00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النجم من أول السورة ـ آية 25 من ( ص 201 ـ 244 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[201]

سُورَة النَّجم

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها اثنان وَسَبعُون آية 

[203]

«سورة النّجم»

محتوى السّورة:

هذه السورة كما يقول بعض المفسّرين هي أوّل سورة تلاها النّبي جهراً وبصوت عال في حرم مكّة بعد أن أضحت دعوته علناً .. وأصغى إليها المشركون وسجد لها جميع المسلمين حتّى المشركون(1).

وهذه السورة كما يعتقد بعض المفسّرين نزلت في شهر رمضان من السنة الخامسة للبعثة(2)!

وقال بعضهم إنّ هذه السورة هي السورة الاُولى التي نزلت فيها سجدة واجبة بمكّة(3). لكن مع ملاحظة أنّ سورة العلق كما هو معروف نزلت قبلها وفي آخرها آية سجدة واجبة فإنّ هذا القول يبدو بعيداً.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه السورة ـ لكونها مكيّة ـ تحمل بين ثناياها بحوثاً في الاُصول الإعتقادية خاصّة «النبوّة والمعاد» وفيها تهديد ووعيد وإنذارات مكرّرة لإيقاظ الكفّار وردعهم عن غيّهم!.

ويمكن تقسيم محتوى هذه السورة إلى سبعة أقسام:

1 ـ بداية السورة تتحدّث بعد القَسَم العميق المغزى. عن حقيقة الوحي وإتّصال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرةً بمُنزل الوحي «جبريل» وتبيّن ذلك بجلاء، وتبرىء ساحة النّبي المقدّسة عن كلّ شيء سوى الوحي المنزل عليه.

______________________________________

1 ـ تفسير روح البيان، ج9، ص208.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ تفسير المراغي، ج27، ص41.

[204]

2 ـ وفي قسم آخر من هذه السورة يجري الكلام على معراج الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وجوانب منه بعبارات موجزة وغزيرة المعنى، له علاقة مباشرة بالوحي أيضاً.

3 ـ ثمّ يجري الكلام عن خرافات المشركين في شأن الأصنام وعبادة الملائكة واُمور اُخر ليس لها أي أساس إلاّ الهوى والهوس، ويعنّف المشركين في هذا المجال ويحذّرهم من عبادة الأوثان ويثبت هذا المعنى بمنطق قوي متين.

4 ـ وفي قسم آخر منها يفتح القرآن سبيل التوبة بوجه المنحرفين وعامّة المذنبين، ويؤمّلهم بمغفرة الله الواسعة، ويؤكّد على أنّ كلاًّ مسؤول عن عمله، ولا تزر وازرة وزر اُخرى.

5 ـ وإكمالا لهذه الأهداف يأتي القسم الخامس من هذه السورة ليبيّن جوانب من مسألة ـ المعاد ـ ويقيم دليلا واضحاً على هذه المسألة بما هو موجود في النشأة الاُولى ـ الدنيا ـ .

6 ـ وكعادة القرآن في سائر السور ترد في هذه السورة إشارات لعواقب الاُمم المؤلمة لعداوتهم للحقّ وعنادهم ـ كما حدث لقوم نوح وثمود وعاد وقوم لوط ليتيقّظ الغافلون من نومتهم عن هذا الطريق.

7 ـ وأخيراً فإنّ السورة تختتم بالأمر بالسجود لله وعبادته، ومن إمتيازات هذه السورة قِصَرُ آياتها وإيقاع آياتها الخاصّ الذي ينفذ ـ بمفاهيمها ـ نفوذاً عميقاً، فيوقظ قلوب الغافلين ويحملها معه إلى السماوات العلى.

وتسمية هذه السورة بـ «النجم» هي لورود هذا اللفظ في الآية الاُولى من السورة ذاتها.

 

فضيلة تلاوة هذه السورة:

وردت في الرّوايات الإسلامية فضائل مهمّة لتلاوة هذه السورة، ففي حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة النجم اُعطي من الأجر عشر حسنات

[205]

بعدد من صدّق بمحمّد ومن جحد به»(1).

ونقرأ في بعض الرّوايات عن الإمام الصّادق (عليه السلام) أنّه قال: «من كان يدمن قراءة «والنجم» في كلّ يوم أو في كلّ ليلة عاش محموداً بين الناس وكان مغفوراً له وكان محبّباً بين الناس»(2).

ومن المسلّم به أنّ مثل هذا الثواب العظيم هو لاُولئك الذين يتّخذون تلاوة هذه السورة وسيلة للتفكير، ثمّ العمل، وأن يطبّقوا تعليمات هذه السورة على أنفسهم في حياتهم.

 

* * *

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص170.

2 ـ بحار الأنوار، ج92، ص305.

[206]

الآيات

 

 

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ( 1 ) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( 2 ) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( 3 ) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ( 4 )

 

التّفسير

ممّا يجدر بيانه أنّ السورة السابقة «الطور» ختمت بكلمة «النجوم» وهذه السورة بُدئت بـ «والنجم» ـ إذ أقسم به الله قائلا: (والنجم إذا هوى)!

وهناك إحتمالات كثيرة في المراد من «النجم» هنا، فكلّ من المفسّرين يختار تفسيراً. إذ قال بعضهم بأنّ المراد منه هو «القرآن المجيد» لأنّه يتناسب والآيات التي تلي الآية محلّ البحث، وهي في شأن الوحي، والتعبير بالنجم هو لأنّ العرب يستعملون هذا اللفظ في ما يتمّ في مراحل أو فواصل مختلفة ويسمّونها (أي الفواصل) «نجوماً» (وتستعمل كلمة النجوم على أقساط الدين واُمور اُخر من هذا القبيل أيضاً).

وحيث أنّ القرآن نزل خلال 23 سنةً في مراحل ومقاطع مختلفة على

[207]

النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد سمّي نجماً والمراد من «إذا هوى» نزوله على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفسّره آخرون ببعض الكواكب في السماء كالثريا(1) أو الشعرى(2) لأنّ لكلّ منهما أهميّته الخاصّة!.

وقال بعضهم بأنّه الشهاب الثاقب» الذي ترمى به الشياطين لئلاّ تصعد في السماء والعرب يسمّون الشهاب نجماً.

إلاّ أنّه لا دليل مقبول على أيّ من هذه التفاسير الأربعة بل الظاهر من الآية ما يقتضيه إطلاق كلمة «والنجم» القسم بنجوم السماء كافّة التي هي من أدلّة عظمة الله ومن أسرار عالم الوجود الكبرى ومن المخلوقات العظيمة لله تعالى.

وليست هذه هي المرّة الاُولى التي يقسم القرآن فيها بموجودات عظيمة من عالم الخلق والإيجاد، ففي آيات اُخر أيضاً أقسم القرآن بالشمس والقمر وأمثالها!

والتعويل على غروبها واُفولها مع أنّ طلوعها وإشراقها يسترعي النظر أكثر، هو لأنّ غروب النجم دليل على حدوثه كما أنّه دليل على نفي عقيدة عبادة الكواكب كما ورد في قصّة إبراهيم الخليل (عليه السلام) (فلمّا جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لا اُحبّ الآفلين)(3)/

وينبغي الإلتفات إلى هذا المعنى، وهو أنّ «الطلوع» في اللغة يعبّر عنه بـ «النجم» لأنّه كما يقول الراغب في مفرداته: أصل النجم هو الكوكب الطالع، ولذلك فإنّهم يعبّرون عن ظهور النبات على الأرض والسنّ في اللثّة ووضوح النظرية في الذهن بـ نَجَمَ!

______________________________________

1 ـ الثريا مجموعة النجوم السبعة التي ستّة منها واضحة وواحد منها خافت النور وعادةً يختبر بها قوّة البصر فيمتحن الناس بالنظر إليها، والقسم بهذه المجموعة من النجوم لعلّه لمسافتها البعيدة عنّا ..

2 ـ «الشعري»: واحد من نجوم السماء واللامعة وسيأتي البحث عن هذا النجم ذي ذيل الآية (49) من هذه السورة ذاتها بإذن الله، والقسم بهذا النجم لعلّه لإشراقه الشديد ولخصائصه المتميّز بها.

3 ـ الأنعام، الآية 76.

[208]

وهكذا فإنّ الله أقسم بطلوع الكواكب وغروبها أيضاً، لأنّ ذلك دليل على حدوثها وأسارتها في قبضة قوانين الخلق(1).

لكن لنعرف لِمَ أقسم الله بالنجم؟ الآية التالية توضّح ذلك فتقول: (ما ضلّ صاحبكم وما غوى).

فهو يخطو في مسير الحقّ دائماً، وليس في أقواله ولا في أعماله أيّ إنحراف!

والتعبير بـ «الصاحب» أي الصديق أو المحبّ لعلّه إشارة إلى أنّ ما يقوله نابع من الحبّ والشفقة!

والكثير من المفسّرين لم يفرّقوا بين «ضلّ» و «غوى» بل عدّوا كلاًّ منهما مؤكّداً للآخر، إلاّ أنّ بعضهم يعتقد أنّ بينهما فرقاً وتفاوتاً! فالضلال هو أن لا يجد الإنسان طريقاً إلى هدفه، والغواية هي أن لا يخلو طريقه من إشكال أو لا يكون مستقيماً. فالضلال كالكفر مثلا والغواية كالفسق والذنب .. إلاّ أنّ «الراغب» يقول في الغي: انّه الجهل الممزوج بالإعتقاد الفاسد.

فبناءً على ذلك فالضلالة معناها مطلق الجهل وعدم المعرفة، إلاّ أنّ الغواية جهل ممزوج أو مشوب بالعقيدة الباطلة.

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه يريد بهذه العبارة الموجزة أن ينفي كلّ نوع من أنواع الإنحراف والجهل والضلال والخطأ عن نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن يحبط ما وجّهه أعداؤه إليه من التّهم في هذا الصدد.

ومن أجل التأكيد على هذا الموضوع وإثبات أنّ ما يقوله هو من الله فإنّ القرآن يضيف قائلا: (وما ينطق عن الهوى).

وهذا التعبير مشابه التعبير الإستدلالي الوارد في الآية آنفة الذكر في صدد نفي الضلالة والغواية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنّ أساس الضلال غالباً ما يكون من اتّباع

______________________________________

1 ـ وما ورد في بعض الرّوايات من أنّ المراد بالنجم هو شخص النّبي والمراد من هوى هو نزوله من السماء في ليلة المعراج، فهذا التّفسير في الحقيقة يعدّ من بطون الآية لا من ظاهرها!

