00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سور ق من أول السورة ـ آخر السورة من ( ص 5 ـ 64 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد السابع عَشَر

 

[5]

سُورَة ق

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها خَمس وأربعُون آية

 

[7]

 

 

 

سورة ق

محتوى السورة:

إنّ محور بحوث هذه السورة هو موضوع «المعاد» وجميع هذه الآيات ـ تقريباً ـ تدور حول هذا المحور وبعض المسائل الاُخرى التي لها تعلّق به أيضاً.

ومن المسائل المرتبطة بالمعاد تمت الإشارة في هذه السورة إلى الاُمور التالية:

1 ـ إنكار الكافرين مسألة المعاد وتعجّبهم منها «المراد بالمعاد هنا هو المعاد الجسماني».

2 ـ الإستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى مطلق التكوين والخلق وخاصّة إحياء الأرض الميتة بنزول الغيث.

3 ـ الإستدلال على مسألة المعاد عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

4 ـ الإشارة إلى مسألة ثبت الأعمال والأقوال ليوم الحساب.

5 ـ المسائل المتعلّقة بالموت والإنتقال من هذه الدنيا إلى الدار الاُخرى.

6 ـ جانب من حوادث يوم القيامة وأوصاف الجنّة والنار.

7 ـ إشارة إلى حوادث نهاية هذا العالم المذهلة والمثيرة التي تعتبر بدورها بداية العالم الآخر!

وفي الأثناء إشارات (موجزة وذات تأثير بليغ) عن حال الاُمم الماضية وطغيانها وعاقبتها الوخيمة أمثال قوم فرعون وعاد وقوم لوط وقوم شعيب وقوم تبع وما ورد من تعليمات للنبي في التوجّه إلى الله تعالى .. كما وردت في بداية السورة ونهايتها إشارة موجزة إلى عظمة القرآن!.

 

[8]

فضيلة تلاوة سورة «ق»:

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ النّبي كان يهتمّ إهتماماً كبيراً بسورة «ق» حتّى أنّه كان يقرؤها في خطبة صلاة كلّ يوم جمعة(1).

كما ورد في حديث آخر أنّه كان يقرؤها في كلّ عيد وجمعة(2) وإنّما كان ذلك فلأنّ يومي الجمعة والعيد يومان يتيقّظ فيهما الناس وينتهبون، وفيهما تكون العودة إلى الفطرة الاُولى، والتوجّه إلى الله ويوم الحساب، وحيث أنّ آيات هذه السورة تتحدّث عن مسائل المعاد والموت وحوادث يوم القيامة وأنّ لاُسلوبها تأثيراً بالغاً في إيقاظ الناس من الغفلة وتربيتهم، لذلك كانت موضع إهتمام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد ورد في بعض أحاديث النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من قرأ سورة (ق) هوّن الله عليه تارات الموت وسكراته»(3).

كما ورد عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «من أدمن في فرائضه ونوافله سورة (ق) وسّع الله في رزقه وأعطاه كتاباً بيمينه وحاسبه حساباً يسيراً».

ولا حاجة للتذكير بأنّ كلّ هذه الفضيلة والفخر لا يحصل بقراءة الألفاظ فحسب، بل القراءة هي بداية لتيقّظ الأفكار، وهي بدورها مقدّمة للعمل الصالح والإنسجام مع محتوى السورة هذه.

 

* * *

______________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج9، ص6171.

2 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج7، ص547.

3 ـ تفسير مجمع البيان، ج9، ص140.

[9]

الآيات

 ق وَالْقُرْءَانِ الَْمجِيدِ ( 1 ) بَلْ عَجِبُوا أَن جَآءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَـفِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ ( 2 ) أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ( 3 ) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الاَْرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَـبٌ حَفِيظُ( 4 ) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ فِى أَمْر مَّرِيج( 5 )

 

التّفسير

المنكرون المعاندون في أمر مريج!

مرّةً اُخرى نواجه هنا بعض الحروف المقطّعة! وهو الحرف «ق»، وكما قلنا من قبل أنّ واحداً من التفاسير المتينة هو أنّ هذا القرآن على عظمته مؤلّف من حروف بسيطة هي ألف باء الخ .. وهذا يدلّ على أنّ مُبدع القرآن ومنزله لديه علم لا محدود وقدرة مطلقة بحيث خلق هذا التركيب الرفيع العالي من هذه الوسائل البسيطة المألوفة!

وبالطبع فإنّ هناك تفاسير اُخر للحروف المقطّعة ويمكن مراجعتها في بدايات سور «البقرة، آل عمران، الأعراف وسور حم أيضاً».

[10]

قال بعض المفسّرين أنّ «ق» إشارة إلى بعض أسماء الله تعالى «كالقادر والقيّوم» وما إلى ذلك من الأسماء المبدوءة بحرف القاف.

كما ورد في كثير من التفاسير أنّ «ق» اسم لجبل عظيم يحيط بالكرة الأرضية!

ولكن أي جبل هو بحيث يحيط بالكرة الأرضية أو مجموع العالم؟! وما المراد منه؟ ليس هنا محلّ الكلام عنه! لكن ما ينبغي ذكره هنا أنّه من البعيد جدّاً أن يكون «ق» في هذه السورة إشارة إلى جبل قاف! لأنّه ليس هذا لا يتناسب مع مواضيع السورة وما ورد فيها فحسب، بل حرف «القاف» هنا كسائر الحروف المقطّعة الواردة في بدايات السور في القرآن، أضف إلى ذلك لو كان «ق» إشارة إلى جبل «قاف» لكان ينبغي أن يقترن بواو القسم كقوله تعالى: والطور وأمثال ذلك، وذكر كلمة ما من دون مبتدأ ولا خبر أو واو القسم لا مفهوم لها.

ثمّ بعد هذا كلّه، فإنّ الرسم القرآني لجميع المصاحف هو ورود الحرف «ق» مفرداً، في حين أنّ جبل «قاف» يُكتب رسمه على هيئة إسمه الكامل «قاف».

ومن جملة الاُمور التي تثبت على أنّ هذا الحرف «ق» هو من الحروف المقطّعة المذكورة لبيان عظمة القرآن هو مجيء القسم مباشرةً ـ بعد هذا الحرف ـ بالقرآن المجيد إذ يقول سبحانه: (ق والقرآن المجيد).

كلمة «المجيد» مشتقّة من المجد ومعناها الشرف الواسع، وحيث أنّ القرآن عظمته غير محدودة وشرفه بلا نهاية، فهو جدير بأن يكون مجيداً من كلّ جهة، فظاهره رائق، ومحتواه عظيم، وتعاليمه عالية، ومناهجه مدروسة، تبعث الروح والحياة في نفوس العباد.

ولسائل أن يسأل: ما المراد من ذكر هذا القسم؟ أو ما هو المقسم له؟! هناك بين المفسّرين إحتمالات كثيرة، ولكن مع الإلتفات إلى ما بعد القسم من الآيات فإنّه يبدو أنّ المقصود بالقسم أو جواب القسم هو مسألة النبوّة [نبوّة محمّد] أو

[11]

نشور الناس وبعثهم بعد موتهم(1).

ثمّ يبيّن القرآن جانباً من إشكالات الكفّار والمشركين العرب الواهية فيذكر إشكالين منها .. الأوّل هو حكايته عنهم: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب).

وهذا إشكال طالما أشار إليه القرآن وردّ عليه، وتكرار هذا الإشكال يدلّ على أنّه من إشكالات الكفّار الأساسية التي كانوا يكرّروها دائماً!.

ولم يكن النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده قد أشكلوا عليه بهذا الإشكال، فالرسل أيضاً أشكلوا عليهم أيضاً بذلك بقولهم: (إن أنتم إلاّ بشر مثلنا تريدون أن تصدّونا عمّا كان يعبد آباؤنا).(2)

وكانوا يقولون أحياناً: (ما هذا إلاّ بشر مثلكم يأكل ممّا تأكلون منه ويشرب ممّا تشربون).(3)

وربّما أضافوا أحياناً (لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً).(4)

إلاّ أنّ جميع هذه الاُمور كانت حِججاً واهية وذريعة لعدم التسليم للحقّ.

والقرآن في هذه الآيات محلّ البحث لا يردّ على هذا الإشكال، لأنّه أجاب عليه مراراً، وهو إن أردنا أن نرسل ملكاً لجعلناه على صورة بشر .. أي أنّ قادة الناس ينبغي أن يكونوا منهم فحسب ليكونوا قادرين على معرفة همومهم وآلامهم ورغباتهم وحاجاتهم ومسائل حياتهم، وليكونوا اُسوة لهم من الناحية العملية ولئلاّ يقولوا لو كانوا أمثالنا لما ظلّوا طاهرين أنقياء!

فمناهج الملائكة تتناسب معهم ولا تتناسب مع طموحات البشر وآلامهم:

______________________________________

1 ـ وتقدير الكلام هكذا «ق والقرآن المجيد إنّك لرسول الله» أو .. لتُبعثنّ أو أنّ البعث حقّ إلخ..

2 ـ سورة ابراهيم، 10.

3 ـ سورة المؤمنون، 33.

4 ـ سورة الفرقان، 7.

[12]

وبعد إشكالهم الأوّل على نبوّة النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو كيف يكون النّبي بشراً؟! كان لهم إشكال آخر على محتوى دعوته ووضعوا أصابع الدهشة على مسألة اُخرى كانت عندهم أمراً غريباً وهي (أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجع بعيد)(1).

