[357]
سُورَة الرَّحمَن
مكّية
وعَدَدُ آيَاتِها ثمان وسبعُون آية
[359]
«سورة الرّحمن»
محتوى السورة:
توضّح هذه السورة بصورة عامّة النعم الإلهية المختلفة، سواء كانت ماديّة أو معنوية، والتي تفضّل بها الباريء عزّوجلّ على عباده وغمرهم بها، ويمكن تسميتها لهذا السبب بـ (سورة الرحمة) أو (سورة النعمة) ولهذا فإنّها بدأت بالإسم المبارك (الرحمن) الذي يشير إلى صنوف الرحمة الإلهية الواسعة، وتنهي هذه السورة آياتها بإجلال وإكرام الباريء سبحانه، وبإقرار عباده بالنعم التي تفضّل بها عليهم (إحدى وثلاثين مرّة) وذلك من خلال تكرار آية: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وبناءً على هذا فإنّ السياق العام للسورة يتعلّق بالحديث عن المنن والنعم الإلهيّة المختلفة والعظيمة. ومن جهة اُخرى فإنّنا نستطيع أن نقسّم محتويات السورة إلى عدّة أقسام:
القسم الأوّل: الذي يشمل أوّل آيات السورة حيث الحديث عن النعم الإلهية الكبيرة، سواء تلك التي تتعلّق بخلق الإنسان أو تربيته وتعليمه، أو الحساب والميزان، وكذلك سائر الاُمور الاُخرى التي يتجسّد فيها الخير للإنسان، إضافةً إلى الغذاء الروحي والجسمي له.
القسم الثّاني: يتناول توضيح مسألة خلق الإنس والجنّ.
القسم الثّالث: يتضمّن توضيح الآيات والدلائل الإلهيّة في الأرض والسماء.
[360]
القسم الرّابع: وفيه بعد تجاوز النعم الإلهية على الإنسان في الدنيا تتحدّث الآيات عن نعم الله في عالم الآخرة بدقّة وظرافة، خاصّة عن الجنّة، وبصورة أعمّ وأشمل عن البساتين والعيون والفاكهة وحور العين وأنواع الملابس من السندس والإستبرق ...
وأخيراً في القسم الخامس نلاحظ الحديث بإختصار عن مصير المجرمين وجزائهم المؤلم المحسوب ... ولأنّ الأصل في هذه السورة أنّها مختّصة ببيان الرحمة الإلهيّة، لذا لم نلاحظ تفاصيل كثيرة حول مصيرهم، خلافاً لما نلاحظه في موضوع الحديث عن النعم الاُخروية حيث التفصيل والشمول الذي يشرح قلوب المؤمنين ويغمرها بالسعادة والأمل، ويزيل عنها غبار الحزن والهمّ، ويغرس الشوق في نفوسهم ...
إنّ تكرار آية: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) وفي مقاطع قصيرة أعطت وزناً متميّزاً للسورة، وخاصّة إذا قريء بالمعنى المعبّر الذي يستوحى منها ... فإنّ حالة من الشوق والإنبهار تحصل لدى الإنسان المؤمن.
ولذلك فلا نعجب عندما نقرأ في حديث للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: «لكلّ شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره»(1).
والجدير بالذكر أنّ مصطلح «العروس» يطلق في اللسان العربي على المرأة والرجل ما داموا في مراسيم الزواج(2).
وبما أنّ المرأة والرجل في تلك المراسم في أفضل وأتمّ الحالات وأكمل الإحترامات، ومن هنا فإنّ هذا المصطلح يطلق على الموجودات اللطيفة جدّاً وموضع الإحترام.
إنّ سبب إختيار اسم (الرحمن) لهذه السورة لتتناسب التسمية مع المضمون، وهذا واضح.
______________________________________
1 ـ مجمع البيان بداية سورة الرحمن، وجاء كذلك في الدرّ المنثور، ج6، ص140.
2 ـ لسان العراب ومجمع البحرين وصحاح اللغة و..
[361]
فضيلة تلاوة سورة الرحمن:
إنّ اتّصاف هذه السورة بما يثير الإحساس بالشكر على أفضل صورة، وكذلك توضيح وبيان النعم الإلهية (المادية والمعنوية) فيها والتي تزيد من شوق الطاعة والعبادة في قلوب المؤمنين كلّ ذلك أدّى إلى ورود روايات كثيرة في فضل تلاوة هذه السورة تلك التلاوة التي ينبغي أن تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتحركها باتّجاه الطاعات وبعيداً عن لقلقة اللسان.
ومن جملة ما نقرأ حديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: «من قرأ سورة الرحمن رحم الله ضعفه، وأدّى شكره، وأنعم الله عليه»(1).
وعن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «لا تَدعوا قراءة سورة الرحمن والقيام بها، فإنّها لا تقرّ في قلوب المنافقين، ويأتي بها ربّها يوم القيامة في صورة آدمي في أحسن صورة، وأطيب ريح حتّى يقف من الله موقفاً لا يكون أحد أقرب إلى الله منها فيقول لها: من الذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا ويدمن قراءتك؟ فيقول: ياربّ فلان وفلان، فتبيض وجوههم. فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم فيشفعون حتّى لا يبقى لهم غاية ولا أحد يشفعون له، فيقول لهم: ادخلوا الجنّة واسكنوا فيها حيث شئتم»(2).
وفي حديث آخر عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «من قرأ سورة الرحمن فقال عند كلّ: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان): لا شيء من آلائك ربّي اُكذّب، فإن قرأها ليلا ثمّ مات مات شهيداً، وإن قرأها نهاراً فمات مات شهيداً»(3).
* * *
______________________________________
1 ـ نور الثقلين، ج5، ص187.
2 ـ بحار الأنوار، ج92، ص306.
3 ـ المصدر السابق.
[362]
الآيات
الرَّحْمَنُ ( 1 ) عَلَّمَ الْقُرْءَانَ ( 2 ) خَلَقَ الإنسَـنَ ( 3 ) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ( 4 ) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَان ( 5 ) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( 6 )
التّفسير
بداية النعم الإلهية:
لمّا كانت هذه السورة ـ كما قلنا ـ تبيّن أنواع النعم والهبات الإلهيّة العظيمة، فإنّها تبدأ باسم (الرحمن) والذي يرمز إلى الرحمة الواسعة، ولو لم تكن (الرحمانية) من صفاته لم ينعم بهذا الخير العميم على عباده الصالحين والعاصين، لذلك يقول: (الرحمن)(1).
(علّم القرآن) وبهذا فانّ أوّل وأهمّ نعمة تفضّل بها الله سبحانه، هي نعمة «تعليم القرآن»، وما أروعه من تعبير! حيث أنّنا إذا تأمّلنا جيّداً فإنّنا ندرك أنّ هذا الكتاب العظيم هو مصدر كلّ الخير والنعم والعطايا الإلهيّة العظيمة، كما أنّه وسيلة
______________________________________
1 ـ الرحمن: مبتدأ وخبرها (علّم القرآن)، و (خلق الإنسان) خبر بعد خبر. كما توجد إحتمالات اُخرى أيضاً لإعراب هذه الجملة لم تذكر هنا لعدم أهميّتها.
[363]
للوصول إلى السعادة والخيرات المادية والمعنوية.
والظريف هنا أنّ بيان نعمة (تعليم القرآن) ذُكرت قبل (خلق الإنسان) و (علّمه البيان) في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الإشارة أوّلا إلى مسألة خلق الإنسان، ومن ثمّ نعمة تعليم البيان، ثمّ نعمة تعليم القرآن، وذلك إستناداً للترتيب الطبيعي، إلاّ أنّ عظمة القرآن الكريم أوجبت أن نعمل خلافاً للترتيب المفترض.
وقد جاءت هذه الآية جواباً لمشركي العرب حينما طلب منهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)السجود للرحمن، فسألوه «وما الرحمن»؟ (ـ الفرقان ـ) فأجابهم بتوضيح ذلك حيث يقول سبحانه: «الرحمن هو الذي علّم القرآن وخلق الإنسان وعلّمه البيان».
وعلى كلّ حال فإنّ لإسم «الرحمن» أوسع المفاهيم بين أسماء الباريء عزّوجلّ بعد إسم الجلالة (الله) لأنّنا نعلم أنّ لله رحمتين: (الرحمة العامّة) و (الرحمة الخاصّة) واسم «الرحمن» يشير إلى رحمة الله العامّة التي تشمل الجميع، كما أنّ إسم «الرحيم» يشير إلى «الرحمة الخاصّة» بأهل الإيمان والطاعة، ولعلّه لهذا السبب لا يطلق إسم الرحمن على غير الله سبحانه (إلاّ إذا كانت كلمة عبد قبله)، أمّا وصف «الرحيم» فيقال لغير الله أيضاً، وذلك لأنّه لا أحد لديه الرحمة العامّة سوى الله تعالى، الرحمة أمّا الرحمة الخاصّة فإنّها موجودة في المخلوقات وإن كانت بصورة محدودة.
وفي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) نقرأ ما يلي: «الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، والرحيم اسم عام بصفة خاصّة». (يعني أنّه اسم مخصوص لله، ورحمته تشمل جميع خلقه)، لكن الرحيم اسم عام لصفة خاصّة (يعني أنّه وصف يستعمل لله وللخلق)، وكما عرّف القرآن المجيد الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه (رؤوف رحيم) حيث يقول سبحانه: (بالمؤمنين رؤوف رحيم).(1)
______________________________________
1 ـ التوبة، 128.
[364]
وهنا يطرح التساؤل التالي: من الذي علّمه الله سبحانه القرآن الكريم.
ذكر المفسّرون في ذلك تفسيرات عديدة، فبعضهم قال: إنّ الله علّم القرآن لجبرئيل والملائكة، وقال آخرون: إنّ الله سبحانه علّمه للرسول، وذكر ثالث: أنّه عُلِّمَ للإنس والجنّ.
ولكون هذه السورة تبيّن الرحمة الإلهيّة للإنس والجنّ ولذا أكّد سبحانه إقرارهم بنعمه إحدى وثلاثين مرّة، وذلك بقوله: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) لهذا فإنّ التّفسير الأخير هو الأنسب، أي أنّ الله علّم القرآن للإنس والجنّ بواسطة نبيّه الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
وبعد ذكره سبحانه لنعمة القرآن التي لا مثيل لها ينتقل إلى أهمّ نعمة في الترتيب المذكور ويقول: (خَلَقَ الإنسان).
