00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الذاريات من آية 31 ـ آخر السورة من ( ص 105 ـ 148 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[105]

 بدايَة الجزء السابع و العشرون

 مِنَ

القُرآن الكريم

[107]

الآيات

قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُ1ونَ ( 31 ) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قُوْم مُّجْرِمِينَ ( 32 ) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِين ( 33 ) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ( 34 ) فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 35 )فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْت مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ( 36 ) وَتَرَكْنَا فِيهَا ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ ( 37 )

 

التّفسير

مُدُنُ قوم لوط المدمّرة آية وعبرة:

تعقيباً على ما سبق من الحديث عن الملائكة الذين حلّوا ضيفاً على إبراهيم وبشارتهم إيّاه في شأن الولد «إسحاق» تتحدّث هذه الآيات عمّا دار بينهم وبين إبراهيم في شأن قوم لوط.

توضيح ذلك .. إنّ إبراهيم بعد ما اُبعد إلى الشام .. واصل دعوة الناس إلى الله ومواجهته لكلّ أنواع الشرك وعبادة الأصنام .. وقد عاصر إبراهيم الخليل «لوط» أحد الأنبياء العظام ويُحتمل أنّه كان مأموراً من قبله بتبليغ الناس وهداية الضالّين، فسافر إلى بعض مناطق الشام «أي مدن سدوم» فحلّ في قوم مجرمين ملوّثين

[108]

بالشرك والمعاصي الكثيرة، وكان أقبحها تورّطهم في الإنحراف الجنسي واللواط، وأخيراً فقد أمر رهط من الملائكة بعذابهم وهلاكهم إلاّ أنّهم مرّوا بإبراهيم قبل إهلاكهم.

وقد عرف إبراهيم من حال الضيف (الملائكة) أنّهم ماضون لأمر مهمّ، ولم يكن هدفهم الوحيد البشرى بتولّد إسحاق، لأنّ واحداً منهم كان كافياً لمهمّة «البشارة». أو لأنّهم كانوا عَجِلين فأحسّ بأنّ لديهم «مأمورية» مهمّة.

لذلك فإنّ أوّل آية من الآيات محلّ البحث تحكي بداية المحاورة فتقول: (قال فما خطبكم أيّها المرسلون)(1).

فأماط الملائكة اللثام عن «وجه الحقيقة» ومأموريتهم فـ (قالوا إنّا اُرسلنا إلى قوم مجرمين).

إنّهم قوم متلوّثين ـ إضافةً إلى عقيدتهم الفاسدة ـ بأنواع الآثام والذنوب المختلفة المخزية القبيحة(2).

ثمّ أضافوا قائلين: (لنرسل عليهم حجارة من طين) والتعبير بـ «حجارة من طين» هو ما أشارت إليه الآية 82 من سورة هود بالقول من «سجّيل» وسجّيل كلمة فارسية الأصل مأخوذك من (سنگ + گل) ثمّ صارت في العرب سجّيل، فهي ليست صلبة كالحجر ولا رخواً كالورد، ولعلّها في المجموع إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ هلاك قوم لوط المجرمين لم يكن يستلزم إنزال أحجار عظيمة وصخور وجلاميد من السماء، بل كان يكفي أن يمطروا بأحجار صغيرة ليست صلبة جدّاً كأنّها حبّات «المطر».

______________________________________

1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ «خطب» لا يطلق على كلّ عمل، بل هو خاصّ في الاُمور والأعمال المهمّة في حين أنّ كلمات مثل عمل، شغل، أمر، فعل، لها معان عامّة.

2 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّه في سورة هود جاء التعبير هكذا: إنّا اُرسلنا إلى قوم لوط، وهذا التفاوت في التعابير بين الآيات محلّ البحث وآيات سورة هود هو لأنّ كلا من الآيات يذكر قسماً ممّا جرى وبتعبير آخر هذه المسائل كلّها واقعة، غاية ما في الأمر أنّ بعضها مذكور في الآيات محلّ البحث وبعضها في الآيات الآنفة من سورة هود ..

[109]

ثمّ أضاف الملائكة قائلين: (مسوّمة عند ربّك للمسرفين) كلمة مسوّمة تطلق على ما فيه علامة ووسم، وهناك أقوال بين المفسّرين في كيفية أنّها «مسوّمة»؟!

قال بعضهم إنّها كانت في شكل خاصّ يدلّ على أنّها ليست أحجاراً كسائر الأحجار الطبيعية، بل كانت وسيلة للعذاب.

وقال جماعة كان لكلّ واحدة منها علامة وكانت لشخص معيّن وعلامتها في نقطة خاصّة ليعلم الناس أنّ عقاب الله في منتهى الدقّة بحيث يُعلم من هذه الأحجار المسوّمة أنّ أيّ مجرم ينال واحدةً منها فيهلك بها.

كلمة «المسرفين» إشارة إلى كثرة ذنوبهم بحيث تجاوزت الحدّ وخرقوا ستار الحياء والخجل، ولو قدّر لبعض الدارسين أن يتفحّص حالات قوم لوط وأنواع ذنوبهم للاحظ أنّ هذا التعبير في حقّهم ذو مغزى كبير(1).

وكلّ إنسان من الممكن أن يقع في الذنب أحياناً، فلو تيقّظ بسرعة وأصلح نفسه يرتفع الخطر، وإنّما يكون خطيراً حين يبلغ حدّ الإسراف!.

ويكشف هذا التعبير عن مطلب مهمّ آخر، وهو أنّ هذه الحجارة السماوية التي اُعدت لتنزل على قوم لوط لا تختّص بهؤلاء القوم، بل معدّة لجميع المسرفين والعصاة المجرمين.

والقرآن هنا يكشف عمّا جرى لرسل الله إلى نبيّه لوط على أنّهم حلّوا ضيفاً عنده، وقد تبعهم قوم لوط بلا حياء ولا خجل ظنّاً منهم أنّهم غلمان نضِرون ليقضوا منهم وطرهم!! إلاّ أنّهم سرعان ما أحسّوا بخطئهم فإذا هم عُمي العيون، فيذكر قول الله فيهم(2) (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من

______________________________________

1 ـ يراجع ذيل الآية (81) من سورة هود.

2 ـ الجدير بالنظر أنّ في سورة هود بياناً لهذه القصّة لكنّ التعابير فيها تدلّ بوضوح أنّ لقاء الملائكة لإبراهيم كان قبل معاقبة قوم لوط وهلاكهم مع أنّ الآيات محلّ البحث فيها تعابير تشير إلى أنّ اللقاء تمّ بعد المعاقبة والجزاء، وطريق الحلّ هو أن نقول أنّ الآيات الوارد ذكرها آنفاً إلى قوله: «مسوّمة عند ربّك للمسرفين» هي كلام الملائكة، وأمّا الآيات الثلاث بعدها فقول الله يخاطب نبيّه والمسلمين يتحدّث عنها على أنّها قصّة وقعت فيما مضى «فلاحظوا بدقّة»!

[110]

المسلمين).

أجل فنحن لا نحرق الأخضر واليابس معاً، وعدالتنا لا تسمح أن يبتلى المؤمن بعاقبة الكافر حتّى ولو كان بين آلاف الآلاف من الكافرين رجل مؤمن طاهر لأنجيناه!

وهذا هو ما أشارت إليه الآيتان 59 و60 من سورة الحجر بالقول: (إلاّ آل لوط إنّا لمنجوهم أجمعين إلاّ امرأته قدّرنا أنّها لمن الغابرين).

ونقرأ في سورة هود الآية 81 مثله: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتك إنّه مصيبها ما أصابهم).

أمّا في سورة العنكبوت فقد وردت الإشارة في الآية (32) كما يلي: (قال إنّ فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجيّنه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين).

كما أنّ هذا الموضوع ذاته مشار إليه في الآية (83) من سورة الأعراف: (فأنجيناه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين).

وكما تلاحظون، أنّ هذا القسم من قصّة قوم لوط ورد في هذه السور الخمس في عبارات مختلفة وجميعها يتحدّث عن حقيقة واحدة .. إلاّ أنّه حيث يمكن أن ينظر إلى حادثة ما من زوايا متعدّدة وكلّ زاوية لها بعدها الخاصّ .. فإنّ القرآن ينقل الحوادث التاريخية ـ على هذه الشاكلة ـ غالباً، والتعابير المختلفة في الآيات المتقدّمة شاهدة على هذا المعنى.

أضف إلى ذلك أنّ القرآن كتاب تربوي وإنساني ـ وفي مقام التربية يلزم أحياناً أن يعول على مسألة مهمّة مراراً لتترك أثرها العميق في ذهن القارىء .. غاية ما في الأمر ينبغي أن يكون هذا التكرار بتعابير طريفة ومثيرة ومختلفة لئلاّ

[111]

يقع السأم ويملّ الإنسان، وأن يكون الاُسلوب فصيحاً بليغاً!.

«ولمزيد التوضيح في شأن ضيف إبراهيم وما دار بينهم وبينه ثمّ عاقبة قوم لوط المرّة يراجع ذيل الآيات 83 من سورة الأعراف و81 من سورة هود و59 و60 من سورة الحجر و32 من سورة العنكبوت».

وعلى كلّ حال فإنّ الله سبحانه زلزل مدن قوم لوط وقلب عاليها سافلها ثمّ أمطرها بحجارة من سجّيل منضود ولم يبق منها أثراً .. حتّى أنّ أجسادهم دفنت تحت الأنقاض والحجارة! لتكون عبرةً لمن يأتي بعدهم من المجرمين والظالمين غير المؤمنين.

ولذلك فإنّ القرآن يضيف قائلا في آخر آية من الآيات محلّ البحث: (وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم).

وهذا التعبير يدلّ بوضوح أنّ من يعتبر ويتّعظ بهذه الآيات هم الذين لديهم إستعداد للقبول في داخل كيانهم ويحسّون بالمسؤولية.