[209]

الهوى.

ونقرأ في سورة ص الآية (26) منها: (ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله).

كما ورد في حديث معروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أمير المؤمنين: «أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ»(1).

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ جملة (ما ضلّ صاحبكم) ناظره إلى نفي الجنون عن النّبي وجملة (وما غوى) ناظرة إلى نفي الشعر عنه لأنّه ورد في الآية (224) من سورة الشعراء قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) (أي الشعراء من أهل الدنيا) وأمّا جملة (وما ينطق عن الهوى) فناظرة إلى نفي الكهانة، لأنّ الكهنة أفراد يعبدون الهوى.

ثمّ تأتي الآية التالية لتصرّح: (إن هو إلاّ وحي يوحى).

فهو لا يقول شيئاً من نفسه، وليس القرآن من نسج فكره! بل كلّ ما يقوله فمن الله، والدليل على هذا الإدّعاء كامن في نفسه. فالتحقيق في آيات القرآن يكشف بجلاء أنّه لن يستطيع إنسان مهما كان عالماً ومفكّراً ـ فكيف بالاُمّي الذي لم يقرأ ولم يكتب في محيط مملوء بالخرافات ـ أن يأتي بكلام غزير المحتوى كالقرآن، إذ ما يزال بعد مضي القرون والعهود ملهماً للأفكار، ويمكنه أن يكون أساساً لبناء مجتمع صالح مؤمن سالم!

وينبغي الإلتفات ـ ضمناً ـ إلى أنّ هذا القول ليس خاصّاً بآيات القرآن، بل بقرينة الآيات السابقة يشمل سنّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً وأنّها وفق الوحي، لأنّ هذه الآية تقول بصراحة «وما ينطق عن الهوى».

والحديث الطريف التالي شاهد آخر على هذا المدّعى.

يقول العلاّمة السيوطي في تفسيره الدرّ المنثور: أمر رسول الله يوماً أن توصد

______________________________________

1 ـ نهج البلاغة، ومن كلام له(عليه السلام) رقم 42.

[210]

جميع الأبواب المشرفة على المسجد ـ من بيوت الصحابة ـ سوى باب علي فكان هذا الأمر عزيزاً على المسلمين حتّى أنّ حمزة عمّ النّبي عتب عليه وقال: كيف أوصدت أبواب عمّك وأبي بكر وعمر والعبّاس؟! وتركت باب علي مفتوحاً «وفضّلته على الآخرين؟!» فلمّا علم النّبي أنّ هذا الأمر صعب عليهم دعا الناس إلى المسجد وخطب خطبة عصماء وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أيّها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ثمّ قرأ: (والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى)»(1).

وهذا الحديث الذي يكشف عن علوّ مقام أمير المؤمنين علي بين جميع الاُمّة الإسلامية بعد الرّسول يدلّ على أنّه ليست أقوال النّبي طبق الوحي فحسب بل حتّى أعماله وأفعاله وتقديره وسيرته أيضاً.

 

* * *

______________________________________

1 ـ تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص122 من شيء من التلخيص.

[211]

الآيات

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ( 5 ) ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى ( 6 ) وَهُوَ بِالاُْفُقِ الاَْعْلَى ( 7 ) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( 8 ) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ( 9 )فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( 10 ) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( 11 )أَفَتُمَرُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ( 12 )

 

التّفسير

أوّل لقاء مع الحبيب:

تعقيباً على الآيات المتقدّمة التي تحدّثت عن نزول الوحي على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يجري الكلام في هذه الآيات عن معلّم الوحي.

ولكن ينبغي قبل كلّ شيء الإلتفات إلى أنّ هذه الآيات تبدو لأوّل وهلة وكأنّها محاطة بهالة من الإبهام ممّا يستلزم أن تبحث في معطياتها ومفاهيمها بدقّة كاملة لإزالة الإبهام عنها، فتتناول أوّلا تفسيرها الإجمالي ثمّ نتناولها بالتفصيل!

تقول الآية: إنّ من له تلك القدرة العظيمة هو الذي علم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (علّمه شديد القوى).

وللتأكيد أكثر تضيف الآية بعدها إنّه ذو قدرة خارقة ومتسلّط على كلّ شيء:

[212]

(ذو مرّة فاستوى).

وقد علّمه هذا التعليم عندما كان بالاُفق الأعلى: (وهو بالاُفق الأعلى).

ثمّ إقترب وإقترب حتّى كان بفاصلة قوسين من معلّمه أو أقل (ثمّ دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى) ثمّ أنّ الله تعالى أنزل عليه الوحي (فأوحى إلى عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى).

وهناك في تفسير هذه الآيات نظريتان إحداهما مشهورة، والاُخرى مغمورة .. ولكن يلزمنا أن نتناول بعض مفردات الآيات بالإيضاح ثمّ بيان التّفسيرين المختلفين.

«المِرّة» .. كما يقول أرباب اللغة وأهلها معناها الفَتل، وحيث أنّ الحبل كلّما فُتل أكثر كان أشدّ إحكاماً وقوّة .. فإنّ هذه الكلمة إستعملت في الاُمور المادية أو المعنوية المحكمة والقويّة.

وقال بعض المفسّرين: المِرّة مأخوذة من المرور، فمعناها العبور، لكن هذا الرأي لا ينسجم مع ما كتبه أهل اللغة في هذا الصدد.

«تدَلى» فعل مأخوذ من التدلّي على وزن تجلّي، ومعناه كما يقول الراغب في مفرداته الإقتراب، فبناءً على ذلك فهو تأكيد على جملة «دنا» الواردة قبله، وكلا الفعلين بمعنى واحد تقريباً.

على أنّ بعض المفسّرين فَرّق بين الفعلين في المعنى فقال: «التدلّي» معناه التعلّق بالشيء كتعلّق الثمر بالشجر ولذلك يقال في الأثمار المتدلّية من أشجارها «دوالي»(1).

«قاب» بمعنى مقدار ـ و «قوس» (معروف معناه) وهو ما يوضع في وترة السهم ليُرمى به فمعنى «قاب قوسين» .. قدر طول قوسين.

______________________________________

1 ـ مقتبس من «روح المعاني» ذيل الآيات محلّ البحث.

[213]

وفسّر بعضهم «القوس» بأنّه المقياس فهو مشتقّ من القياس، وحيث انّ مقياس العرب [الذراع] وهو ما بين الزند والمرفق فيكون معنى «قاب قوسين» على هذا الرأي: مقدار ذراعين.

وورد في بعض كتب اللغة لكلمة «قاب» معنى آخر، هو الفاصلة بين محل اليد من القوس إلى نقطة إنتهاء القوس.

فبناءً على هذا فإنّ «قاب قوسين» معناه مجموع إنحناء القوس (فلاحظوا بدقّة)(1).

ـ بعد هذا كلّه لنرجع إلى التّفسيرين ـ

فالنظرية المشهورة الاُولى تقول أنّ معلّم النّبي أمين الوحي جبرئيل الذي له قدرة خارقة.

وكان يأتي النّبي بصورة رجل حسن الطلعة ويبلّغه رسالة الله، وظهر للنّبي بصورته الحقيقيّة مرّتين طوال فترة رسالة النّبي وعمره الشريف.

المرّة الاُولى هي ما تشير إليه الآيات محلّ البحث، إذ ظهر في الاُفق الأعلى فطبق المشرق والمغرب جميعهما، وكان عظيماً حتّى أنّه هال النبي، ثمّ دنا فاقترب من النّبي فلم يكن بينهما مسافة بعيدة إلاّ بمقدار ذراعين، والتعبير بـ «قاب قوسين» كناية عن منتهى الإقتراب.

والمرّة الثانية ـ ظهر له ـ في معراجه (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنبيّن ذلك في الآيات المقبلة التي تتحدّث عن هذا الأمر بإذن الله.

ويرى بعض المفسّرين ممّن إختار هذه النظرية بأنّ اللقاء الأوّل الذي ظهر له جبرئيل فيها بصورته الحقيقيّة كان في غار حراء الواقع في جبل النور(2).

______________________________________

1 ـ قالوا: هنا قلب في الكلام، وأصله فكان قابي قوس.

2 ـ هذا التّفسير وهو أنّ المراد من «شديد القوى» «جبرئيل» إختاره جماعة كثيرون منهم الطبرسي في مجمع البيان، والبيضاوي في أنوار التنزيل ، والزمخشري في الكشّاف، والقرطبي في تفسيره روح البيان، والفخر الرازي في تفسيره الكبير، وسيّد قطب في تفسيره في ظلال القرآن، والمراغي في تفسيره وتعبيرات العلاّمة الطباطبائي في ميزانه تميل إلى هذا الرأي أيضاً ..

[214]

إلاّ أنّ هذه النظرية بالرغم ممّا لها من أتباع كثيرين لا تخلو من إشكالات مهمّة:

1 ـ في الآية: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) مرجع الضمير في «عبده» هو الله بلا شكّ، مع أنّه لو كان «شديد القوى» يعني جبرئيل فإنّ جميع الضمائر في الآيات بعده تعود عليه .. صحيح أنّه يمكن أن يعرف أنّ موضوع هذه الآية خارج عن الآيات الاُخر من خلال القرائن الموجودة فيها، إلاّ أنّ إضطراب السياق في الآيات، وعدم تناسق عود الضمائر خلاف الظاهر قطعاً!

2 ـ (شديد القوى): هذا التعبير الذي يعني من له قوى خارقة إنّما يناسب ذات الله المقدّسة فحسب. صحيح أنّ الآية (20) من سورة التكوير تعبّر عن جبرئيل بـ (ذي قوّة عند ذي العرش مكين) إلاّ أنّ بين (شديد القوى) الواسع في مفهومه وبين «ذي قوّة» المذكورة فيه كلمة «قوّة» بصيغة التنكير والإفراد فرقاً كبيراً.

3 ـ جاء في الآيات التالية أنّ النّبي رآه «عند سدرة المنتهى» (في السماء العليا) ولو كان المقصود منه جبرئيل فهو كان مع النّبي في معراجه من بداية المعراج إلى المنتهى، ولم يره النّبي عند سدرة المنتهى فحسب .. إلاّ أن يقال رآه في الأرض بصورة بشر وفي السماء بصورته الحقيقيّة .. ولا قرينة على ذلك في الآيات.

