا التّفسير ومستثناة من الآية السابقة حسب التّفسير الأوّل.

2 ـ «متى»: تأتي عادة لبيان الغاية والنهاية للشيء وقيل في ذلك وجهان:

الأوّل: إنّ الغاية جملة محذوفة وتقديرها (ولا يزالون يستهزؤن ويستضعفون المؤمنين حتى إذا رأوا ما يوعدون...).
الثّاني: إنّ الغاية هي للآية (يكونون على لبداً) والتي مرّت سابقاً، والأوّل أوجه.

[102]

وواضحة وقيل حسب الرّوايات المتعددة أنّها تخصّ الإمام المهدي (أرواحنا فده) وإذا أردنا تفسير الآية بمعانيها فإنّها تشمل كلّ ذلك.

إضافة إلى ما جاء في الآية (75) من سورة مريم(عليها السلام): (حتى إذا رأوا ما يوعدون إمّا العذاب وإمّا الساعة فسيعلمون من هو شرّ مكاناً وأضعف جنداً)وعلى كل حال فإنّ سياق هذه الآية يشير إلى أنّ أعداء الإسلام كانوا يتبججّون قدرات جيوشهم وكثرة جنودهم أمام المسلمين يستضعفونهم، الأنصار لهذا كان القرآن يواسيهم ويبشرهم بأنّ العاقبة ستكون بانتصارهم وخسران عدوهم.

* * *

ملاحظتات

1 ـ صفاء القادة الإلهيين

إحدى خصوصيات القادة الإلهيين هي أنّهم بعكس العادة الشيطانيين، ليسوا بمغرورين ولا متكبرين ولا ممن يدّعون ما ليس فيهم.

فإذا كان فرعون ينادي لحماقته: أنا ربّكم الأعلى! وهذه الأنهار تجري من تحتي، فإنّ الإلهيون يرون أنفسهم من أصغر عباد اللّه لشدّة تواضعهم للّه، وما كانوا يحسبون لأنفسهم قدرة أمام إرادة اللّه تعالى، كما نقرأ في الآية (110) من سورة الكهف: (قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحي إليّ) وورد في موضع آخر: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن اتبع ما يوحى إليّ وما أنا إلاّ نذير مبين).

ونقرأ في آية اُخرى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن اللّه ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنّي ملك).(1)

حتى لو وصلوا إلى ذروة القدرة المادية فإنّهم لا يغترون بها ولا يتيهون فيها

______________________________

1 ـ الأنعام، 50.

[103]

كما قال سليمان(عليه السلام): (هذا من فضل ربّي).(1)

ومن الطريف أنّ كثيراً من الآيات القرآنية توجّه خطابات حادة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتعاتبه ليكون في أمره على حذر.

إنّ مجموع هذه الآيات والآيات السابقة هي وثيقة حيّة على أحقّية هذا النّبي العظيم، وإلاّ فما هو المانع من أن يدعي لنفسه المنازل العظيمة فوق ما يدركه البشر وهو يعيش في فئة تتقبل منه ما يدّعيه ومن دون احتجاج وتساؤل من الناس كما أشار التاريخ إلى ذلك في شأن الظالمين.

نعم، إنّ هذ التعابير في مثل هذه الآيات تكون شواهد حيّة لأحقّية دعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

2 ـ ليس المهم الكم بل الكيف!

أُخذ هذا الموضوع بنظر الإعتبار في كثير من آيات القرآن، وهو أنّ طاغوت كل زمان يتظاهر بكثرة أعوانه، كما في شأن فرعون عندما كان يستهين بمن مع موسى(عليه السلام) فقال: (إنّ هؤلاء لشرّ ذمّة قليلون)(2)، وقال مشركو العرب: (نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين) وكان المعاند يتظاهر بأمواله وأعوانه، ويفتخر بذلك ليغيظ به المؤمنين، ويقول: (أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً).(3)

ولم يكن المؤمنون السائرون على خط الأنبياء يتأثرون بمظاهر الثروة وغيرها، بل كان قولهم هو: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه).(4)

ويقول أمير المؤمنين(عليه السلام): «أيّها الناس لاتستوحشوا في طريق الهدى لقلّة

______________________________

1 ـ النمل، 40.

2 ـ الشعراء، 54.

3 ـ الكهف، 34.

4 ـ البقرة، 249.