* * *

 

بحث

أين تقع مدن قوم لوط؟

من المسلّم به أنّ إبراهيم الخليل جاء إلى الشام بعد أن هاجر من العراق و «بابل» ويقال أنّ لوطاً كان يقطن معه إلاّ أنّه بعد فترة توجّه نحو «سدوم» ليدعو إلى التوحيد ويكافح الفساد.

و «سدوم» واحدة من مدن قوم لوط وأحيائهم التي كانت من بلاد الأردن على مقربة من البحر الميّت .. وكانت أرضها خصبة كثيرة الأشجار، إلاّ أنّ هذه الأرض بعد نزول العذاب الإلهي على هؤلاء الظالمين من قوم لوط قلب عاليها سافلها وتهدّمت مدنها وسمّين بالمؤتفكات «أي المقلوبات».

[112]

وذهب بعضهم أنّ آثار هذه المدن الخربة غرقت في الماء ويزعمون أنّهم رأوا في زاوية من البحر الميّت أعمدتها وآثارها وخرائبها الاُخرى.

وما نقرؤه في بعض التفاسير الإسلامية هو أنّ المراد من جملة «وتركنا فيها آية» هو المياه العفنة والمستنقعات التي غطّت أماكن هذه المدن، ولعلّه إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّه بعد الزلازل الشديدة وإنشقاق الأرض إنفتح طريق من البحر الميّت نحو هذه الأرض فغرقت جميع آثارها تحت الماء.

في حين أنّ بعضهم يعتقد أنّ مدن لوط لم تغرق بعدُ وما تزال على مقربة من البحر الميّت منطقة مغطّاة بالصخور السود ويحتمل أن تكون هي محلّ مدن قوم لوط!

وقيل أنّ مركز إبراهيم كان في مدينة «حبرون» على فاصلة غير بعيدة من «سدوم» وحين نزل العذاب والصاعقة من السماء أو الزلزلة في الأرض واحترقت «سدوم» كان إبراهيم واقفاً قريباً من حبرون وشاهد دخان تلك المنطقة المتصاعد في الفضاء باُمّ عينيه(1)!.

ومن مجموع هذه الكلمات تتّضح الحدود التقريبية لهذه المدن وإن كانت جزئياتها ما تزال وراء ستار الإبهام باقية.

* * *

______________________________________

1 ـ مقتبس من كتاب القاموس المقدّس.

[113]

الآيات

وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَـهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـن مَّبِين ( 38 ) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَـحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 39 ) فَأَخَذْنَـهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ( 40 ) وَفِى عَاد إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ( 41 ) مَا تَذَرُ مِن شَىْء أتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ( 42 ) وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِين ( 43 ) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( 44 ) فَمَا اسْتَطَـعُوا مِن قِيَام وَمِا كَانُوا مُنتَصِرِينَ ( 45 ) وَقَوْمَ نُوح مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَـسِقِينَ ( 46 )

 

التّفسير

دروس العبرة من الأقوام السالفة:

يتحدّث القرآن في هذه الآيات محلّ البحث ـ تعقيباً على قصّة قوم لوط وعاقبتهم الوخيمة ـ عن قصص أقوام آخرين ممّن مضوا في العصور السابقة.

فيقول أوّلا: (وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين).

[114]

«السلطان» ما يكون به التسلّط، والمراد به هنا المعجزة أو الدليل والمنطق العقلي القويّ أو كلاهما، وقد واجه موسى فرعون بهما.

والتعبير بـ (سلطان مبين) جاء في آيات القرآن المتعدّدة والمختلفة كثيراً .. وغالباً ما يراد منه الدليل المنطقي البيّن والواضح إلاّ أنّ فرعون لم يسلّم لمعجزات موسى الكبرى التي كانت شاهداً على إرتباطه بالله ولم يطأطىء رأسه للدلائل المنطقية .. بل بقي مصرّاً لما كان فيه من غرور وتكبّر (فتولّى بركنه وقال ساحر أو مجنون).

«الركن» في الأصل القاعدة الأساسية أو الاُسطوانة(1) والقسم المهمّ من كلّ شيء، وهو هنا لعلّه إشارة إلى أركان البدن، أي أنّ فرعون أدار ظهره لموسى تماماً!

وقال بعضهم المراد بالركن هنا جيشه، أي أنّه اعتمد على أركان جيشه وتولّى عن رسالة الحقّ. أو أنّه صرف نفسه عن أمر الله وصرف أركان حكومته ـ وجيشه جميعاً عن ذلك أيضاً(2).

والطريف أنّ الجبابرة المتكبّرين حين كانوا يتّهمون الأنبياء بالكذب والإفتراء كانوا يتناقضون تناقضاً عجيباً. فتارةً يتّهمونهم بأنّهم سحرة، واُخرى بأنّهم مجانين، مع أنّ الساحر ينبغي أن يكون ذكيّاً وأن يعوّل على مسائل دقيقة ويعرف نفوس الناس حتّى يسحرهم ويخدعهم بها .. والمجنون بخلافه تماماً.

إلاّ إنّ القرآن يخبر عن فرعون الجبّار وأعوانه بقوله: (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليمّ وهو مليم).

«اليمّ»: كما هو مذكور في كتب اللغة وكتب الأحاديث يطلق على البحر، كما

______________________________________

1 ـ الاُسطوانة معربة عن كلمة ستون الفارسية.

2 ـ فتكون الباء في بركنه حسب التّفسير الأوّل للمصاحبة، وحسب التّفسير الثاني للسببية، وحسب التّفسير الثالث للتعدية ..

[115]

يطلق على الأنهار العظيمة كالنيل مثلا(1).

جملة «فنبذناهم» إشارة إلى أنّ فرعون وجنوده كانوا في درجة من الضعف أمام قدرة الله بحيث ألقاهم في اليمّ كأنّهم موجود لا قيمة ولا مقدار له.

والتعبير بـ (وهو مليم) إشارة إلى أنّ العقاب الإلهي لم يَمحُهُ فحسب بل التاريخ من بعده يلومه على أعماله المخزية ويذكرها بكلّ ما يشينه ويلعنه .. ويفضح غروره وتكبّره بإماطة النقاب عنهما.

ثمّ يتناول القرآن عاقبة قوم آخرين بالذكر وهم «قوم عاد» فيقول: (وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم).

وكون الريح عقيماً هو عندما تأتي الريح غير حاملة معها السحب الممطرة، ولا تلقح النباتات ولا تكون فيها أيّة فائدة ولا بركة وليس معها إلاّ الدمار والهلاك!.

ثمّ يذكر القرآن سرعة الريح المسلّطة على عاد فيقول: (ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم).

«الرميم» مأخوذ من الرمّة على زنة (المنّة) ـ وهي العظام النخرة البالية. والرُمَّة ـ على وزن القُبّة ـ هي الحبل المتآكل أو الخيط البالي والرِّم(2) على وزن الجنّ ـ ما يسقط من الخشب أو التبن على الأرض و «الترميم» معناه إصلاح الأشياء المتآكلة(3)!

وهذا التعبير يدلّ على أنّ سرعة الريح المسلّطة على قوم عاد لم تكن سرعة طبيعيّة، بل إضافةً إلى تخريبها البيوت وهدمها المنازل، فهي محرقة وذات سموم

______________________________________

1 ـ المراد بالمليم ذو الملامة ـ فهو اسم فاعل من اللوم وبابه الأفعال [الام يُليم] أي هو الشخص الذي يرتكب عملا يكون بنفسه ملامة مثل المُغرب الذي يأتي بالعجيب الغريب .. ولمزيد التوضيح في قصّة موسى وفرعون يراجع ذيل الآية 136 من سورة الأعراف.

2 ـ راجع: المفردات للراغب مادّة رمّ.

3 ـ راجع: لسان العرب والمفردات مادّة رمّ.

[116]

ممّا جعلت كلّ شيء رميماً.

أجل، هذه قدرة الله التي تدمّر القوم الجبّارين بسرعة الريح المذهلة فلا تبقي منهم ومن ضجيجهم وصخبهم وغرورهم إلاّ أجساداً تحوّلت رميماً.

وهكذا أشارت الآية آنفة الذكر إشارة عابرة عن عاقبة قوم «عاد» الأثرياء الأقوياء الذين كانوا يقطنون الأحقاف وهي منطقة «ما بين عمان وحضرموت».

ثمّ تصل النوبة إلى ثمود قوم صالح إذ أمهلهم الله قليلا ليتلقوا العذاب بعد ذلك .. فيقول الله فيهم: (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتّعوا حتّى حين).

والمراد بـ (حتّى حين) هو الأيّام الثلاثة المشار إليها في الآية (65) من سورة هود إمهالا لهم: (فعقروها فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب).

ومع أنّ الله قد أنذرهم بواسطة نبيّهم «صالح» (عليه السلام) مراراً .. إلاّ أنّه إتماماً للحجّة أمهلهم ثلاثة أيّام فلعلّهم يتداركون ما فرطوا في ماضيهم الأسود ويغسلوا صدأ الذنوب ـ بماء التوبة ـ عن قلوبهم وأرواحهم.

بل كما يقول بعض المفسّرين: ظهرت خلال الأيّام الثلاثة بعض التغيّرات في أبدانهم إذ صارت صفراً ثمّ حمراً ثمّ تحوّلت سوداً .. لتكون نذيراً لهؤلاء القوم المعاندين، إلاّ أنّهم وللأسف لم يؤثّر فيهم أي شيء من هذه الاُمور ولم ينزلوا عن مركب غرورهم.

أجل: (فعتوا عن أمر ربّهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون).