4 ـ التعبير بـ «علّمه» ـ وأمثاله لم يرد في القرآن في شأن جبرئيل أبداً، بل هو في شأن تعليم الله نبيّه محمّداً وأنبياءه الآخرين، وبتعبير آخر فإنّ جبرئيل لم يكن معلّم النّبي محمّد، بل أمين وحيه، ومعلّمه الله فحسب.

[215]

5 ـ صحيح أنّ جبرئيل ملك له مقام رفيع، إلاّ أنّه من المقطوع به أنّ مقام النّبي أعلى منه شأناً: كما ورد في قصّة المعراج أنّه كان يصعد ـ في المعراج ـ مع النّبي فوصلا إلى نقطة فتوقّف جبرئيل عن الصعود وقال للنبي: «لو دنوت قيد أنملة لاحترقت» إلاّ أنّ النّبي واصل سيره وصعوده!.

فمع هذه الحال فإنّ رؤية جبرئيل في صورته الأصلية لا تتناسب والأهميّة المذكورة في هذه الآيات، وبتعبير أكثر بساطةً: لم تكن رؤية النّبي لجبرئيل على تلك الأهميّة .. فمع أنّ هذه الآيات اهتمّت بهذه الرؤية إهتماماً بالغاً!

6 ـ جملة: (ما كذب الفؤاد ما رأى) هي أيضاً دليل على الرؤية القلبية  لا البصرية الحسّية لجبرئيل.

7 ـ ثمّ بعد هذا كلّه فما ورد من الرّوايات عن أهل البيت لا يفسّر هذه الآيات بأنّها في رؤية النّبي لجبرئيل، بل الرّوايات موافقة للتفسير الثاني القائل بأنّ المراد من هذه الآيات الرؤية الباطنية (القلبية) لذات الله المقدّسة التي تجلّت للرسول وتكرّرت في المعراج واهتزّ لها النّبي وهالته(1).

ينقل الشيخ الطوسي في أماليه عن ابن عبّاس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لمّا عُرِج بي إلى السماء دنوت من ربّي عزّوجلّ حتّى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى»(2).

وينقل الشيخ الصدوق (رحمه الله) في علل الشرائع المضمون ذاته عن هشام بن الحكم عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) من حديث طويل أنّه قال: «فلمّا اُسري بالنّبي وكان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى رُفِعَ له حجاب من حُجُبهِ»(3).

______________________________________

1 ـ في دعاء الندبة تعبير يناسب هذا المعنى أيضاً إذ يقول: يابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى دنواً وإقتراباً من الملأ الأعلى وفي ذيل هذا الدعاء ورد بعض القاب الله «شديد القوى» إذ يقول: وأره سيّده ياشديد القوى ..

2 ـ نور الثقلين، ج5، ص149.

3 ـ المصدر السابق.

[216]

وفي تفسير علي بن إبراهيم ورد أيضاً: «ثمّ دنا ـ يعني رسول الله ـ من ربّه عزّوجلّ»(1) وقد ورد هذا المعنى في روايات متعدّدة ولا يمكن عدم الإكتراث بهذا المعنى.

كما ورد هذا المعنى في روايات أهل السنّة، إذ نقل صاحب «الدرّ المنثور» ذلك عن ابن عبّاس من طريقين(2).

فمجموع هذه القرائن يدعونا إلى إختيار التّفسير الثاني القائل بأنّ المراد من «شديد القوى» هو الله، وأنّ النّبي كان قد إقترب من الله تعالى أيضاً.

ويبدو أنّ ما دعا أغلب المفسّرين إلى الإعراض عن هذا التّفسير (الثاني) وأن يتّجهوا إلى التّفسير (الأوّل) هو أنّ هذا التّفسير فيه رائحة التجسّم، ووجود مكان لله، مع أنّه من المقطوع به أنّه لا مكان له ولا جسمَ: (لا تدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار)،(3) (أينما تولّوا فثمَّ وجه الله)،(4) (وهو معكم أينما كنتم).(5)

ولعلّ مجموع هذه المسائل أيضاً جعل بعض المفسّرين يظهر عجزه عن تفسير هذه الآيات ويقول: هي من أسرار الغيب الخفيّة علينا.

قيل أنّهم سألوا بعض المفسّرين عن تفسير هذه الآيات فقال: إذا كان جبرئيل غير قادر على بلوغ ذلك المكان فمن أنا حتّى أدرك معناه(6)؟!

ولكن بملاحظة أنّ القرآن كتاب هداية وهو نازل ليتدبّر الناس ويتفكّروا في آياته فقبول هذا المعنى مشكل أيضاً.

إلاّ أنّنا إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ المراد من هذه الآيات هو نوع من الرؤية

______________________________________

1 ـ المصدر ذاته، ص148.

2 ـ الدرّ المنثور، ج6، ص123.

3 ـ سورة الأنعام، الآية 103.

4 ـ سورة البقرة، الآية 115.

5 ـ سورة الحديد، الآية 4.

6 ـ روح المعاني، ج9، ص219.

[217]

الباطنية والقرب المعنوي الخاصّ فلا تبقى أيّة مشكلة حينئذ.

توضيح ذلك: ممّا لا شكّ فيه أنّ الرؤية الحسّية لله غير ممكنة لا في الدنيا ولا في الاُخرى .. لأنّ لازمها جسمانيّته وماديّته، ولازم ذلك أيضاً تغيّره وتحوّله وفساده وأنّه يحتاج إلى الزمان والمكان، وهو مبرّأ عن كلّ ذلك لأنّه واجب الوجود.

إلاّ أنّ الله سبحانه يمكن رؤيته بالرؤية العقلية والقلبية، وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين في جوابه على «ذعلب اليماني»: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان»(1).

لكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ الرؤية الباطنية على نحوين: رؤية عقلانية وتحصل عن طريق الإستدلال. واُخرى رؤية قلبية، وهي إدراك فوق إدراك العقل ورؤية وراء رؤيته!

هذا المقام لا ينبغي أن يُدعى بمقام الإستدلال، بل هو المشاهدة، مشاهدة قلبية باطنية، وهذا المقام يحصل لأولياء الله على درجاتهم المتفاوتة وسلسلة مراتبهم .. لأنّ الرؤية الباطنية هي على مراتب أيضاً ولها درجات كثيرة، وبالطبع فإنّ إدراك حقيقتها لمن لم يبلغ ذلك المقام في غاية الصعوبة.

ومن الآيات المتقدّمة بما فيها من قرائن مذكورة يمكن أن يستفاد أنّ نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي كان ذا مقام مشهود وفي مقام الشهود، فإنّه بلغ الأوج في طول عمره مرّتين فنال الشهود الكامل:

الأوّل: يحتمل أنّه كان في بداية البعثة، والثاني في المعراج، فبلغ مقاماً قريباً من الله وتكشّفت عنه الحجب الكثيرة، مقاماً عجز عن بلوغه حتّى جبرئيل الذي هو من الملائكة المقرّبين.

______________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 179.

[218]

وواضح أنّ تعابير مثل «فكان قاب قوسين أو أدنى» وأمثال ذلك إنّما هو كناية عن شدّة القرب، وإلاّ فإنّ الله ليس بينه وبين عبده فاصلة مكانية لتقاس بالقوس أو الذراع، و «الرؤية» في الآيات ـ هنا ـ ليست رؤية بصرية أيضاً، بل الباطنية القلبية.

وفي البحوث السابقة في تفسير «لقاء الله» الوارد في آيات متعدّدة على أنّه من ميزات يوم القيامة مراراً قلنا إنّ هذا اللقاء على خلاف ما يتصوّره أصحاب الأفكار القصيرة والعقول الضيّقة بأنّه لقاء حسّي ومادّي، بل هو نوع من الشهود الباطني وإن كان في المراحل الدنيا ولا يصل إلى مراحل لقاء الأنبياء والأولياء لله، فكيف بمرحلة شهود النّبي الكامل ليلة المعراج!!

ومع ملاحظة هذا التوضيح تزول الإشكالات على هذا التّفسير، وإذا روعيت بعض التعابير المخالفة للظاهر فلم تعامل بالمنطق الضيّق وفسّرت بما وراء المسائل المادية فما يرد من إشكالات على هذا التّفسير لا يعدّ شيئاً مهمّاً بالقياس إلى ما يرد من إشكالات على التّفسير الأوّل ..

فمع الإلتفات إلى ما قلناه نمرّ مروراً جديداً على الآيات محلّ البحث ونعالج مضمونها من هذا المنطلق والمنظار!

فعلى هذا التّفسير يبيّن القرآن نزول الوحي على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصورة التالية.

إنّ الله الذي هو شديد القوى علّم النّبي في وقت بلغ حدّ الكمال والإعتدال في الاُفق الأعلى(1).

ثمّ قرب وصار أكثر إقتراباً حتّى كان بينه وبين الله مقدار قاب قوسين أو أقل وهناك أوحى الله إليه ما أوحاه.

وحيث أنّ هذا اللقاء الباطني يصعب تصوّره لدى البعض، فانّه يؤكّد أنّ ما رآه

______________________________________

1 ـ الضمير في: فاستوى والضمير في: وهو بالاُفق الأعلى يمكن أن يعودا على شخص النبي، كما يمكن أن يعودا على ذات الله المقدّسة.

[219]

قلب النّبي كان حقّاً وصادقاً ولا ينبغي تكذيبه أو مجادلته.

وكما بيّنا فإنّ تفسير هذه الآيات بشهود النّبي الباطني لله تعالى هو أكثر صحّة وأكثر إنسجاماً وموافقة للرّوايات الإسلامية، وأكرم فضيلة للنبي، ومفهومها أجمل وألطف، والله أعلم بحقائق الاُمور(1).

ونختم هذا البحث بحديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآخر عن علي (عليه السلام).

1 ـ سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «هل رأيت ربّك؟ فأجاب: «رأيته بفؤادي»(2).

2 ـ وفي خطبة الإمام علي (179) في نهج البلاغة إذ سأله ذعلب اليماني: هل رأيت ربّك ياأمير المؤمنين؟ فأجاب: «أفأعبد ما لا أراه ..»