من الطبيعي أنّ المقصود هنا هو نوع الإنسان وليس آدم (عليه السلام) فقط، حيث سيتحدّث عنه سبحانه في الآيات اللاحقة بصورة مستقلّة، كما أنّه ليس المقصود بذلك النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع العلم أنّ الرّسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أفضل وأعلى مصداق للإنسان.
وإطلاق كلمة (البيان) التي تأتي بعد خلق الإنسان دليل آخر على عمومية كلمة الإنسان، وبناءً على هذا فإنّ التفاسير الاُخرى التي ذكرت لم تكن صحيحة.
والحقيقة أنّ خلق الإنسان هذا الكائن الذي تتجمّع فيه كلّ عجائب الوجود، هذا الموجود الذي هو خلاصة الموجودات الاُخرى، هذا العالم الصغير الذي إندرج فيه العالم الكبير، لهو نعمة منقطعة النظير حيث إنّ كلّ بعد من أبعاد وجوده المختلفة نعمة كبيرة.
______________________________________
1 ـ إختلف المفسّرون حول أنّ المفعول الأوّل لـ (علّم) هو المحذوف، أو أنّ المحذوف هو المفعول الثاني، والأنسب أنّ المفعول الأوّل هو المحذوف حيث في التقدير يكون: (علّم الإنس والجنّ القرآن).
كما يحتمل البعض أنّ (علّم) لم تأخذ أكثر من مفعول واحد بمعنى موضع العلاقة وهذا مستبعد جدّاً.
[365]
وبالرغم من أنّ بداية الإنسان ليست أكثر من نطفة لا قيمة لها، بل الأصحّ أنّ بدايته عبارة عن موجود مجهري يسبح في نطفة لا وزن لها، إلاّ أنّه في ظلّ الرعاية الإلهيّة يسير في مراحل التكامل بصورة يرتقي فيها إلى مقام أشرف موجود في عالم الخلق.
أنّ ذكر إسم «الإنسان» بعد «القرآن» هو الآخر يستوجب التأمّل، ذلك لأنّ القرآن الكريم يمثّل مجموعة أسرار الكون بصورة مدوّنة «الكتاب التدويني»، والإنسان هو خلاصة هذه الأسرار بصورة تكوينية «الكتاب التكويني»، كما أنّ كلّ واحدة منها هو صورة من هذا العالم الكبير.
وتشير الآية اللاحقة إلى أهمّ النعم بعد نعمة خلق الإنسان حيث يقول الباريء عزّوجلّ: (علّمه البيان).
كلمة (البيان) لها معنى لغوي واسع، حيث تقال لكلّ شيء يوضّح ويبيّن شيئاً معيّناً، وبناءً على هذا فإنّها لا تشمل النطق والكلام فحسب، بل تجمع الكتابة والخطّ وأنواع الإستدلالات العقليّة والمنطقية التي تبيّن المسائل المختلفة والمعقّدة أيضاً رغم أنّ معالم هذه المجموعة هي التكلّم والنطق.
ونظراً لتعوّدنا ممارسة الكلام، فقد نتصوّر أنّه أمر بسيط وسهل، والحقيقة أنّ التكلّم من أعقد وأظرف أعمال الإنسان، ويمكننا القول بعدم وجود عمل على شاكلته من ناحية التعقيد والظرافة.
فمن جهة نجد أنّ الأجهزة المختّصة لإصدار الصوت تتساعد وتتعاون مع بعضها لإيجاد الأصوات المختلفة. فالرئة تجمع الهواء لتخرجه من الحنجرة تدريجيّاً، والأوتار الصوتية تهتزّ لتولّد أصواتاً مختلفة تماماً، بعضها تعبّر عن حالة الرضى، والاُخرى عن الغضب، والثالثة تعبّر عن النجدة والإستغاثة وطلب العون، والرابعة عن المحبّة أو العداوة وهكذا. ثمّ إنّ هذه الأصوات ـ بمساعدة اللسان والشفتين والأسنان والحلق ـ تصنع الحروف الأبجدية بسرعة وظرافة خاصّة،
[366]
وبتعبير آخر: إنّ الصوت الممتدّ والمتساوي الذي يخرج من الحنجرة يقطّع إلى أشكال وقياسات مختلفة حيث تتشكّل منه الحروف.
ومن جهة اُخرى فهناك مسألة اللغات، حيث إنّ الإنسان يبتدع لغات مختلفة حسب إحتياجاته الماديّة والمعنوية، وذلك إثر تطوّره وتقدّمه الفكري. والعجيب هنا عدم وجود أي محدودية في وضع اللغات، حيث نلاحظ تعدّد الألسن في عالمنا هذا بصورة يصعب إحصاؤها بصورة دقيقة، كما أنّنا نلحظ أيضاً نشوء لغات جديدة وألسن جديدة بصورة تدريجيّة مع مرور الزمن. ويعتقد البعض أنّ عدد اللغات الموجودة في عالمنا اليوم يصل إلى ثلاثة آلاف لغة، ويذهب آخرون إلى أكثر من ذلك(1).
والظاهر أنّ ذلك يتعلّق باللغات والألسن الأصليّة، أمّا إذا أخذت اللهجات المحليّة بنظر الإعتبار فإنّها ستصبح أكثر من ذلك بكثير قطعاً، حيث لاحظ المتتبعون لاُمور اللهجات أنّ قريتين متجاورتين تتحدّثان بلسانين مختلفين أحياناً.
ومن جهة ثالثة هناك مسألة ترتيب الجمل والإستدلال وبيان العواطف عن طريق العقل والفكر، لأنّها تمثّل روح البيان والنطق ... ولهذا الأمر فإنّ التكلّم أمر خاصّ بالإنسان فقط.
صحيح أنّ الكثير من الحيونات تحدث أصواتاً مختلفة كي تعبّر عن إحتياجاتها، إلاّ أنّ عدد هذه الأصوات محدود جدّاً ومبهم وغير معلوم، في حين أنّ البيان وضع في إختيار الإنسان بصورة واسعة وغير محدودة، لأنّ الله تعالى قد أعطاه القدرة الفكرية اللازمة للتكلّم.
وإذا تجاوزنا كلّ ذلك وأخذنا دور البيان في تكامل وتقدّم الحياة الإنسانية،
______________________________________
1 ـ دائرة المعارف لفريد وجدي، ج8، ص364 مادّة (لغة).
[367]
فمن الواضح أنّ الإنسان لم يكن بمقدوره وإمكانه أن ينقل تجاربه وعلومه من جيل إلى آخر بهذه السهولة وبالتالي أدّى إلى التقدّم والعلم والدين والأخلاق ... وإذا ما سلبت هذه النعمة العظيمة من الإنسان ليوم واحد فإنّ المجتمع الإنساني سوف يأخذ طريقه نحو التقهقر بسرعة، ولو أخذنا «البيان» بمعناه الواسع الذي يشمل الخطّ والكتابة والفنون المختلفة، فإنّه سيتّضح لدينا بصورة أكثر دوره الهامّ في الحياة الإنسانية.
ومن هنا ندرك لماذا جاءت عبارة (تعليم البيان) بعد نعمة خلق الإنسان في سورة الرحمن التي هي مجموعة من هبات الله تعالى.
ويتطرّق بعد ذلك إلى النعمة الإلهيّة الرابعة والتي هي هبة من هبات الله العظيمة أيضاً، حيث يقول تعالى: (الشمس والقمر بحسبان)(1).
إنّ أصل وجود الشمس من أكبر النعم الإلهيّة للإنسان، لأنّ العيش في المنظومة الشمسية بدون نور وحرارة الشمس أمر غير ممكن، وكما بيّنا سابقاً فإنّ كلّ حركة في الكرة الأرضية مصدره حرارة الشمس، حيث أنّ نمو ونضج النبات والمواد الغذائية أجمع، بالإضافة إلى سقوط الأمطار وهبوب الرياح، كلّها ببركة هذه الهبة الإلهيّة.
كما أنّ للقمر دوراً هامّاً في حياة الإنسان، فبالإضافة إلى أنّه يضيء الليالي المعتمة، فإنّ جاذبيته هي علّة المدّ والجزر في البحار والمحيطات، وهي عامل لبقاء الحياة في البحار، كما أنّها تقوم بدورها في إرواء كثير من المناطق القريبة للسواحل والتي تصبّ الأنهار بالقرب منها.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ ثبات الإنتظام لهاتين الحركتين (حركة القمر حول الأرض، وحركة الأرض حول الشمس) هو السبب في الظهور المنتظم لليل
______________________________________
1 ـ «حسبان» على وزن (غفران) وهي مصدر بمعنى الحساب والنظم والترتيب، وللآية محذوف تقديره (والشمس والقمر تجريان بحسبان).
[368]
والنهار والسنين والشهور والفصول المختلفة، وبالتالي فإنّه سبب أساسي لإنتظام الحياة الإنسانية وبرمجة الاُمور التجارية والصناعية والزراعية، وإن فقد الإنتظام فيها فسوف تضطرب الحياة البشرية وتختلّ الكثير من مرتكزاتها.
وليس لحركة هذين الكوكبين نظام دقيق جدّاً فحسب، بل إنّ مقدار كثافة وجاذبية ومسافة كلّ منهما عن الأرض هي الاُخرى محسوبة بدقّة وحساب (وحسبان).
ومن المؤكّد أنّ إختلال كلّ واحدة من هذه الاُمور سيولّد إختلالات عظيمة في المنظومة الشمسية، ومن ثمّ في النظام الحياتي للبشر.
والعجيب هنا أنّ هذه الأجزاء عندما إنفصلت من الشمس كانت في حالة من الإضطراب والفوضى، إلاّ أنّها ثبتت وإستقرّت أخيراً بالشكل الحالي، حيث يقول في هذا المجال أحد علماء العلوم الطبيعيّة:
«وجدت منظومتنا الشمسية ـ في الظاهر ـ من مخلوط من مواد متنوّعة وعناصر مختلفة إنفصلت عن الشمس بدرجة حرارية عالية تبلغ (000/12) درجة وبسرعة فائقة تناثرت في الفضاء الواسع.
وبالرغم من هذا الإضطراب الظاهري فقد لوحظ الإنتظام الدقيق والترتيب المنسّق بحيث أنّنا نستطيع أن نتنبّأ بالحوادث المستقبلة حتّى بالدقائق واللحظات، ونتيجة لهذا النظام والترتيب نلاحظ أنّ الأوضاع الفلكية هذه باقية على هذا الحال مدّة ألف مليون سنة»(1).