[104]

أهله»(1) إنّ تاريخ الأنبياء، وبالخصوص تاريخ حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، يشير كيف أن المعاندين على كثرتهم وامتلاكهم لجميع القدرات انكسروا وعجزوا أمام القلّة القليلة من المؤمنين، وتعكس الآيات القرآنية هذا المعني جيداً وهي تروي قصص بني إسرائيل وفرعون وطالوت وجالوت، وكذلك ما في واقعة بدر والأحزاب.

* * *

______________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 201.

[105]

الآيات

قُلْ إِنْ أدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّى أَمَداً(25) عَلِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً(26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُول فَاِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ رَصَداً(27) لَيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسِـلَـتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيء عَدَداً(28)

التّفسير

اللّه عالم الغيب:

لقد تبيّن في الآيات السابقة حقيقة أنّ العصاة يبقون على عنادهم واستهزائهم حتى يأتي وعد اللّه بالعذاب، وهنا يطرح السؤال، وهو: متى يتحقق وعد اللّه؟ وقد بيّن المفسّرون سبب نزول الآية، وذكروا أنّ بعض المشركين كالنضر بن الحارث سألوا عن وعد اللّه بعد نزول هذه الآيات أيضاً، وقد أجاب القرآن على ذلك فقال: (قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربّي أمداً).

هذا العلم يخص ذاته المقدسة تعالى شأنه، وأراد أن يبقى مكتوماً حتى عن

[106]

عباده المؤمنين، ليتحقق الإختبار الإلهي للبشرية، وإلاّ فلم يؤثر الإختبار.

«أمد»: على وزن (صمد) وتعني الزمان، وعلى ما يقوله الراغب في مفرداته: إنّ هناك اختلافاً بين الزمان والأمد، فالزمان يشمل الإبتداء والإنتهاء، وأمّا الأمد فإنّها الغاية التي ينتهي إليها.

وقيل أيضاً بتقارب المعنى في الأمد والأبد مع اختلاف، وهو أنّ الأبد يراد به المدّة غير المحدودة، وأمّا الأمد فهي المدّة المحدودة وإن طالت.

وعلى كل حال، فإنّنا كثيراً ما نواجه مثل هذه المعاني في آيات القرآن، وعندما يسأل الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عن يوم القيامة يجيب بأنّه ليس لهم علم بذلك، وأن علمه عند الله، وورد في حديث أنّ جبرئيل(عليه السلام) ظهر عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على هيئة أعرابي، فسأله عن الساعة، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» فأعاد عليه السؤال رافعاً صوته: يا محمّد متى الساعة؟ فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «ويحك، إنّها كائنة فما أعددت لها؟» فقال الأعرابي: لم أعد كثيراً من الصلاة والصيام، ولكن أُحبّ اللّه ورسوله، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): «فأنت مع من أحببت»، فقال أنس (وهو أحد الصحابة): فما فرح المسلمون بشيء كفرحهم بهذا الحديث.(1)

ثمّ يبيّن في هذا الحديث قاعدة كلية بشأن علم الغيب فيقول: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً).(2)

ثمّ يضيف مستثنياً: (إلاّ من ارتضى من رسول).

أي يبلغه ما يشاء عن طريق الوحي الإلهي: (فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً).

______________________________

1 ـ تفسير المراغي، ج29، ص105.

2 ـ عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هو عالم الغيب، وقيل: صفة أو بدل لربّي في الآية السابقة.

[107]

«رصد»: في الأصل مصدر، ويراد به الإستعداد للمراقبة من شيء، ويطلق على الإسم الفاعل والمفعول، ويستعمل في المفرد والجمع، أي يطلق على المراقب والحارس أو على المراقبين والحرّس.

ويراد به هنا الملائكة الذين يبعثهم اللّه مع الوحي إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)ليحيطوه من كل جانب، ويحفظوا الوحي من شرّ شياطين الجنّ والإنس ووساوسهم: ومن كل شيء يخدش أصالة الوحي، ليوصلوا الرسالات إلى العباد من دون خدش أو زيادة أو نقصان، وهذا هو دليل من الأدلة على عصمة الأنبياء(عليهم السلام) المحفوظين من الزّلات والخطايا بالإمداد الإلهي والقوّة الغيبية، والملائكة.

في بحثنا للآية الأخيرة التي تنهي السورة تبيان لدليل وجود الحراس والمراقبين فيقول: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط لما لديهم وأحصى كل شيء عدداً)(1).