كلمة «عتوا» مشتقّة من العتوّ ـ على وزن غلوّ ـ ومعناه الإعراض «بالوجه»، والإنصراف عن طاعة الله، والظاهر أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما كان منهم من إعراض طوال الفترة التي دعاهم فيها نبيّهم صالح كالشرك وعبادة الأوثان والظلم وعقرهم الناقة التي كانت معجزة نبيّهم، لا الإعراض الذي كان منهم خلال الأيّام الثلاثة فحسب، وبدلا من أن يتوبوا وينيبوا غرقوا في غرورهم وغفلتهم.

[117]

والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: (فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين).(1)

والصاعقة والصاقعة كلاّ اللفظين بمعنى واحد تقريباً، وأصلهما الهوّي المقرون بالصوت الشديد، مع تفاوت بينهما، وهو أنّ الصاعقة تطلق على ما يقع في الأشياء السماوية والصاقعة في الأشياء فوق الأرض.

وكما يقول بعض أهل اللغة فإنّ «الصاعقة» تعني الموت حيناً أو العذاب أو النار حيناً آخر، وهذه الكلمة تطلق غالباً على الصوت الشديد الذي يسمع في السماء مقروناً بالنار المهلكة.

وقد أشرنا من قبل أنّ السحب ذات الشحنات الموجبة إذا إقتربت من الأرض التي تحتوي على شحنات سالبة، يحدث وميض كهربائي شديد من هذين مقروناً بصوت مرعب ونار محرقة يهتزلها مكان الحادث.

وفي القرآن الكريم إستعملت هذه الكلمة في الآية (19) من سورة البقرة بهذا المعنى بجلاء، لأنّه بعد أن يتحدّث القرآن عن الصيّب والبرق والرعد يضيف قائلا: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت).

وأخيراً فإنّ آخر جملة تتحدّث عن شأن هؤلاء القوم المعاندين تقول: (فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين).

أجل: هكذا تدمّر الصاعقة حين تقع على الأرض بصورة مفاجئة، فلا يستطيع الإنسان أن ينهض من الأرض، ولا يقدر على الصريخ والإستنصار، وعلى هذه الحال هلك قوم صالح وكانوا عبرةً للآخرين.

أجل: إنّ قوم صالح (ثمود) الذين كانوا من القبائل العربية وكانوا يقطنون «الحجر» وهي منطقة تقع شمال الحجاز مع إمكانات مادية هائلة وثروات طائلة

______________________________________

1 ـ الأعراف، الآية 77.

[118]

وعمّروا طويلا في قصور مشيّدة .. اُهلكوا بسبب إعراضهم عن أمر الله وطغيانهم وعنادهم والشرك والظلم، وبقيت آثارهم درساً بليغاً من العبر للآخرين.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة قصيرة إلى عاقبة خامس اُمّة من الاُمم، وهي قوم نوح فتقول: (وقوم نوح من قبل إنّهم كانوا قوماً فاسقين)(1).

و «الفاسق» يُطلق على من يخرج على حدود الله وأمره، ويكون ملوّثاً بالكفر أو الظلم أو سائر الذنوب.

والتعبير بـ «من قبل» لعلّه إشارة إلى أنّ قوم فرعون وقوم لوط وعاداً وثمود كان قد بلغهم ما انتهى إليه قوم نوح من عاقبة وخيمة، إلاّ أنّهم لم يتنبهوا، فابتلوا بما ابتلي به من كان قبلهم من قوم نوح!

* * *

 

تعقيب

1 ـ أوجه عذاب الله!

ممّا ينبغي الإلتفات إليه أنّه ورد في الآيات الآنفة الإشارة إلى قصص خمس اُمم من الاُمم المتقدّمة «قوم لوط، فرعون، عاد، ثمود، وقوم نوح» وقد اُشير إلى جزاء أربع من هذه الاُمم وما عوقبت به، إلاّ أنّه لم ترد الإشارة في كيفية عقاب قوم نوح.

وحين نلاحظ بدقّة نجد كلّ اُمّة من الاُمم الأربع المتقدّم ذكرها عوقبت بنوع من العناصر الأربعة المعروفة! فقوم لوط عوقبوا بالزلزلة والحجارة (من السماء) أي أنّهم أهلكوا بالتراب، وقوم فرعون أهلكوا بالماء غرقاً ـ وعاد أُهلكوا بريح صرصر عاتية (سريعة) وثمود أُهلكوا بالصاعقة و «النار».

______________________________________

1 ـ هناك حذف في الجملة المتقدّمة وتقديره كما يقول «الزمخشري» في «الكشّاف» وأهلكنا قوم نوح من قبل، بالرغم من أنّ أهلكنا لم تكن في الآيات المتقدّمة إلاّ أنّ هذه الكلمة تستفاد منها بصورة جيّدة ..

[119]

وصحيح أنّ هذه الأشياء الأربعة لا تعدّ اليوم (عنصراً) أي جسماً بسيطاً، لأنّ كلاًّ منها مركب من أجسام اُخر، إلاّ أنّه لا يمكن الإنكار أنّها تمثّل أربعة أركان حياة الإنسان المهمّة، ومتى ما حذف أي منها فلا يمكن أن يواصل الإنسان حياته فكيف بحذف جميعها؟!

أجل إنّ الله سبحانه أهلك هذه الاُمم بشيء يعدّ عامل البقاء والحياة الأصيل ولم يستطيعوا بدونه أن يواصلوا الحياة .. وهذه قدرة (غائية) عجيبة!

وإذا لم نجد بياناً عن ما عوقب به قوم نوح (عليه السلام) خلال السياق، فلعلّه لأنّهم عوقبوا بمثل ما عوقب به قوم فرعون أي اُهلكوا بالغرق (والطوفان) ولم تكن حاجة هنا للتكرار!

 

2 ـ الرياح اللواقح والرياح العقيم!

قرأنا في الآيات الآنفة أنّ عاداً أهلكوا بالريح العقيم، ونقرأ في الآية (22) من سورة الحجر (وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً)! وبالرغم أنّ هذه الآية ناظرة إلى تلقيح الغيوم واتّصال بعضها ببعض لنزول الغيث .. إلاّ أنّها وبشكل عام تبيّن أثر الرياح في حياة الإنسان .. أجل إنّ أثرها وعملها التلقيح، تلقيح الغيوم وتلقيح النباتات، وحتّى أنّها تؤثّر أحياناً على تهيأة مختلف الحيوانات للتلاقح!

إلاّ أنّ هذه الريح حين تحمل الأمر بالعذاب، فبدلا من أن تهب الحياة تكون عاملا على الهلاك، وكما يعبّر القرآن في الآية (20) من سورة القمر التي تتكلّم على عاد فتقول: (تنزع الناس كأنّهم أعجاز نخل منقعر)!

 

* * *

[120]

الآيات

وَالسَّمَآءَ بَنَيْنـهَا بِأَيْيْد وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ( 47 ) وَالاَْرْضَ فَرَشْنَـهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ( 48 ) وَمِن كُلِّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( 49 ) فَفِرَّوا إِلَى اللهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذيرٌ مُّبِينٌ ( 50 ) وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( 51 )

 

التّفسير

والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون:

مرّة اُخرى تتحدّث هذه الآيات عن موضوع آيات عظمة الله في عالم الخلق، وهي في الحقيقة تتمّة لما ورد في الآيتين (20) و21) من هذه السورة في شأن آياته في الأرض وفي نفس «الإنسان» ووجوده ـ وهي ضمناً دليل على قدرة الله على المعاد والحياة فتقول أوّلا: (والسماء بنيناها بأيد وإنّا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون).

«الأيد» على وزن الصيد، معناه القدرة والقوّة ـ وقد تكرّر هذا المعنى في آيات القرآن المجيد، وهو هنا بمعنى قدرة الله المطلقة العظيمة في خلق السماوات!

[121]

ودلائل هذه القدرة العظيمة واضحة جليّة في عظمة السماوات ونظامها الخاصّ الحاكم عليها أيضاً(1).

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد من (وإنّا لموسعون):

فقال بعضهم معناه توسعة الرزق من قِبَلِ الله على العباد بواسطة نزول الغيث، وقال بعضهم معناه توسعة الرزق من جميع الجهات، وقال بعضهم معناه غنى الله وعدم حاجته، لأنّ خزائنه من السعة بحيث لا تنفذ ولا تنقص مهما كان عطاؤه!

إلاّ أنّه مع ملاحظة موضوع خلق السماء في الجملة السابقة ومع الأخذ بنظر الإعتبار ما إكتشفه العلماء من اتّساع العالم عن طريق المشاهدات الحسّية المؤيّدة، يمكن الوقوف على معنى أكثر لطافةً لهذه الآية، وهو أنّ الله خلق السماوات ويوسعها دائماً.

والعلم الحديث [المعاصر] يقول ليست الكرة الأرضية وحدها تتضخّم وتثقل على أثر جذب المواد السماوية تدريجاً، بل السماء أيضاً في اتّساع دائم، أي أنّ بعض النجوم المستقرّة في المجرّات تبتعد عن مركز مجرّاتها بسرعة هائلة حتّى أنّ هذه السرعة لها أثرها في الإتّساع في كثير من المواقع!.

ونقرأ في كتاب «حدود النجوم» بقلم الكاتب «فِرد هويل»: أنّ أقصى سرعة لإبتعاد النجوم عن مركزها حتّى الآن 66 ألف كيلومتر في الثانية، والمجرّات التي هي أبعد منها ـ في نظرنا ـ ومض نورها قليل جدّاً حتّى أنّه من الصعب تحديد سرعتها، والصور الملتقطة من السماء تدلّ على أهميّة هذا الكشف وأنّ الفاصلة ما

______________________________________

1 ـ وقع خطأ أو إشتباه عند بعض المفسّرين وغيرهم هنا وينبغي التنويه إليه.