ثمّ أشار سلام الله عليه بتفصيل ما بيّنه آنفاً.

 

* * *

______________________________________

1 ـ لا بأس بذكر هذه اللطيفة هنا إجمالا وهي أنّ المعراج هل حدث للنبي مرّةً في عمره أو مرّتين؟ هناك كلام بين العلماء. ولعلّ هذه الآيات فيها إشارة إلى شهودين في معراجين ..

2 ـ بحار الأنوار، ج18، ص287 ذيل مبحث المعراج.

[220]

الايات

وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى ( 13 ) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ( 14 ) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ( 15 ) إِذْ يَغْشَى السِدْرَةَ مَا يَغْشَى ( 16 ) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ( 17 ) لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى( 18 )

 

التّفسير

الرّؤية الثّانية:

هذه الآيات هي أيضاً تتمّة للأبحاث السابقة في شأن مسألة الوحي وإرتباط النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله والشهود الباطني.

إذ تقول: (ولقد رآه نزلة اُخرى) أي مرّة ثانية، وكان ذلك (عند سدرة المنتهى) أي عند شجرة سدر في الجنّة تدعى بسدرة المنتهى ومحلّها في جنّة المأوى (عندها جنّة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى).

هذه حقائق واقعيّة شاهدها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باُمّ عينيه و (ما زاغ البصر وما طغى(1) لقد رأى من آيات ربّه الكبرى).

______________________________________

1 ـ الفعل «طغى» مضارعه يطغو، و طغي مضارعه يطغى، وباب الأوّل نَصر ينصر، وباب الثاني فرِح يفرح، وكلاهما بمعنى واحد، ومن هذا القبيل صغا يصغو وصغي يصغى.

[221]

وكما نلاحظ في هذه الآيات فإنّ البَدوَ الإبهامي الذي كان يحيط الآيات المتقدّمة يحيط هذه الآيات أيضاً التي تتضمّن ظلالا من المواضيع السابقة، ومن أجل أن نفهم مفاد هذه الآيات لابدّ من الرجوع إلى مفرداتها اللغوية أيضاً.

النزلة: هي النّزول مرّة واحدة، فالنزلة الاُخرى تعني نزولا آخر، ويستفاد من هذا التعبير أنّه حدثت نزلتان، وهذا الموضوع يتعلّق بالنزلة الثانية(1).

والسِدرة: على وزن حِرفة ـ طبقاً لتفسير أغلب علماء اللغة هي شجرة وريقة وريفة الظلال والتعبير بـ (سدرة المنتهى) إشارة إلى شجرة وريقة ذات ظلال وريفة في أوج السماوات في منتهى ما تعرج إليه الملائكة وأرواح الشهداء وعلوم الأنبياء وأعمال الناس. وهي مستقرّة في مكان لا تستطيع الملائكة أن تتجاوزه .. وحين بلغ جبرئيل أيضاً في معراجه مع النّبي إلى ذلك المكان توقّف عنده ولم يتجاوزه!

ورغم أنّه لم يرد توضيح عن سدرة المنتهى في القرآن الكريم، إلاّ أنّ الأخبار والرّوايات الإسلامية ذكرت لها أوصافاً كثيرة .. وجميعها كاشف عن أنّ إنتخاب هذا التعبير هو لبيان نوع من التشبيه ولغاتنا قاصرة عن بيان مثل هذه الحقائق الكبرى.

ففي حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكاً قائماً يسبّح الله تعالى»(2).

كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) نقلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «انتهيت إلى سدرة المنتهى وإذا الورقة منها تظلّ اُمّة من الاُمم»(3).

______________________________________

1 ـ قال بعض أصحاب (اللغة) والمفسّرين معنى النزلة هنا «مرّة» وليس المراد منها النّزول، فالنزلة الاُخرى تعني المرّة الثانية لا غير، لكن لا ندري لِمَ عزفوا عن المادّة الأصلية للنزلة في حين أنّ غيرهم أشاروا إليها وفسّروها بما بيّنا آنفاً [فلاحظوا بدقّة].

2 ـ مجمع البيان، ذيل الآيات محلّ البحث.

3 ـ نور الثقلين، ج5، ص155.

[222]

وهذه التعابير تشير إلى أنّ المراد من هذه الشجرة ليس كما نألفه من الأشجار المورقة والباسقة على الأرض أبداً، بل إشارة إلى ظلّ عظيم في جوار رحمة الله وهناك محلّ تسبيح الملائكة ومأوى الاُمم الصالحة.

أمّا (جنّة المأوى) فمعناها الجنّة التي يُسكن فيها(1) وهناك أقوال في ما هو المراد من هذه الجنّة؟! فبعضهم قال بأنّها «جنّة الخلد» التي اُعدّت للمتّقين المؤمنين ومكانها في السماء، والآية (19) من سورة السجدة، دليلهم على مدّعاهم (فلهم جنّات المأوى نُزلا بما كانوا يعملون) .. فهذه الآية بقرينة ما بعدها تتحدّث عن جنّة الخلد ـ ولا شكّ أنّها تتحدّث عن جنّة الخلد.

إلاّ أنّنا نجد في آية اُخرى قوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنّة عرضها السماوات والأرض)،(2) فاحتمل بعض المفسّرين أنّ جنّة المأوى التي في السماء غير جنّة الخلد التي عرضها السماوات والأرض.

لذلك فقد فسّر بعضهم «جنّة المأوى» بأنّها مكان خاصّ في جنّة الخلد، وهي قريبة من سدرة المنتهى ومعدّة للمخلصين!

وربّما فسّرها بعضهم بأنّها «جنّة البرزخ» التي تحلّ فيها أرواح الشهداء والمؤمنين بصورة مؤقتة.

ويبدو أنّ التّفسير الأخير أنسب التفاسير وأقربها، وممّا يدلّ عليه بجلاء أنّنا نقرأ في كثير من الرّوايات الواردة في المعراج أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى جماعة متنعّمين في الجنّة، مع أنّنا نعرف أنّه لن يدخل جنّة الخلد أحد قبل يوم القيامة، لأنّ آيات القرآن تشير بوضوح أنّ المتّقين يدخلون الجنان بعد الحِسابِ [في يوم القيامة]لا بعد الموت مباشرةً وأنّ أرواح الشهداء أيضاً في جنّة برزخية لأنّهم أيضاً

______________________________________

1 ـ المأوى في الأصل معناه الإنضمام، وحيث أنّ سكون الأفراد في محلّ ما يسبّب إنضمام بعضهم لبعض فقد إستعملت هذه الكلمة «المأوى» على محلّ السكن مطلقاً.

2 ـ آل عمران، الآية 133.

[223]

 لا يدخلون جنّة الخلد قبل يوم القيامة.

والآية: (ما زاغ البصر وما طغى) إشارة إلى أنّ بصر النبي، وأنّ عينيه الكريمتين لم تميلا يمنة ولا يسرة ولم تجاوزا حدّهما، وما رآه النّبي بعينيه هو عين الواقع، لأنّ «زاغ» من مادّة زيغ معناه الإنحراف يميناً أو شمالا، و «طغى» من الطغيان، معناه التجاوز عن الحدّ، وبتعبير آخر إنّ الإنسان حين يرى شيئاً فيُخطىء رؤيته ولا يلتفت إليه بدقّة فإمّا أنّه يلتفت يمنة ويسرة أو إلى ما ورائه(1).

والآن وحيث فرغنا من تفسير مفردات الآي نعود إلى التّفسير العامّ للآيات.

نعود مرّة اُخرى إلى النظريتين في تفسير الآية ..

فقال جماعة من المفسّرين بأنّ الآيات ناظرة إلى مشاهدة النّبي للمرّة الثانية جبرئيل في صورته الحقيقيّة عند نزوله من المعراج عند سدرة المنتهى ولم يَزغْ بصره في رؤية الملك ولم يُخطىء أبداً.

والنّبي رأى في هذه الحال بعضاً من آيات الله الكبرى، والمقصود بها هي رؤية جبرئيل في صورته الواقعية، أو بعض آيات السماء في عظمتها وعجائبها، أو كلتيهما.

إلاّ أنّ الإشكالات الواردة على التّفسير السابق ما تزال باقية هنا، بل تضاف إلى تلك الإشكالات إشكالات اُخر ومنها:

إنّ التعبير بـ (نزلة اُخرى) حسب هذا التّفسير ليس فيه مفهوم واضح، لكن بحسب التّفسير الثاني يكون المعنى إنّ النّبي رأى الله في شهود باطني عند معراجه في السماء، وبتعبير آخر نزل الله مرّة اُخرى على قلب النّبي وتحقّق الشهود الكامل في (المنتهى إليه) القريب إلى الله من عباده عند سدرة المنتهى حيث جنّة المأوى والسدرة تغطّيها حجب من أنوار الله.

______________________________________

1 ـ جاء في تفسير الميزان أنّ الزيغ هو الخطأ في مشاهدة كيفية الشيء وأنّ الطغيان في البصر هو الخطأ في أصل الرؤية .. إلاّ أنّه لا دليل واضح على هذا التفاوت .. بل ما ورد في اللغة هو ما بيّناه في المتن ..

[224]

ورؤية قلب النّبي في هذا الشهود لم تكن بغير الحقّ أبداً، ولم يرَ سواه، ولقد رأى من دلائل عظمة الله في الآفاق والأنفس أيضاً وشاهدها بعينيه.

ومسألة الشهود الباطني كما أشرنا إليها من قبل هي نوع من الإدراك أو الرؤية التي لا تشبه الإدراكات العقلية ولا الإدراكات الحسيّة التي يدركها الإنسان بواسطة الحواس الظاهرة، ولعلّه يشبه من بعض الجهات بعلم الإنسان بوجود نفسه وأفكاره وتصوّراته.

توضيح ذلك .. انّنا نوقن بوجود أنفسنا وندرك أفكارنا ونعرف إرادتنا وميولنا النفسيّة، إلاّ أنّ مثل هذه المعرفة لم تحصل لا عن طريق الإستدلال ولا عن طريق المشاهدة الظاهرية بل هي نوع من الشهود الباطني لنا، وعن هذا الطريق وقفنا على وجودنا وروحياتنا.