وعلى كلّ حال، كانوا يتصوّرون أنّ العودة للحياة مرّة اُخرى بعيدة لا يصدّقها العقل، بل كانوا يرونها محالا ويعدّون من يقول بها ذا جنّة! كما نقرأ ذلك في الآيتين 7 و8 من سورة سبأ إذ: (قال الذين كفروا هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّق إنّكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنّة).

ولم يكن هذا الإشكال الذي أوردوه على النّبي هنا فحسب، بل أشكلوا عليه به عدّة مرّات وسمعوا ردّه عليهم، إلاّ أنّهم كرّروا عليه ذلك عناداً.

وعلى كلّ حال، فإنّ القرآن يردّ عليهم بطرق متعدّدة! فتارةً يشير إلى علم الله الواسع فيقول: (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ).

إذا كان إشكالكم هو أنّه كيف تجتمع عظام الإنسان النخرة ولحمه الذي صار تراباً وذرّاته التي تبدلّت إلى بخار وغازات متفرّقة في الهواء، ومن يجمعها؟! أو من يعرف عنها شيئاً؟! فجواب ذلك معلوم .. فالله الذي أحاط بكلّ شيء علماً يعرف جميع هذه الذرّات ويجمعها متى شاء، كما أنّ ذرّات الحديد المتناثرة في تلّ من الرمل يمكن جمعها بقطعة من «المغناطيس» فكذلك جمع ذرّات الإنسان أيسر على الله من ذلك.

وإذا كان إشكالهم أنّه من يحفظ أعمال الإنسان ليوم المعاد، فالجواب على ذلك أنّ جميع أعمال الناس في لوح محفوظ، ولا يضيع أي شيء في هذا العالم، وكلّ شيء ـ حتّى أعمالكم ـ سيظلّ باقياً وإن تغيّر شكله.

______________________________________

1 ـ جواب إذا محذوف ويعرف من الجملة التالية وتقديرها: «أإذا متنا وكنّا تراباً نرجع ونردّ أحياء ذلك رجع بعيد».

[13]

(الكتاب الحفيظ) معناه الكتاب الذي يحفظ جميع أعمال الناس وغيرها، وهو إشارة إلى «اللوح المحفوظ» الذي بيّنا معناه بتفصيل في ذيل الآية (39) من سورة الرعد.

ثمّ يردّ القرآن عليهم بجواب آخر، وفيه منحى نفسي أكثر إذ يقول: (بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم).

أي إنّهم جحدوا الحقّ مع علمهم به، وإلاّ فإنّه لا غبار على الحقّ، وكما سيتّضح في الآيات المقبلة فإنّهم يرون صورة مصغّرة للمعاد بأعينهم مراراً في هذه الدنيا وليس عندهم مجال للشكّ والتردّد!

لذلك فإنّ القرآن يختتم هذه الآية مضيفاً: (فهم في أمر مريج)! فلأنّهم كذّبوا الرسالة فهم دائماً في تناقض في القول وحيرة في العمل وإضطراب في السلوك.

فتارةً يتّهمون النّبي بأنّه مجنون أو أنّه شاعر أو كاهن.

وتارةً يعبّرون عن كلماته بأنّها «أساطير الأوّلين».

وتارةً يقولون بأنّه يعلّمه بشر.

وتارةً يقولون عنه بأنّه ساحر لنفوذ كلماته في القلوب.

وتارةً يقولون بأنّنا نستطيع أن نأتي بمثله.

وهذه الكلمات المتفرّقة والمتناقضة تدلّ على أنّهم فهموا الحقّ، إلاّ أنّهم يتذرّعون بحجج واهية شتّى، ولذلك لا يقرّون على كلام واحد أبداً.

وكلمة «مريج» مشتقّة من مرج ـ على زنة حرج ـ ومعناها الأمر المختلط والمشتبه والمشوش، ولذلك فقد أطلقوا على الأرض التي تكثر فيها النباتات المختلفة والمتعدّدة بأنّها «مرج» أو «مرتع».

 

* * *

[14]

الآيات

أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَـهَا وَزَيَّنَّـهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج ( 6 ) وَالاَْرْضَ مَدَدْنَـهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَسِىَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج( 7 ) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْد مُّنِيب( 8 ) وَنزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَـرَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّـت وَحَبَّ الْحَصِيدِ( 9 ) وَالنَّخْلَ بَاسِقَـت لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ ( 10 ) رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ( 11 )

 

التّفسير

انظروا إلى السماء لحظةً!

هذه الآيات تواصل البحث عن دلائل المعاد، فتارةً تتحدّث عن قدرة الله المطلقة لإثبات المعاد، واُخرى تستشهد له بوقائع ونماذج تحدث في الدنيا تمثّل حالة المعاد.

فهي تستجلب وتُلفت أنظار المنكرين إلى خلق السماوات فتقول: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّناها).

[15]

والمراد بالنظر هنا هو النظر المقترن بالتفكير الذي يدعو صاحبه لمعرفة عظمة الخالق الذي خلق السماء الواسعة وما فيها من عجائب مذهلة وتناسق وجمال وإستحكام ونظم ودقّة.

جملة (وما لها من فروج) أي لا إنشقاق فيها، إمّا أن يكون بمعنى عدم وجود النقص والعيب وإرتباك كما ذهب إليه بعض المفسّرين، أو أن يكون معناه عدم الإنشقاق والإنفطار في السماء المحيطة بأطراف الأرض وهي ما يعبّر عنها بالغلاف الجوّي للأرض أو ما يعبّر القرآن عنه بالسقف المحفوظ كما ورد ذلك في سورة الأنبياء الآية (32) إذ توصد الطريق بوجه النيازك والسدم والشُهب التي تهوي بإستمرار نحو الأرض وبسرعة هائلة وقبل أن تصل إلى الأرض تستحيل إلى شعلة فرماد، كما أنّها تحجب الأشعّة الضارّة للشمس وغيرها من الأشعّة الكونية، وإلاّ فإنّ السماء معناها الفضاء الواسع الذي تسبح فيه الأجرام الكروية المعروفة بالنجوم.

وهنا إحتمال ثالث أيضاً، وهو أنّ الجملة السابقة إشارة إلى نظرية وجود «الأثير» .. وطبقاً لهذه النظرية فإنّ جميع عالم الوجود بما فيه الفواصل التي تقع ما بين النجوم ـ مليء من مادّة عديمة اللون والوزن تُدعى بـ «الأثير» وهي تحمل أمواج النور وتنقلها من نقطة لاُخرى، وطبقاً لهذه النظرية فإنّه لا وجود لأيّة فُرجة ولا فجوة ولا إنشقاق في عالم الإيجاد والخلق، وجميع الأجرام السماوية والكواكب السيارة تموج في الأثير!

وبالطبع فإنّه لا منافاة بين هذه التفاسير الثلاثة وإن كانت النظرية الثالثة التي تعتمد على فرضية الأثير لا يعوّل عليها ولا يمكن الركون إليها، لأنّ موضوع الأثير ما يزال قيد الدرس ولم يثبت بصورة قطعيّة عند جميع العلماء لحدّ الآن!

ثمّ تشير الآيات إلى عظمة الأرض فتقول: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج).

[16]

أجل، خلق الأرض من جهة، ثمّ اتّساعها «وخروجها من تحت الماء» من جهة اُخرى، ووجود الجبال «الرواسي» عليها وإرتباط بعضها ببعض كأنّها السلاسل التي تشدّ الأرض وتحفظها من الضغوط الداخلية والخارجية والجزر والمدّ الحاصلين من جاذبية الشمس والقمر من جهة ثالثة .. ووجود أنواع النباتات بما فيها من عجائب واتّساق وجمال من جهة رابعة جميعها تدلّ على قدرته اللاّ محدودة(1).

والتعبير بـ (من كلّ زوج) إشارة إلى مسألة الزوجية في عالم النباتات التي لم تكن معروفة كأصل كلّي حين نزول الآيات محلّ البحث، وبعد قرون وسنين متطاولة إستطاع العلم أن يميط النقاب عنها. أو أنّه إشارة إلى إختلاف النباتات وأنواعها المتعدّدة، لأنّ التنوّع والإختلاف في عالم النبات عجيب ومذهل.

أمّا الآية التالية فهي بمثابة الإستنتاج إذ تقول: (تبصرةً وذكرى لكلّ عبد منيب)(2).

أجل إنّ من له القدرة على خلق السماوات بما فيها من عظمة وجمال وجلال، والأرض بما فيها من نعمة وجمال ودقّة، كيف لا يمكنه أن يلبس الموتى ثوب الحياة مرّة اُخرى وأن يجعل لهم معاداً وحياة اُخرى!؟

ترى أليست هذه القدرة المذهلة العظيمة دليلا واضحاً على إمكان المعاد؟!

أمّا الآية التالية ففيها إستدلال آخر على هذا الأمر إذ تقول: (ونزّلنا من السماء ماءً مباركاً فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد).

«الجنّات» هنا إشارة إلى بساتين الثمار، أمّا (حبّ الحصيد) فإشارة إلى الحبوب التي تعدّ مادّة أساسيّة لغذاء الإنسان كالحنطة والشعير والذرّة وغيرها.