أ ـ قال بعض المفسّرين أنّ للأيد «معنيين»: «القدرة» و «النعمة» مع أنّ الأيد تعني القدرة لغةً. إلاّ أنّ اليد تُجمع على أيدي وجمع جمعها أياد تأتي بمعنى القدرة والنعمة، وقد ذكرنا المعنيين أيضاً في الآية (17) من سورة ص تبعاً للمرحوم الطبرسي صاحب مجمع البيان ونصحّحه هنا ..
ب ـ جاء في المعجم المفهرس لمحمّد فؤاد عبدالباقي ذكر اليد في الآية محلّ البحث بيائيين (أييد) ويظهر أنّ هذا الإشتباه ناشىء من بعض الرسم في كتابة المصاحف وإلاّ فإنّ المفسّرين ذكروا معنى القدرة لليد.

[122]

بين هذه المجرّات تتّسع أكثر من المجرّات القريبة منّا بسرعة(1).

ثمّ يتحدّث المؤلّف عن سرعة هذه المجرّات «السنبلة والأكليل والشجاع وغيرها» فيبيّن سرعتها العجيبة المذهلة في هذا الكتاب(2).

ولنصغ إلى بعض العبارات للاُستاذ «جان الدر» إذ يقول:

«إنّ أحدث وأدقّ تقدير طول الأمواج التي تبثّها النجوم يكشف الستار عن وجه حقيقة عجيبة ومحيّرة أي أنّها تكشف لنا أنّ مجموع النجوم التي يحويها العالم تبتعد عن مركزها بسرعة دائماً وكلّما كانت الفاصلة بينها وبين مركزها إزدادت سرعتها.

فكأنّ جميع النجوم كانت مجتمعة في هذا المركز ثمّ تفرّقت عنه مجاميع كبيرة من النجوم واتّجه كلّ منها إلى اتّجاه خاصّ».

ويستنتج العلماء من ذلك أنّ العالم كانت له نقطة بداية وشروع(3).

ويقول «جورج جاموف» في كتاب خلق العالم في هذا الصدد «إنّ فضاء العالم المتشكّل من ملياردات المجرّات في حالة إنبساط سريعة، والحقيقة هي أنّ عالمنا ليس في حالة من السكون، بل إنبساطه مقطوع به .. والإذعان إلى أنّ عالمنا منبسط يهيؤ المفتاح لخزينة أسرار معرفة العالم لأنّه إذا كان العالم الآن في حالة الإنبساط فيلزم أن يكون في زمان ما في حالة إنقباض شديد(4).

وليس العلماء المذكورون آنفاً يعترفون بهذه الحقيقة فحسب .. فإنّ هناك آخرين ذكروا هذا المعنى في كتاباتهم ويجرّنا نقل كلماتهم إلى الإطالة.

وممّا يستجلب النظر أنّ التعبير بـ (إنّا لموسعون) دالّة على الدوام

______________________________________

1 ـ حدود النجوم، ص338 إلى ص340.

2 ـ حدود النجوم، ص338 ـ 340.

3 ـ بداية العالم ونهايته، الصفحات 74 ـ 77 بتلخيص.

4 ـ المصدر السابق.

[123]

والإستمرار، فهي جملة إسمية ذات إسم فاعل، كما أنّها تدلّ على أنّ هذا الإتّساع موجود دائماً وكان ولا يزال، وهذا يؤيّد تماماً ما وصل إليه العلم الحديث أنّ جميع النجوم والمجرّات كانت مجتمعة في البداية في مركز واحد «بوزن خاصّ له ثقل خارق» ثمّ إنفجرت إنفجاراً عظيماً مثيراً (مرعباً) وعلى أثر ذلك تلاشت أجزاء العالم وظهرت بصورة كرات وهي بسرعتها في حالة الإتّساع والإبتعاد (عن المركز).

وأمّا التعبير الوارد في شأن خلق الأرض (فنعم الماهدون) ففي كلمة «ماهدون» لطافة تدلّ على أنّ الله مهّد الأرض بجميع وسائل الراحة للإنسان، لأنّ «الماهد» مأخوذ من المهد، ومعناه ما يعدّ للطفل من الفراش أو أي محل للإستراحة، فمثل هذا المحل ينبغي أن يكون هادئاً محفوظاً ليّناً دافئاً مطمئناً، وجميع هذه الاُمور متوفّرة في الأرض!.

وبأمر الله أضحت الحجارة ليّنة وتبدلّت إلى تراب هذا من جهة، وصلابة الجبال وقشر الأرض القوي من جهة ثانية جعلت الأرض تقاوم الجزر والمدّ، ومن جهة ثالثة فإنّ الغلاف الجوّي المحيط بالأرض يخفّف من وطأة حرارة الشمس ويحفظها وهو بمثابة اللحاف لها كما أنّه يصدّ النيازك والأحجار العظيمة التي تهوي من السماء إلى الأرض فيمنعها من النفوذ إليها فتتلاشى عنده وتتحوّل رماداً.

وهكذا فإنّ الله هيّأ جميع وسائل الراحة لإستقبال الإنسان الذي هو ضيف الله في هذه الكرة الأرضية.

وبعد خلق السماء والأرض تصل النوبة إلى خلق الموجودات المختلفة في السماء والأرض وأنواع النباتات والحيوانات فتقول الآية التالية في هذا الشأن (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكرون).

ويعتقد كثير من المفسّرين أنّ كلمة «الزوجين» هنا معناها الأصناف المختلفة

[124]

وأنّ الآية تشير إلى أصناف الموجودات المختلفة في هذا العالم التي تبدو على شكل زوج زوج كالليل والنهار، والنور والظلمة، والبحر واليابسة، والشمس والقمر، والذكر والاُنثى وغيرها.

إلاّ أنّه كما ذكرنا سابقاً ذيل الآيات المشابهة لهذه الآيات أيضاً أنّ الزوجية في مثل هذه الآيات يمكن أن تكون إشارة إلى معنى أدقّ، لأنّ كلمة «الزوج» تطلق عادةً على جنسي الذكر والاُنثى، سواءً في عالم الحيوانات أو النباتات، وإذا ما توسّعنا في إستعمال هذه الكلمة فإنّها ستشمل جميع الطاقات الموجبة والسالبة (- و +) ومع ملاحظة ما جاء في القرآن (ومن كلّ شيء) ويشمل جميع الموجودات لا الموجودات الحيّة فحسب. فيمكنها أن تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ جميع أشياء العالم مخلوقة من ذرّات موجبة وسالبة، ومن المسلّم به هذا اليوم من الناحية العلمية أنّ الذرّات مؤلّفة من أجزاء مختلفة، منها ما يحمل طاقة سالبة تدعى بالألكترون، ومنها ما يحمل طاقة موجبة وتدعى بالبروتون.

فبناءً على ذلك لا داعي أن نفسّر الشيء بالحيوان أو النبات حتماً أو أنّ نفسّر الزوج بمعنى الصنف «لمزيد الإيضاح ذكرنا شرحاً مفصّلا ذيل الآية 7 من سورة الشعراء» وينبغي الإلتفات أنّه في الوقت ذاته يمكن الجمع بين التّفسيرين.

وجملة (لعلّكم تذكّرون) ـ تشير إلى أنّ الزوجية والتعدّد في جميع أشياء العالم تذكّر الإنسان بأنّ الله خالق هذا العالم واحد أحد، لأنّ التثنية والتعدّد من خصائص المخلوقات.

وقد جاءت الإشارة إلى هذا المعنى في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إذ قال: «بمضادته بين الأشياء عُرف أن لا ضدّ له وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، واليبس باللبل والخشن باللين، والصرد بالحرور مؤلّفاً بين متعادياتها مفرقاً بين متدانياتها دالّة بتفريقها على مفرقها، وبتأليفها على مؤلّفها وذلك قوله: (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم

[125]

تذكّرون)»(1).

ويضيف القرآن في الآية التالية مستنتجاً ممّا تقدّم من الأبحاث التوحيدية قائلا: (ففرّوا إلى الله إنّي لكم منه نذير مبين).

والتعبير بـ «الفرار» هنا تعبير لطيف وبليغ، لأنّ الفرار يطلق في ما إذا واجه الإنسان موجوداً أو حادثاً مخيفاً من جهة، وهو من جهة اُخرى يعرف مكاناً يلتجىء إليه فيُسرع من مكان المواجهة إلى ذلك المكان ويلتجىء إلى نقطة الأمن والأمان .. فالآية تقول: فرّوا من عقيدة الشرك الموحشة وعبادة الأصنام إلى التوحيد الخالص الذي هو منطقة الأمن والأمان الواقعي.

ففرّوا من عذاب الله وتوجّهوا نحو رحمته!

فرّوا من عصيانه وعناده وتوسّلوا بالتوبة إليه.

والخلاصة: فرّوا من السيّئات والقبائح وعدم الإيمان وظلمة الجهل والعذاب الدائم والتجأوا إلى رحمة الحقّ وسعادته الأبدية.

ولمزيد التأكيد، يستند القرآن إلى وحدانية العبادة لله الأحد فيقول:  (ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر).

ويحتمل أنّ الآية السابقة ـ تدعو إلى أصل الإيمان بالله! وهذه الآية تدعو إلى وحدانية ذاته المقدّسة فيكون تكرار جملة: «إنّي لكم منه نذير مبين» في المورد الأوّل على أنّه إنذار على ترك الإيمان بالله، وفي المورد الآخر إنذار على الشرك وعبادة الأصنام، وهكذا فإنّ كلّ جملة وإن تكرّرت تشير إلى موضوع مستقلّ!

وجاء في بعض الرّوايات عن الإمام الصادق أنّ المراد من قوله: (ففرّوا إلى الله) هو الحجّ وزيارة بيت الله(2) وواضح أنّ المراد هنا ذكر مصداق واحد من المصاديق الواضحة للفرار إلى الله، لأنّ الحجّ يعرّف الإنسان حقيقة التوحيد

______________________________________

1 ـ توحيد الصدوق طبقاً لما ورد في نور الثقلين، ج5، ص130.

2 ـ نقل في تفسير نور الثقلين في هذا الصدد بضعة أحاديث عن الإمامين الباقر والصادق الجزء الخامس ص130 ـ 131.