والجدير بالذكر أنّ الشمس بالرغم من أنّها في وسط المنظومة الشمسية وتبدو ساكنة وثابتة، إلاّ أنّها مع جميع كواكبها وأقمارها تسير في وسط المجرّة المتعلّقة بها إلى نقطة معيّنة (تسمّى هذه النقطة بنجمة فيكا) وهذه الحركة لها أيضاً
______________________________________
1 ـ سرّ خلق الإنسان، ص28.
[369]
نظام وسرعة معينان.
ثمّ يتحوّل بنا الله إلى نعمة عظيمة اُخرى هي الخامسة في مسلسل ما ذكره سبحانه من النعم في هذه السورة المباركة، حيث يوجّه النظر إلى ألطافه في الأرض حيث يقول: (والنجم والشجر يسجدان).
«النجم» يأتي أحياناً بمعنى كوكب، ويأتي اُخرى بمعنى النبات الذي لا ساق له، ولمّا جاءت الكلمة هنا بقرينة «الشجر» فيكون المقصود هو المعنى الثاني، أي النباتات بدون سيقان(1).
وهذا المصطلح معناها في الأصل (الطلوع) وإذا أطلق على النباتات (نجم) فلأنّها تخرج من الأرض، وإذا أطلق على النجمة فلأنّها تطلع.
ومن الواضح أنّ النبات مصدر جميع المواد الغذائية للإنسان، حيث يستهلك قسماً مباشراً منه، والقسم الآخر تستهلكه الحيوانات الاُخرى التي هي جزء أساسي من غذاء الإنسان، ومن هنا فإنّ النبات هو مصدر غذاء الإنسان بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
وهذا المعنى يصدق أيضاً في عالم الحيوانات البحرية، لأنّها تتغذّى على نباتات صغيرة جدّاً تنبت في البحر وتوجد بكثرة هائلة تقدّر بملايين البليارات، وهي المصدر الغذائي لهذه الحيوانات البحرية. وتنمو هذه النباتات الصغيرة في البحر بتأثير الضوء (أشعّة الشمس) التي تتحرّك بين الأمواج.
وبهذا فإنّ «النجم» أنواع من النباتات الصغيرة الزاحفة (مثل اليقطين والخيار وأمثاله). أمّا (الشجر) فإنّه النوع الآخر من النباتات التي لها سيقان وتشمل أشجار الفاكهة ونباتات الغلاّت وغير ذلك.
وتعبير (يسجدان) إشارة إلى التسليم والخضوع أمام القدرة الإلهيّة وقوانين
______________________________________
1 ـ الراغب في مفرداته حيث يقول: النجم ما لا ساق له من النبات.
[370]
الخلقة والإبداع الإلهي لأجل نفع الإنسان، هذا المسير الذي عيّنه الله لهم يسيرون فيه بدون أي تخلّف، وذلك بموجب الإرادة الإلهية.
وهنا إشارة إلى الأسرار التوحيدية أيضاً حيث توجد في كلّ ورقة وكلّ بذرة آيات عجيبة من عظمة وقدرة الله سبحانه(1).
كما يحتمل أن يكون المقصود من «النجم» في الآية المذكورة هي «النجوم»، ولكن المعنى الأوّل طبقاً للقرائن الموجودة في الآية الكريمة هو الأنسب.
* * *
ملاحظة
تأمّلات في الرّوايات:
نقلت المصادر الإسلامية في هامش الآيات أعلاه روايات من قبيل التّفسير بالمصداق واضح، حيث أنّ كلّ واحدة منها تلقي الضوء على قسم من الآيات الكريمة.
ففي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير (علّمه البيان) يقول: «البيان الإسم الأعظم الذي به علم كلّ شيء»(2).
وحول «الإسم الأعظم» وتفسيره فقد أوردنا بحثاً في هامش الآية 180 من سورة الأعراف.
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ذكر أنّ المقصود من «الرحمن علّم القرآن» أنّ الله تعالى قد علّم القرآن للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). والمقصود
______________________________________
1 ـ بحثنا تفصيلا حول معنى (سجود الموجودات المختلفة في عالم الوجود) في هامش الآية رقم 18 سورة الحجّ. وكذلك في هامش الآية 44 من سورة الإسراء.
2 ـ تفسير مجمع البيان، ج9، ص197.
[371]
من «خلق الإنسان» هو خلق أمير المؤمنين (عليه السلام)، و «علّمه البيان» هو بيان كلّ الاُمور التي يحتاجها الناس.
ومن الواضح أنّ الرّوايات أعلاه لا تحدّد عمومية مفهوم هذه الآيات، بل توضّح مصاديقها.
* * *
[372]
الآيات
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ( 7 ) أَلاَّ تَطْغَوْا فِى الْمِيزَانِ ( 8 )وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ( 9 ) وَالاَْرْضَ وَضَعَهَا لِلاَْنَامِ ( 10 ) فِيهَا فَـكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الاَْكْمَامِ ( 11 )وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ( 12 ) فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ( 13 )
التّفسير
السماء رفعها ووضع الميزان:
هذه الآيات هي إستمرار لبيان النعم الإلهيّة التي جاء ذكر خمس منها في الآيات السابقة، حيث تحدّثت عن أهمّ الهبات التي منحها الله سبحانه.
وفي الآية مورد البحث يتحدّث سبحانه عن النعمة السادسة، ألا وهي نعمة خلق السماء حيث يقول: (والسماء رفعها).
(السماء) في هذه الآية سواء كانت بمعنى جهة العلو، أو الكواكب السماوية، أو جو الأرض (والذي يعني الطبقة العظيمة من الهواء والتي تحيط بالأرض كدرع يقيها من الأشعّة الضارّة والصخور السماوية وحرارة الشمس، والرطوبة
[373]
المتصاعدة من مياه البحار لتتكوّن الغيوم وتنزل الأمطار) ... إنّ كلّ واحدة من هذه المعاني هبة عظيمة ونعمة لا مثيل لها، وبدونها تستحيل الحياة أو تصبح ناقصة.
نعم إنّ النور الذي يمنحنا الدفء والحرارة والهداية والحياة والحركة يأتينا من السماء وكذلك الأمطار، والوحي أيضاً، وبذلك فإنّ للسماء مفهوماً عامّاً، ماديّاً ومعنوياً).
وإذا تجاوزنا كلّ هذه الاُمور، فإنّ هذه السماء الواسعة مع كلّ عوالمها هي آية عظيمة من آيات الله، وهي أفضل وسيلة لمعرفة الله سبحانه، وعندما يتفكّر أُولو الألباب في عظمتها فسوف يقولون دون إختيار (ربّنا ما خلقت هذا باطلا).(1)
ثمّ يستعرض سبحانه النعمة السابعة حيث يقول تعالى: (ووضع الميزان).
«الميزان» كلّ وسيلة تستعمل للقياس، سواء كان قياس الحقّ من الباطل، أو العدل من الظلم والجور، أو قياس القيم وقياس حقوق الإنسان في المراحل الإجتماعية المختلفة.
و (الميزان) يشمل كذلك كلّ نظام تكويني ودستور إجتماعي، لأنّه وسيلة لقياس جميع الأشياء.
و «الميزان» لغة: (المقياس) وهو وسيلة لوزن الأجسام الماديّة المختلفة، إلاّ أنّ المقصود في هذه الآية، ـ والذي ذكر بعد خلق السماء ـ أنّ لها مفهوماً واسعاً يشمل كلّ وسيلة للقياس بما في ذلك القوانين التشريعيّة والتكوينية، وليس وسيلة منحصرة بقياس الأوزان الماديّة فقط.
ومن هنا فلا يمكن أن تكون الأنظمة الدقيقة لهذا العالم، والتي تحكم ملايين الأجرام السماوية بدون ميزان وقوانين محسوبة.
وعندما نرى في بعض العبارات أنّ المقصود بالميزان هو «القرآن الكريم»،
______________________________________
1 ـ آل عمران، 191.
[374]
أو «العدل»، أو «الشريعة»، أو «المقياس». ففي الحقيقة إنّ كلّ واحدة من هذه المعاني مصداق لهذا المفهوم الواسع الشامل.
ونستنتج من الآية اللاحقة إستنتاجاً رائعاً حول هذا الموضوع حيث يضيف بقوله تعالى: (ألاّ تطغوا في الميزان).
حيث يوجّه الخطاب لبني الإنسان الذين يشكّلون جزءاً من هذا العالم العظيم ويلفت إنتباههم إلى أنّهم لا يستطيعون العيش بشكل طبيعي في هذا العالم إلاّ إذا كان له نظم وموازين، ولذلك فلابدّ أن تكون للبشر نظم وموازين أيضاً حتى يتلاءموا في العيش مع هذا الوجود الكبير الذي تحكمه النواميس والقوانين الإلهيّة، خاصّة أنّ هذا العالم لو زالت عنه القوانين التي تسيّره فإنّه سوف يفنى، ولذا فإنّ حياتكم إذا فقدت النظم والموازين فإنّكم ستتجهون إلى طريق الفناء لا محالة.
يا له من تعبير رائع حيث يعتبر القوانين الحاكمة في هذا العالم الكبير منسجمة مع القوانين الحاكمة على حياة الإنسان (العالم الصغير) وبالتالي ينقلنا إلى حقيقة التوحيد، حيث مصدر جميع القوانين والموازين الحاكمة على العالم هي واحدة في جميع المفردات وفي كلّ مكان.
ويؤكّد مرّة اُخرى على مسألة العدالة والوزن حيث يقول سبحانه: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).
والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ كلمة «الميزان» ذكرت ثلاث مرّات في هذه الآيات، وكان بالإمكان الإستفادة من الضمير في المرحلة الثانية والثالثة، وهذا ما يدلّل على أنّ كلمة (الميزان) هنا قد جاءت بمعان متعدّدة في الآيات الثلاث السابقة، لذا فإنّ الإستفادة من الضمير لا تفي بالغرض المطلوب، وضرورة التناسب للآيات يوجب تكرار كلمة «الميزان» ثلاث مرّات، لأنّ الحديث في المرحلة الاُولى، كان عن الموازين والمعايير والقوانين التي وضعها الله تعالى لكلّ
[375]
عالم الوجود.
وفي المرجلة الثانية يتحدّث سبحانه عن ضرورة عدم طغيان البشر في كلّ موازين الحياة، سواء كانت الفردية أو الإجتماعية.
وفي المرحلة الثالثة يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاصّ، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر.
وبهذا الترتيب نلاحظ الروعة العظيمة للإنسجام في الآيات المباركة، حيث تسلسل المراتب وحسب الأهمية في مسألة الميزان والمقياس، والإنتقال بها من الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل(1).