المراد من العلم هنا هو العلم الفعلي، وبعبارة أُخرى ليس معنى الآية أنّ اللّه ما كان يعلم عن أنبيائه شيئاً ثمّ علم، لأنّ العلم الإلهي أزلي وأبدي وغير منتاه، بل إنّ المراد هو تحقق العلم الإلهي في الخارج، ويتخذ لنفسه صورة عينية واضحة، أي ليتحقق إبلاغ الأنبياء ورسالات ربّهم ويتمموا الحجّة بذلك.

* * *

______________________________

1 ـ أرجع بعض المفسّرين ضمير (ليعلم) إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: المراد من ذلك هو أنّ اللّه قد جعل لأسرار الوحي والرسالة حفظة وحراساً، وليعلم الرّسول أنّ الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي الإلهي فتطمئن نفسه ولا يتردد في أصالة الوحي، ولكن هذا القول في غاية البعد، وذلك لأنّ حمل الرسالة من عمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا من عمل الملائكة وعبارة الرّسول في الآية السابقة والرسالات في الآيات التي مضت تخصّ شخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا فإنّ التّفسير الأوّل هو الأوجه.

[108]

بحوث

1 ـ تحقيق موسّع حول علم الغيب

من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتّضح لنا أنّ الآيات المتعلقة بعلم الغيب قسمان:

القسم الأوّل: ما يتعلق بذاته جلّ شأنه ولا يعلمه إلاّ هو، كما في الآية (59) من سورة الأنعام: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو) والآية (65) من سورة النمل: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلاّ اللّه) وكما ورد في شأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية (50) من سورة الأنعام: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الأرض ولا أعلم الغيب).

ونقرأ في الآية (188) من سورة الأعراف: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) وأخيراً نقرأ في الآية (20) من سورة يونس: (فقل إنّما الغيب للّه)وغيرها من الآيات.

القسم الثّاني: يطرح بوضوح إطلاع أولياء اللّه على الغيب، كما نقرأ في الآية (179) من سورة آل عمران: (ما كان اللّه ليطلعكم على الغيب ولكنّ اللّه يجتبي من رسله من يشاء) ونقرأ في معاجز المسيح(صلى الله عليه وآله وسلم): (وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم)(1)

والآية السابقة مورد البحث أيضاً تشير إلى أنّ اللّه تعالى يهب العلم لمن يرتصيه من رسله: (وذلك لأنّ استثناء النفي إثبات)، ومن جهة أُخرى فإنّ الآيات التي تشمل الأخبار الغيبية ليست بقليلة. كالآية الثّانية حتى الرّابعة من سورة الروم: (غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)، وتقول الآية (85) من سورة القصص: (إنّ الذي فرض عليك القرآن

______________________________

1 ـ آل عمران، 49.

[109]

لرادك إلى معاد) وتقول الآية (27) من سورة الفتح: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللّه آمنين).

ومن المعروف أنّ الوحي السماوي الذي يهبط على الرسل هو نوع من الغيب الذي أطلعهم اللّه عليه، فكيف يمكن أن ننفي إطلاعهم بالغيب في الوقت الذي يهبط عليهم الوحي.

بالإضافة إلى ذلك كلّه فإنّ هناك روايات كثيرة تدل على أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)والأئمّة المعصومين(عليهم السلام) مطّلعون على الغيب، ويخبرون به أحياناً، فمثلاً نجد ذلك في قصّة «فتح مكّة» وحادث حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب كتاباً لأهل مكّة وسلمه لامرأة تدعى «سارة» لتوصله إلى مشركي مكّة، وأطلعهم فيه على نيّة الرّسول في الهجوم على مكّة، فأخفت تلك المرأة الكتاب في ضفائرها، قصدت الذّهاب إلى مكّة، فأرسل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إليها أمير المؤمنين(عليه السلام) ومعه بعض أصحابه وقال لهم: «ستجدون امرأة عندها كتاب من حاطب إلى المشركي قريش في منزل يسمّى (خاخ)» فلمّا وجدوها أنكرت عليهم الكتاب، ولكنّها سرعان ما اعترفت وأخذوا منها الكتاب(1).