[126]

والتوبة والإنابة إلى الله ويمنحه الإلتجاء إلى ألطاف الله سبحانه.

* * *

[127]

الآيات

كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُول إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ( 52 ) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ( 53 ) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم ( 54 ) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( 55 )

 

التّفسير

إنّ الذكرى تنفع المؤمنين:

قرأنا في الآية 39 من هذه السورة أنّ فرعون اتّهم موسى (عليه السلام) عندما دعاه إلى الله وترك الظلم أنّه ساحر أو مجنون، فهذا الإتّهام ورد على لسان المشركين في زمان النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً إذ اتّهموه بمثل ما اتّهم فرعون موسى وقد عزّ ذلك على المؤمنين الأوائل والقلائل كما كان يؤلم روح النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فالآيات محلّ البحث ومن أجل تسلية النّبي والمؤمنين تقول: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلاّ قالوا ساحر أو مجنون)(1).

كانوا يتّهمون الرسل السابقين بأنّهم سحرة لأنّهم لم يجدوا جواباً منطقياً لمعاجزهم الباهرة، وكانوا يخاطبون رسولهم بأنّه «مجنون» .. لأنّه لم يكن على

______________________________________

1 ـ كذلك خبر لمبتدأ محذوف وتقدير الكلام: الأمر كذلك.

[128]

غرارهم ومتلوّناً بلون المحيط ولم يستسلم للاُمور الماديّة.

فبناءً على ذلك لا تحزن ولا تكترث وواصل المسير بالصبر والإستقامة، لأنّ مثل هذه الكلمات قيلت في أمثالك يارسول الله من رجال الحقّ وأهله.

ثمّ يضيف القرآن هل أنّ هذه الأقوام الكافرة تواصت فيما بينها على توجيه هذه التّهمة إلى جميع الأنبياء: (أتواصوا به)؟!

وكان عملهم هذا إلى درجة من الإنسجام، وكأنّهم إجتمعوا في مجلس ـ في ما وراء التاريخ ـ وتشاوروا وتواصوا على أن يتّهموا الأنبياء عامّةً بالسحر والجنون ليخفّفوا من وطأة نفوذهم في نفوس الناس!

ولعلّ كلاًّ منهم كان يريد أن يمضي من هذه الدنيا ويوصي أبناءه وأحبابه بذلك!

ويعقّب القرآن على ذلك قائلا: (بل هم قوم طاغون)(1).

وهذه هي إفرازات روح الطغيان حيث يتوسّلون بكلّ كذب واتّهام لإخراج أهل الحقّ من الساحة، وحيث أنّ الأنبياء يأتون الناس بالمعجزات فإنّ خير ما يلصقونه بهم من التّهم أن يَسِموهم بالسحر أو الجنون، فبناءً على ذلك يكون عامل «وحدة عملهم» هذا هي الروحية الخبيثة والطاغية الواحدة لهم.

ولمزيد التسرّي عن قلب النّبي وتسليته يضيف القرآن: (فتولّ عنهم).

وكن مطمئناً بأنّك قد أدّيت ما عليك من التبليغ والرسالة (فما أنت بملوم).

وإذا لم يستجب اُولئك للحقّ فلا تحزن فهناك قلوب متعطّشة له جديرة بحمله وهي في إنتظاره.

وهذه الجملة في الحقيقة تذكر بالآيات السابقة التي تدلّ على أنّ النّبي كان يتحرّق لقومه حتّى يؤمنوا ويتأثّر غاية التأثّر لعدم إيمانهم حتّى كاد يهلك نفسه من

______________________________________

1 ـ بل في الآية الآنفة للأضراب.

[129]

أجلهم.

كما تشير الآية (6) من سورة الكهف حيث نقرأ فيها: (فلعلّك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً).

.. وبالطبع فإنّ القائد الحقّ ينبغي أن يكون كذلك.

قال المفسّرون: لمّا نزلت هذه الآية حزن النّبي والمؤمنون لأنّهم تصوّروا أنّ هذا آخر الكلام في شأن المشركين وأنّ وحي السماء قد إنقطع ويوشك أن يحيق بهم العذاب .. إلاّ أنّه لم تمض فترة قصيرة حتّى نزلت الآية بعدها لتأمر النّبي بالتذكير: (وذكّر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين)(1).

فكان أن أحسّ الجميع بالإطمئنان!

والآية تشير إلى أنّ هناك قلوباً مهيّأة تنتظر كلامك يارسول الله وتبليغك .. فإذا ما عاند جماعة ونهضوا بوجه الحقّ مخالفين، فإنّ هناك جماعةً آخرين تتوق إلى الحقّ من أعماق قلوبهم وأرواحهم ويؤثّر فيها كلامك اللّين!

* * *

 

ملاحظة

لابدّ من قلوب مهيّأة .. لقبول الحقّ:

لاحظوا المزارع والفلاّح الذي ينثر البذور، فقد تقع بعض هذه البذور على الأحجار، ومن الواضح أنّ ما يقع على الأحجار والصخور لا ينمو!

وبعض هذه البذور يقع على طبقة رقيقة من التراب الذي يغطّي الصخر، فتثبت هذه البذور وتمدّ جذورها، إلاّ أنّ المكان حيث كان حرجاً لا يساعد على إمتداد الجذور (لكون الأرض صخرية) فما أسرع من أن تجفّ البراعم وتموت الجذور.

______________________________________

1 ـ مجمع البيان، ج9، ص161.

[130]

ويقع قسم من البذور على أرض ذات تراب صالحة، إلاّ أنّ نبات الشوك والعلف تنمو إلى جانبها، فحتّى لو أورقت تلك البذور إلاّ أنّها ما أسرع أن تغلبها الأشواك وتلتفّ عليها فتموت.

وأحسن هذه البذور حظّاً تلك البذور التي تستقرّ في تربة صالحة ولا تعوقها نباتات اُخرى .. فلا يمضي زمن حتّى تنبت وتنمو وتورق وتستوي على سوقها وتعطي ثمارها.

فكلمات الحقّ التي تخرج من أفواه الأنبياء ورسل الله وخلفائهم المعصومين كهذه البذور، فالقلوب الصخرية لا تتقبّل هذه الكلمات من الأساس، والقلوب الضعيفة تتقبّلها مؤقتاً ثمّ تعرض عنها، وهناك قلوب مهيّأة للقبول، لكن الأهواء والصفات الرذيلة والشهوات نابتة فيها، وهذه الاُمور تبطل تأثير تلك الكلمات الحقّة.

القلوب ـ الوحيدة ـ التي تتقبّل كلمات هؤلاء الأئمّة العظام وتنمو فيها وتثمر هي القلوب التي تطلب الحقّ ويحكم عليها البحث عن الحقّ! وخالية من الصفات السلبية والدوافع الدنيوية أيضاً .. وتلك هي قلوب المؤمنين.

أجل .. (فذكّر إنّ الذكرى تنفع المؤمنين)!

 

* * *

[131]

الآيات

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( 56 ) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْق وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ( 57 ) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ( 58 )

 

التّفسير

هدفُ خلقِ الإنسان من وجهة نظرِ القرآن:

من أهمّ الأسئلة التي تختلج في خاطر كلّ إنسان هو لِمَ خُلِقنا؟! وما الهدف من خلق الناس والمجيىء إلى هذه الدنيا؟!

فالآيات آنفة الذكر تجيب على هذا السؤال المهم والعام بتعابير موجزة ذات معنى غزير، وتكمّل البحث الوارد في آخر آية من الآيات المتقدّمة حول تذكير المؤمنين، لأنّ ذلك من أهمّ الاُصول التي ينبغي على النّبي أن يتابعها .. كما توضّح ـ ضمناً ـ معنى الفرار إلى الله الوارد في الآيات السابقة.

تقول الآيات حاكيةً عن الله سبحانه: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون).

وأنّه غير مفتقر إلى أيّ منهم أبداً (ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون) بل إنّ الله تعالى هو الذي يرزق عباده ومخلوقاته .. (إنّ الله هو الرزّاق

[132]

ذو القوّة المتين).

فهذه الآيات التي هي في منتهى الوجازة والإختصار تكشف ستاراً عن الحقيقة التي يطلبها الجميع ويريدون معرفتها وتجعلنا أمام الهدف العظيم.

 

توضيح ذلك:

لا شكّ أنّ كلّ فرد عاقل وحكيم حين يقوم بعمل فإنّما يهدف من وراء عمله إلى هدف معيّن، وحيث أنّ الله أعلم من جميع مخلوقاته وأعرفهم بالحكمة، بل لا ينبغي قياسه بأي أحد، فينقدح هذا السؤال وهو لِمَ خلق الله الإنسان؟! هل كان يشعر بنقص فإرتفع بخلق الإنسان؟! هل كان محتاجاً إلى شيء فإرتفع الإحتياج بخلقنا؟

ولكنّنا نعلم أنّ وجوده كامل من كلّ الجهات (ولا محدود في اللاّ محدود) وهو غني بالذات!

إذاً، فطبقاً للمقدّمة الاُولى يجب القبول على أنّه كان له هدف، وطبقاً للمقدّمة الثانية ـ ينبغي القبول أنّ هدفه من خلق الإنسان ليس شيئاً يعود إلى ذاته المقدّسة.

فالنتيجة ينبغي أن يبحث عن هذا الهدف خارج ذاته، هذا الهدف يعود للمخلوقين أنفسهم وأساس كمالهم .. هذا من جانب!

ومن جانب آخر ورد في القرآن تعابير كثيرة مختلفة في شأن خلق الإنسان والهدف منه!

فنقرأ في إحدى آياته: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا)،(1) وهنا يبيّن مسألة الإمتحان للإنسان وحسن العمل على أنّه هدف (من أهداف خلق الإنسان).

______________________________________

1 ـ سورة الملك، الآية 6.