______________________________________

1 ـ كنّا قد بحثنا فوائد إيجاد الجبال واتّساع الأرض وبسطها وزوجية النباتات بحثاً مفصّلا في سورة الرعد ذيل الآية (3).

2 ـ يمكن أن تكون تبصرة مفعولا لأجله كما يمكن أن تكون مفعولا مطلقاً .. إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب، ومثل هذا يقع الكلام على كلمة «ذكرى».

[17]

ثمّ تضيف الآية: (والنخل باسقات لها طلع نضيد) كلمة: «باسقات» جمع باسقة بمعنى الشجرة المرتفعة العالية و «الطلع» ثمر النخل وما يكون منه الرطب والتمر بعدئذ، وكلمة «النضيد» معناها المتراكم بشكل دقيق، والمعروف أنّ عذق النخل قبل أن ينشقّ، يحمل داخله طلعاً متراكباً متراكماً وحين ينشقّ هذا الطلع يكون مذهلا وعجيباً.

والآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تقول: (رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج)(1).

وهكذا فانّ هذه الآيات ضمن بيان النعم العظمى للعباد وتحريك إحساس الشكر فيهم في مسير المعرفة تذكّرهم بأنّهم يرون مثلا للمعاد كلّ سنة في حياتهم في هذه الدنيا، فالأرض الميتة الخالية واليابسة تهتزّ وتنبت النباتات عليها عند نزول قطرات الغيث وكأنّ أصداء القيامة تترنّم على شفاه النباتات قائلة: «وحده لا شريك له».

فهذه الحركة العظيمة نحو الحياة في عالم النباتات تكشف عن هذه الحقيقة، وهي أنّ باريء عالم الموجودات قادر على إحياء الموتى مرّةً اُخرى، لأنّ وقوع الشيء أقوى دليل على إمكانه!.

* * *

______________________________________

1 ـ بحثنا هذا الموضوع في آيات اُخرى أيضاً فراجع ذيل الآية (9) من سورة فاطر وذيل الآيات الأخيرة من سورة (يس).

[18]

الآيات

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَأَصْحَـبُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ( 12 ) وَعَادٌ وَفِرْعُوْنُ وَإِخْوَنُ لُوط ( 13 ) وَأَصْحَـبُ الاَْيْكَةِ وَقَوْمُ تُبّع كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ( 14 ) أَفَعَيَينَا بِالْخَلْقِ الاَْوَّلِ بَلْ هُمْ فِى لَبْس مِّنْ خَلْق جَدِيد ( 15 )

 

التّفسير

لست وحدك المبتلى بالعدوّ

تعالج هذه الآيات مسألة المعاد من خلال نوافذ متعدّدة! ففي البداية ومن أجل تثبيت قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتسليته تقول: لست وحدك المرسل الذي كذّبه الكفّار وكذّبوا محتوى دعواته ولا سيّما المعاد فإنّه: (كذّبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرسّ وثمود)!.

وجماعة «ثمود» هم قوم صالح النّبي العظيم إذ كانوا يقطنون منطقة «الحجر» شمال الحجاز.

أمّا «أصحاب الرسّ» فهناك أقوال عند المفسّرين، فالكثير من المفسّرين يعتقدون أنّهم طائفة كانت تقطن اليمامة، وكان عندهم نبيّ يُدعى حنظلة فكذّبوه.

[19]

وألقوه في البئر في آخر الأمر «من معاني الرسّ هو البئر» والمعنى الآخر الأثر اليسير الباقي من الشيء، وقد بقي من هؤلاء القوم الشيء اليسير في ذاكرة التاريخ!.

ويرى بعض المفسّرين أنّهم «قوم شعيب» لأنّهم كانوا يحفرون الآبار، ولكن مع الإلتفات إلى أنّ «أصحاب الأيكة» المذكورين في الآيات التالية هم قوم شعيب أنفسهم ينتفي هذا الإحتمال أيضاً.

وقال بعض المفسّرين: هم بقايا قوم ـ صالح ـ أي ثمود، ومع الإلتفات إلى ذكر ثمود على حدة في الآية فإنّ هذا الإحتمال يبدو بعيداً أيضاً.

فعلى هذا يكون التّفسير الأوّل هو الأنسب، وهو ما إشتهر على أقلام المفسّرين وألسنتهم!.

ثمّ يضيف القرآن قائلا: (وعاد وفرعون وإخوان لوط) والمراد بإخوان لوط هم قومه، وقد عبّر القرآن عن لوط بأنّه أخوهم، وهذا التعبير مستعمل في اللغة العربية بشكل عام.

وكذلك من بعدهم: (وأصحاب الأيكة وقوم تُبّع). والأيكة: معناها الأشجار الكثيرة المتداخلة بعضها ببعض ـ أو الملتفّة أغصانها ـ و «أصحاب الأيكة» هم طائفة من قوم شعيب كانوا يقطنون منطقة غير «مدين» وهي منطقة ذات أشجار كثيرة(1)!

والمراد من «قوم تبّع» طائفة من أهل اليمن، لأنّ «تبّع» لقب لملوك اليمن، باعتبار أنّ هؤلاء القوم يتبعون ملوكهم، وظاهر تعبير القرآن هنا وفي آية اُخرى منه (37 ـ الدخان) هو ملك مخصوص من ملوك اليمن إسمه (أسعد أبو كرب) كما نصّت عليه بعض الرّوايات، ويعتقد جماعة من المفسّرين بأنّه كان رجلا صالحاً

______________________________________

1 ـ لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآيات (78) من سورة الحجر و (176) من سورة الشعراء.

[20]

مؤمناً يدعو قومه إلى اتّباع الأنبياء، إلاّ أنّهم خالفوه(1).

ثمّ إنّ الآية هذه أشارت إلى جميع من ذكرتهم من الأقوام الثمانية فقالت: (كلٌّ كذّب الرسل فحقّ وعيد).

وما نراه في النصّ من أنّ جميع هؤلاء كذّبوا الرسل والحال أنّ كلّ قوم كذّبوا رسولهم فحسب لأنّ الفعل الصادر منهم جميعاً [التكذيب] نال الأنبياء جميعاً وإن كان كلّ قوم قد كذّبوا نبيّهم وحده في زمانهم.

أو لأنّ تكذيب أحد النّبيين والرسل يعدّ تكذيباً لجميع الرسل، لأنّ محتوى دعوتهم سواء.

وعلى كلّ حال، فإنّ هؤلاء الاُمم كذّبوا أنبياءهم وكذّبوا مسألة المعاد والتوحيد أيضاً، وكانت عاقبة أمرهم نُكراً ووبالا عليهم، فمنهم من اُبتلي بالطوفان، ومنهم من أخذته الصاعقة، ومنهم من غرق بالنيل، ومنهم من خُسفت به الأرض أو غير ذلك، وأخيراً فإنّهم ذاقوا ثمرة تكذيبهم المرّة!! فكن مطمئناً يارسول الله أنّه لو واصل هؤلاء تكذيبهم لك فلن يكونوا أحسن حالا من السابقين.

ثمّ يشير القرآن إلى دليل آخر من دلائل إمكان النشور ويوم القيامة فيقول: (أفعيينا بالخلق الأوّل)(2).

ثمّ يضيف القرآن: إنّهم لا يشكّون ولا يتردّدون في الخلق الأوّل لأنّهم يعلمون أنّ خالق الإنسان هو الله ولكنّهم يشكّون في المعاد مع كلّ تلك الدلائل الواضحة: (بل هم في لبس جديد).

وفي الحقيقة إنّهم في تناقض بسبب هوى النفس والتعصّب الأعمى، فمن جهة يعتقدون بأنّ خالق الناس أوّلا هو الله إذ خلقهم من تراب، إلاّ أنّهم من جهة اُخرى

______________________________________

1 ـ لمزيد الإيضاح يراجع ذيل الآية (37) من سورة الدخان.

2 ـ في الجملة الآنفة إيجاز حذف وتقدير الكلام في تماميته أن يقال «أفعيينا بالخلق الأوّل حتّى نعجز عن الثاني».

[21]

حين يقع الكلام على المعاد وخلق الإنسان ثانية من التراب يعدّون ذلك أمراً عجيباً ولا يمكن تصوّره وقبوله، في حين أنّ الأمرين متماثلان: «وحكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد».

وهكذا فإنّ القرآن يستدلّ على المعاد في هذه الآيات والآيات الآنفة بأربعة طرق مختلفة، فتارةً عن طريق علم الله، واُخرى عن طريق قدرته، وثالثة عن طريق تكرّر صور المعاد ومشاهده في عالم النباتات، وأخيراً عن طريق الإلتفات إلى الخلق الأوّل.

ومتى ما عُدنا إلى آيات القرآن الاُخر في مجال المعاد وجدنا هذه الأدلّة بالإضافة إلى أدلّة اُخر وردت في آيات مختلفة وبصورة مستقلّة، وقد أثبت القرآن المعاد بالمنطق القويم والتعبير السليم والاُسلوب الرائع (القاطع) للمنكرين وبيّنه بأحسن وجه .. فلو خضعوا لمنطق العقل وتجنّبوا الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والتقليد الساذج فسرعان ما يذعنوا لهذه المسألة وسيعلمون بأنّ المعاد أو يوم القيامة ليس أمراً ملتوياً وعسيراً.