إنّ أهميّة الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتّى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والإرتباك سوف تسود المجتمع البشري، فكيف بنا إذا ألغينا المفهوم الأوسع لهذه الكلمة، حيث ممّا لا شكّ فيه أنّ الإضطراب والفوضى ستكون بصورة أوسع وأشمل.
ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ (الميزان): قد فسّر بوجود (الإمام)، وذلك لكون الوجود المبارك للإمام المعصوم هو وسيلة لقياس الحقّ من الباطل، ومعيار لتشخيص الحقائق وعامل مؤثّر في الهداية(2). وهكذا في تفسير «الميزان» بالقرآن الكريم ناظر إلى هذا المعنى.
ونظراً إلى أنّ هذه الآيات تتحدّث عن النعم الإلهية، فإنّ وجود الميزان سواء في نظم العالم أجمع أو المجتمع الإنساني أو الروابط الإجتماعية أو مجال العمل
______________________________________
1 ـ يقول الفخر الرازي في تفسيره لكلمة (الميزان) في الآية الاُولى: إنّها اسم (آلة) بمعنى وسيلة للقياس، وفي الآية الثانية جاء مصدراً (يعني الوزن)، وفي الآية الثالثة أتى مفعولا بمعنى (جنس الموزون).
2 ـ رُوي هذا الحديث في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) والحديث مفصّل وقد ذكر مضمونه هنا فقط (تفسير علي بن إبراهيم، ج2، ص343).
[376]
التجاري ... فإنّها جميعاً نِعَم من قبل الله سبحانه.
ثمّ ينتقل سبحانه من السماء إلى الأرض فيقول عزّوجلّ: (والأرض وضعها للأنام).
«الأنام» فسّرها البعض بمعنى (الناس)، وفسّرها آخرون بمعنى (الإنس والجنّ)، وفسّروها أيضاً بأنّها تشمل كلّ موجود (ذي روح).
إلاّ أنّ قسماً من أئمّة اللغة فسّرها بمطلق (الخلق) ولكن القرائن الموجودة في السورة وطبيعة النداءات الموجّهة للإنس والجنّ تدلّل على أنّها المقصود هنا (الجنّ والإنس).
نعم، إنّ الكرة الأرضية التي ذكرت هنا بعنوان هبة إلهيّة مهمّة، وفي آيات اُخرى ذكرت بعنوان (مهاد) مأوى ومستقرّ للإنسان الذي لا يدرك قدرها غالباً في الحالات الإعتيادية، إلاّ أنّه في حالة حدوث تغيّر بسيط كزلزلة مدمّرة أو بركان بإمكانه أن يدفن مدينة بأكملها تحت المواد المذابة وعتمة الدخان ولهيب النار، هنا ندرك كم أنّ هدوء الأرض نعمة عظيمة، خصوصاً إذا وضعنا الأرقام التي توصّل إليها العلماء أمامنا فيما يتعلّق بسرعة حركة الأرض حول نفسها وحول الشمس(1)، عند ذلك يتبيّن لنا أهميّة هذا الهدوء الكامن في أعماق هذه الحركة السريعة جدّاً والتي هي ليست نوعاً واحداً، بل أنواع مختلفة.
التعبير بـ (وَضَعَ) عن الأرض في مقابل (رَفَعَ) عن السماء، إضافةً إلى الروعة البلاغية في هذا التقابل فهو إشارة إلى تسخير الأرض ومنابعها للإنسان حيث يقول سبحانه: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه).(2)
______________________________________
1 ـ سرعة الأرض حول الشمس (الحركة الإنتقالية) 35 كم في الثانية، وسرعة سيرها حول نفسها بحدود (1600) كم في الساعة (في المناطق الاستوائية).
2 ـ الملك، 15.
[377]
وبهذا الترتيب فقد ذكر لنا سبحانه النعمة العظيمة الثامنة في هذه السلسلة.
وفي الآية اللاحقة يستعرض ذكر النعمتين التاسعة والعاشرة من النعم الإلهية، والتي تتضمّن قسماً من المواد الغذائية التي وهبها الله سبحانه للإنسان حيث يقول تعالى: (فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام).
«الفاكهة» تشمل كلّ نوع من الفاكهة كما يقول الراغب في المفردات، وفسّرها البعض بأنّها تشمل جميع أنواع الفاكهة باستثناء التمر، حيث ذكر «النخيل» في هذه السورة بصورة مستقلّة، ويمكن أن يكون ذكر النخيل بسبب أهميّة النخل والتمر لا إستثناءً من عموم لفظ الفاكهة.
«وقد أوردنا بحثاً مفصّلا حول فوائد التمر من الناحية الغذائية والمواد الحياتية المختلفة لدى تفسير الآية 11 من سورة النحل، والآية 25 من سورة مريم».
«أكمام» جمع (كِم) على وزن (جِن) تطلق على الغلاف الذي يغطّي الفاكهة. و (كُمْ) على وزن (قُمْ) القسم الخاصّ باليدين من الثوب، و (كمة) على وزن (قبة) بمعنى القبعة التي تغطّي الرأس(1).
إنّ إختيار هذا الوصف لفاكهة شجرة النخل ـ والتي تكون في البداية مختفية في غلاف ثمّ ينشقّ الغلاف عن ثمر منظود وبشكل جميل وجذّاب ـ يمكن أن يكون لهذا الجمال الأخّاذ، أو للمنافع الجمّة الكامنة في هذا الغلاف، فهو بالإضافة إلى كونه يقوم بمهمّة حفظ الثمرة من الآفات لحين النمو المناسب والقدرة الملائمة ويكون دوره كرحم الاُمّ الذي يحافظ على الجنين فترة زمنية مناسبة قبل خروجه إلى عالم الدنيا ... فإنّه كذلك يحوي عصارة (الأسانس) الخاصّة والتي تتميّز بالمنافع الطبيّة والغذائية.
______________________________________
1 ـ لنا بحث مفصّل في هذا الموضوع في تفسيرنا هذا، ذيل الآية (47) من سورة فصّلت.
[378]
كما أنّ الروعة تكمن في الوضع الخاصّ لفاكهة هذه الشجرة أيضاً، حيث تتجمّع في كميّات كبيرة منها بصورة عناقيد لتسهّل عملية قطف ثمارها، ولو إفترضنا أنّ ثمار هذه الشجرة متناثرة كما في شجرة التفاح فإنّ عملية قطف الثمار ستكون صعبة للغاية قياساً لطول شجرة النخل.
ثمّ يتحدّث سبحانه عن النعمة الحادية عشرة والثانية عشرة حيث يقول سبحانه: (والحبّ ذو العصف والريحان).
الحبوب مصدر أساسي لغذاء الإنسان، وأوراقها الطازجة واليابسة هي غذاء للحيوانات التي هي لخدمة الإنسان، حيث يستفيد من حليبها ولحومها وجلودها وأصوافها، وبهذا الترتيب فلا يوجد شيء فيها غير ذي فائدة.
ومن جهة اُخرى، فإنّ الله تعالى خلق الأزاهير المعطّرة والورود التي تعطّر مشام الجسم والروح وتبعث الإطمئنان والنشاط، ولذا فإنّ الله سبحانه قد أتمّ نعمه على الإنسان.
(الحبّ) يقال لكلّ نوع من أنواع الحبوب.
(عَصْفْ) على وزن «حرب» بمعنى الأوراق والأجزاء التي تنفصل عن النبات وينشرها الهواء في جهات مختلفة، ويقال لها التبن أيضاً.
وذكروا أنّ «للريحان» معاني عديدة من جملتها النباتات المعطّرة، وكذلك كلّ رزق، والمعنى الأوّل هو الأنسب هنا.
وبعد ذكر هذه النعم العظيمة (المادية والمعنوية) ينقلنا في آخر آية من البحث مخاطباً الجنّ والإنس بقوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) حيث يلفت نظرهم إلى كلّ هذه النعم الكبيرة التي شملت كلّ مجالات الحياة وكلّ واحدة منها أثمن وأعظم من الاُخرى ... ألا يدلّ كلّ هذا على لطف وحنان الخالق ... فكيف يمكن التكذيب بها إذاً؟
إنّ هذا الإستفهام إستفهام تقريري جيء به في مقام أخذ الإقرار، وقد قرأنا
[379]
في بداية السورة رواية تؤكّد على ضرورة تعقيبنا بهذه العبارة (لا شيء من آلائك ربّي اُكذّب) بعد كلّ مرّة نتلو فيها الآية الكريمة: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وبالرغم من أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن الإنسان فقط، ولم يأت حديث عن طائفة (الجنّ) إلاّ أنّ الآيات اللاحقة تبيّن أنّ المخاطب في ضمير التثنية هم (الجنّ) كما سنرى ذلك.
وعلى كلّ حال، فإنّ الله تعالى يضع (الإنس والجنّ) في هذه الآية مقابل الحقيقة التالية: وهي ضرورة التفكّر في النعم الإلهيّة السابقة التي منحها الله لكم وتسألون أنفسكم وعقولكم هذا السؤال: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) فإن لم تكذّبوا بهذه النعم، فلماذا تتنكّرون لوليّ نعمتكم؟ ولماذا لا تجعلون شكره وسيلة لمعرفته؟ ولماذا لا تعظّمون شأنه؟
إنّ التعبير بـ (أي) إشارة إلى أنّ كلّ واحدة من هذه النعم دليل على مقام ربوبية الله ولطفه وإحسانه، فكيف بها إذا كانت هذه النعم مجتمعة؟
* * *
تعقيب
1 ـ معرفة النعم طريق لمعرفة الله:
إذا تأمّلنا قليلا النعم التي سبق وأن تناولتها الآيات الكريمة: (نعمة القرآن، وخلق الإنسان، وتعليم البيان، والحساب المنظّم للزمان، خلق النباتات ومختلف الأشجار، وحاكمية السماء والسنن والقوانين، وخلق الأرض بخصوصياتها المتعدّدة، وخلق الفاكهة والنخل والحبوب والورود والنباتات المعطّرة ...) مع جميع جزئياتها والأسرار الخفيّة في كلّ واحدة منها لكانت كافية لأن تبعث الإحساس بالشكر في الإنسان وتدفعه إلى معرفة مبدىء هذه النعم وهو الله سبحانه.
[380]
ولهذا السبب فإنّ الله تعالى يأخذ الإقرار من عباده بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم، وتتكرّر الآية في الآيات اللاحقة أيضاً، وبعد ذكر نعم اُخرى، بحيث يصبح عددها 31 مرّة.