[133]

وجاء في آية اُخرى (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ يتنزّل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً)!.(1)

وهنا يبيّن القرآن أنّ علمنا بعلم الله وقدرته هو الهدف من خلق السماوات والأرض (وما بينهما).

ونقرأ في آية اُخرى (ولو شاء ربّك لجعل الناس اُمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم).(2)

وطبقاً لهاتين الآيتين فالهدف من خلق الإنسان هو رحمة الله.

والآيات محلّ البحث تستند إلى مسألة العبوديّة فحسب، وتعبّر عنها بصراحة بأنّها الهدف النهائي من خلق الجنّ والإنس!

وبقليل من التأمّل في مفهوم هذه الآيات وما شابهها نرى أنّه لا تضادّ ولا إختلاف بين هذه الآيات، ففي الحقيقة بعضها هدف مقدّمي، وبعضها هدف متوسّط، وبعضها هدف نهائي، وبعضها نتيجة!.

فالهدف الأصلي هو «العبودية» وهو ما اُشير في هذه الآيات محلّ البحث، أمّا العلم والإمتحان وأمثالهما فهي أهداف ضمن مسير العبودية لله، ورحمة الله الواسعة نتيجة العبودية لله.

وهكذا يتّضح أنّنا خلقنا لعبادة الله، لكن المهمّ أن نعرف ما هي حقيقة هذه العبادة؟!

فهل المراد منها أداء المراسم أو المناسك (اليومية) وأمثالها كالركوع والسجود والقيام والصلاة والصوم، أو هو حقيقة وراء هذه الاُمور وإن كادت العبادة الرسميّة كلّها أيضاً واجدة للأهميّة!؟

______________________________________

1 ـ سورة الطلاق، الآية 12.

2 ـ هود الآيتان 118 و119.

[134]

وللإجابة على هذا السؤال ينبغي معرفة معنى كلمة «العبد» والعبودية وتحليلهما!

«العبد»: لغةً هو الإنسان المتعلّق بمولاه وصاحبه من قرنه إلى قدمه!.. وإرادته تابعة لإرادته وما يطلب ويبتغيه تبع لطلب سيّده وإبتغائه، فلا يملك في قباله شيئاً وليس له أن يقصّر في طاعته.

وبتعبير آخر: إنّ العبودية ـ كما تبيّن معناها كتب اللغة ـ هي إظهار منتهى الخضوع للمعبود، ولذلك فالمعبود الوحيد الذي له حقّ العبادة على الآخرين هو الذي بذل منتهى الإنعام والإكرام، وليس ذلك سوى الله سبحانه!

فبناءً على ذلك فالعبودية هي قمّة التكامل وأوجُ بلوغ الإنسان وإقترابه من الله! والعبودية منتهى التسليم لذاته المقدّسة!

والعبودية هي الطاعة بلا قيد ولا شرط والإمتثال للأوامر الإلهية في جميع المجالات!.

وأخيراً فإنّ العبودية الكاملة هي أن لا يفكّر الإنسان بغير معبوده الواقعي أي الكمال المطلق، ولا يسير إلاّ في منهجه اللاحب وأن ينسى سواه حتّى (نفسه وشخصه).

وهذا هو الهدف النهائي من خلق البشر الذي أعدّ الله له الإمتحان والإختبار لنيله، ومنح الإنسان العلم والمعرفة، وجعل نتيجة كلّ ذلك فيض رحمته للإنسان.

* * *

 

بحوث

1 ـ الله غني على الإطلاق

إنّ جملة: (ما اُريد منهم من رزق وما اُريد أن يطعمون) هي في الحقيقة إشارة إلى إستغناء الله عن كلّ أحد وعن كلّ شيء، وإذا ما دعا العباد إلى عبادته

[135]

فليس ذلك ليستفيد منهم، بل يريد أن يجود عليهم، وهذا على العكس من العبودية بين الناس، لأنّهم يطلبون الرقّ والعبيد ليحصلوا بهم الرزق أو المعاش، أو أن يخدموهم في البيت، فيقدّموا لهم الطعام والشراب، وفي كلتا الحالين فإنّما يعود نفعهم على مالكيهم، وهذا الأمر ناشىء عن إحتياج الإنسان، إلاّ أنّ جميع هذه المسائل لا معنى لها في شأن الله، إذ ليس غنيّاً عن عباده فحسب، بل هو يضمن لعباده الرزق بلطفه وكرمه «ورزق الجميع على الله».

 

2 ـ الله ذو القوّة المتين

«المتين» كلمة مشتقّة من متن، وهو في الأصل ما يكتنف العمود الفقري من لحم وعصب التي تشدّ الظهر وتجعله مهيّأً لتحمّل الأعباء، ولذلك فقد استعمل «المتن» بمعنى القوّة الكاملة والطاقة والقدرة، فبناءً على ذلك فإنّ ذكر «المتين» بعد ذكر كلمة «ذو القوّة» إنّما هو للتأكيد، لأنّ «ذو القوّة» إشارة إلى أصل قدرة الله! «والمتين» إشارة إلى كمال القدرة، وحين تقترن هذه الكلمة بـ «الرزّاق» وهو صيغة مبالغة أيضاً تدلّ على هذه الحقيقة، وهي أنّ الله له منتهى القدرة والتسلّط في إيلاء الرزق وإعطائه لمن يشاء، وهو يوصل الرزق إلى أيّة جهة كانت وأي مكان كان .. في أعماق البحار، وفي قمم الجبال، وفي سفوح التلال وعلى ضفاف الأنهار، وفي الوديان والصحاري والبراري .. وجميع ما في الوجود ومن في الوجود مجتمعون على مائدته الكريمة، إذاً فخلق الله للإنسان وسائر الموجودات لم يكن لحاجته إليهم، بل ليفيض عليهم من لطفه العميم.

 

3 ـ لِمَ قُدّم ذكر الجنّ

مع أنّه يُستفاد من آيات القرآن بشكل واضح أنّ الإنس أفضل من الجنّ، إلاّ أنّه قدّم ذكر الجنّ على الإنس في الآية الآنفة، ولعلّ الظاهر منه أنّ الجنّ خلقوا قبل

[136]

أن يُخلق آدم كما نقرأ ذلك في الآية (27) من سورة الحجر إذ تقول: (والجانّ خلقناه من قبلُ(1) من نار السموم).

 

4 ـ الحكمة من الخلق في نظر الفلسفة

ذكرنا آنفاً أنّه قلّ أن نجد من لا يسأل نفسه أو غيره عن الهدف من خلق الإنسان! فدائماً تولّد جماعة وتمضي جماعة اُخرى وتنطفىء إلى الأبد، فما المراد من هذا المجيء والذهاب؟!

والحقّ أنّنا ـ كاُناس لو لم نكن نعيش على وجه هذه الكرة الأرضية فماذا سيحدث؟ وهل يجب علينا أن نعرف لِمَ نأتي ولِمَ نمضي؟ ولو أردنا أن نعرف السرّ فهل نستطيع ذلك؟! وهكذا تترى الأسئلة الاُخر على فكر الإنسان وتحيط به ...

وعندما يطرح هذا السؤال من قبل الماديين فالظاهر أنّهم لا جواب لهم عليه، لأنّ المادّة أو الطبيعة ليس لها عقل ولا شعور حتّى يكون لها هدف لذلك، فقد أراحوا أنفسهم من هذا السؤال وهم يعتقدون بعبثيّة الخلق وأنّه لا هدف من ورائه! وكم هو مثير ومقلق أن يتّخذ الإنسان لجزئيات حياته سواءً أكانت للعمل أم الكسب أو الصحّة أو الرياضة أهدافاً منظّمة وأن يعتقد أنّ الحياة بمجموعها ضرب من العبث واللغو!؟

لذلك فلا مجال للعجب أنّ جماعة من الماديين حينما يفكّرون في هذه المسائل يتركون هذه الحياة التي لا هدف ورائها ويقدّمون على الإنتحار!

إلاّ أنّ هذا السؤال حين يلقيه معتقد بالله، فإنّه لا يواجه طريقاً مسدوداً، لأنّه يعلم أنّ خالق هذا العالم حكيم وقد خلق هذا العالم عن حكمة حتماً وإن جهلناها، وهذا من جانب، ومن جانب آخر حين يرى أعضاءه عضواً عضواً يجد لكلّ

______________________________________

1 ـ قبل بني على الضمّ وإن سبقه الخافض لأنّه مضاف ـ والمضاف إليه محذوف لفظاً وتقديره من قبلِ خلق الإنسان.

[137]

فلسفة وحكمة وهدفاً، لا الأعضاء المهمّة ظاهراً كالقلب واللسان والعروق والأعصاب بل حتّى الأظفار وخطوط اليد والبنان وتقوّس القدم أو هيأة اليد وفسلجتها كلّ له فلسفة يعرفها العلم الحديث المعاصر!

فإلى أيّ درجة من السذاجة أن يُرى لجميع هذه الأعضاء أهدافاً إلاّ أنّ المجموع يكون بلا هدف!!

وأي قضاء متهافت أن نجد لكلّ بناء في المدينة فلسفة خاصّة ـ إلاّ أنّنا نقضي على المدينة بأنّها لا فلسفة فيها ولا هدف من ورائها!!

ترى هل من الممكن أن يبني مهندس ما بناءً عظيماً فيه الغرف والأبواب والنوافذ والأحواض والحدائق و «الديكورات» وكلّ من هذه الاُمور هو لأمر خاصّ ولهدف معيّن، إلاّ أنّ مجموع البناء لا هدف من ورائه؟!

هذه الاُمور هي التي تمنح المؤمن بالله والمعتقد به الإطمئنان بأنّ خلقه له هدف عظيم، وعليه أن يسعى ويجدّ حتّى يكتشفه بقوّة العقل والعلم.