 

* * *

[22]

الآيات

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَـنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ( 16 ) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الَْيمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ( 17 ) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْل إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( 18 )

 

التّفسير

كتابه جميع الأقوال:

يُثار في هذه الآيات قسم آخر من المسائل المتعلّقة بالمعاد، وهو ضبط أعمال الإنسان وإحصاؤها لتعرض على صاحبها عند يوم الحساب.

تبدأ الآيات فتتحدّث عن علم الله المطلق وإحاطته بكلّ شيء فتقول: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه).

كلمة «توسوس» مشتقّة من الوسوسة وهي ـ كما يراه الراغب في مفرداته ـ الأفكار غير المطلوبة التي تخطر بقلب الإنسان، وأصل الكلمة «الوسواس» ومعناه الصوت الخفي وكذلك صوت أدوات الزينة وغيرها.

والمراد من الوسوسة في الآية هنا هي أنّ الله لمّا كان يعلم بما يخطر في قلب الإنسان والوساوس السابحة في أفكاره، فمن البديهي أنّه عالم بجميع عقائده

[23]

وأعماله وأقواله، وسوف يحاسبه عليها يوم القيامة.

وجملة (ولقد خلقنا الإنسان) يمكن أن تكون إشارةً إلى أنّ خالق البشر محال أن لا يعلم بجزئيات خلقه؟! الخلق الدائم والمستمر، لأنّ الفيض أو الجود منه يبلغ البشر لحظة بعد لحظة، ولو إنقطع الفيض لحظة لهلكنا، كنور الشمس الذي ينتشر في الفضاء من منبع الفيض وهو الكرة الشمسية «بل كما سنبيّن فإنّ إرتباطنا بذاته المقدّسة أسمى ممّا مثّلنا ـ (بنور الشمس)».

أجل، هو الخالق، وخلقه دائم ومستمر ونحن مرتبطون به في جميع الحالات، فمع هذه الحال كيف يمكن أن لا يعلم باطننا وظاهرنا؟!

ويضيف القرآن لمزيد الإيضاح في ذيل الآية قائلا: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).

ما أبلغ هذا التعبير!! فحياتنا الجسمانية متعلّقة بعصب يوصل الدم إلى القلب ويخرجه منها بصورة منتظمة وينقله إلى جميع أعضاء البدن، ولو توقّف هذا العمل لحظة واحدة لمات الإنسان .. فالله أقرب إلى الإنسان من هذا العصب المسمّى بحبل الوريد.

وهذا ما أشار إليه القرآن في مكان آخر إذ قال: (واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه وأنّه إليه تحشرون).(1)

وبالطبع فإنّ هذا كلّه تشبيه تقريبي، والله سبحانه أقرب من ذلك وأسمى رغم كون المثال المذكور أبلغ تصوير محسوس على شدّة القرب، فمع هذه الإحاطة لله تعالى بمخلوقاته، وكوننا في قبضة قدرته، فإنّ تكليفنا واضح، فلا شيء يخفى عليه لا الأفعال ولا الأقوال ولا الأفكار والنيّات ولا تخفى عليه حتّى الوساوس التي تخطر في القلوب!

______________________________________

1 ـ سورة الأنفال، 24.

[24]

إنّ الإلتفات إلى هذه الحقيقة يوقظ الإنسان، ويكون على بيّنة من أمره وما هو مذخور له في صحيفة أعماله عند محكمة عدل الله .. فيتحوّل من إنسان غافل إلى موجود واع ملتزم ورع تقيّ .. ورد في حديث أنّ أبا حنيفة جاء إلى الصادق (عليه السلام) يوماً فقال: رأيت ولدك موسى يصلّي والناس يعبرون من أمامه إلاّ أنّه لم ينههم عن ذلك، مع أنّ هذا العمل غير صحيح!.

فقال الصادق (عليه السلام) ادعوا لي ولدي موسى فدُعي له فكرّر الإمام الصادق حديث أبي حنيفة لولده موسى بن جعفر فأجاب موسى بن جعفر قائلا: إنّ الذي كنت اُصلّي له كان أقرب إليّ منهم يقول الله عزّوجلّ: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) .. فاحتضنه الإمام الصادق وقال: بأبي أنت واُمّي يامستودع الأسرار(1).

وللمفسّرين آراء عديدة في معنى «الوريد» .. فمنهم من يعتقد بأنّ «الوريد» هو العصب المتّصل بقلب الإنسان أو كبده، ويعتقد بعضهم بأنّ الوريد جميع الأعصاب في بدن الإنسان .. في حين أنّ بعضهم يعتقد بأنّه عصب الرقبة فحسب!

إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر تناسباً، ولا سيّما إذا لاحظنا الآية 24 من سورة الأنفال آنفة الذكر!

وكلمة «الوريد» ـ ضمناً ـ مأخوذة من الورود، ومعناه الذهاب نحو الماء، وحيث أنّ الدم ـ يرد من هذا العصب إلى القلب ويخرج منه إلى سائر أعضاء بدن الإنسان سمّي بالوريد.

ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ الإصطلاح المتداول في هذا العصر في شأن «الوريد والشريان» ـ يعني المجاري التي توصل الدم من سائر أعضاء الجسم إلى قلب الإنسان، وبالعكس ـ هذا الإصطلاح خاصّ بعلم الأحياء ولا علاقة له بالمفهوم اللغوي للوريد.

______________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج5، ص108.

[25]

ويضيف القرآن في الآية التالية قائلا: (إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد)(1).

أي أنّه بالإضافة إلى إحاطة علم الله «التامّة» على ظاهر الإنسان وباطنه، فهنالك ملكان مأموران بحفظ ما يصدر منه عن يمينه وشماله، وهما معه دائماً ولا ينفصلان عنه لتتمّ الحجّة عليه عن هذا الطريق أكثر، ولتتأكّد مسألة الحساب (حساب الأعمال).

كلمة «تلقّى» معناها الأخذ والتسلّم، و «المتلقّيان» هما ملكان مأموران بثبت أعمال الناس.

وكلمة «قعيد» مأخوذة من القعود ومعناها «جالس»(2) والمراد بالقعيد هنا الرقيب والملازم للإنسان، وبتعبير آخر أنّ الآية هذه لا تعني أنّ الملكين جالسين عن يمين الإنسان وعن شماله، لأنّ الإنسان يكون في حال السير تارةً، واُخرى في حال الجلوس، بل التعبير هنا هو كناية عن وجودهما مع الإنسان وهما يترصدّان أعماله.

ويحتمل أيضاً أنّهما قعيدان على كتفي الإنسان الأيمن والأيسر، أو أنّهما قعيدان عند نابيه أو ناجذيه دائماً ويسجّلان أعماله، وهناك إشارة إلى هذا المعنى في بعض الرّوايات غير المعروفة «كما في بحار الأنوار ج59 ص186 رقم الرّواية 32».

وممّا يجدر التنويه عليه أنّه ورد في الرّوايات الإسلامية أنّ ملك اليمين كاتب

______________________________________

1 ـ كلمة إذ في جملة (إذ يتلقّى المتلقّيان) ظرف متعلّق بمحذوف وتقديره واذكروا إذ يتلقّى المتلقّيان ولهذا المعنى ذهب إليه جماعة من المفسّرين، إلاّ أنّ جماعة اُخرى يرون بأنّ إذ متعلّقة بكلمة أقرب الواردة في الآية الآنفة إلاّ أنّ التّفسير الأوّل يبدو أصحّ لأنّ كلا من الجملتين «ونحن أقرب إليه من حبل الوريد» و «إذ يتلقّى المتلقّيان» إلخ تحتفظ بإستقلالها دون أن يتقيّد كلّ بالاُخرى ولا يتناسب الصدر والذيل في التّفسير الثاني.

2 ـ كلمة قعيد مفردة مع أنّ كلمة المتلقّيان تثنية لأنّ في الآية حذفاً وتقديرها إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد» وقد وقع هذا الحذف بقرينة ذكر الآخر.

[26]

الحسنات، وملك الشمال كاتب السيّئات، وصاحب اليمين أميرٌ على صاحب الشمال، فإذا عمل الإنسان حسنةً كتبها له صاحب اليمين بعشر أمثالها، وإذا عمل سيّئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين أمسك فيمسك عنه سبع ساعات، فإذا إستغفر الله منها لم يكتب عليه شيء، وإن لم يستغفر الله كتب له سيّئة واحدة.

كما يظهر من بعض الرّوايات أنّهما يقولان بعدموت المؤمن: ربّنا قبضت روح عبدك فإلى أين؟ قال: سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعونني إذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني وكبّراني وهلّلاني فاكتبا ذلك في حسنات عبدي(1).

وفي رواية اُخرى عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلاّ أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدوداً في وثاقي» ثمّ أضاف (صلى الله عليه وآله وسلم) من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً»(2).

وهذه الرّوايات جميعها إشارة إلى لطف الله الواسع.

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث فتتحدّث عن الملكين أيضاً فتقول: (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)(3).

وكان الكلام في الآية الآنفة عن كتابة جميع أعمال الإنسان، وفي هذه الآية إهتمام بخصوص ألفاظه، وهذا الأمر هو للأهميّة القصوى للقول وأثره في حياة الناس، حتّى أنّ جملة واحدة أو عبارة قصيرة قد تؤدّي إلى تغيير مسير المجتمع

______________________________________

1 ـ المصدر السابق.