إنّ هذا التكرار ليس فقط لا يتنافى مع الفصاحة، بل إنّه فنّ من فنونها، ويشبه هذا الأمر التكرار الذي يؤكّده الأب لإبنه الذي يغفل عن وصاياه بصورة مستمرّة، فيخاطبه بصيغ مختلفة تأكيداً لعدم الغفلة والنسيان حيث يقول له: أنسيت ياولدي ضعفك وطفولتك؟ أتعرف كم من الجهد بذلت من أجل تنميتك وتربيتك.
أنسيت ياولدي كم أحضرت من الأطباء الأخصائيين يوم مرضك، وكم بذلت سعياً وجهداً في ذلك.
أنسيت ياولدي حينما بلغت سنّ الشباب ما بذلته من جهد في زواجك حيث إنتخبت لك زوجة من أكثر النساء عفّة وطهراً؟
أنسيت ياولدي جهدي في مسألة إعداد بيتك ومستلزماته؟ ... فإذا لم تنس كلّ هذا فلماذا العناد والطغيان والقسوة وعدم الوفاء إذاً؟
إنّ الله تعالى يذكّر عباده الغافلين بصورة مستمرّة بنعمه المختلفة، وهكذا يسألهم بعد كلّ نعمة من هذه النعم (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان)، فلماذا هذا العصيان والطغيان في حين أنّ طاعتي هي رمز لتكاملكم وتقدّمكم، وإنّ هذا ينفعكم ولن ينفع الله شيئاً؟!
2 ـ مسألة النظم والحساب في الحياة:
يوجد في جسم الإنسان أكثر من عشرين عنصراً معدنياً، وكلّ واحد منها بكيفية خاصّة وكمية معيّنة، وإذا ما حصل أقل تغيّر في مقاديرها ونسبها فإنّ حياتنا تكون في خطر، فمثلا في فصل الصيف إذا تعرّق الإنسان أكثر من اللازم عندئذ يصاب بالصدمة التي قد تؤدّي إلى الموت والسبب في ذلك بسيط جدّاً،
[381]
وهو نقص ماء الجسم وأملاح الدم وعلاجه لا يكون إلاّ بشرب الماء وتناول الأملاح الإضافية.
هذا نموذج بسيط من النظم والحساب في تركيب جسمنا، كما نلاحظ أحياناً أنّ دقّة المقاييس في تركيب مخلوقات أدقّ وأظرف كالخلايا، وأدقّ منها عالم الذرّات تكون إلى درجة من الدقّة بحيث تقاس بـ (واحد على الألف) وأحياناً بـ (واحد على المليون) من الملمتر أو الملغرام، حيث أنّ العلماء اضطرّوا لحساب هذه الموازين الدقيقة إلى الإستعانة بالعقول الألكترونية.
هذا في النظام الكوني، والأمر كذلك في الاُمور الإجتماعية، حيث أنّ أي إنحراف في تطبيق قوانين العدل قد يؤدّي إلى فناء شعب.
وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرناً وذكر كلّ ما يستحقّ الذكر بهذا الصدد حيث يقول سبحانه: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان).
لقد جعل الله سبحانه الطغيان والتمرّد على القوانين الشرعية، مقارناً مع الطغيان والتمرّد على القوانين الكونية التي تحكم الوجود كلّه، إنّه تصوير رائع إستعمله القرآن الكريم عن عالم الوجود تارةً، وعالم الإنسان اُخرى، كما ورد في الآيات الكريمة. وليس هذا فحسب، بل إنّه سبحانه شمل بوصفه هذا عالم الآخرة (يوم الحساب) ونصب الموازين، بل وحتّى طبيعة الحساب والموازين حيث إنّها من الدقّة على قدر عجيب!... ولهذا السبب فقد اُمرنا ـ كما ورد ذلك في الرّوايات الإسلامية ـ أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب وأن نزنها قبل أن توزن.
«وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا».
* * *
[382]
الآيات
خَلَقَ الإنسَـنَ مِن صَلْصَـل كَالْفَخَّارِ ( 14 ) وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِج مِّن نَّار ( 15 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 16 ) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( 17 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 18 )
التّفسير
الصلصال وخلق الإنسان:
إنّ الله تعالى بعد ذكره للنعم السابقة والتي من جملتها (خَلق الإنسان)، يتعرّض في الآيات مورد البحث إلى شرح خاص حول خلق الإنس والجنّ كدليل على قدرته العظيمة، من جهة وموضع درس وعبرة للجميع من جهة اُخرى، فيقول سبحانه: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار).
«صلصال» في الأصل معناه (ذهاب ورجوع أو تردّد الصوت في الأجسام الصلبة) ثمّ اُطلقت الكلمة على الطين اليابس الذي يخرج صوتاً، كما تطلق (الصلصلة) على الماء المتبقّي في الوعاء، لأنّه يخرج صوتاً عند حركته في الوعاء.
ويفسّر البعض كلمة (صلصال) بمعنى الطين الخبيث الرائحة، إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأشهر والأعرف.
[383]
«فخار» من مادّة (فخر) بمعنى الشخص الذي يفخر كثيراً، ولكون الأشخاص الذين يعيشون الفراغ في شخصياتهم ومعنوياتهم يكثرون الثرثرة والإدّعاء عن أنفسهم، فإنّ هذه الكلمة تستعمل لكلّ إناء من الطين أو «الكوز»، وذلك بسبب الأصوات الكثيرة التي يولّدها(1).
ومن هنا يستفاد بوضوح من الآيات القرآنية المختلفة حول مبدأ خلق الإنسان، أنّه كان من التراب إبتداءً، قال تعالى: (فإنّا خلقناكم من تراب).(2) ثمّ خرج مع الماء وأصبح طيناً. (هو الذي خلقكم من طين).(3) ثمّ أصبح بصورة طين خبيث الرائحة (إنّي خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون).(4) ثمّ أصبح مادّة في حالة لاصقة، (إنّا خلقناهم من طين لازب).(5) ومن ثمّ يتحوّل إلى حالة يابسة ويكون من (صلصال كالفخار)كما ذكر في الآية مورد البحث.
هذه المراحل كم تستغرق من الوقت؟ وكم هي المدّة التي يتوقّف فيها الإنسان في كلّ مرحلة من هذه المراحل؟، وفي أي ظروف تحدث هذه التطوّرات؟
هذه المسائل خفيت عن علمنا وإدراكنا، والله وحده هو العالم بها فقط.
ومن الواضح أنّ هذه التعابير تبيّن حقيقة ترتبط إرتباطاً وثيقاً مع الاُمور التربوية للإنسان، حيث أنّ المادّة الأوّلية في خلق الإنسان هي مادّة لا قيمة لها، ومن أحقر المواد على الأرض، إلاّ أنّ الله تعالى قد خلق من تلك المادّة الحقيرة مخلوقاً ذا شأن، بل يمثّل قمّة المخلوقات على وجه الأرض، حيث أنّ القيمة الواقعيّة للإنسان هي الروح الإلهية (النفخة الربّانية) فيه، والتي ذكرت في الآيات
______________________________________
1 ـ المفردات للراغب.
2 ـ الحجّ، 5.
3 ـ الأنعام، 2.
4 ـ الحجر، 28.
5 ـ الصافات، 11.
[384]
القرآنية الاُخرى (كما في سورة الحجر / 29) وذلك ليعرف الإنسان قيمته الحقيقيّة في عالم الوجود ويسير في طريق التكامل على بيّنة من أمره.
ثمّ يتطرّق سبحانه لخلق الجنّ حيث يقول: (وخلق الجانّ من مارج من نار).
«مارج» في الأصل من (مرج) على وزن (مرض) بمعنى الإختلاط والمزج، والمقصود هنا إختلاط شعل النيران المختلفة، وذلك لأنّ النيران أحياناً تكون بألوان مختلفة الأحمر، الأصفر، الأزرق، وأخيراً اللون الأبيض.
ويقول البعض: إنّ معنى التحرّك موجود فيها أيضاً، وذلك من (أمرجت الدابة) يعني (تركت الحيوان في المرتع) لأنّ أحد معاني «المرج» هو المرتع.
ولكن كيف خلق الجنّ من هذه النيران المتعدّدة الألوان؟ هذا ما لم يعرف بصورة دقيقة، كما أنّ الخصوصيات الاُخرى عن هذا المخلوق، قد بيّنت لنا عن طريق الوحي الربّاني وكتاب الله الكريم، ولكن محدودية معلوماتنا لا تعني السماح لنا أبداً بإنكار هذه الحقائق أو تجاوزها، خاصّة بعد ما ثبتت عن طريق الوحي الإلهي.
(وسيكون لنا إن شاء الله شرح مفصّل حول خلق الجنّ وخصوصيات هذا المخلوق في تفسير سورة الجنّ).
وعلى كلّ حال، فإنّ أكثر الموجودات التي نتحدّث عنها هي: الماء والتراب والهواء والنار، سواء كانت هذه الموجودات عناصر بسيطة كما كان يعتقد القدماء، أو مركّبة كما يعتقد العلماء اليوم، ولكن على كلّ حال فإنّ مبدأ خلق الإنسان هو الماء والتراب، في حين أنّ مبدأ خلق الجنّ هو الهواء والنار، وهذا الإختلاف في مبدأ خلقة هذين الموجودين مصدر إختلافات كثيرة بين هذين المخلوقين.
وبعد أن تحدّث عن النعم التي كانت في بداية خلق الإنسان يكرّر تعالى قوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
في الآية اللاحقة يستعرض نعمة اُخرى حيث يقول سبحانه: (ربّ المشرقين
[385]
وربّ المغربين).
بما أنّ الشمس في كلّ يوم تشرق من نقطة وتغرب من اُخرى، وبعدد أيّام السنة لها شروق وغروب، ولكن نظراً للحدّ الأكثر من الميل الشمالي للشمس والميل الجنوبي لها، ففي الحقيقة أنّ للشمس مشرقين ومغربين والبقيّة بينهما(1).
إنّ هذا النظام الذي هو سبب وجود الفصول الأربعة له فوائد وبركات كثيرة، ويؤكّد ويكمّل ما مرّ بنا في الآيات السابقة، وذلك لأنّ الحديث كان عن حساب سير الشمس والقمر، وكذلك عن وجود الميزان في خلق السماوات، وإجمالا فإنّه يبيّن النظام الدقيق للخلقة وحركة الأرض والقمر والشمس، وكذلك فإنّه يشير إلى النعم والبركات التي هي موضع إستفادة الإنسان.