والعجيب أنّ أصحاب نظرية العبث (في الخلق) حين يردون أيّة زاوية من زوايا العلوم الطبيعية ـ يبحثون عن الهدف لتفسير الظواهر المختلفة ولا يهدأون حتّى يجدوا الهدف! حتّى أنّهم لا يرتضون أن تبقى غدّة صغيرة في بدن الإنسان دون عمل وغاية، ولربّما يقضون سنوات بالبحث عن الحكمة من وجود مثل هذه الغدّة .. إلاّ أنّهم حين يبلغون أصل خلق الإنسان يقولون بصراحة: لا هدف من ورائه.

فما أعجب هذا التناقض!!

وعلى كلّ حال فالإيمان بحكمة الله تعالى من جانب، وملاحظة فلسفة أجزاء (وجود) الإنسان من جانب آخر، كلّ ذلك يدعونا إلى الإيمان أنّ وراء خلق الإنسان هدفاً كبيراً.

والآن ينبغي علينا أن نبحث عن هذا الهدف وأن نحدّده ما بوسعنا ـ وأن نسير

[138]

في منهاجه اللاحب.

إنّ ملاحظة عدّة مقدّمات ـ يمكن لها ـ أن تسلّط الأضواء على هدفنا للكشف عن هذا المجهول المظلم.

1 ـ نحن دائماً نقصد في أعمالنا إلى هدف ما، وعادةً يكون هذا الهدف إشباع حاجة ورفعها وإتمام النواقص. وحتّى الخدمة للآخرين أو إنقاذ مبتلى من بلائه .. أو قمنا بعمل إنساني وآثرنا سوانا على أنفسنا فذلك أيضاً نوع من الحاجات المقدّسة، وبرفعها نزداد معنوية وكمالا!

ولمّا كنّا نقيس أحياناً صفات الله مع أنفسنا فقد يخطر مثل هذا التصوّر وهو ما هي الحاجة عند الله حتّى ترتفع بخلقنا؟ أو إذا كانت الآيات الآنفة تقول (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدوني) فنقول ما هي حاجته إلى العبادة؟!

مع أنّ هذه التصوّرات ناشئة من المقايسة بين صفات الخالق والمخلوق والواجب والممكن؟!

وحيث أنّ وجودنا محدود فإنّنا نسعى وراء إشباع حاجاتنا، وأعمالنا جميعها تقع في هذا المسير .. إلاّ أنّ هذا غير وارد في وجود مطلق، فينبغي البحث عن هدف أفعاله في غير وجوده، فهو عين فيّاضة ومبدأ النعمة الذي يكتنف الموجودات في كنف حمايته ورعايته وإنمائه والسلوك بها إلى الكمال، وهذا هو الهدف الواقعي لعبوديتنا .. وهذه فلسفة عباداتنا وإبتهالاتنا، فهي جميعاً دروس تربوية لتكاملنا.

وأساساً فإنّ أصل الخلق هو خطوة تكاملية عظيمة، أي مجيء الشيء من العدم إلى الوجود، ومن الصفر إلى مرحلة العدد.

وبعد هذه الخطوة التكاملية العظيمة تبدأ مراحل تكاملية اُخرى .. فجميع المناهج الدينية والإلهيّة تسلك بالإنسان في هذا المسير!

2 ـ وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كان الهدف من الخلق هو الجود ـ على

[139]

العباد ـ من المعبود لا النفع للخالق، وهذا الجود يتمثّل في تكامل الناس، فلِمَ لم يخلق الله (الجواد الكريم) العباد كاملين من البداية ـ ليكونوا في جواره وقربه وأن يتمتّعوا ببركات قربه وجوار ذاته المقدّسة!

والجواب على هذا السؤال واضح .. فتكامل الإنسان ليس أمراً يمكن خلقه بالإجبار، بل هو طريق طويل مديد، وعلى الناس أن يسيروه ويجوبوه ويقطّعوه بإرادتهم وتصميمهم وأفعالهم الإختيارية.

فمثلا لو أخذ مال باهظ قسراً من أحد لبناء مستشفى، فهل لهذا العمل من أثر تكاملي روحي وأخلاقي في نفسه؟! قطعاً لا! لكن لو أعطى بمحض إرادته ورغبته وميله النفسي ولو درهماً واحداً لهذا الهدف المقدّس فإنّه يخطو في طريق التكامل الأخلاقي والروحي بتلك النسبة التي ساهم فيها.

ويستفاد من هذا الكلام أنّ على الله أن يبيّن لنا هذا المسير بأوامره وتكاليفه ومناهجه التربوية بواسطة أنبيائه والعقل ليتمّ الإبلاغ بذلك، فنعرف هذا المسير التكاملي ونطويه بإختيارنا وإرادتنا.

3 ـ وينقدح هنا سؤال ـ آخر أيضاً ـ وهو أنّ كلّ هذا حسن .. فالهدف من خلقنا هو التكامل الإنساني، أو بتعبير آخر القرب من الله وحركة الوجود الناقص نحو الوجود الكامل الذي لا نهاية له، إلاّ أنّه ما الهدف من هذا التكامل؟!

والجواب يتّضح بهذه الجملة أيضاً وهو أنّ التكامل هو الهدف النهائي أو بتعبير آخر «غاية الغايات».

وتوضيح ذلك: لو سألنا طالب المدرسة علام تدرس أو لم تدرس؟! فيجيب حتّى أدخل الجامعة!

ولو سألناه ثانية ما تستفيد من الجامعة؟ فيقول مثلا سأكون طبيباً أو مهندساً جديراً!

فتقول له ما تصنع بشهادة «الدكتوراه» أو الهندسة؟ فيقول: لأبرز نشاطاتي

[140]

وفعاليّاتي الإيجابية المثبتة ولكي يكون ربح وفير!

فنقول له ما تصنع بالربح الوفير؟ فيقول: لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرماً ومرفّهاً.

وأخيراً نوجّه إليه هذا السؤال .. لِمَ تريد الحياة المنعمة؟

وهنا نراه يجيب بلحن آخر فيقول: حَسَنٌ(1) لتكون حياتي منعمة وأعيش مكرماً ومرفّهاً علي: أي إنّه يكرّر جواب السؤال السابق!

وهذا دليل على أنّ ذاك هو الجواب النهائي، وكما يصطلح عليه بأنّه «غاية الغايات» لعمله، وليس وراءه جواب آخر! وإنّه هو الهدف النهائي .. كلّ هذا هو في المسائل الماديّة وهكذا الحال في الحياة المعنوية، فحين يسأل علام مجيىء الأنبياء ونزول الكتب من السماء، ولِمَ هذه التكاليف الشرعية والمناهج التربوية؟ فنجيب: للتكامل الإنساني والقرب من الله!.

وإذا سألوا: ما المراد من التكامل الإنساني والقرب من الله؟ نقول: هو القرب من الله، أيّ أنّ هذا هو الهدف النهائي، وبتعبير آخر أنّنا نريد كلّ شيء للتكامل والقرب من الله .. وأمّا القرب من الله فلنفسه (أي للقرب من الله).

4 ـ وينقدح مرّة اُخرى هذا السؤال أنّه ورد في حديث قدسي قوله تعالى: «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اُعرف وخلقت الخلق لكي اُعرف».

فما علاقة هذا الحديث بما ذكرتم آنفاً؟!

فنجيب على ذلك: .. إنّه بغضّ النظر عن أنّ هذا الحديث من باب خبر الواحد، ولا يُعتد بخبر الواحد في المسائل الإعتقادية، فإنّ مفهوم هذا الحديث أنّ معرفة الله هي الوسيلة لتكامل الخلق أي أنّ الله أحبّ أن يستوعب فيض رحمته كلّ مكان، فلذلك خلق الخلق وعلّمهم طريقه وسبيل معرفته ليسيروا نحو التكامل

______________________________________

1 ـ حسنٌ: خبر لمبتدأ محذوف تقديره كلامكم أو سؤالكم حسن.

[141]

والكمال! لأنّ معرفة الله رمز تكاملهم.

أجل، إنّ على العباد أن يعرفوا أنّ ذات الله هي منبع جميع الكمالات، ويسترفدوا لأنفسهم من كمالاته ويستلهموا منه في وجودهم ليشرق في وجودهم ومض من صفات كماله وجلاله، فالتكامل والقرب من الله لا يتحقّقان إلاّ عن طريق التخلّق بأخلاقه، وهذا التخلّق فرع معرفته «فلاحظوا بدقّة».

5 ـ وبملاحظة ما ذكرناه آنفاً فإنّنا نقترب من النتائج فنقول: إنّ عبادة الله والعبودية له يعينان السير في ما يرتضيه وأن نستودعه أرواحنا ونعشقه بقلوبنا وأن نتخلّق بأخلاقه!.

وإذا كانت الآيات المتقدّمة قد ذكرت «العبادة» على أنّها الهدف النهائي فمفهومها هو هذا، أي أنّه بتعبير آخر هو «التكامل الإنساني»!.

أجل إنّ «الإنسان الكامل» هو العبد المخلص لله.

 

5 ـ الرّوايات الإسلامية وفلسفة خلق الإنسان

ذكرنا آنفاً مسألة الهدف من خلق الإنسان، وعالجنا هذه المسألة عن طريقين: أحدهما عن طريق تفسير آيات القرآن، والآخر عن طريق الفلسفة، وقد أوصلنا كلّ منهما إلى نقطة واحدة.

والآن علينا أن نتابع هذه المسألة في المسير الثالث، أي عن طريق الرّوايات الإسلامية لنعرف نتيجتها من هذه الرّوايات.

والتدقيق أو التأمّل في الرّوايات التالية التي هي بعض ما ورد في هذا الباب يمنحنا العمق في النظر!

ففي حديث عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنّه لمّا سئل ما معنى قول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «اعملوا فكلّ ميسّر لما خُلق له. قال (عليه السلام): إنّ الله عزّوجلّ خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عزّوجلّ: (وما خلقت الجنّ

[142]

والإنس إلاّ ليعبدون) فيسّر كلا لما خلق له، فويل لمن إستحبّ العمى على الهدى»(1).