وكذلك إخبارهم بحوادث معركة مؤتة، واستشهاد جعفر الطيار(عليه السلام) وبعض القادة المسلمين، في الوقت الذي كان الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) يطلع الناس على ذلك في المدينة(2)، والأمثلة على ذلك ليست قليلة في حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وورد في نهج البلاغة أيضاً أخبار كثيرة سابقة لأوانها تشير إلى حوادث مستقبلية، أخبر عنها أمير المؤمنين(عليه السلام)، ممّا يدل على اطلاعه(عليه السلام) بأسرار الغيب، كما جاء في الخطبة (13) في ذمّة أهل البصرة حيث يقول: «كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ لسفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها».

______________________________

1 ـ شرح هذه الحادثة ودليله في هذا المجلد في تفسير سورة الممتحنة.

2 ـ كامل ابن الأثير، ج2، ص237، (حادثة غزوة مؤتة).

[110]

ووردت في روايات أُخرى عن طريق الخاصّة والعامّة أخبار متعددة عنه(عليه السلام)وهي سابقة لأوانها، كقوله لحجر بن قيس: «إنّك من بعدي تجبر على لعني»(1).

وما قاله في مروان: «إنّه يحمل راية الضلال بعد الكِبَر على أكتافه»(2).

وما قاله كميل بن زياد للحجاج أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قد أخبرني بأنّك قاتلي.(3)

وما قاله(عليه السلام) في خوارج النهروان: «إنّه لا يقتل منّا في حربهم عشرة ولا ينجو منهم إلاّ عشرة»(4) وقد حدث ما قال(عليه السلام).

وما قاله حول موضع قبر الإمام الحسين(عليه السلام) عند مروره بكربلاء للأصبغ بن نباتة(5)، وفي كتاب فضائل الخمسة وردت روايات كثيرة عن كتب أبناء العامّة حول علم الإمام الخارق للعادة، وذكرها يطول في هذا المقام(6).

وذكرت أيضاً روايات عديدة في هذا الباب عن لسان الأئمّة المعصومين(عليهم السلام); منها ما ذكر في كتاب الكافي المجلد الأوّل من تصاريح وإشارات متعددة في أبواب عديدة منه.

وقد أورد المرحوم العلاّمة المجلسي في كتابه بحار الأنوار المجلد (26) أحاديث كثيرة في هذا الإطار تبلغ 22 حديثاً.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ روايات في باب علم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمّة

______________________________

1 ـ مستدرك الصحيحين، ج2، ص358.

2 ـ طبقات ابن سعد، ج5، ص30.

3 ـ الإصابة لابن حجر، ج5، القسم 3، ص325.

4 ـ الهيثمي في المجمع، ج6، ص241.

5 ـ الرياض النضرة، ج3، ص222.

6 ـ فضائل الخمسة، ج2، ص231 الى 253.

[111]

المعصومين(عليهم السلام) بأسرار الغيب هي على حدّ التواتر، أمّا كيف نجمع بين هذه الآيات والرّوايات التي ينفي بعضها علم الغيب لغير اللّه وإثبات البعض الآخر لغيره تعالى؟ هناك طرق مختلفة للجمع بينها:

1 ـ أشهر طرق الجمع هو أنّ المراد من اختصاص علم الغيب باللّه تعالى هو العلم الذاتي والإستقلالي، ولهذا لا يعلم الغيب إلاّ هو، وما يعلمونه فهو من اللّه، وذلك بلطفه وعنايته، والدليل على هذا الجمع هو تلك الآية التي بُحثت من قبل والتي تقول: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحد إلاّ من ارتضى من رسول).

وقد اُشير إلى هذا المعنى في نهج البلاغة عندما كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يُخبرُ عن الحوادث المقبلة (وهو يتصور هجوم المغول على البلاد الإسلامية) فقال أحد أصحابه: يا أمير المؤمنين، هل عندك علم الغيب؟ فتبسّم أمير المؤمنين(عليه السلام)وقال: «ليس هو بعلم غيب، إنّما هو تعلم من ذي علم».(1)

وقد وافق على هذا الجمع كثير من العلماء المحققين.

2 ـ أسرار الغيب قسمان: قسم خاص باللّه عزّوجلّ لا يعلمه إلاّ هو كقيام الساعة، وغيرها ممّا يشابه ذلك، والقسم الآخر علّمه الأنبياء والأولياء، كما يقول علي(عليه السلام) في نهج البلاغة في ذيل تلك الخطبة المشار إليها: «وإنّما علم الغيب علم الساعة، وما عدده اللّه سبحانه بقوله: (إنّ اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت)(2).

ثمّ أضاف الإمام(عليه السلام) في شرح هذا المعنى.