ولذلك فإنّ العلم الحاصل عن الشهود الباطني لا يقع فيه الخطأ، لأنّه لم يحصل عن طريق الإستدلال الذي قد يقع الخطأ في مقدّماته، ولا عن طريق الحسّ الذي قد يقع الخطأ فيه بواسطة الحواس.

صحيح أنّنا لا نستطيع أن نكشف حقيقة الشهود الذي حصل للنبي ليلة المعراج في رؤيته الله عزّوجلّ إلاّ أنّ المثال الذي ذكرناه مناسب للتقريب .. والرّوايات الإسلامية بدورها خير معين لنا في هذا الموضوع

* * *

 

بحوث

1 ـ المعراج حقيقة مقطوع بها

لا خلاف بين علماء الإسلام في أصل معراج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فالآيات تشهد على ذلك سواءً في هذه السورة محل البحث أو في بداية سورة الإسراء، وكذلك الرّوايات المتواترة.

[225]

غاية ما في الأمر أنّ بعض المفسّرين ولأحكامهم المسبّقة لم يستطيعوا أن يتقبّلوا صعود النّبي بجسده وروحه إلى السماء، ففسّروه بالمعراج الروحاني وما يشبه حالة الرؤيا والمنام!! مع أنّ هذا الصعود أو المعراج الجسماني للنبي لا إشكال فيه عقلا ولا من ناحية العلوم المعاصرة، وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في تفسير سورة الإسراء بشكل مبسّط!.

فبناءً على هذا لا داعي للإعراض عن ظاهر الآيات وصريح الرّوايات لمجرّد الإستبعاد ..

ثمّ بعد هذا كلّه فالتعابير في الآيات هذه تشير إلى أنّ جماعة جادلوا في هذه المسألة، والتاريخ يقول أيضاً إنّ مسألة المعراج أثارت نقاشاً حادّاً بين المخالفين!

فلو أنّ النّبي كان يدّعي المعراج الروحاني وما يشبه الرؤيا لم يكن لهذا النقاش محلّ من الإعراب.

2 ـ ما هو الهدف من المعراج؟

الهدف من المعراج هو بلوغ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرحلة الشهود الباطني من جهة، ورؤية عظمة الله في السماوات بالبصر الظاهري من جهة اُخرى والتي أشارت إليه آخر آية من الآيات محلّ البحث: (لقد رأى من آيات ربّه الكبرى).

وفي الآية الاُولى من سورة الإسراء: (لنريه من آياتنا) والإطلاع على مسائل مهمّة ـ كثيرة ـ كأحوال الملائكة وأهل الجنّة وأهل النار وأرواح الأنبياء والتي كانت مصدر إلهام للنبي طوال عمره الشريف في تعليم وتربية الناس.

 

3 ـ المعراج والجنّة

يستفاد من الآيات ـ محلّ البحث ـ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بالجنّة ليلة المعراج ودخلها، وسواء أكانت هذه الجنّة هي جنّة الخلد كما قال بها جماعة من المفسّرين، أو جنّة البرزخ كما إخترناه، فإنّ النّبي على أيّة حال ـ رأى مسائل مهمّة من

[226]

مستقبل الناس في هذه الجنّة، وقد جاء بيان ذلك في الرّوايات الإسلامية، وسنشير إلى قسم منها.

 

4 ـ المعراج في الرّوايات الإسلامية:

من جملة المسائل المهمّة في قضيّة المعراج والتي كان لها دور مهمّ في إثارة التشكيكات من قبل البعض في أصل قضيّة المعراج هو وجود روايات ضعيفة أو مدسوسة ضمن رواياته حتّى أنّ العلاّمة الطبرسي قال: يمكن تقسيم روايات المعراج إلى أربعة أقسام:

أ ـ الرّوايات القطعيّة لتواترها «كأصل مسألة المعراج».

ب ـ الرّوايات المنقولة من مصادر معتبرة، وهي مشتملة على مسائل لا مانع عقلا من قبولها كالرّوايات الحاكية عن مشاهدة النّبي لكثير من آيات عظمة الله في السماوات!

ج ـ الرّوايات التي لا يتنافى ظاهرها مع ما لدينا من الاُصول المستقاة من آيات القرآن والرّوايات الإسلامية المقطوع بها .. إلاّ أنّها مع ذلك تقبل التوجيه، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى جماعة من أهل الجنّة ينعمون في الجنّة وجماعة من أهل النار يعذّبون فيها «فينبغي أن تؤول بأنّ المراد من الجنّة والنار هو جنّة البرزخ وناره» .. حيث أنّ أرواح المؤمنين والشهداء في الاُولى متنعّمة وأرواح الكفّار والمشركين في الثانية «معذّبة»(1).

د ـ الرّوايات المشتملة على مطالب باطلة وعارية عن الصحّة ومحتواها يدلّ على أنّها مدسوسة أو مجعولة، كالرّوايات القائلة بأنّ النّبي رأى الله بعينيه وبصره

______________________________________

1 ـ جاء في آيات القرآن «أنّ المتّقين يُساقون إلى الجنّة زمراً وأنّ الكفّار يساقون إلى النار زمراً (الزُّمُر الآيات 71 ـ 73) وجاء هذا المعنى في سورة اُخرى كالآية (70) من الزخرف، والآيتين (85) و86) من سورة مريم، والآية (47) من سورة الدخان.

[227]

الظاهري أو تكلّم معه أو شاهده، فهذه الرّوايات وأمثالها مجعولة قطعاً، إلاّ أن تفسّر بالشهود الباطني.

بعد ملاحظة هذا التقسيم نلقي الضوء على روايات المعراج، حيث يستفاد من مجموع هذه الرّوايات أنّ النّبي واصل معراجه إلى السماء خلال مراحل عديدة.

1 ـ المرحلة الاُولى: وهي ما بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى وقد اُشير إليها في الآية الاُولى من سورة الإسراء: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى).

وتقول بعض الرّوايات أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل في المدينة أثناء إسرائه مع جبرئيل فصلّى بها(1).

كما صلّى أيضاً في المسجد الأقصى مع أرواح الأنبياء العظام كإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام)، وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إمامهم في الصلاة، ثمّ بدأ المعراج إلى السماوات السبع(2) فجابهنّ سماءً بعد سماء وواجه في كلّ سماء مشاهدَ جديدة، فالتقى الملائكة والنبيين في بعضها، والجنّة وأهلها في بعضها، والنار وأهلها في بعضها، وحمل من كلّ في خاطره وروحه ذكريات قيّمة، وشاهد في عجائب كلّ واحدة منها رمز من رموز عالم الوجود وسرّ من أسراره، وبعد عودته ذكرها لاُمّته صراحةً أحياناً وبالكناية أو المجاز أحياناً، وكان يستلهم منها لتربية اُمّته وتعليمه بكثرة.

وهذا الأمر يدلّ على أنّ واحداً من أهداف هذا السَفَر السماوي الإستفادة من النتائج العرفانيّة والتربوية لهذه المشاهدات، والتعبير القرآني الغزير (لقد رأى من آيات ربّه الكبرى) في هذه الآيات محلّ البحث يمكن أن يكون إشارة إجمالية

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج18، ص319.

2 ـ طبقاً لبعض آيات القرآن كالآية السادسة من سورة الصافات: (إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب) ما نراه من العالم العلوي من النجوم والمجرّات هو في السماء الاُولى فحسب أمّا السماوات الستّ الاُخرى فهي فوقها ..

[228]

لجميع هذه الاُمور.

وكما ذكرنا آنفاً فإنّ الجنّة والنار اللتين رآهما النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معراجه والأشخاص الذين كانوا منعّمين أو معذّبين فيهما لم تكونا جنّة القيامة ونارها، بل هما جنّة البرزخ وناره، لأنّه كما أشرنا سابقاً طبقاً لآيات القرآن فإنّ الجنّة والنار تكونان بعد يوم القيامة والفراغ من الحساب معدّتين للمتّقين والمسيئين.

وأخيراً وصل النّبي إلى السماء السابعة ورأى حجُباً من النور هناك حيث «سدرة المنتهى» و «جنّة المأوى» وبلغ النّبي هناك وفي العالم النوراني أوج الشهود الباطني والقرب إلى الله قاب قوسين أو أدنى ... وخاطبه الله هناك وأوحى إليه تعاليم مهمّة وأحاديث كثيرة نراها اليوم في الرّوايات الإسلامية تحت عنوان الأحاديث القدسيّة، وسنعرض قسماً منها بإذن الله في الفصل المقبل.

الطريف هنا هو أنّ الرّوايات الكثيرة تصرّح بأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى أخاه وابن عمّه علياً في مراحل مختلفة من معراجه بصورة مفاجئة، وما نجده من التعابير في هذه الرّوايات كاشف عن مدى مقام علي وفضله بعد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعلى الرغم من كثرة الرّوايات في شأن المعراج فهناك تعابير مغلقة ذات أسرار ليس من الهيّن كشف محتواها وهي كما يصطلح عليها من الرّوايات المتشابهة .. أي الرّوايات التي ينبغي إحالة تفسيرها على أهل بيت العصمة!

(لمزيد الإطلاع تراجع الرّوايات في هذا الصدد بالجزء 18 من بحار الأنوار من الصفحة 282 إلى 410).

وقد ذكرت كتب أهل السنّة روايات المعراج بشكل موسّع بحيث نقل ثلاثون راوية من رواتهم حديث المعراج(1).

وهنا ينقدح السؤال التالي وهو: كيف تمّ كلّ هذا السفر الطويل وهذه

______________________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج13، ص29 (ذيل الآيات الاُولى من سورة الإسراء بحث روائي).

[229]

المشاهدات العجيبة والمتنوّعة والأحداث الطويلة في ليلة واحدة، بل في جزء منها؟!

ولكن يتّضح الجواب على السؤال بملاحظة أنّ سفر المعراج لم يكن سفراً بسيطاً كالمعتاد حتّى يقاس بالمعايير المعتادة! فلا السفر كان طبيعيّاً ولا وسيلته وركوبه ولا مشاهده ولا أحاديثه ولا المعايير الواردة فيها كمعاييرنا المحدودة والصغيرة على كرتنا الأرضية فكلّ شيء كان في المعراج خارقاً للعادة! وكان وفق مقاييس خارجة عن زماننا ومكاننا.

فبناءً على هذا لا مجال للعجب أن تقع كلّ هذه الاُمور بمقياس ليلة أو أقل من ليلة من مقاييس ـ الكرة الأرضية ـ الزمانية [فلاحظوا بدقّة].