2 ـ روح المعاني، ج26، ص165 ذيل الآيات محل البحث، وهذا المضمون نفسه منقول عن الإمام الصادق في كتاب الكافي وكذلك بحار الأنوار، ج59، ص187 في الرّوايتين 34 و35».

3 ـ الضمير في لديه يرجع إلى كلمة قول كما يحتمل أن يكون عائداً على الذي يلفظ القول، إلاّ أنّ الإحتمال الأوّل أنسب.

[27]

نحو الخير أو الشرّ!! كما أنّ بعض الناس لا يعتقدون بأنّ الكلام جزء من أعمالهم .. ويرون أنفسهم أحراراً في الكلام مع أنّ أكثر الاُمور تأثيراً وأخطرها في حياة الناس هو الكلام!.

فبناءاً على ذلك فإن ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدّمة هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام.

كلمة «الرقيب» معناها المراقب و «العتيد» معناها المتهيء للعمل، لذلك يطلق على الفرس المعدّة للركض بأنّها فرس عتيد كما يطلق على من يعدّ شيئاً أو يدّخره بأنّه عتيد، وهي من مادّة العتاد على زنة الجهاد ومعناها الإدّخار!.

ويعتقد أغلب المفسّرين أنّ الرقيب والعتيد إسمان للملكين المذكورين في الآية المتقدّمة وهما «المتلقيان» فاسم ملك اليمين «رقيب» واسم ملك الشمال «عتيد»، وبالرغم من أنّ الآية محلّ البحث ليس فيها قول صريح على هذا الأمر، إلاّ أنّ هذا التّفسير وبملاحظة مجموع الآيات يبدو غير بعيد!

ولكن أيّ كلام يكتب هذان الملكان؟ هناك أقوال بين المفسّرين قال بعضهم يكتبان كلّ كلام حتّى الصرخات من الألم، في حين أنّ بعضهم الآخر يعتقد بأنّهما يكتبان ألفاظ الخير والشرّ والواجب والمستحبّ أو الحرام والمكروه، ولا يكتبان ما هو مباح!

إلاّ أنّ عموميّة التعبير يدلّ على أنّ الملكين يكتبان كلّ لفظ وقول يقوله الإنسان.

الطريف أنّنا نقرأ روايةً عن الإمام الصادق يقول فيها: ا«نّ المؤمنين إذا قعدا يتحدّثان قالت الحفظة بعضها لبعض اعتزلوا بنا فلعلّ لهما سرّاً وقد ستر الله عليهما!

يقول الراوي: ألم يقل الله تعالى (ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد)

[28]

فيجيب الإمام (عليه السلام): إن كانت الحفظة لا تسمع فإنّ عالم السرّ يسمع ويرى»(1).

ويستفاد من هذه الرّوايات أنّ الله سبحانه يكتم بعض أحاديث المؤمن التي فيها (جانب سرّي) إحتراماً وإكراماً له، إلاّ أنّه حافظ لجميع هذه الأسرار.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ حفظة الليل غير حفظة النهار، كما بيّنا هذا المعنى في تفسير الآية 78 من سورة الإسراء من نفس هذا التّفسير.

* * *

 

ملاحظة

الحبيب أقرب إلى الإنسان من نفسه!!

يقول بعض الفلاسفة: كما أنّ شدّة البعد توجب الخفاء فإنّ شدّة القرب كذلك، فمثلا لو كانت الشمس بعيدة عنّا جدّاً لما رأيناها ولو كانت قريبة منّا جدّاً أو إقتربنا منها كثيراً فإنّ نورها سيذهلنا إلى درجة بحيث لا نستطيع رؤيتها.

وفي الحقيقة إنّ ذات الله المقدّسة كذلك: «يامن هو اختفى لفرط نوره»!.

وفي الآيات محلّ البحث تشبيه رائع لقرب الله إلى العباد إذ قالت حاكية عنه سبحانه: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) أي أنّ الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.

والتشبيهات التي تقول مثلا العالم جميعه جسم والله روحه، أو العالم كشعاع الشمس وهو قرصها وأمثال هذه لا يمكن أن توضّح العلاقة القريبة كما وصفتها الآية.

ولعلّ أفضل تعبير هو ما ورد على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الاُولى من نهج البلاغة إذ قال عنه سبحانه: «مع كلّ شيء لا بمقارنة وغير كلّ شيء لا

______________________________________

1 ـ اُصول الكافي طبقاً لما نقل في نور الثقلين، ج5، ص110.

[29]

بمزايلة».

وقد شبّه بعض الفلاسفة لبيان هذا القرب تشبيهاً آخر، فقالوا إنّ ذات الله المقدّسة هي المعنى الإسمي والموجودات هي المعنى الحرفي.

وتوضيح ذلك: حين نقول: توجّه إلى الكعبة، فإنّ كلمة (إلى) لا مفهوم لها وحدها، وما لم تضف الكعبة إليها فستبقى مبهمة، فعلى هذا ليس للمعنى الحرفي مفهوم إلاّ تبعاً للمفهوم الإسمي، فوجود جميع موجودات العالم على هذه الشاكلة، إذ دون إرتباطها بذاته لا مفهوم لها ولا وجود ولا بقاء لها أصلا .. وهذا يدلّ على نهاية قرب الله إلى العباد وقربهم إليه وإن كان الجهلة غافلين عن ذلك.

 

* * *

[30]

الآيات

وَجَآءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( 19 ) وَنُفِخَ فِى الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ( 20 ) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْس مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ ( 21 ) لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَة مِّنْ هَـذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ( 22 )

 

التّفسير

القيامة ـ والبصر الحديد ـ:

تعكس الآيات أعلاه مسائل اُخرى تتعلّق بيوم المعاد: «مشهد الموت» و «النفخ في الصور» و «مشهد الحضور في المحشر»!

فتقول أوّلا: (وجاءت سكرة الموت بالحقّ).

سكرة الموت: هي حال تشبه حالة الثمل السكران إذ تظهر على الإنسان بصورة الإضطراب والإنقلاب والتبدّل، وربّما إستولت هذه الحالة على عقل الإنسان وسلبت شعوره وإختياره.

وكيف لا تكون كذلك مع أنّ الموت مرحلة إنتقالية مهمّة ينبغي أن يقطع الإنسان فيها جميع علائقه بالدنيا التي تعلّق بها خلال سنين طويلة، وأن يخطو في

[31]

عالم جديد عليه مليء بالأسرار، خاصّة أنّ الإنسان ـ لحظة الموت ـ يكون عنده إدراك جديد وبصر حديد ـ فهو يلاحظ عدم إستقرار هذا العالم بعينيه ويرى الحوادث التي بعد الموت، وهنا تتملّكه حالة الرعب والإستيحاش من قرنه إلى قدمه فتراه سَكِراً وليس بسكر(1).

حتّى الأنبياء وأولياء الله الذين يواجهون حالة النزع والموت بإطمئنان كامل ينالهم من شدائد هذه الحالة نصيب، ويصابون ببعض العقبات في حالة الإنتقال، كما قد ورد في حالات إنتقال روح النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بارئها عند اللحظات الأخيرة من عمره الشريف المبارك أنّه كان يدخل يده في إناء فيه ماء ويضعها على وجهه ويقول: (لا إله إلاّ الله) ثمّ يقول: (إنّ للموت سكرات)(2).

وللإمام علي كلام بليغ يرسم لحظة الموت وسكراتها بعبارات حيّة بليغة إذ يقول: «إجتمعت عليهم سكرت الموت وحسرت الفوت ففترت لها أطرافهم وتغيّرت لها ألوانهم ثمّ إزداد الموت فيهم ولوجاً فحيل بين أحدهم ومنطقه وانّه لبيّن أهله ينظر ببصره ويسمع باُذنه على صحّة من عقله وبقاء من لبّه يفكّر فيم أفنى عمره؟ وفيم أذهب دهره؟ ويتذكّر أموالا جمعها أغمض في مطالبها وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتّعون بها»(3).

كما أنّ هذا المعلّم الكبير ينذر في مكان آخر البشرية فيقول: «إنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا وقريب ما يطرح الحجاب»(4).

______________________________________

1 ـ السَكر ـ على زنة المكر ـ معناه في الأصل سدّ طريق الماء، والسِكر ـ على زنة الفكر ـ معناه المحلّ المسدود، وحيث أنّ حالة الثمل تقع حاجزاً وسدّاً بين الإنسان وعقله فقد سمّيت بالسُكر على زنة الشُكر.

2 ـ روح المعاني، ج9، ص118.

3 ـ نهج البلاغة، الخطبة 109.

4 ـ نهج البلاغة، الخطبة 200.

[32]

ثمّ يضيف القرآن في ذيل الآية قائلا: (ذلك ما كنت منه تحيد)(1) أجل إنّ الموت حقيقة يهرب منها أغلب الناس لأنّهم يحسبونه فناءً لا نافذةً إلى عالم البقاء، أو أنّهم لعلائقهم وإرتباطاتهم الشديدة بالدنيا والمواهب المادية التي لهم فيها لا يستطيعون أن يصرفوا قلوبهم عنها، أو لسواد صحيفة أعمالهم.

أيّاً كان فهم منه يهربون .. ولكن ما ينفعهم ومصيرهم المحتوم في إنتظار الجميع ولا مفرّ لأحد منه، ولابدّ أن ينزلوا إلى حفرة الموت ويقال لهم هذا ما كنتم منه تفرّون!!.

وقائل هذا الكلام ربّما هو الله أو الملائكة أو الضمائر اليقظة أو الجميع!.