يمكن لبعض الناس أن يعلموا بزمان وضع الحمل أو نزول المطر ومثل ذلك علماً إجمالياً، وأمّا العلم التفصيلي والتعرف على هذه الاُمور فهو خاص بذات

______________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 128.

2 ـ المصدر السّابق.

[112]

اللّه تعالى المقدسة وإنّ علمنا بشأن يوم القيامة هو علم إجمالي ونجهل جزئيات وخصوصيات يوم القيامة.

وإذا كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) قد أخبروا البعض في أحاديثهم عمّن يولد أو عمن ينقضي عمره، فذلك يتعلق بالعلم الإجمالي.

3 ـ الطريق الآخر للجمع بين القسمين من الآيات والرّوايات هو ثبوت أسرار الغيب في مكانين: في اللوح المحفوظ (الخزانة الخاصّة لعلم اللّه وهو غير قابل للتغيير ولا يمكن لأحد أن يعلم عنه شيئاً).

ولوح المحو والإثبات الذي هو علم المقتضيات وليس العلّة التامة، ولهذا فهو قابل للتغيير، وما لا يدركه الآخرون يرتبط بهذا القسم.

لذا نقرأ في حديث عن الإمام الصّادق(عليه السلام): «إنّ للّه علماً لا يعلمه إلاّ هو، وعلماً أعلمه ملائكته ورسله، فما أعلمه ملائكته وأنبياءه ورسله فنحن نعلمه»(1).

ونقل عن علي بن الحسين(عليه السلام) أيضاً أنّه قال: «لولا آية في كتاب اللّه لحدثتكم بما كان وما يكون إلى يوم القيامة» فقلت له: أيّة آية؟ فقال: «قول اللّه: (يمحو اللّه ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب)(2).

وطبقاً لهذا الجمع يكون تقسيم العلوم على أساس حتميته أو عدمه، وفي الجمع السابق يكون على أساس مقدار المعلومات.

4 ـ والطريق الآخر هو أنّ اللّه تعالى يعلم بكل أسرار الغيب، وأمّا الأنبياء والأولياء فإنّهم لا يعلمونها كلّها، ولكنّهم إذا ما شاءوا ذلك أعلمهم اللّه تعالى بها، وبالطبع هذه الإرادة لا تتمّ إلاّ بإذن اللّه تعالى.

ومحصلة ذلك أنّ الآيات والرّوايات التي تقول إنّهم لا يعلمون بالغيب هي إشارة إلى عدم المعرفة الفعلية، والتي تقول إنّهم يعلمون تشير إلى

______________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج26، ص160، الحديث 5، هناك روايات متعددة في هذا الإطار قد نقلت من هذا المصدر.

2 ـ تفسير نور الثقلين، ج2، ص512، الحديث 16.

[113]

إمكان معرفتهم لها.

وهذا في الحقيقة كمن يسلم رسالة بيد شخص ما ليوصلها إلى آخر، ويمكن القول هنا: إنّ الشخص الموصل لها لا يعلم بمحتوى الرسالة، ولكن يمكنه فتحها والتعرف على ما فيها إذا ما حصل على الموافقة على قراءتها، ففي هذه الصورة يمكن القول على أنّه عالم بمحتوى الرسالة، وربّما لا يُسمح له ذلك.

والدليل على هذا الجمع هو ما نقرأه في الرّوايات المنقولة في كتاب الكافي للكليني(رحمه الله) في باب (أنّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا اُعلموا) ومنها في حديث ورد عن الإمام الصّادق(عليه السلام) قال: «إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه للّه ذلك».(1)

وهذا الوجه من الجمع يمكن أن يحلّ الكثير من المشاكل المتعلقة بعلم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام)، منها أنّهم كانوا يتناولون مثلاً الغذاء المسموم في حين أن تناول ما يؤدي بالإنسان إلى الهلاك غير جائز، فكيف يكون ذلك؟ فلهذا يجب القول: إنّ في مثل هذه الموارد ما كان يسمح لهم معرفة أسرار الغيب.