 

5 ـ جانب من إيحاءات الله وكلماته لرسوله في ليلة المعراج:

وردت في كتب الأحاديث رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشأن «المعراج» وهي مفصّلة وطويلة نذكر جانباً منها وفيها مطالب تكشف عن أحداث وأحاديث تلك الليلة التأريخية وكيف إنّها بلغت أوج السمو والرفعة.

ونقرأ في بداية الحديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل الله سبحانه: ياربّ أيّ الأعمال أفضل؟!

فقال تعالى: «ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت، يامحمّد! وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ووجبت محبّتي للمتعاطفين فيّ ووجبت محبّتي للمتواصلين فيّ، ووجبت محبّتي للمتوكّلين عليّ وليس لمحبّتي علم ولا غاية ولا نهاية.

وهكذا تبدأ الأحاديث من المحبّة، المحبّة الشاملة والواسعة، وأساساً فإنّ عالم الوجود يدور حول هذا المحور!

[230]

وجاء في جانب آخر: «ياأحمد(1) فاحذر أن تكون مثل الصبي إذا نَظَر إلى الأخضر والأصفر أحبّه وإذا اُعطي شيء من الحلو والحامض اغترّ به، فقال: ياربّ دُلّني على عمل أتقرّب به إليك قال: اجعل ليلك نهاراً ونهارك ليلا قال: ربّ وكيف ذلك؟ قال: اجعل نومك صلاة وطعامك الجوع.

كما جاء في مكان آخر منه: ياأحمد محبّتي محبّة للفقراء فادن الفقراء وقرّب مجلسهم منك اُدنِكَ وبعّد الأغنياء وبعّد مجلسهم منك فإنّ الفقراء أحبّائي.

وجاء في موضع آخر أيضاً: ياأحمد أبغض الدنيا وأهلها وأحبّ الآخرة وأهلها قال ياربّ ومن أهل الدنيا ومن أهل الآخرة؟ قال: أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه قليل الرضا لا يعتذر إلى من أساء إليه ولا يقبل معذرة من إعتذر إليه، كسلان عند الطاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد وأجله قريب، لا يحاسب نفسه قليل المنفعة كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطعام وإنّ أهل الدنيا لا يشكرون عند الرخاء ولا يصبرون عند البلاء، كثير الناس عندهم قليل يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس فيهم، ويتكلّمون بما يتمنّون ويذكرون مساويء الناس ويخفون حسناتهم..

قال: ياربّ، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا، قال: ياأحمد إنّ عيب أهل الدنيا كثير فيهم، الجهل والحمق، لا يتواصفون لمن يتعلّمون منه، وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء..

ثمّ يتناول الحديث أهل الجنّة فيقول:

ياأحمد إنّ أهل الخير وأهل الآخرة رقيقة وجوههم كثير حياؤهم قليل حمقهم،

______________________________________

1 ـ ممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّ إسم النّبي في كلّ مكان من هذا الحديث ورد بلفظ أحمد إلاّ في بدايته، أجل فاسم النّبي في الأرض محمّد وفي السماء أحمد ولِمَ لا يكون كذلك مع أنّ أحمد بالإضافة إلى أنّه اسم تفضيل مبين للحمد والتكريم أكثر، وقد كان على النّبي في تلك الليلة التاريخية أن يتجاوز من «محمّد» إلى «أحمد» لأنّ الفاصلة بين أحمد واحد غير بعيدة.

[231]

كثير نفعهم، الناس منهم في راحة وأنفسهم منهم في تعب كلامهم موزون، محاسبين لأنفسهم، متعبين لها، تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم أعينهم باكية وقلوبهم ذاكرة، إذا كُتب الناس في الغافلين كتبوا من الذاكرين، في أوّل النعمة يحمدون وفي آخرها يشكرون دعاؤهم عند الله مرفوع، وكلامهم مسموع، تفرح الملائكة بهم، الناس (الغَفلَة) عندهم موتى والله عندهم حي قيّوم «وهمّتهم عالية فلا ينظرون إلاّ إليه» قد صارت الدنيا والآخرة عندهم واحدة يموت الناس مرّة ويموت أحدهم في اليوم سبعين مرّة «ويحيا حياةً جديدة» من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم.

وإن قاموا بين يدي كأنّهم البنيان المرصوص لا أرى في قلبهم شغلا لمخلوق .. فوعزّتي وجلالي لأحيينّهم حياةً طيبةً إذا فارقت أرواحهم أبدانهم ولا أُسلّط عليهم ملك الموت ولا يلي قبض روحهم غيري ولأفتحنّ لروحهم أبواب السماء كلّها ولأرفعنّ الحجب كلّها دوني، ولآمرنّ الجنان فلتزيننّ.

ياأحمد إنّ العبادة عشرة أجزاء تسعة منها طلب الحلال فإذاً طيّبت مطعمك ومشربك فأنت في حفظي وكنفي.

وجاء في مكان آخر منه: ياأحمد هل تدري أيّ عيش أهنأ وأيّ أبقى؟ قال اللهمّ لا، قال: أمّا العيش الهنيء فهو الذي لا يغترّ صاحبه عن ذكري ولا ينسى نعمتي ولا يجهل حقّي، يطلب رضاي في ليله ونهاره.

وأمّا الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينه وتعظم الآخرة عنده ويؤثر هواي على هواه ويبتغي مرضاتي ويعظّم حقّ عظمتي ويذكر علمي به ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة أو معصية وينقّي قلبه عن كلّ ما أكره ويبغض الشيطان ووساوسه ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً .. فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّاً حتّى أجعل قلبه لي وفراغه وإشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت على أهل محبّتي من خلقي .. وافتح عين قلبه

[232]

وسمعه حتّى يسمع بقلبه وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي «وحقائق الغيب».

وأخيراً فإنّ هذا الحديث القدسي الكريم يختتم بهذه العبارات المؤثرة! .. ياأحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي من الطعام مثل الملائكة، ولبس لباس العاري ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سعتها أو رئاستها أو حليّها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأنزعنّ من قلبه محبّتي وعليك سلامي ورحمتي والحمد لله ربّ العالمين»(1).

هذه الأحاديث القدسيّة «من ربّ العرش» التي تحمل روح الإنسان إلى أوج السماوات معها وتعرج به إلى حالة الشهود هي قسم من الحديث القدسي المشار إليه آنفاً.

ونضيف إلى ذلك أنّنا على يقين أنّه كان بين النّبي ومحبوبه في تلك الليلة الكريمة أسرار وإشارات وكلمات اُخرى لا تستطيع الآذان الإصغاء إليها ولا الأفكار الساذجة إستيعابها ... ولذلك بقيت في نفس النّبي طيّ الكتمان فلم يَبُحْ بها لأحد إلاّ لخلصائه المختصّين به.

 

* * *

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج77، ص21 ـ 30 بشيء من التلخيص .

[233]

الايات

أَفَرَءَيْتُمُ اللَّـتَ وَالْعُزَّى ( 19 ) وَمَنَوةَ الثَّالِثَةَ الاُْخْرَى ( 20 ) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاُْنثَى ( 21 ) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ( 22 ) إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُم مَّا أَنَزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَـن إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاَْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ( 23 )

 

التّفسير

هذه الأصنام وليدة أهوائكم:

بعد بيان الأبحاث المتعلّقة بالتوحيد والوحي والمعراج وآيات عظمة الواحد الأحد في السماء، يتناول القرآن أفكار المشركين، فينقضها ويتحدّث عن معتقداتهم الخرافية .. فيقول: بعد أن أدركتم عظمة الله وآياته في خلقه فهل أنّ أصنامكم مثل اللات والعزّى والصنم الثالث وهو «مناة» بإمكانها أن تنفعكم أو تضرّكم: (أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاُخرى)(1)؟!

______________________________________

1 ـ سنتحدّث عن الأصنام الثلاثة المشار إليها في الآيات محلّ البحث بإذن الله، لكن ممّا ينبغي الإلتفات إليه هو التعبير بمناة الثالثة الاُخرى فقد ذكر لهذه الآية تفاسير عديدة أغلبها عار من الصحّة ولا أساس له ولكن المناسب من هذه التفاسير أنّ أهميّة هذه الأصنام عند مشركي العرب كانت بحسب ما ذكره القرآن فالتعبير بمناة الثالثة أي ثالث الأصنام (في الأهميّة) عند العرب والتعبير بالاُخرى هو لتأخّر رتبتها عندهم!

[234]

مع أنّكم تزعمون أنّ قيمة البنت دون قيمة الولد ولو بلغكم أنّ أزواجكم أنجبن بنات حزنتم واسودّت وجوهكم!!

(تلك إذاً قسمة ضيزى)(1) فهذه قسمة غير عادلة بينكم وبين الله تعالى فعلام تجعلون نصيب الله دون نصيبكم؟!

وهكذا يتناول القرآن أفكارهم الخرافية مستهزئاً بها! ويقول لهم: إنّكم ترون البنت عاراً وذلّةً وتئدونها وهي حيّة في القبر، وفي الوقت ذاته تزعمون بأنّ الملائكة بنات الله، ولا تعبدون الملائكة من دون الله فحسب بل تصنعون لها التماثيل وتجعلون لها تلك القدسيّة! وتسجدون لها وتلتجئون إليها لحلّ مشاكلكم وتطلبون حوائجكم منها، وذلك مثار للسخرية والإستهزاء حقّاً!.

ومن هنا يبدو واضحاً أنّ العرب الجاهليين كانوا يعبدون بعض هذه الأصنام على الأقل على أنّها تماثيل الملائكة، الملائكة التي يسمّون كلاًّ منها بربّ النوع ومدير الوجود ومدبّره، وكانوا يرون أنّ الملائكة بنات الله!!

فحين تقرن هذه الخرافات إلى خرافة اُخرى وهي نظرتهم عن البنت فإنّ التضادّ العجيب الواقع بين هذه الخرافات بنفسه خير شاهد على سخافة هذه المعتقدات، وكم هو طريف أن يبطل القرآن جميع تلك الخرافات بعدّة جُمل قصيرة وموجزة ويفضحها ساخراً بها.