والقرآن بيّن هذه الحقيقة في آيات اُخر كما هو في الآية (78) من سورة النساء إذ يقول: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة)!.

وقد ينسى الإنسان المغرور جميع الحقائق التي يراها باُمّ عينيه على أثر حبّ الدنيا وحبّ الذات حتّى يبلغ درجةً يقسم فيها أنّه خالد كما يقول القرآن في هذا الصدد: (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال).

ولكن سواء أقسم أم لم يقسم، وصدّق أم لم يصدّق فإنّ الموت حقيقة تحدق بالجميع وتحيق بهم ولا مفرّ لهم منها.

ثمّ يتحدّث القرآن عن النفخ في الصور فيقول: (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد).

والمراد من «النفخ في الصور» هنا هو النفخة الثانية، لأنّه كما نوّهنا آنفاً فإنّ الصور ينفخ فيه مرّتين: فالنفخة الاُولى تدعى بنفخة الفَزَع أو الصعَق وهي التي تكون في نهاية الدنيا ويموت عند سماعها جميع الخلق ويتلاشى نظام العالم الدنيوي، والنفخة الثانية هي نفخة «القيام والجمع والحضور» وتكون في بداية

______________________________________

1 ـ كلمة تحيد مشتقّة من مادّة حيد ـ على وزن صيد ـ ومعناها العدول عن الشيء والفرار منه ..

[33]

البعث والنشور والقيامة وبها يحيى الناس جميعهم ويخرجون «وينسلون» من الأجداث والقبور إلى ربّهم وحساب «عدله» وجزائه.

«النفخ» معناه معروف، و «النفخة» بمعنى المرّة منه، و «الصور» هو المزمار أو «البوق» والذي يستعمل في القضايا العسكرية عادةً لجمع الجنود أو تفريقهم أو الإستعداد أو الذهاب للراحة والنوم، وإستعماله في صور إسرافيل نوع من الكناية والتشبيه «وقد بيّنا تفصيل هذا الموضوع في ذيل الآية 68 من سورة الزمر».

وعلى كلّ حال، فمع الإلتفات وملاحظة جملة «ذلك يوم الوعيد» يتّضح أنّ المراد من نفخة الصور هنا هو النفخة الثانية ويوم النشور والقيامة.

وفي الآية التالية بيان لحال الناس يوم المحشر بهذه الصورة: (وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد).

فالسائق يسوقه نحو محكمة عدل الله، والشهيد يشهد على أعماله! وهي كمحاكم هذا العالم إذ يسوق المأمورون المتّهمين ويأتون معهم للمحكمة ويشهد عليهم الشهود.

وإحتمل بعض المفسّرين أنّ السائق هو من يسوق الصالحين نحو الجنّة والطالحين نحو جهنّم، ولكن مع ملاحظة كلمة «الشهيد» معها يكون المعنى الأوّل وهو السوق نحو محكمة عدل الله أنسب.

ولكن من هما السائق والشهيد؟ أهما «ملكان» من الملائكة أو سواهما، هناك تفاسير متعدّدة.

قال بعضهم: إنّ «السائق» هو الملك الذي يكتب الحسنات، و «الشهيد» هو الملك الذي يكتب السيّئات، فيكون المراد بهما الملكين الوارد ذكرهما في الآيات المتقدّمة.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ «السائق» ملك الموت و «الشهيد» رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن هذه الرّواية مع ملاحظة لحن الآيات تبدو ضعيفة.

[34]

وقال بعضهم: «السائق» الملك الذي يسوق كلّ إنسان و «الشهيد» عمل الإنسان.

كما قيل أنّ «السائق» ملك و «الشهيد» أعضاء جسم الإنسان أو صحيفة أعماله أو الكتاب الذي في عنقه.

ويحتمل أنّ السائق والشهيد ملك واحد، وعطف اللفظين بعضهما على الآخر هو لإختلاف الوصفين، أي أنّ مع الإنسان ملكاً يسوقه إلى محكمة عدل الله ويشهد عليه أيضاً.

إلاّ أنّ أغلب هذه التفاسير مخالف لظاهر الآية، وظاهر الآية كما فهم منه أغلب المفسّرين أنّ ملكين يأتيان مع كلّ إنسان، فواحد يسوقه والآخر يشهد على أعماله.

ومن الواضح أنّ شهادة بعض الملائكة لا تنفي وجود شهادة اُخرى لبعض الشهود في يوم القيامة، الشهود الذين هم من قبيل الأنبياء وأعضاء البدن، وصحائف الأعمال والزمان والمكان الذين وقع عمل الإنسان فيهما أو أثم فيهما.

وعلى كلّ حال فالملك الأوّل يمنع الإنسان عن الفرار، والملك الثاني يمنع عن الإنكار، وهكذا فإنّ كلّ إنسان في ذلك اليوم مبتلى بأعماله ولا مفرّ له من جزاء أعماله أبداً.

وهنا يخاطب المجرمون أو جميع الناس (فرداً فرداً) فيقال: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).

أجل، إنّ أستار عالم المادّة من الآمال والعلاقة بالدنيا والأولاد والمرأة والأنانية والغرور والعصبية والجهل والعناد وحبّ الذات لم تكن تسمح أن تنظر إلى هذا اليوم مع وضوح دلائل المعاد والنشور، فهذا اليوم ينفض عنك غبار الغفلة، وتماط عنك حجب الجهل والتعصّب واللجاجة، وتنشقّ أستار الشهوات والآمال، وما كان مستوراً وراء حجاب الغيب يبدو ظاهراً اليوم، لأنّ هذا اليوم يوم البروز

[35]

ويوم الشهود ويوم تبلى السرائر!

ولذلك فقد وجدت عيناً حادّة البصر ويمكن أن تدرك جميع الحقائق بصورة جيّدة.

أجل، إنّ وجه الحقيقة لم يكن مخفياً ولا لثام على جمال الحبيب، ولكن ينبغي أن ينفض غبار الطريق ليمكن رؤيته.

إلاّ أنّ الغرق في بحر الطبيعة والإبتلاء بأنواع الحجب لا يسمحان للإنسان أن يرى الحقائق بصورة واضحة، لكنّه في يوم القيامة حيث تنقطع كلّ هذه العلائق فمن البديهي أن يحصل للإنسان إدراك جديد ونظرة ثاقبة، وأساساً فإنّ يوم القيامة يوم الظهور وبروز الحقائق!

حتّى في هذه الدنيا إستطاع البعض تخليص أنفسهم من قبضة الأهواء واتّباع الشهوات وأن يلقوا الحجب عن عيون قلوبهم لرزقوا بصراً حديداً يرون به الحقائق، أمّا أبناء الدنيا فمحرومين منه.

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الحديد نوع من المعدن كما يطلق على السيف والمُدية، ثمّ توسّعوا فيه فأطلقوه على حدّة البصر وحدّة الذكاء، ومن هنا يظهر أنّ المراد بالبصر ليس العين الحقيقية الظاهرة، بل بصر العقل والقلب.

يقول الإمام علي (عليه السلام) في أولياء الله في أرضه: «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استعوره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى اُولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه»(1).

* * *

 

______________________________________

1 ـ نهج البلاغة ـ الكلمات القصار ـ الكلمة 147.

[36]

بحوث

1 ـ حقيقة الموت

يتصوّر أغلب الناس أنّ الموت أمر عدمي ومعناه الفناء، إلاّ أنّ هذه النظرة  لا تنسجم مع ما ورد في القرآن المجيد وما تدلّ عليه الدلائل العقلية ولا توافقها أبداً.

فالموت في نظر القرآن أمر وجودي، وهو إنتقال وعبور من عالم إلى آخر، ولذلك عُبّر عن الموت في كثير من الآيات بـ «تُوفّي» ويعني تسلّم الروح وإستعادتها من الجسد بواسطة الملائكة.

والتعبير في الآيات المتقدّمة (وجاءت سكرة الموت بالحقّ) هو إشارة إلى هذا المعنى(1) أيضاً، وقد جاء في بعض الآيات التعبير عن الموت بالخلق: (الذي خلق الموت والحياة) (الملك ـ 2).

وهناك تعبيرات متعدّدة عن حقيقة الموت في الرّوايات الإسلامية، ففي رواية أنّ الإمام علي بن الحسين سئل: ما الموت؟ فقال (عليه السلام): «للمؤمن كنزع ثياب وسخة قملة وفكّ قيود وأغلال ثقيلة والإستبدال بأفخر ثياب وأطيبها روائح وأوطىء المراكب وآنس المنازل وللكافر كخلع ثياب فاخرة والنقل عن منازل أنيسة والإستبدال بأوسخ الثياب وأخشنها وأوحش المنازل وأعظم العذاب».

وسئل الإمام محمّد بن علي(عليه السلام) السؤال الآنف ذاته فقال: «هو النوم الذي يأتيكم كلّ ليلة إلاّ أنّه طويل مدّته لا ينتبه منه إلاّ يوم القيامة»(2).

وقد قلنا في المباحث المتعلّقة بالبرزخ أنّ حالات الأشخاص متفاوتة في البرزخ، فبعضهم كأنّهم يغطّون في نوم عميق، وبعضهم «كالشهداء في سبيل الله

______________________________________

1 ـ في المراد من الباء في كلمة بالحقّ هناك إحتمالات عديدة، فمنهم قال معناه التعدية والحقّ معناه الموت، ويكون معنى الجملة إنّ سكرات الموت لها واقعية أي أنّ السكرات تصحب معها الموت، وقيل أنّ الباء للملابسة، أي أنّ سكرات الموت تأتي مع الحقّ ..