وهكذا تقتضي المصلحة أحياناً في ألاّ يتعرّف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام على أمر من الأُمور، أو يعرض إلى اختبار ليتكامل بتجاوزه مرحلة الإختبار، كما جاء في قضّة ليلة المبيت عندما بات الإمام علي(عليه السلام) في فراش النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لا يعلم هل أنّ الإمام(عليه السلام) سوف ينجو من المشركين عندما يهجمون على أم يستشهد، فالمصلحة هنا تقتضي ألاّ يعلم الإمام عاقبة هذا الأمر ليتحقق الإختبار الإلهي، وإذا كان الإمام بنجاته عند هجوم القوم عليه لم يكن له حينئذ أيّ ، ولم يكن ما ذكر في الآيات الكريمة والرّوايات في أهمية هذا الإيثار محل من الاعراب.

نعم، إنّ مسألة العلم الإرادي هي جواب لكلّ هذه الإشكالات.

5 ـ هناك طريق آخر أيضاً لجمع الرّوايات المختلفة في علم الغيب (وإن كان

______________________________

1 ـ كتاب الكافي باب (أنّ الأئمّة إذا شاءوا أن يعلموا أُعلموا) الحديث3، ونقلت روايات عديدة في هذا الباب بنفس المضمون.

[114]

هذا الطريق صادقاً في بعض هذه الرّوايات) وذلك هو أنّ المخاطبين في هذه الرّوايات هم على مستويات مختلفة، فمن كان له الإستعداد الكامل والتهيؤ لقبول مسألة علم الغيب للأئمّة(عليهم السلام) كانت تستوفي لهم المطاليب بتمامها، وأمّا المخالفون والضعفاء فقد كان الحديث معهم على قدر عقولهم.

فنقرأ مثلاً في حديث أنّ أبا بصير وعدّة من أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) كانوا ذات يوم في مجلس فدخل عليهم الإمام(عليه السلام) غضبان، وعندما جلس قال: «ياعجباً لأقوام يزعمون أنّا نعلم الغيب! ما يعلم الغيب إلاّ اللّه عزّوجلّ لقد هممت بضرب جاريتي فلانة، فهربت منّي فما علمت في أي بيوت الدار هي».(1)

يقول الراوي: فلمّا قام الإمام ودخل الدّار قمنا خلفه، وقلنا له: فدتك نفوسنا قلت هذا عن جاريتك، ونحن نعلم أنّ لكم علوماً كثيرة، ولا نسمّي ذلك بعلم الغيب؟ عندئذ قال الإمام: «إنّ ما أردته كان العلم بأسرار الغيب».

يتّضح من ذلك أنّ الجالسين كانوا لا يملكون الاستعداد والتهيؤ لإدراك مثل هذه المعاني ويجهلون مقام الإمام(عليه السلام).

ويجب الإلتفات إلى أنّ هذه الطرق الخمسة لا تتنافى مع بعضها، ويمكن أن تكون كلّها صادقة.

2 ـ الطريق الآخر لإثبات علم الغيب للأئمّة (عليهم السلام)

يوجد هنا طريقان لإثبات حقيقة أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) المعصومين يعلمون الغيب بصورة إجمالية:

الأوّل: هو أنّنا نعلم أنّ مهمتهم لم تجدّد بمكان وزمان خاص، بل أنّ رسالة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامة الأئمّة(عليهم السلام) هي عالمية وخالدة، فكيف يمكن لمن يملك هذه

______________________________

1 ـ اُصول الكافي، ج1، باب نادر فيه ذكر الغيب الحديث 3.

[115]

المهمّة ألاّ يعلم شيئاً سوى ما يحيط به وبزمانه؟ هل يمكن لمن يتسلم مهمّة الإمرة على إمارة، والمحافظة على قسم عظيم من بلاد ما وهو لا يعلم منها شيئاً، وفي نفس الوقت يطلب منه أن ينفذ المهمّة على أحسن وجه؟!

وبعبارة أُخرى، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام عليه أن يبيّن الأحكام الإلهية ويطبقها في فترة حياته بحيث يلبّي احتياجات البشرية في كلّ زمان ومكان، وهذا لا يمكن إلاّ بمعرفته على الأقل لقسم من أسرار الغيب.

ثمّ هناك ثلاث آيات في القرآن المجيد إذا وضعت إلى جانب بعضها البعض فسرعان ما يتّضح لنا ما يتعلق بعلم الغيب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة(عليهم السلام) فالأوّل ما يذكره القرآن حول من أحضر عرش ملكة سبأ في طرفة عين (وهو آصف بن برخيا) فيقو تعالى في كتابه: (قال الذي عنده علم الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلمّا رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربّي)(1)، ونقرأ في آية أُخرى: (قل كفى باللّه شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب)(2).