ومن هنا يتبيّن أنّ القرآن لا يقصد إمضاء ما كان عليه العرب من التفريق بين الذكر والاُنثى، بل يريد بيان ما هو مقبول ومسلّم عندهم (وهو منطق الجدل)، وإلاّ فلا فرق في نظر الإسلام ومنطقه بين الذكر والاُنثى من حيث القيمة الإنسانية، ولا

______________________________________

1 ـ ضيزى أي ناقصة وغير منصفة.

[235]

الملائكة فيهم ذكر واُنثى، ولا هم بنات الله، وليس عند الله من ولد أساساً، فهذه إفتراضات لا أساس لها .. إلاّ أنّ هذا الردّ خير جواب لمن يعتقد بهذه الخرافات.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث يقول القرآن بضرس قاطع: (إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)(1).

فلا دليل لديكم من العقل، ولا دليل عن طريق الوحي على مدّعاكم، وليس لديكم إلاّ حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

ثمّ يختتم القرآن الآية بالقول: (إن يتّبعون إلاّ الظنّ وما تهوى الأنفس(2))فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس (ولقد جاءهم من ربّهم الهدى) ..

إلاّ أنّهم أغمضوا أعينهم عنه وخلّفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات!

* * *

 

بحوث

1 ـ أصنام العرب الثلاثة المشهورة

كان لمشركي العرب أصنام كثيرة، إلاّ أنّ ثلاثةً منها كانت ذات أهميّة خاصّة عندهم، وهي «اللات» و «العزّى» و «مناة».

وهناك كلام بل أقوال في تسمية هذه الأصنام ومن صنعها ومكانها والجماعة التي تعبدها، ونكتفي بما ورد في كتاب «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» هنا فحسب.

فأوّل صنم معروف إختاره العرب كان (مناة)، حيث انّه بعد أن نقل «عمرو بن لحي» عبادة الأصنام من الشام إلى الحجاز، صُنع هذا الصنم في منطقة قريبة من

______________________________________

1 ـ السلطان: معناه السلطة والغلبة، ويطلق على الدليل القاطع أنّه سلطان أيضاً، لأنّه أساس الغلبة على الخصم.

2 ـ «ما» في «ما تهوى الأنفس» موصولة، ويحتمل أن تكون مصدرية، ولا فرق كبير بينهما .

[236]

البحر الأحمر بين المدينة ومكّة، وكان العرب جميعهم يحترمون هذا الصنم ويقدّمون له القرابين، إلاّ أنّ أكثر القبائل إهتماماً بهذا الصنم قبيلتا الأوس والخزرج .. حتّى كان فتح مكّة في السنة الثامنة للهجرة ـ وكان النّبي متّجهاً من المدينة إلى مكّة ـ فأرسل أمير المؤمنين علياً فكسره.

وبعد أن صنع عرب الجاهلية صنم مناة، عمدوا فصنعوا صنماً آخر، هو اللات من صخر ذي أربع زوايا، وجعلوه في الطائف، في المكان الذي توجد فيه اليوم منارة مسجد الطائف الشمالية، وكان أغلب ثقيف في خدمة هذا الصنم، وحين أسلمت ثقيف أرسل النّبي المغيرة، فكسر ذلك الصنم، والصنم الثالث الذي إختاره العرب هو العزّى وكان في محلّ قريب من ذات عرق في طريق مكّة باتّجاه العراق وكانت قريش تهتمّ بهذا الصنم كثيراً.

وكان العرب يهتّمون بهذه الأصنام الثلاثة إلى درجة أنّهم كانوا يقولون عند الطواف حول البيت: واللات والعزّي ومناة الثالثة الاُخرى فإنّهم الغرانيق العُلى وإنّ شفاعتهم لترتجى(1).

وكانوا يزعمون بأنّ هذه الأصنام بنات الله «ويظهر أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ هذه الأصنام تماثيل الملائكة التي كانوا يزعمون أنّها بنات الله!!».

العجب أنّ تسميتها مستقاة من أسماء الله .. غالباً غاية ما في الأمر كانت أسماؤها مؤنثة لتدلّ على إعتقادهم .. فاللات(2) أصلها اللاهة، ثمّ سقط حرف الهاء فصارت الكلمة اللات، و العزّى مؤنث الأعز، و مناة من منى الله الشيء أي قدّره، ويعتقد بعضهم أنّ مناة من النوء وهو عبارة عن طلوع بعض النجوم التي تصحبها المزن وبعضهم قالوا بأنّ مناة مأخوذة من «مَنَى» على وزن «سعى»، ومعناه سفك

______________________________________

1 ـ بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب، ج2، ص202 و203.

2 ـ كلمة «اللات» كان ينبغي أن تكتب اللاة بالتاء القصيرة ولكنّها لمّا كانت في الوقف تبدّل هاءً فتصير اللاه ويوهم لفظها بالاسم الكريم الله كتبت بالصورة الآنفة اللات.

[237]

الدم، لأنّ دماء القرابين كانت تسفك(1) عندها وعلى كلّ حال فإنّ العرب كانوا يحترمون هذه الأصنام حتّى أنّهم سمّوا كثيراً من رجالهم بعبد العزّى وعبد منات وربّما سمّوا بعض قبائلهم بمثل هذه الأسماء(2).

 

2 ـ أسماء دون مسميّات

إنّ واحداً من أقدم اُسس الشرك هو تنوّع الموجودات في العالم حيث أنّ ذوي الفكر القصير والنظر الضيّق لم يستطيعوا تصديق أنّ كلّ هذه الموجودات المتنوّعة في السماء والأرض مخلوقة لله الأحد «لأنّهم يقيسون ذلك بأنفسهم إذ لا يتسنّى لهم التسلّط إلاّ على أمر واحد أو عدّة اُمور» لذلك كانوا يزعمون أنّ لكلّ نوع من الموجودات ربّاً يعبّر عنه «بربّ النوع» كربّ نوع البحر، وربّ نوع الصحراء، وربّ نوع المطر، وربّ نوع الشمس، وربّ الحرب، وربّ الصلح ...

وهذه الآلهة المزعومة التي كانوا يسمّونها الملائكة أحياناً كانت حسب إعتقادهم تحكم هذا العالم وحيثما تقع مشكلة يلتجأ إلى ربّ نوعها وحيث أنّ أرباب الأنواع لم تكن موجودات محسوسة فقد صنعوا لها تماثيل وعبدوها!

هذه العقائد الخرافية إنتقلت من اليونان إلى المناطق الاُخرى حتّى وصلت إلى الحجاز، ولكن حيث أنّ التوحيد الإبراهيمي كان سائداً لدى العرب فلم يمكنهم إنكار وجود الله، فمزجت هذه العقائد واحدة بالاُخرى، ففي الوقت الذي يعتقدون فيه بالله اعتقدوا بالملائكة الذين هم في زعمهم بناته، وعبدوا الأحجار التي صنعوا منها التماثيل.

فالقرآن هدم هذه الخرافات بعبارة موجزة غزيرة المعنى فقال: (إن هي إلاّ أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) فلم يك أي شيء صادراً

______________________________________

1 ـ الإحتمال الأوّل جاء في الكشّاف والثاني في بلوغ الإرب.

2 ـ بلوغ الإرب، ج2، ص202 و203.

[238]

من ربّ المطر الذي سمّيتموه أنتم، ولا من ربّ الشمس المزعوم، ولا البحر، ولا الحرب، ولا الصلح.

فكلّ شيء صادر عن الله، وعالم الوجود كلّه طوع أمره، وإتّساق جميع هذه الموجودات المختلفة في السماء والأرض وإنسجامها بعضها مع بعض دليل على وحدة الخالق، ولو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا.

 

3 ـ الدافع النفسي لعبادة الأصنام

عرفنا الأصل التاريخي لعبادة الأصنام إلاّ أنّ لها دوافع ومباديء نفسيّة وفكرية أيضاً، وقد اُشير إليها في الآيات المتقدّمة، وذلك هو اتّباع الظنّ وما تهوى الأنفس!! والخيالات والأوهام الحاصلة للجهلاء، ومن ثمّ تنتقل إلى مقلّديهم من المتحجّرين، وينتقل هذا التقليد من نسل إلى نسل.

وبالطبع فإنّ معبوداً كالصنم يتلاءم جيّداً مع أهوائهم، لأنّه ليس له سلطة على العباد، ولا معاد، ولا جنّة، ولا نار، ولا كتاب، ويعطيهم الحرية الكاملة، وإنّما يأتونه في المشاكل فحسب، ويتصوّرون أنّه سينفعهم وأنّهم إنّما يستمدّون منه العون.

وأساساً فانّ «هوى النفس» ذاته يعدّ أكبر الأصنام وأخطرها، وهو الأصل لظهور الأصنام الاُخرى.

 

4 ـ اُسطورة الغرانيق مرّةً اُخرى:

من خلال بحثنا حول الأصنام الثلاثة التي كان العرب يهتّمون بها «أي اللات والعزّى ومناة» ويعبدونها ـ من خلال هذا البحث التاريخي وردت الإشارة إلى أنّ هذه الأصنام كانت تدعى بالغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.

و «الغرانيق» جمع غُرنوق على زنة عصفور وبُهلول .. والغرنوق نوع من

[239]

الطيور الرمادية أو السوداء، ولذلك كان العرب أحياناً إذا ذكروا الأصنام قالوا بعد ذكرها: تلك الغرانيق العُلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى.

وقد وردت هنا قصّة خرافية نقلتها بعض الكتب، وهي أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قرأ الآية: (أفرأيتم اللات والعزّى) أضاف عليها من عنده الجملتين هاتين: تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترتجى .. فكان سبباً لإرتياح المشركين وعدوّه إنعطافاً من قِبَلِ النّبي إلى عبادة الأصنام، وحيث أنّ ختام السورة يدعو الناس للسجود .. فإنّ المسلمين سجدوا وسجد المشركون أيضاً، فكان هذا الخبر مدعاةً لإشاعة إسلام المشركين في كلّ مكان! حتّى بلغ ذلك أسماع المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين وسُرّ جماعة منهم إلى درجة أنّهم أحسّوا بالأمان فعادوا من مهجرهم إلى مكّة(1).

ولكن كما فصّلنا ذلك في تفسير الآية 52 من سورة الحجّ فإنّ هذا الإدّعاء كذب مفضوح، وتبطله الدلائل والقرائن الكثيرة بجلاء.