ويرى البعض أنّ المقصود بالمشرقين والمغربين هو طلوع وغروب الشمس، وطلوع وغروب القمر ويعتبرون هذا هو المناسب لتفسير الآية الكريمة (والشمس والقمر بحسبان) إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب، خصوصاً وأنّ الرّوايات الإسلامية قد أشارت إلى ذلك.
ومن جملة هذه الرّوايات حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية حيث يقول: «إنّ مشرق الشتاء على حدة، ومشرق الصيف على حدّه، أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها؟»(2).
ويتّضح بذلك معنى قوله تعالى: (فلا اُقسم بربّ المشارق والمغارب)،(3) حيث
______________________________________
1 ـ توضيح: لما كان محور الأرض مائلا بالنسبة لسطح مدارها وبشكل زاوية بحدود 23 درجة، والأرض بهذه الصورة تدور حول الشمس، لذا فإنّ شروق الشمس وغروبها متغيّر دائماً أيضاً كما يبدو من 23 درجة والتي تمثّل أعظم الإنحراف باتّجاه الشمال (في بداية الصيف) إلى 23 درجة في قمّة الإنحراف باتّجاه الجنوب (بداية الشتاء)، ويسمّى المدار الأوّل لها مدار «رأس السرطان» والمدار الثاني مدار «رأس الجدي»، وهذان هما مشرقا ومغربا الشمس، وبقيّة المدارات في داخل هذين المدارين.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص190 (المقصود هو إرتفاع الشمس في السماء في فصل الصيف ونزولها في فصل الشتاء).
3 ـ المعارج، 40.
[386]
يشير هنا إلى جميع مشارق ومغارب الشمس على طول أيّام السنة. في الوقت الذي تشير الآية مورد البحث إلى نهاية القوس الصعودي والنّزولي لها فقط.
وعلى كلّ حال فإنّ الله تعالى يؤكّد هذه النعمة بعد نعمة خلق الإنس والجنّ بقوله: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
* * *
[387]
الآيات
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ( 19 ) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( 20 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 21 ) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ( 22 )فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 23 ) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِى الْبَحْرِ كَالاَْعْلَـمِ( 24 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 25 )
التّفسير
البحار وذخائرها الثمينة:
إستمراراً لشرح النعم الإلهيّة يأتي الحديث هنا عن البحار، ولكن ليس عن خصوصيات البحار بصورة عامّة، بل عن كيفية خاصّة ومقاطع معيّنة منها تمثّل ظواهر عجيبة وآية على القدرة اللامتناهية للحقّ، بالإضافة إلى ما فيها من النعم التي هي موضع إستفادة البشرية.
يقول تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) ولكن بين هذين البحرين المتلاقيين فاصل يمنع من طغيان وغلبة أحدهما على الآخر: (بينهما برزخ لا يبغيان).
مادّة (مرج) على وزن (فلج) بمعنى الإختلاط، أو إرسال الشيء وتركه، وهنا وردت بمعنى إرسال الشيء ووضعه جنباً إلى جنب بقرينة الآية: (بينهما برزخ لا
[388]
يبغيان).
المقصود من البحرين هما الماء العذب والماء المالح، وذلك بالإستدلال بقوله تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح اُجاج وجعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً).(1)
والتساؤل هنا عن مكان هذين البحرين اللذين لا يمتزجان مع بعضهما، وما هو البرزخ الموجود بينهما؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين حول هذه المسألة، إلاّ أنّ بعض التّفسيرات تدلّل على عدم إطّلاعهم على أوضاع البحار في ذلك الزمان، منها أنّهم ذكروا أنّ المقصود من البحرين هما (بحر فارس وبحر الروم) في الوقت الذي نعلم أنّ ماء هذين البحرين مالح، ولا يوجد بينهما برزخ.
أو قولهم: إنّ المقصود بذلك هو بحر السماء وبحر الأرض، والذي يكون الأوّل عذباً والثاني مالحاً، في الوقت الذي نعلم أيضاً بعدم وجود بحر في السماء بإستثناء الغيوم والبخار التي يتبخّر من المحيطات.
وقالوا أيضاً: إنّ المقصود من البحر العذب هو المياه التي تحت الأرض والتي لا تختلط مع مياه البحار، والبرزخ الموجود بينهما هي جدران هذه الآبار.
في الوقت الذي نعلم أيضاً أنّ الماء الموجود تحت الأرض أقلّ من أن يشكل بحراً.
نعم إنّ جزئيات الماء المخفية بين طبقات التراب والرمل تتجمّع تدريجيّاً، وتخرج عندما يحفر بئر في نقطة معيّنة. وهي كميّة محدودة بالإضافة إلى عدم وجود اللؤلؤ والمرجان فيها.
إذاً ما هو المقصود من هذين البحرين؟
لقد أشرنا سابقاً إلى هذه الحقيقة في تفسير سورة الفرقان، وهي أنّ الأنهار
______________________________________
1 ـ الفرقان، 53.
[389]
العظيمة ذات المياه العذبة عندما تصبّ في البحار والمحيطات فإنّها تشكّل بحراً من الماء الحلو إلى جنب الساحل وتطرد الماء المالح إلى الخلف، والعجيب أنّ هذين الماءين لا يمتزجان مع بعضهما لمدّة طويلة بسبب إختلاف درجة الكثافة. وتلاحظ هذه المناظر بوضوح عند السفر بالطائرة في المناطق التي تكون فيها هذه الظاهرة، حيث المياه العذبة تمثّل بحراً منفصلا في داخل البحر المالح ومنفصلة عنها، وعندما تمتزج أطراف هذين البحرين فإنّ المياه العذبة الجديدة تأخذ مكانها بحيث أنّ هذين البحرين منفصلان على الدوام بشكل ملفت للنظر.
والظريف هنا ما يحصل في حالة (مدّ البحر) فبإرتفاع سطح المحيط إلى الأعلى، فإنّ المياه العذبة ترجع إلى الداخل دون أن تختلط مع المياه المالحة ـ بإستثناء سنوات الجدب التي تنعدم فيها الأمطار ويشحّ الماء ـ وتغطّي قسماً من اليابسة، لذلك فكثيراً ما تستثمر هذه الحالة بإيجاد أنهار وقنوات في المناطق الساحلية حيث تسقى بهذه الطريقة الكثير من الأراضي الزراعية.
إنّ هذه الأنهر توجد ببركة وحركة (المدّ والجزر) الساحليتين وتأثيرهما على مياه هذه الأنهار التي تمتلىء وتفرغ مرّتين في كلّ يوم بالماء العذب، ممّا يتيح فرصة طيّبة لسقي مناطق واسعة من الأراضي الزراعية.
ويوجد تفسير رائع آخر لهذين البحرين، حيث قالوا: إنّ المقصود منهما يحتمل أن يكون ظاهرة (كلف استريم) والذي سيأتي شرحها في آخر هذه الآيات إن شاء الله.
ومرّة اُخرى يخاطب الله تعالى عباده في معرض حديثه عن هذه النعم حيث يسألهم سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
وإستمراراً لهذا الحديث يقول عزّوجلّ: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
اللؤلؤ والمرجان: وسيلتان للتجميل والزينة، ويستفاد منهما أيضاً في معالجة
[390]
بعض الأمراض، كما أنّهما ثروة تجارية أيضاً ووسيلة جيّدة للربح الوفير، ولهذه الموارد اُشير إليهما كنعمتين إلهيتين للعباد.
أمّا «اللؤلؤ» فهو حبّة شفّافة ثمينة تنمو في داخل الصدف في أعماق البحار، وكلّما كبر حجمها زاد ثمنها، ولها إستعمالات واسعة في الطبّ، حيث كان الأطباء سابقاً يستحضرون منها بعض الأدوية التي تفيد في تقوية القلب والأعصاب، وعلاج أنواع الخفقان وتقوية الكبد وعلاج اليرقان، ومعالجة الخوف والوحشة، ورفع الرائحة النتنة من الفمّ، وكذلك الحصى في الكلية ولمثانة، ويستفاد منهما أيضاً في علاج بعض أمراض العين.
«المرجان»: فسّر البعض المرجان بأنّه اللؤلؤ الصغير، إلاّ أنّه في الحقيقة شيء آخر، فهو كائن حيّ يشبه الغصن الصغير للشجرة، وينشأ في أعماق البحار، وكان العلماء يتصوّرون لفترة زمنية أنّ هذه الشجرة نوع من أنواع النباتات، إلاّ أنّه اتّضح فيما بعد أنّه نوع من الحيوانات، بالرغم من أنّه يلتصق بالصخور الموجودة في أعماق البحر ويغطّي مساحات واسعة أحياناً وينمو تدريجيّاً بحيث يشكّل جزراً تعرف بالجزر المرجانية، وينمو المرجان غالباً في المياه الراكدة، ويصطاده الصيادون من سواحل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسّط وفي مناطق اُخرى.
وأفضل أنواع المرجان الذي يستعمل للزينة هو المرجان ذو اللون الأحمر، وكلّما كان إحمراره أشدّ كانت قيمته أغلى وأثمن، وهو مادّة خصبة لتشبيهات الشعراء، كما أنّ أردأ أنواع المرجان هو المرجان الأبيض ويوجد بكثرة، وما بين النوعين هو المرجان الأسود.
وإضافة إلى إستعمال المرجان كحليّ وزينة، فإنّ له إستعمالات طبيّة حيث ذكروا له خواصاً كثيرة منها أنّه يصنع منه بعض الأدوية الخاصّة بتقوية القلب، وكذلك دفع سمّ الأفعى، وتقوية الأعصاب، ومعالجة الإسهال، ونزيف الرحم،
[391]
وعلاج الصرع(1).
والنقطة الاُخرى التي يجدر بنا ذكرها هنا أنّ بعض المفسّرين صرّحوا بأنّ اللؤلؤ والمرجان ينشآن فقط في المياه المالحة، ممّا أوقعهم في إشكال في تفسير الآية (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) فذهبوا إلى أنّ المقصود هو أحدهما كما في الآية (31) من سورة الزخرف.
إلاّ أنّ مثل هذا التّفسير لا يدعمه دليل، حيث صرّح البعض بأنّ اللؤلؤ والمرجان يعيشان في الماء العذب والمالح على السواء.
وإستمراراً لهذا القسم من النعم الإلهيّة يشير سبحانه إلى موضوع (السفن) التي هي في الحقيقة أكبر وأهمّ وسيلة لنقل البشر وحمل الأمتعة في الماضي والحاضر، حيث يقول سبحانه: (وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام).