2 ـ بحار الأنوار، ج6، ص155 [ويظهر أنّ المراد من الإمام محمّد بن علي هو الإمام التاسع محمّد الجواد (عليه السلام)].

[37]

والمؤمنين الراسخين» ينعّمون بأنواع النعم بينما يعذّب الأشقياء والجبابرة بعذاب الله الأليم!

وقد بيّن الإمام الحسين (عليه السلام) لأصحابه حقيقة الموت يوم عاشوراء عند إشتداد المأزق والقتال بتعبير لطيف بليغ فقال: «صبراً بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة، والنِعم الدائمة، فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب إنّ أبي حدّثني عن رسول الله إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم»(1)..

ونقرأ في حديث آخر أنّ الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) دخل على رجل يعاني سكرات الموت ولم يُكلّم أحداً، فسأل الحاضرون الإمام موسى بن جعفر: يابن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف هو حال صاحبنا؟

فقال (عليه السلام): «الموت هو المصفاة يصفّي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزر بقي عليهم ويصفّي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذّة أو راحة تلحقهم وهو آخر ثواب حسنة تكون لهم، وأمّا صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلا وصفّي من الآثام تصفية وخلص حتّى نقي كما ينقّى الثوب من الوسخ وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد»(2).

 

2 ـ سكرات الموت

كان الكلام في الآيات الآنفة على سكرات الموت، وقلنا أنّ «السكرات» جمع سكرة، ومعناها الحالة التي تشبه حالة الثمل على أثر إشتداد حالة الإنسان فيضطرب منها فيرى سِكراً وليس بِسَكِر!

صحيح أنّ الموت هو للمؤمنين بداية إنتقال إلى عالم أوسع مليء بمواهب

______________________________________

1 ـ معاني الأخبار ص289 باب معنى الموت الحديث 3.

2 ـ المصدر السابق.

[38]

الله، إلاّ أنّه مع ذلك فإنّ هذه الحالة الإنتقالية ليست سهلة لأي إنسان، لأنّ روحه تطبّعت مع البدن سنين طوالا وإرتبطت به.

ولذلك فإنّه حين يسأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن سبب إضطراب الجسد حين خروج الروح منه يجيب: لأنّه نما عليها البدن(1).

وهذا يشبه تماماً حالة قلع السنّ الفاسد من اللثّة، فإنّه عند قلعه يحسّ الإنسان بالإلم إلاّ أنّه يشعر بالراحة بعدئذ.

ونقرأ في الرّوايات الإسلامية أنّ الإنسان يستوحش من ثلاثة أيّام، يوم يولد فيه فيرى هذا العالم الذي لم يعرفه، ويوم يموت ويرى عالم ما بعد الموت، ويوم يبعث حيّاً في عرصات القيامة فيرى أحكاماً لم يرها في هذه الدنيا .. لذلك فإنّ القرآن يقول في شأن يحيى بن زكريا: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً)(2).. ويحكى على لسان عيسى بن مريم مثل هذا الكلام، فهذان النبيّان مشمولان بعناية الله في هذه الأيّام الثلاثة!.

وبالطبع فإنّه من المسلّم به أنّ المرتبطين بهذه الدنيا يكون إنتقالهم منها أصعب وقطع القلوب منها أشدّ، كما أنّ الآثمين وأصحاب الذنوب تكون عليهم سكرات الموت أكثر ألماً ومرارة!.

 

3 ـ الموت حقّ

ليست الآيات محلّ البحث وحدها تتحدّث عن الموت بأنّه حقّ، بل هناك آيات كثيرة في القرآن تصرّح بأنّ الموت حقّ ويقين، إذ نقرأ في الآية (99) من

______________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج6، ص156.

2 ـ المصدر نفسه مع شيء من التلخيص: نقرأ في سورة مريم الآية 15 في شأن يحيى: (وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً) كما نقرأ في شأن عيسى بن مريم في السورة ذاتها (والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم اُبعث حيّاً).

[39]

سورة الحجر (واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين). وفي الآية (47) من سورة المدثر نقرأ ما يشبه هذا التعبير أيضاً.

كلّ ذلك لأنّ الإنسان إذا أنكر كلّ شيء فليس بوسعه أن ينكر أنّ الموت حقّ وأنّه لابدّ أن يُطرق بابه، فالموت يطرق أبواب الجميع ويأخذهم معه أخيراً.

والإلتفات ـ إلى حقيقة الموت ـ يُعدّ إنذاراً لجميع الناس ليفكّروا أكثر وأحسن ويعرفوا طريقهم المقدمين عليه وما هو أمامهم ويستعدّوا له!

الطريف أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات أنّ رجلا جاء إلى عمر فقال: إنّي أحبّ الفتنة وأكره الحقّ وأشهد على ما لم أره، فأمر عمر به فحُبس، فبلغ ذلك علياً (عليه السلام)فقال: ياعمر إنّ حبسه ظلم وقد أثمت على ذلك. فقال: ولِمَ؟ فقال علي: إنّه ـ يحبّ أمواله وأولاده وقد قال الله عنهما في بعض آياته أنّهما فتنة (إنّما أموالكم وأولادكم فتنة)(1) ويكره الموت والقرآن يعبّر عنه بأنّه حقّ (وجاءت سكرة الموت بالحقّ)(2) ويشهد بوحدانية الله وهو لم يره. فقال عمر: لولا علي لهلك عمر(3).

 

* * *

______________________________________

1 ـ التغابن، الآية 15.

2 ـ سورة ق، الآية 19.

3 ـ تفسير روح البيان، ج9، ص118.

[40]

الآيات

وَقَالَ قَرِينُهُ هَـذَا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ ( 23 ) أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّار عَنِيد( 24 ) مَّنَّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد مُّرِيب ( 25 ) الَّذِى جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَـهاً ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِى الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ( 25 ) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَـكِن كَانَ فِى ضَلَـلِ بَعِيد ( 26 ) قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ( 27 ) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَآ أَنَا بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ ( 7 ) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد( 28 )

 

التّفسير

قرناء الإنسان من الملائكة والشياطين:

مرّةً اُخرى ترتسم في هذه الآيات صورة اُخرى عن المعاد، صورة مثيرة مذهلة حيث أنّ الملك ـ قرين الإنسان ـ يبيّن محكومية الإنسان بين الملأ ويصدر حكم الله لمعاقبته وجزائه.

تقول الآية الاُولى من هذه الآيات: يقول صاحبه وقرينه هذا كتاب أعمال

[41]

هذا الإنسان حاضر لديّ: (وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد) فيكشف الستار عن كلّ صغيرة وكبيرة صدرت منه.

ولكن ما المراد من «قرينه»؟ للمفسّرين أقوال كثيرة، إلاّ أنّ أغلبهم يرى أنّ المراد منه هو الملك الذي يرافق الإنسان في الدنيا والذي كان مأموراً بتسجيل أعماله وضبطها ليشهد عليه هناك في محكمة عدل الله.

والآيات السابقة التي كانت تشير إلى أنّ من يرد عرصات المحشر فإنّ معه سائقاً يسوقه وشهيداً يشهد عليه، تدلّ على هذا المعنى أيضاً. زد على ذلك لحن الآية نفسها والآية التي تليها تتناسبان مع هذا المعنى أيضاً [فلاحظوا بدقّة].

إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المراد من قرينه هو «الشيطان»، لأنّ كلمة «قرين» أُطلقت في كثير من آيات القرآن على الشيطان الذي يصطحب الإنسان .. فيكون معنى الآية على هذا التقدير هكذا: «وقال الشيطان قرين الإنسان: «إنّني أعددت هذا المجرم لجهنّم وبذلت أقصى ما في وسعي من جهد في هذا السبيل».

إلاّ أنّ هذا المعنى لا أنّه لا يتناسب مع الآيات السابقة واللاحقة فحسب، بل لا ينسجم مع تبرئة الشيطان نفسه من إغوائه الإنسان على الذنب كما تصرّح بذلك الآية الواردة بعد عدّة آيات من هذه الآية محلّ البحث.

فطبقاً لهذا التّفسير للآية فإنّ الشيطان يعترف بمسؤوليته في إغواء الإنسان، والحال أنّ الآيات المقبلة نقرأ فيها قوله: (وقال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد) فيقع التضادّ بين القولين كما تلاحظون.

وهناك تفسير ثالث وهو أبعد ممّا ذكر آنفاً ولا قرينة عليه أبداً، وهو أنّ المراد من «قرينه» هو من رافق الإنسان في حياته من البشر!!

ثمّ يخاطب الله الملكين المأمورين بتسجيل أعمال الإنسان فيقول لهما: (ألقيا في جهنّم كلّ كفّار عنيد).

كلمة «عنيد» مشتقّة من العناد، ومعناها التكبّر وحبّ الذات وعدم الخضوع

[42]

للحقّ!

ومن هم المخاطَبَين هنا؟ هناك تفاسير متعدّدة أيضاً، فمنهم من إختار التّفسير آنف الذكر، ومنهم من قال بأنّهما خازنا النيران.