وهذا الحديث إشارة ذات معنى غزير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله لمّا خلق الناس لهدف تكاملي هيّأ له وسائله التكوينية والتشريعية وجعلها في إختياره.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ الإمام الحسين خطب أصحابه فقال: «إنّ الله عزّوجلّ ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه فإذا عرفوه عبدوه فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه»(2).

 

6 ـ الإجابة على سؤال

ويرد هنا سؤال آخر، وهو إذا كان الله قد خلق العباد ليعبدوه، فعلام يختار قسم منهم طريق الكفر؟ وهل يمكن أن تتخلّف إرادة الله عن هدفه؟!

وفي الحقيقة إنّ الذين يوردون هذا الإشكال خلطوا بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعيّة. لأنّ الهدف من العبادة لم يكن إجبارياً، بل العبادة توأم الإرادة والإختيار. وبهذا يتجلّى الهدف بصورة تهيأة الأرضية أو المجال .. فمثلا لو قلت إنّي بنيت هذا المسجد ليصلّي الناس فيه، فمفهومه أنّني هيّأته لهذا العمل! لا أنّني اُجبر الناس على الصلاة فيه! وكذلك في الموارد الاُخر كبناء المدرسة للدرس، والمستشفى للتداوي، والمكتبة للمطالعة!

وهكذا فإنّ الله هيّأ هذا الإنسان للطاعة والعبادة، ووفّر له كلّ وسائل المساعدة من قبيل والعقل والعواطف والقوى المختلفة في الداخل، وإرسال الأنبياء والكتب السماوية والمناهج التشريعية في الخارج الخ.

ومن المسلّم به أنّ هذا المعنى في المؤمن والكافر واحد، إلاّ أنّ المؤمن أفاد

______________________________________

1 ـ توحيد الصدوق طبقاً لما نقل في الميزان، ج18، ص423.

2 ـ علل الشرائع للصدوق ـ طبقاً للمصدر الآنف.

[143]

من هذه الإمكانات، والكافر لم يُفِدْ!

لذلك فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه حين سئل عن الآية (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون) .. قال (عليه السلام): «خلقهم للعبادة».

قال الراوي: فسألته: خاصّةً أم عامّة؟!

فقال (عليه السلام): «عامّة»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام نفسه (عليه السلام) أنّه لمّا سئل عن تفسير هذه الآية قال: «خلقهم ليأمرهم بالعبادة»(2).

وهي إشارة إلى أنّ الهدف لم يكن الإجبار على العبادة بل الإعداد والتهيأة له، وهذا المعنى يصدق في حقّ عموم الناس(3).

* * *

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج5، ص314 الحديث 7.

2 ـ المصدر السابق.

3 ـ يتّضح ممّا ذكرنا آنفاً أنّ الألف واللام في «الجنّ والإنس» للإستغراق، وتشمل الآية جميع الأفراد، لا أنّ الألف واللام للجنس، بحيث تشمل جماعة منهم كما ورد في بعض التفاسير والله العالم.

[144]

الآيتان

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَـبِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ( 59 ) فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ ( 60 )

 

التّفسير

هؤلاء يشاركون أصحابهم في عذاب الله:

الآيتان آنفتا الذكر اللتان هما آخر سورة الذاريات، وهما في الحقيقة نوع من الإستنتاج للآيات المختلفة الواردة في السورة ذاتها ولا سيّما الآيات التي تتحدّث عن الاُمم السالفة كقوم فرعون وقوم لوط وثمود وعاد، وكذلك الآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن الهدف من الخلق والإيجاد.

فالآية الاُولى تقول أنّه بعد أن أصبح معلوماً أنّ هؤلاء المشركين قد إنحرفوا عن الهدف الحقيقي للخلقة، فليعلموا أنّ لهم قسطاً وافراً من العذاب الإلهي كما كان للأقوام السالفة: (فإنّ للذين ظلموا ذنوباً مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون)(1)..

______________________________________

1 ـ الفعل فلا يستعجلون مجزوم بلا الناهية كما هو واضح، والنون هنا للوقاية وقد كسرت للدلالة على أنّ ياء المتكلّم محذوفة لفظاً أو رسماً ومقدرة معنىً ..

[145]

ويقولوا إن كان عذاب الله حقّاً فلِمَ لا يصيبنا؟!

والتعبير بـ «الظلم» في شأن هذه الجماعة هو لأنّ الشرك والكفر من أكبر الظلم، ولأنّ حقيقة الظلم هي وضع الشيء في غير موضعه المناسب، ومن المعلوم أنّ عبادة الأصنام مكان عبادة الله تعدّ أهمّ مصداق للظلم، ولذلك فهم يستحقّون العاقبة التي نالها الأقدمون من المشركين.

«الذنوب»: ـ على وزن قبول ـ في الأصل معناه «الفرس التي لها ذنب طويل»، كما تطلق الكلمة ذاتها على الدلو الكبير التي لها ذنب.

وكان العرب في السابق ينزحون ماء البئر بواسطة الحيوانات بأن يهيّؤا دلاءً عظيمة متّصلة بحبال تعين على سحب الدلاء المملوءة بالماء.

وحيث كانت هذه الدلاء تقسّم أحياناً على الجماعات حول البئر، فتنال كلّ مجموعة دلواً أو أكثر، فقد استعملت هذه الكلمة بمعنى النصيب والسهم أيضاً، وهي في الآية محل البحث بهذا المعنى أيضاً، غاية ما في الأمر أنّها هنا تشير إلى السهم الكبير(1).

وهل المراد من هذه الكلمة في هذه الآية التهديد بعذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟ قال جماعة من المفسّرين بالمعنى الأوّل، وقال آخرون بالمعنى الثاني.

ونرى أنّ القرائن تدلّ على أنّ هذا العذاب هو العذاب الدنيوي، لأنّ العجلة لدى بعض الكفّار هي أنّهم كانوا يقولون للنبي: متى هذا الوعد .. وأين عذاب الله .. ولِمَ لا يأتينا .. الخ. فمن الواضح أنّه إشارة إلى عذاب الدنيا(2) هذا أوّلا.

وثانياً إنّ التعبير بـ (مثل ذنوب أصحابهم) الظاهر أنّه إشارة إلى عاقبة الاُمم

______________________________________

1 ـ يقول بعض الشعراء العرب:

لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب.

2 ـ تراجع الآيتان (57) و58) من سورة الأنعام، والآية (72) من سورة النمل وأمثالها، وهذا التعبير في القرآن قد يستعمل في شأن القيامة أيضاً.

[146]

المتقدّم ذكرها في هذه السورة كقوم لوط وقوم فرعون وعاد وثمود الذين نال كلاًّ منهم نوع من العذاب في الدنيا وهلكوا به جميعاً.

وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو إذا كانت الآية تشير إلى عذاب الدنيا فلِمَ  لا يتحقّق الوعد الإلهي في شأنهم؟!

وهذا السؤال له جوابان:

1 ـ إنّ هذا الوعد تحقّق في شأن كثير منهم كأبي جهل وجماعة آخرين في غزوة بدر وغيرها.

2 ـ نزول العذاب على جميعهم مشروط بعدم الرجوع نحو الله وعدم التوبة من الشرك، ولمّا آمن معظمهم في فتح مكّة .. فإنّ هذا الشرط أصبح منتفياً فلم ينزل عذاب الله.

وفي الآية الأخيرة إستكمال لعذاب الدنيا بعذاب الآخرة إذ تقول: (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون).

وكما أنّ هذه السورة بُدئت بمسألة المعاد والقيامة، فإنّها إنتهت بالتأكيد عليها كذلك(1)!.

كلمة «الويل» تستعمل في لغة العرب عندما يقع فرد ما أو أفراد في الهلاك .. كما تعني العذاب والشقاء، وقال بعضهم في الويل معنى أشدّ من العذاب.

وكلمات الويل والويس والويح تستعمل في لغة العرب لإظهار التأسّف والتأثّر، غاية ما في الأمر .. تستعمل كلمة «ويل» لمن يعمل أعمالا قبيحة، أمّا «ويس» فتستعمل في مقام التحقير، وكلمة «ويح» تستعمل في موضع الترحّم.

قال بعضهم أنّ «وَيْلا» بئر من آبار جهنّم أو باب من أبوابها، غير أنّ مراد القائلين لا يعني بأنّ هذه الكلمة جاءت في اللغة بهذا المعنى فحسب، بل هي في

______________________________________

1 ـ يرى بعض المفسّرين أنّ هذه الآية تشير إلى عذاب الدنيا. مع أنّ مثل هذا التعبير في القرآن يكون ليوم القيامة غالباً ..

[147]

الحقيقة بيان لمصداق من المصاديق.

وقد إستعملت هذه الكلمة في القرآن بكثرة، منها في شأن الكفّار والمشركين والكاذبين والمكذّبين والمجرمين والمطفّفين والمصلّين الذين هم عن صلاتهم ساهون، إلاّ أنّ أكثر إستعمالها في القرآن في شأن المكذّبين، وقد تكرّرت الآية (ويل يومئذ للمكذّبين) في سورة المرسلات وحدها عشر مرّات!.

ربّنا، نجّنا من عذاب ذلك اليوم العظيم ومن خزيه.

اللهمّ ارزقنا قبول الطاعة والتوفيق للعبودية والفخر بأن نكون عبيدك!

اللهمّ لا تبتلنا بعاقبة المكذّبين المؤلمة الذين كذّبوا رسلك وآياتك وأيقظنا من نومة الغافلين برحمتك ياأرحم الراحمين.

آمين ربّ العالمين

إنتهاء سورة الذّاريات

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22216806

  • التاريخ : 3/02/2025 - 22:58

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net