«جوار»: جمع جارية، وهي وصف للسفن، وحذفت للإختصار لأنّ التركيز الأكثر كان على سير وحركة السفن، لذا إعتمد هذا الوصف.
كما تطلق جارية على (الأمة)، وذلك بسبب حركتها وسعيها في إنجاز الأعمال والخدمات، وتطلق أيضاً على الفتيات الشابّات وذلك لجريان النشاط فيهنّ.
«منشآت» جمع (منشأ) وهو إسم مفعول من (إنشاء) بمعنى إيجاد، والظريف هنا أنّه في الوقت الذي يعبّر عن «منشآت» والتي تحكي أنّها مصنوعة بواسطة الإنسان، يقول سبحانه (وله) أي لله تعالى وهو إشارة إلى أنّ جميع الخواص التي يستفاد منها في صناعة السفن، والتي منحها الله للبشر المخترعين لهذه الصناعة هي لله، وكذلك فانّه هو الذي أعطى خاصية السيولة لمياه البحر والقوّة للرياح، وأنّ الله تعالى هو الذي أوجد هذه الخواص في المواد المتعلّقة بالسفينة، وهذا ما عبّر
______________________________________
1 ـ دائرة المعارف فريد وجدي وكتب اُخرى.
[392]
عنه القرآن الكريم بالتسخير أيضاً، حيث يقول سبحانه: (وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره).(1)
وفسّر البعض «منشأ» من مادّة (إنشاء) بمعنى إرتفاع الشيء، وإعتبروها إشارة إلى أشرعة السفن التي تستخدم كقوّة في حركة السفينة، وذلك بسبب دفع الرياح لها.
«أعلام»: جمع (علم) على وزن (قلم)، بمعنى (جبل) بالرغم من أنّها في الأصل بمعنى (علامة وأثر) والذي يخبر عن شيء معيّن، ولأنّ الجبال تكون واضحة من بُعد فإنّه يعبّر عنها بـ (العلم) كما أنّ لفظة (عَلَمَ) تطلق أيضاً على «الراية».
وبهذا فإنّ القرآن الكريم نوّه هنا بالسفن الكبيرة التي تتحرّك على سطح المحيطات والبحار، وعلى خلاف ما يتصوّره البعض فانّ السفن الكبيرة لا تختّص بعصر الماكنة والبخار، بل لقد إستفاد اليونانيون وغيرهم من السفن الكبيرة في نقل قواتهم وجيوشهم.
ومرّة اُخرى يكرّر سبحانه هذا السؤال العميق المغزى بقوله تعالى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
* * *
بحوث
1 ـ البحر مركز النعم الإلهيّة
لاحظنا في هذا القسم من الآيات إشارة إلى البحر وأهميّته في الحياة البشرية، وكما نعلم فإنّ مياه البحار والمحيطات تشكّل ثلاثة أرباع سطح الكرة
______________________________________
1 ـ إبراهيم، 32.
[393]
الأرضية، وهي منبع عظيم للمواد الغذائية، والطبية، وأدوات الزينة، ووسيلة مهمّة لنقل البشر وحمل البضائع، والأهمّ من ذلك فإنّ نزول الأمطار وإعتدال الهواء، وحتّى قسم من هبوب الرياح هي من بركات البحار، فإذا كان سطح البحار أقلّ أو أكثر ممّا هو عليه، فإنّ الكرة الأرضية إمّا أن تصبح يابسة أو رطبة لدرجة لا يمكن العيش فيها.
لذلك نرى أنّ القرآن الكريم قد ذكّر الإنسان ـ لعدّة مرّات وبتعبيرات مختلفة بهذه النعمة العظيمة، ودعاه للتفكير بها، حيث يقول سبحانه: (وسخّر لكم البحر)الجاثية / 12.
ويقول مرّة اُخرى: (وسخّر لكم الفلك) إبراهيم / 32.
وقال سبحانه: (سخّر لكم ما في الأرض) الحجّ / 65.
وإذا تجاوزنا كلّ ذلك فإنّ البحر هو دار العجائب حيث فيه أصغر النباتات المجهرية، وكذلك أطول أشجار العالم، وفيه أيضاً أصغر الحيوانات وكذلك أعظمها وأضخمها.
كما أنّ الحياة في أعماق البحار حيث لا ضوء ولا غذاء عجيبة إلى درجة أنّ الشخص لا يملّ من مطالعتها والإطلاع عليها، وكلّما تعرف الإنسان على شيء منها إزداد شغفاً بها، والعجيب أيضاً أنّ قسماً من الحيوانات هنالك تشعّ أضواءً وتُصنع مادّتها الغذائية على سطح البحر ومن ثمّ تترسّب، كما أنّ أطرافها محكمة ومقاومة إلى درجة أنّها تتحمّل ضغط الماء العظيم الذي إذا وضع الإنسان في حالته الطبيعيّة هناك فانّ عظامه تتحوّل إلى طحين.
2 ـ الأنهار البحرية العظيمة والكلف استيرين
من العجائب الموجودة في محيطات العالم هو وجود أنهار عظيمة وتيارات بحرية كبيرة، وأقوى هذه الأنهار يسمّى (گلف استيرين). إنّ هذا النهر العظيم
[394]
يتحرّك من سواحل أمريكا المركزية ويسير في جميع المحيط الأطلسي حتّى يصل إلى سواحل أوروبا الشمالية.
والمعروف أنّ مياهه التي تسير من مناطق قريبة من خطّ الإستواء تكون حارة بل حتّى أنّ لونها يختلف عن لون المياه المجاورة، والعجيب أنّ عرض هذا النهر البحري العظيم (الكلف استيرين) بحدود (150) كم، كما أنّ أعمق نقطة فيه تبلغ مئات الأمتار، وسرعته في بعض المناطق شديدة بحيث تبلغ في اليوم الواحد بـ 160كم.
إنّ إختلاف درجة حرارة هذا النهر مع المياه المجاورة بحدود 10 ـ 15 درجة مئوية، لذا فإنّ ساحله الغربي يسمّى بالجدار البارد.
والكلف أستيرين يسبّب رياحاً حارّة ويدفع قسماً كبيراً من حرارته باتّجاه مدن أوروبا الشمالية، حيث يؤثّر على مناخ تلك البلدان بحيث يكون معتدلا للغاية، ويحتمل أن يكون العيش صعباً للغاية في هذه المناطق لو لم يوجد هذا المجرى العظيم.
ونكرّر مرّة اُخرى أنّ (الكلف استيرين) هو أحد الأنهار في المحيطات، وهناك أنهار اُخرى كثيرة في بحار ومحيطات العالم.
إنّ السبب الأساس في تكوين هذه الأنهار البحرية هو إختلاف حرارة المنطقة الإستوائية والمناطق القطبية والتي توجد هذه الحركة في مياه البحار.
ويمكن إستيعاب هذا الموضوع بتجربة بسيطة:
فإذا كان لدينا ماء في وعاء كبير، ووضعنا في جانب منه قطعة ثلجية، وفي الجهة الاُخرى قطعة حديدية حارّة، ووضعنا على سطح الماء قليلا من التبن، فإنّنا سنلاحظ ظهور حركة على سطح الماء حيث يتحرّك الماء ببطء من المنطقة الحارّة باتّجاه المنطقة الباردة.
إنّ مثل هذه الحالة تحصل في كلّ بحار العالم، وهي مصدر ظهور هذه الأنهار
[395]
البحرية.
والعجيب أنّ هذه الأنهار العظيمة لا تمتزج مع المياه حولها إلاّ قليلا، وتسير آلاف الكيلومترات على هذه الصورة، وبذلك تعبّر عن مصداقية الآية الكريمة (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان).
والملفت للنظر أنّ في نقطة التقاء هذه المياه الحارّة مع المياه الباردة، تحدث ظاهرة مفيدة جدّاً للإنسان، وهي حدوث حالة من الإغماء أو الموت الجماعي للحيوانات المجهرية المعلّقة في الماء وذلك في نقطة التماس والإلتقاء بين المياه الحارّة والمياه الباردة وبهذا تتوفّر في هذه المناطق مواد غذائية كثيرة لا حصر لها وتكون سبباً في جذب قطعان الأسماك الكبيرة، حيث يقصد الصيادون هذه المناطق للإستفادة من صيد هذه الحيوانات، وتعتبر هذه المنطقة من أفضل المناطق في العالم لصيد الأسماك(1).
وهذا يمثّل أحد التفاسير للآيات أعلاه، وهو لا يتنافى مع التفاسير الاُخرى، ولذا يمكن الجمع بينهما.
3 ـ تفسير من أعماق الآيات
نقل في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية (مرج البحرين يلتقيان) أنّه قال: «وعلي وفاطمة (عليهما السلام) بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه. (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) قال: الحسن والحسين»(2).
ونقل هذا المعنى عن بعض أصحاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير الدرّ المنثور(3).
ونقله العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان مع إختلاف يسير.
______________________________________
1 ـ دائرة المعارف (الثقافية) ج12 ص1228، وكذلك مجلة الميناء والبحر عدد 4 ص100 بالإضافة إلى مصادر اُخرى.
2 ـ تفسير القمّي، ج2، ص344.
3 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص142.
[396]
ومن هنا نعلم أنّ القرآن الكريم له بطون، وأنّ آية واحدة يمكن أن تكون لها معان متعدّدة بل عشرات المعاني. والتّفسير الأخير هو من بطون القرآن، ولا يتنافى مع المعاني الظاهرية له.
* * *
[397]
الآيات
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان ( 26 ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَـلِ وَالإكْرَامِ( 27 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ( 28 ) يَسْئَلُهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ كُلَّ يَوْم هُوَ فِى شَأْن ( 29 ) فَبِأَىِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ( 30 )
التّفسير
كلّ شيء هالك إلاّ وجهه:
إستمراراً لشرح النعم الإلهيّة، في هذه الآيات يضيف سبحانه قوله: (كلُّ من عليها فان) وهنا يتساءل كيف يكون الفناء نعمة إلهية؟
وللجواب على هذا السؤال نذكر ما يلي: يمكن ألاّ يكون المقصود بالفناء هنا هو الفناء المطلق، وإنّما هو الباب الذي يطلّ منه على عالم الآخرة، والجسر الذي لابدّ منه للوصول إلى دار الخلد، بلحاظ أنّ الدنيا بكلّ نعمها هي سجن المؤمن، والخروج منها هو التحرر من هذا السجن المظلم.