ومن جهة أُخرى نقل في أحاديث مختلفة في كتب الخاصّة والعامّة أنّ  أبا سعيد الخدري قال سألت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى الآية: (الذي عنده علم من الكتاب)فقال: «هو وصي أخي سليمان بن داود» قلت ومن المراد في : (ومن عنده علم الكتاب)؟فقال: «ذاك أخي علي بن أبي طالب»(3).

فالملاحظ فيما يقوله إنّ (علم من الكتاب) الذي جاء فيما يخص «آصف» هو علم جزئي، وأمّا حينما يقول في (علم الكتاب) الذي ورد فيما يخص علياً(عليه السلام)هو علم كلي، وهذا ما يوضح الإختلاف بين المقام العلمي لآصف وبين المقام العلمي لعلي(عليه السلام).

______________________________

1 ـ النّمل، 40.

2 ـ الرعد، 43.

3 ـ راجع الجزء الثالث من (إحقاق الحقّ) ص280 ـ 281، ونور الثقلين، ج2، ص523.

[116]

ومن جهة ثالثة: نقرأ في الآية (89) من سورة النحل: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء) فمن الواضح أنّ من يعلم بأسرار مثل هذا الكتاب، لابدّ أن يكون مطّلعاً على أسرار الغيب، وهذا دليل واضح على إمكان الإطلاع والمعرفة على أسرار الغيب بأمر من اللّه لإنسان هو من أولياء اللّه.

وكانت لنا بحوث ح علم الغيب في ذيل الآية (50) و(59) من سورة الأنعام والآية (188) من سورة الأعراف.

3 ـ تحقيق حول خلق الجن

الجن كما جاء في المفهوم اللغوي هو نوع من الخلق المستور، وقد ذكرت له مواصفات كثيرة في القرآن منها:

1 ـ إنّهم مخلوقون من النار، بعكس الإنسان المخلوق من التراب: (وخلق الجان من مارج من نار).(1)

2 ـ إنّهم يمتلكون الإدراك والعلم والتمييز بين الحق والباطل والقدرة على المنطق والإستدلال، (كما هو واضح من آيات سورة الجن).

3 ـ إنّهم مكلّفون ومسؤولون (كما في آيات سورة الجن والرحمن).

4 ـ وفيهم المؤمنون والصالحون والطالحون: (وأنا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك).(2)

5 ـ إنّهم يحشرون وينشرون : (وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً).(3)

6 ـ لهم القدرة على النفوذ في السماوات وأخذ الأخيار واستراق السمع، ولكنّهم منعوا من ذلك فيما بعد: (وأنّا منّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع

______________________________

1 ـ الرحمن، 15.

2 ـ الجن، 11.

3 ـ الجن، 15.

[117]

الآن يجد له شهاباً رصداً).(1)

7 ـ كانوا يوجدون ارتباطاً مع بعض الناس لإغوائهم بما لديهم من العلوم المحدودة التابعة إلى بعض الأسرار الروحية: (وأنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً).(2)

8 ـ ويوجد فيهم من يتمتع بالقدرة الفائقة كما وجود في أوساط الإنس: (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك).(3)

9 ـ لهم القدرة على قضاء بعض الحوائج التي يحتاجها الإنسان (ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربّه... يعملون ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب)(4).

10 ـ إنّ خلقهم كان قبل خلق الإنسان: (والجان خلقناه من قبل)(5) ولهم خصائص أُخرى

بالإضافة إلى ذلك فإنّه يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الإنسان هو نوع أفضل من الجن، وبخلاف ما هو مشهور على الألسن لأنّهم أفضل منّا، ودليل اختيار الأنبياء من الإنس، وإنّهم آمنوا بنبي الإسلام الذي هو من الإنس واتبعوه، وهكذا وجوب سجود الشيطان لآدم(عليه السلام) كما صرّح القرآن بذلك ،وكون الشيطان من أكابر طائفة الجن (الكهف 50) هو دليل على أفضلية بني الإنسان على الجنّ.

إلى هنا كان الحديث عن أُمور تستفاد من القرآن المجيد حول هذا الخلق المستور والخالية من كل الخرافات والمسائل غير العلمية، ولكنّنا نعلم أن السذج والجهلاء ابتدعوا خرافات كثيرة فيما يخص هذا الكائن بما يتنافي مع العقل

______________________________

1 ـ الجن، 9.

2 ـ الجن، 6.