فاُولئك المفتعلون لهذه الكِذبة لم يفكّروا أنّ القرآن في ذيل هذه الآيات محلّ البحث ينقض عبادة الأصنام بصراحة، ويعدّها اتّباعاً لما تهوى النفس وظنونها، كما أنّه في الآيات التي تلي هذه الآيات يعنّف عبادة الأصنام بصراحة وبِشدّة، ويعدّها دليلا على عدم الإيمان والمعرفة، ويأمر النّبي بصراحة أن يقطع علاقته بهم ويعرض عنهم.

فمع هذه الحال كيف يمكن أن يتلفّظ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين الجملتين، أو أن يكون المشركون حمقى إلى درجة بحيث يصغون إلى هذه العبارة ولا يلتفتوا إلى الآيات بعدها التي تعنّف المشركين على عبادة الأصنام .. ويفرحوا ويسجدوا في آخر ما يُتلى مِن هذه السورة مع الساجدين.

______________________________________

1 ـ نقل الطبري هذه القصّة الخرافية في تاريخه، ج2، ص75 فما بعد.

[240]

والحقيقة أنّ ناسجي هذه الاُسطورة سذّج للغاية وسطحيّون، ويمكن أن يكون عند قراءة النّبي للآية (أفرأيتم اللات والعزّى) تلا الشيطان بعدها أو الإنسان المتّصف بالشيطنة الجملتين بين المشركين الحاضرين «لأنّ هاتين الجملتين كانتا بمثابة الشعار الذي يودع المشركون بهما أسماء الأصنام» فاشتبه جماعة مؤقتاً بأنّهما تتمّة للآية!!

إلاّ أنّه لا معنى لسجود المشركين في إنتهاء السورة، ولا لإنعطاف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)نحو عبادة الأصنام، لأنّ جميع آيات القرآن وسيرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته كلّ ذلك يكشف عن أنّه لم يظهر أيّ إنعطاف نحو الأصنام في أي شكل وصورة، ولم يقبل بأيّ إقتراح في هذا الصدد، لأنّ الإسلام بأجمعه كان يتلخّص في التوحيد: لا إله إلاّ الله!

فكيف يمكن لنبي الإسلام أن يُساومَ على روح محتوى الإسلام الأصيل.

«وكان لنا في هذا المجال دلائل وإستدلالات ذيل الآية 52 من سورة الحجّ».

* * *

[241]

الايات

أَمْ لِلإِنسَـن. مَا تَمَنَّى ( 24 ) فَلِلَّهِ الاَْخِرَةُ وَالاُْولَى ( 25 ) وَكَم مِّن مَّلَك فِى السَّمَـوَتِ لاَ تُغْنِى شَفَـعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ( 26 )

 

التّفسير

الشفاعة أيضاً بإذنه:

هذه الآيات أيضاً تتناول بالبحث والتعقيب ـ موضوع عبادة الأصنام وخرافتها، وهي تتمّة لما سبق بيانه في الآيات المتقدّمة!

فتتناول أوّلا الاُمنيات الجوفاء عند عَبَدةِ الأصنام وما كانوا يتوقّعون من الأصنام: (أم للإنسان ما تمنّى)؟!.

تُرى! هل من الممكن أن تشفع هذه الأجسام التي لا قيمة لها ولا روح فيها عند الله سبحانه؟ أو يُلتجأ إليها عند المشكلات!؟ كلاّ! (فللّه الآخرة والاُولى).

إنّ عالم الأسباب يدور حول محور إرادته، وكلّ ما لدى الموجودات فمن بركات وجوده، فالشفاعة من إختياراته أيضاً، وحلّ المشاكل بيد قدرته كذلك!

ممّا يلفت النظر أنّ القرآن يتحدّث عن الآخرة أوّلا، ثمّ عن الدنيا، لأنّ أكثر ما

[242]

يُشغل فكر الإنسان هو النجاة في الآخرة .. وحاكمية الله في الدار الآخرة تتجلّى أكثر منها في هذه الدنيا.

وهكذا فإنّ القرآن يقطع أمل المشركين تماماً ـ بشفاعة الأصنام ـ ويسدّ بوجوههم هذه الذريعة بأنّها تشفع لهم «ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله».

وهناك إحتمال آخر في تفسير الآيتين آنفتي الذكر: وهو أن يتوجّه الإنسان نحو الله لعدم بلوغه أمانيّه وما يرغب إليه .. لأنّ الآية الاُولى من الآيات محلّ البحث تقول: (أم للإنسان ما تمنّى؟) وهذا إستفهام إنكاري، وحيث أنّ جواب هذا الإستفهام أو السؤال بالنفي قطعاً، لأنّ الإنسان لا ينال كثيراً من أمانيه أبداً، وهذا يدلّ على أنّ تدبير هذا العالم بيد اُخرى تتحكّم في هذا العالم، ولذلك فإنّ الآية الثانية تقول: حيث كان الأمر كذلك (فللّه الآخرة والاُولى)!

وهذا المعنى يشبه ما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «عرفت الله بفسخ العزائم وحلّ العقود ونقض الهمم»(1). ولا يبعد الجمع بين هذا التّفسير والتّفسير السابق أيضاً.

وفي آخر الآيات محلّ البحث يقول القرآن مضيفاً ومؤكّداً على هذه المسألة: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى).

فحيث لا تستطيع الملائكة على عظمتها حتّى ولو بشكل جماعي أن تشفع لأحد إلاّ بإذن الله ورضاه، فما عسى يُنتظر من هذه الأصنام التي لا قيمة لها، وهي لا تعي شيئاً!؟. وحينما تتساقط النسور المحلّقة وتهوي بأجنحتها عاجزة فما تنفع البعوضة الضعيفة؟ أليس من المخجل أن تقولوا إنّما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى، أو هؤلاء شفعاؤنا عند الله؟!

______________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار ـ الكلمة رقم 250.

[243]

والتعبير بـ «كم» في الآية يفيد العموم، أي ليس لأي ملك أن يشفع دون إذن الله ورضاه، لأنّ هذه اللفظة تفيد العموم في لغة العرب، كما أنّ لفظة «كثير» تفيد العموم أحياناً وقد جاء في الآية 70 من سورة الإسراء ما يدلّ على ذلك: (وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا) أي فضّلنا بني آدم على جميع من خلقنا.

كما نجد هذا الإستعمال في شأن الشياطين إذ نقرأ الآية 223 من سورة الشعراء قائلةً: (وأكثرهم كاذبون) مع أنّنا نعلم أنّ جميع الشياطين كاذبون(1).

أمّا الفرق بين «الإذن» و «الرضا» فهو ـ أنّ الإذن يعبّر عنه في مقام يكشف الإنسان عن رضاه الباطني، إلاّ أنّ الرضا .. أعمّ من ذلك، وقد تستعمل كلمة «الرضا» لإنسجام الطبع مع ما يفعل، وحيث أنّ الإنسان قد يأذن بشيء ما دون أن يكون راضياً في قلبه فقد جاءت كلمة «يرضى» تأكيداً على الإذن، وإن كان الإذن والرضا عند الله لا ينفصل بعضهما عن بعض ولا مجال (للتقيّة) عند الله!

* * *

 

تعقيب

1 ـ سعة الأماني:

الأمل أو التمنّي إنّما ينبع من محدودية قدرة الإنسان وضعفه الإنسان إذا كانت له علاقة بالشيء ولم يستطع أن يبلغه ويحقّقه فانّه يأخذ صورة التمنّي عنده .. وإذا إستطاع الإنسان أن يحقّق كلّ ما يريده ويرغب فيه، لم يكن للتمنّي من معنى!

وبالطبع قد تكون أمانيّ الإنسان أحياناً نابعة من روحه العالية وباعثاً على الحركة والجدّ والنشاط والجهاد وسيره التكاملي .. كما لو تمنّى بأن يتقدّم الناس بالعلم والتقوى والشخصيّة والكرامة!

______________________________________

1 ـ مع أنّ كلمة ملك في الآية مفردة فقد عاد الضمير عليها جمعاً في «شفاعتهم» وذلك لمفهوم الكلام ورعاية للمعنى!

[244]

إلاّ أنّه كثيراً ما تكون هذه الأحلام «والأماني» كاذبة، وعلى العكس من الأماني الصادقة فانّها أساس للغفلة والجهل والتخدير والتخلّف كما لو تمنّى الإنسان الخلود في الأرض والعمر الدائم، وأن يملك أموالا طائلة، وأن يحكم الناس جميعاً وأمثال ذلك القبيل الموهوم.

ولذلك فقد رغّبت الرّوايات الإسلامية الناس في تمنّي الخير، كما نقرأ في بعض ما وصلنا عن رسو الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من تمنّى شيئاً وهو لله عزّوجلّ رضىً لم يخرج من الدنيا حتّى يعطاه»(1).

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّه إذا لم يصل إلى ذلك في الدنيا فسينال ثوابه(2).

 

2 ـ كلام في شأن الشفاعة

إنّ الآية الأخيرة ـ من الآيات محلّ البحث ـ تخبر بجلاء عن إمكان أن يشفع الملائكة، فحيث أنّه للملائكة الحقّ أن يشفعوا بإذن الله ورضاه، فمن باب الأولى أن يكون للأنبياء والمعصومين حقّ الشفاعة عند الله.

إلاّ أنّه لا ينبغي أن ننسى أنّ الآية آنفة الذكر تقول بصراحة إنّ هذه الشفاعة ليست من دون قيد وشرط. بل هي مشروطة بإذن الله ورضاه، وحيث أنّ إذن الله ورضاه لم يكونا عبثاً أو إعتباطاً، فينبغي أن تكون بين الإنسان وربّه علاقة حتّى يأذن بالشفاعة للمقرّبين في شأنه، ومن هنا فإنّ رجاء الشفاعة يكون مذهباً تربويّاً للإنسان ومانعاً من اليأس وقطع جميع الروابط بالله تعالى(3).

* * *

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج71، ص261 (باب تمنّي الخيرات).

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ التعبير بـ «من يشاء» الوارد في الآية المتقدّمة يمكن أن يكون إشارة إلى الناس الذين يأذن الله لهم بالشفاعة، أو إشارة إلى الملائكة الذين يأذن الله لهم بالشفاعة، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404065

  • التاريخ : 20/04/2024 - 04:30

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net