أو أنّ النعم الإلهيّة الكثيرة ـ المذكور سابقاً ـ يمكن أن تكون سبباً لغفلة البعض وإسرافهم فيها بأنواع الطعام والشراب والزينة والملابس والمراكب وغير
[398]
ذلك. ممّا يستلزم تحذيراً إلهيّاً للإنسان، بأنّ هذه الدنيا ليست المستقرّ، فالحذر من التعلّق بها، ولابدّ من الإستفادة من هذه النعم في طاعة الله .. إنّ هذا التنبيه والتذكير بالرحيل عن هذه الدنيا هو نعمة عظيمة.
الضمير في (عليها) يرجع إلى الأرض التي ورد ذكرها في الآيات السابقة، بالإضافة إلى القرائن الاُخرى الموجودة، لذا فهو واضح.
كما أنّ المقصود (من عليها) هم الجنّ والإنس مع العلم أنّ بعض المفسّرين إحتملوا أنّ الحيوانات والكائنات الحيّة جميعاً مشمولة بهذا المعنى.
وبما أنّ كلمة (من) تستعمل غالباً للعاقل، لذا فالمعنى الأوّل هو الأنسب.
صحيح أنّ مسألة الفناء لا تنحصر بالإنس والجنّ فقط، ولا تختّص بالكائنات الموجودة على الأرض فحسب، حيث يصرّح القرآن الكريم بأنّ أهل السماء والأرض جميعاً يفنون، وذلك في قوله: (وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه)،(1) ولكن لمّا كان الحديث يدور حول أهل الأرض، لذا فهم المقصودون.
ويضيف في الآية اللاحقة قوله سبحانه: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام).
«وجه» معناه اللغوي معروف وهو القسم الأمامي للشيء بحيث يواجهه الإنسان في الطرف المقابل، وإستعمالها بخصوص لفظ الجلالة يقصد به (الذات المقدّسة).
فسّر البعض (وجه ربّك) بمعنى الصفات الإلهية المقدّسة، التي عن طريقها تنزل نعم وبركات الله على الإنسان كالرحمة والمغفرة والعمل والقدرة.
ويحتمل أن يكون المقصود هي الأعمال التي تنجز من أجل الله، وبناءً على هذا فالجميع يفنى، والشيء الباقي هي الأعمال التي تنجز بإخلاص ولرضى الله
______________________________________
1 ـ القصص، 88.
[399]
تعالى ..
إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب.
أمّا (ذو الجلال والإكرام) والذي هو وصف لـ (الوجه) فإنّه يشير إلى صفات الجمال والجلال لله سبحانه، لأنّ (ذو الجلال) تنبّئنا عن الصفات التي يكون الله أسمى وأجلّ منها (الصفات السلبية). وكلمة «الإكرام» تشير إلى الصفات التي تظهر حسن وقيمة الشيء، وهي الصفات الثبوتية لله سبحانه كعلمه وقدرته.
وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية بصورة عامّة يصبح كالآتي: إنّ الباقي في هذا العالم هو الذات المقدّسة لله سبحانه، والتي تتّصف بالصفات الثبوتية والمنزّهة عن الصفات السلبية.
كما فسّر البعض أنّ (ذو الإكرام) هو إشارة إلى الألطاف والنعم الإلهية التي تفضّل الله بها وأكرمها لخاصّة أوليائه، ومن الممكن الجمع بين هذه المعاني المختلفة للآية أعلاه.
ونقرأ في حديث أنّ رجلا كان يصلّي في محضر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث دعا الله سبحانه كذلك: «اللهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلاّ أنت المنّان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، ياحيّ ياقيّوم».
فقال الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)لأصحابه: «أتدرون بأي اسم دعا الله؟» فقالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «والذي نفسي بيده، لقد دعا الله بإسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»(1).
ثمّ يخاطب الخلائق مرّة اُخرى: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
ومضمون الآية اللاحقة في الحقيقة هي نتيجة للآيات السابقة، حيث يقول
______________________________________
1 ـ تفسير روح المعاني، ج27، ص95.
[400]
سبحانه: (يسأله من في السموات والأرض).
ولماذا لا يكون كذلك في الوقت الذي يفنى الجميع ويبقى وحده سبحانه، وليس هذا في نهاية العالم فقط، وإنّما الآن أيضاً فانّ الكائنات فانية في مقابله وبقاءها مرتبط بمشيئته، وإذا أعرض بلطفه فسيتلاشى الكون بأجمعه، وعلى هذا فهل يوجد أحد سواه يطلب أهل السماوات والأرض قضاء حوائجهم منه ويسألونه تدبير شؤونهم؟!
التعبير بـ (يسأله) جاء بصيغة المضارع، وهو دليل على أنّ السؤال والطلب في الكائنات ومستمر من الذات الإلهيّة المقدّسة، والجميع يستلهمون من مبدأ فيضه، ولسان حالهم يطلب الوجود والبقاء وقضاء الحوائج، وهذا شأن الموجود الممكن الذي هو مرتبط بواجب الوجود ليس في الحدوث فقط. وإنّما في البقاء أيضاً.
ثمّ يضيف سبحانه: (كلّ يوم هو في شأن).
نعم إنّ خلقه مستمر، وإجاباته لحاجات السائلين والمحتاجين لا تنقطع، كما أنّ إبداعاته مستمرّة فيجعل الأقوام يوماً في قوّة وقدرة، وفي يوم آخر يهلكهم، ويوماً يعطي السلامة والشباب، وفي يوم آخر الضعف والوهن، ويوماً يذهب الحزن والهمّ من القلوب وآخر يكون باعثاً له. وخلاصة الأمر أنّه في كلّ يوم ـ وطبقاً لحكمته ونظامه الأكمل ـ يخلق ظاهرة جديدة وخلقاً وأحداثاً جديدة.
والإلتفات إلى هذه الحقيقة من جهة يوضّح إحتياجاتنا المستمرّة لذاته المقدّسة، ومن جهة اُخرى فإنّه يذهب اليأس والقنوط من القلوب، ومن جهة ثالثة فإنّه يلوي الغرور ويكسر الغفلة في النفوس.
نعم، إنّه سبحانه له في كلّ يوم شأن وعمل.
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين ذكروا قسماً من هذا المعنى الواسع تفسيراً للآية، إلاّ أنّ البعض ذكر في تفسيرها، أنّها مغفرة الذنوب، وذهاب الحزن، وإعزاز
[401]
أقوام وإذلال آخرين فقط.
والبعض الآخر قال: إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.
والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال: إنّ لله جيوشاً ثلاثة: جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الاُمّهات، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الاُمّهات، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.
وكما قلنا فإنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.
ونقرأ في رواية لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال في أحد خطبه: «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن، من إحداث بديع لم يكن»(1).
ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسيره الآية الكريمة: «من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرّج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين»(2).
ولابدّ من الإنتباه لهذه النقطة أيضاً: إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة، وكذلك الساعات واللحظات، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.
كما أنّ البعض ذكروا شأناً نزولياً للآية، وهو أنّها نزلت ردّاً على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ الله عزّوجلّ يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت، ولا يصدر أي حكم(3). فالقرآن الكريم يقول: إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.
ومرّة اُخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لإحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه: (فبأي آلاء ربّكما تكذّبان).
* * *
______________________________________
1 ـ اُصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين، ج5، ص193.
2 ـ مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث، ونقل هذا الحديث أيضاً في روح المعاني من صحيح البخاري.
3 ـ مجمع البيان، ج9، ص202.
[402]
بحوث
1 ـ ما هي حقيقة الفناء؟
ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلاّ الله» ليس بمعنى الفناء المطلق، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضاً أو أنّ التراب الناشيء من بدنه بعد الموت سينعدم أيضاً. إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(1).
ومن جهة اُخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(2).
ويذكر سبحانه في آية اُخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اُخرى بأمر الله(3).
وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاُخرى بمعنى إضطراب نظام الجسم والروح وقطع الإرتباط بينهما وإضطراب عالم الخلقة كذلك، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.
2 ـ إستمرار الخلق والإبداع
قلنا: إنّ الآية الكريمة: (كلّ يوم هو في شأن) تدلّ على دوام الخلقة وإستمرارالخلق، وأنّها مبعث أمل من جهة، ونافية للغرور من جهة اُخرى، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيراً لبعث الأمل في النفوس، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبي ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياً (عليه السلام)جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة، ثمّ أعقبه إبنه الإمام الحسن (عليه السلام) حيث
______________________________________
1 ـ المؤمنون، 100.
2 ـ سورة يس، 51.
3 ـ سورة يس، 79.
[403]
خاطب آباذر(رضي الله عنه) بقوله «ياعمّاه» تكريماً له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله لأبي ذرّ: «ياعمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(1)...
ونقرأ أيضاً أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمام (عليه السلام) عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال: الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني اُميّة، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسين (عليه السلام): (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(2).
وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي آية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.
وثمّة قصّة اُخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الاُمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد، ورجع إلى البيت محزوناً، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة، فسأله عمّا به، فحدّث غلامه بالقصّة، فأجابه: إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك ... فطلبه الأمير وسأله، فأجابه الغلام: ياأمير، شأنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحيّ من الميّت، ويخرج الميّت من الحيّ، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويبتلي معافى، ويعافي مبتلى، ويعزّ ذليلا، ويذلّ عزيزاً، ويفقر غنيّاً، ويغني فقيراً ..
فقال الأمير: «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(3).
______________________________________
1 ـ الغدير، ج8، ص301.
2 ـ الكامل لإبن الأثير، ج4، ص40.
3 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6337.
[404]
3 ـ الحركة الجوهرية
بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة: (كلّ يوم هو في شأن).
التوضيح: يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي: (أين، كيف، كم، وضع).
وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بإنتقاله، وهذه هي مقولة (الأين)، أو بنموّه أو زيادة كيمّته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف»، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».
وقد كان سائداً أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبداً، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة، إلاّ أنّ عوارضه قد تتغيّر، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره، بل في اعراضه.
لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية، وقالوا: إنّ أساس الحركة هي الذات، الجوهر، والتي تظهر آثارها في العوارض.
وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي إستدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال: إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة، أو بتعبير آخر: إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائماً، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئاً واحداً، وبناءً على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجوداً جديداً، إلاّ أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة، أو بتعبير آخر: إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلاّ مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّداً.
[405]
وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّاً تشمل الذات والجوهر.
والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.
ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا، إلاّ أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه، ونحن مرتبطون به دائماً ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى (كلّ يوم هو في شأن).
ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءاً من المفهوم الواسع للآية الكريمة.
* * *