3 ـ النمل، 39.

4 ـ سبأ، 12 ـ 13.

5 ـ الحجر، 27.

[118]

والمنطق، منها ما نسب إليهم الأشكال الغريبة والعجيبة والمرعبة، وأنّهم موجودات سامة وذوات أذناب! مؤذية، ومبغضة، سيئة التصرف والسلوك إذ يمكن أن تحرق دوراً بمجرّد أن يسكب إناء ماء مغلي في بالوعة مثلاً، وأوهام أُخرى من هذا القبيل، في حين أنّ أصل الموضوع إذا تمّ تطهيره من هذه الخرافات قابلاً للقبول، لأننا لا نملك دليلاً على حصر الموجودات الحية بما نحن نراه، بل يقول علماء العلوم الطبيعية: إنّ الكائنات التي يستطيع الإنسان أن يدركها بحواسه ضئيلة بالنسبة للموجودات التي لا تدرك بالحواس.

وفي الفترة الأخيرة وقبل أن يكشف المجهر هذه الكائنات الحية، لم يصدق أحد أنّ هناك الآلاف المؤلفة من الموجودات الجية المتواجدة في قطرة الماء أو الدم لا يمكن للإنسان أن يراها ويقول أيضاً: إنّ أعيننا ترى ألواناً محددة، وكذا آذانناً تسمع أمواجاً صوتية محددة، والأولوان والأصوات التي لا ندركها بآذاننا وأعيننا أكثر بكثير من تلك التي تدرك، وعندما تكون الدنيا بهذا الشكل لا يبقى موضع للتعجب من وجود هذه الكائنات الحية، والتي لا يمكن لنا إدراكها بالحواس، ولم لا نتقبل ذلك عندما يخبرنا انسان صادق كالنّبي العظيم(صلى الله عليه وآله وسلم).

على أي حال فإنّ القرآن المجيد قد أخبرنا من جهة بوجود الجن وخصوصياته المذكورة سلفاً، ومن جهة أُخرى ليس هناك دليل عقلي على عدم وجود الجن، ولهذا لابدّ من الإعتقاد بهم، وتجنب الأقوال التي لا تليق بهم كما في خرافات العوام.

وممّا يلاحظ أيضاً أنّ لفظ الجن يطلق أحياناً على مفهوم أوسع يشمل أنواعاً من الكائنات المستورة أعم من الكائنات ذوات العقل والإدراك ولفاقدة لهما، وحتى مجاميع الحيوانات التي ترى بالعين والمختفية في الأوكار أيضاً، والدليل على ذلك روايات وردت عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «خلق اللّه الجن خمسة أصناف: صنف كالريح في الهواء، وصنف حيات، وصنف عقارب، وصنف

[119]

حشرات الأرض، وصنف كنبي آدم عليهم الحساب والعقاب»(1).

وبالتوجه إلى هذه الرّوايات ومفهومها فسوف تحلّ الكثير من المشاكل التي تطرح في الرّوايات والقصص الخاصّة بالجن.

ففي رواية وردت عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال: «لا تشرب الماء من ثلمة الإناء ولا عروته، فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة».(2) لأنّ الشيطان هو من الجن، ولأنّ ثلمة الإناء وعروته محل لإجتماع المكروبات المتنوعة، فلا يستبعد أن يكون الجن والشيطان بمفهومه العام شاملاً لمثل هذه الكائنات، وإن كان المعنى الخاص له هو الكائن ذو فهم وشعور وإنّه مكلّف ومسؤول، والرّوايات كثيرة في هذا الباب.

ربّنا! ألطف بنا يوم يحضر الجن والإنس في محكمة عدلك، ويوم يندم المسيؤون على ما عملوا.

اللّهم! إنّ أركان ملكك واسعة ومعرفتنا ومعلوماتنا محدودة، فاحفظنا وصنّا من المزالق والخطايا والحكم بغير الحقّ.

إلهنا! إنّ مقام رسولك الكريم من العظمة والسمو أن آمن به الجن مضافاً إلى الإنس، فاجعلنا من المؤمنين بدعوته...

آمين ربّ العالمين

انتهاء سورة الجن

* * *

______________________________

1 ـ سفينة البحار، ج1، ص186 (مادة الجن).

2 ـ الكافي، ج6، ص385، كتاب الأشربة، باب الأواني، الحديث 5.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336266

  • التاريخ : 28/03/2024 - 21:15

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net