وقال بعضهم ـ أيضاً ـ من المحتمل أن يكون المخاطب واحداً فحسب، وهو الشاهد الذي يرد عرصة القيامة مع المجرم، وصرّحت به الآيات آنفة الذكر، وتثنية الفعل هو من أجل التأكيد، فكأنّه يؤكّد مرتين: «القِ، الق» وإستعمال التثنية في خطاب المفرد وارد في لغة العرب، إلاّ أنّ هذا التّفسير بعيد جدّاً. وخير التفاسير وأنسبها هو التّفسير الأوّل.

وفي الآية التالية إشارة إلى بعض الأوصاف التي يتّصف بها هؤلاء الكفّار ـ الذميمة المنحطّة إذ تقول الآية: (منّاع للخير معتد مريب).

«المنّاع» بحكم كونه صيغة مبالغة فإنّه يطلق على الشخص الذي يمنع كثيراً من الاُمور، فيكون التعبير بـ «منّاع للخير» يقصد به من يمنع كلّ عمل صالح فيه خير وبأيّة صورة كانت.

وقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الآية نزلت في «الوليد بن المغيرة» حيث أنّه كان يمنع أبناء أخيه عن الإسلام ويقول لهم: طالما كنت حيّاً فلن أعينكم في حياتكم(1).

وكلمة «معتد» معناها المتجاوز على الحدود، سواءً أكان متجاوزاً لحقوق الآخرين أو لحدود الله وأحكامه!

وكلمة «مريب» مشتقّة من الريب، وتعني من هو في شكّ، الشكّ المقرون بسوء الظنّ، أو من يخدع الآخرين فيجعلهم بما يقول أو يعمل في شكّ من أمرهم .. فيضلّوا عن سواء السبيل.

______________________________________

1 ـ روح المعاني، ج26، ص168.

[43]

ثمّ تضيف الآية التالية لتذكر وصفاً ذميماً لمن كان من طائفة الكفّار فتقول: (الذي جعل مع الله إلهاً آخر).

أجل: (فألقياه في العذاب الشديد).

وفي هذه الآيات بيان ستّة أوصاف لأهل النار، فالأوصاف الخمسة المتقدّمة بعضها لبعض بمثابة العلّة والمعلول، أمّا الوصف السادس فإيضاح للجذر الأصيل لهذه الأوصاف.

لأنّ معنى الكفّار هو من أصرّ على كفره كثيراً، وينتهي هذا الأمر إلى العناد.

والمعاند أو العنيد يصرّ على منع الخير أيضاً، ومثل هذا الشخص بالطبع يكون معتدياً متجاوزاً على حقوق الآخرين وحدود الله.

والمعتدون يصرّون على إيقاع الآخرين في الشكّ والريب وسلب الإيمان عنهم.

وهكذا تبيّن أنّ هذه الأوصاف الخمسة أي «الكفّار والعنيد والمنّاع للخير والمعتدي والمريب» يرتبط بعضها ببعض إرتباطاً وثيقاً، وبعضها لبعض يشكّل علاقة اللازم بالملزوم.

وفي الوصف السادس أي (الذي جعل مع الله إلهاً آخر) يكمن الجذر الأصيل والأساس لجميع الإنحرافات الآنف ذكرها، والمراد من هذا الوصف هو الشرك، لأنّ التدقيق فيه يكشف أنّ الشرك هو الباعث على جميع هذه الاُمور المتقدّمة!

وفي الآية التالية يكشف الستار عن مشهد آخر وصورة اُخرى ممّا يجري على هؤلاء الكفّار وعاقبتهم، وهو المجادلة بينهم وبين الشيطان الغويّ في يوم القيامة، فكلّ من الكفّار يلقي التبعات على الشياطين، إلاّ أنّ قرينه «الشيطان» يردّ عليه ويقول كما يحكي عنه القرآن: (قال قرينه ربّنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد). فلم أجبره على سلوك طريق الغواية والضلالة، بل هو الذي سلكه بإختياره

[44]

وإرادته وإختار هذا الطريق.

وهذا التعبير يشبه ما ورد في سورة إبراهيم الآية (22) إذ يتبرّأ الشيطان من أتباعه فيقول: (... وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم)!!

وبالطبع فإنّ الشيطان لا يريد أن ينكر أثره في إغواء الإنسان إنكاراً كليّاً، بل يريد أن يثبت أنّه لم يجبر أحداً على إغوائه، بل الإنسان بمحض إستجابته ورغبته قبل وساوس الشيطان، فعلى هذا الأساس لا تضادّ بين هذه الآية والآية (82) من سورة (ص): (لاُغوينّهم أجمعين).

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تتحدّث عن دفاع الشيطان عن نفسه فحسب، ولا يظهر فيها كلام على إعتراض الكفّار وردّهم على الشيطان، إلاّ أنّه وبقرينة سائر الآيات التي تتحدّث عن مخاصمتهم في يوم القيامة وبقرينة الآية التالية يتّضح جدال الطرفين إجمالا، لأنّها تقول حاكية عن ربّ العزّة: (قال لا تخصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد) وأخبرتكم عن هذا المصير.

إشارة إلى قوله تعالى للشيطان من جهة: (إذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفوراً).(1)

ومن جهة اُخرى فقد أنذر سبحانه من تبعه من الناس (لأملأنّ جهنّم منك وممّن تبعك منهم أجمعين).(2)

وهذا التهديد والوعيد واردة في سائر آيات القرآن، وهي حاكية جميعاً عن أنّ الله أتمّ الحجّة على الشياطين والإنس كلّهم .. وحذّر كلا الفريقين من الإغواء والغواية والإضلال والضلال.

ولمزيد التأكيد تقول الآية التالية حاكية عن لسان ربّ العزّة: (ما يبدّل القول

______________________________________

1 ـ الإسراء، الآية 63.

2 ـ سورة ص، الآية 85.

[45]

لدي وما أنا بظلاّم للعبيد)(1).

والمراد من «القول» هنا هو التهديد أو الوعيد الذي أشار إليه الله سبحانه مراراً في آيات متعدّدة وذكرنا آنفاً أمثلةً منها.

والتعبير بـ «ظلاّم» وهو صيغة مبالغة معناه كثير الظلم، مع أنّ الله لا يصدر منه أقل ظلم، ولعلّ هذا التعبير هو إيذان بأنّ مقام عدل الله وعلمه في درجة بحيث لو صدر منه أصغر ظلم لكان يعدّ كبيراً جدّاً ولكان مصداقاً للظلاّم، فعلى هذا فإنّ الله بعيد عن أي أنواع الظلم.

أو أنّ هذا التعبير ناظر إلى الأفراد والمصاديق، إذ لو نال عبداً ظلم من الله فهناك نظراء لهذا العبد، وفي المجموع يكون الظلم كثيراً.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذا التعبير دليل على أنّ العباد مخيّرون ولديهم الحريّة «في الإرادة» فلا الشيطان مجبور على شيطنته وعمله، ولا الكفّار مجبورون على الكفر وأتباع طريق الشيطان، ولا العاقبة والمصير القطعي الخارج عن الإرادة قد تقرّرا لأحد أبداً.

وهنا ينقدح هذا السؤال! وهو:

كيف يقول سبحانه (ما يبدّل القول لديّ)؟ مع أنّ جماعة من العباد يشملهم عفوه وغفرانه؟

والجواب على هذا السؤال: أنّ العفو أيضاً وفقاً لمنهج دقيق وفرع على عمل أدّاه الإنسان بحيث أنّه على رغم جرمه فهو جدير بالعفو، وهذا بنفسه أحد السنن الإلهيّة، وهو أنّ من يستحقّ العفو يشمله عفوه، وهذا أيضاً لا يتغيّر.

وفي آخر آية من الآيات محلّ البحث إشارة إلى جانب قصير ومثير من مشاهد يوم القيامة إذ تقول الآية: (يوم نقول لجهنّم هل امتلأت وتقول هل من

______________________________________

1 ـ لديّ ظرف متعلّق بـ «يبدّل» وإحتمل بعض المفسّرين أنّه متعلّق بالقول، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب ..

[46]

مزيد)(1).

والمراد من (هل من مزيد) ما هو؟ هناك تفسيران:

الأوّل: أنّه إستفهام إنكاري، أي أنّ جهنّم تقول لا مجال للزيادة، وبهذا فينسجم هذا المعنى مع الآية 13 من سورة السجدة: (لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين) وهو تأكيد على أنّ تهديد الله يتحقّق في ذلك اليوم تماماً وأنّ جهنّم تمتلىء في يوم القيامة من الكفّار والمجرمين.

والثّاني: إنّ هذه الجملة فيها طلب للزيادة! أي هل يوجد غير هؤلاء ليدخلوا النار، وأساساً فإنّ طبيعة كلّ شيء أن يبحث عن سنخه دائماً، فلا النار تشبع من الكفّار ولا الجنّة تشبع من المؤمنين الصالحين.

إلاّ أنّ هذا السؤال سيبقى بلا جواب، وهو أنّ مفهوم هذا الطلب أنّ جهنّم ما تزال غير ممتلئة، فلا تنسجم مع الآية 13 من سورة السجدة آنفة الذكر التي تقول: (لأملأنّ جهنّم من الجنّة والناس أجمعين).

ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ طلب المزيد لا يدلّ على عدم الإمتلاء لأنّه:

أوّلا: قد يكون إناء مليء بالطعام مثلا، إلاّ أنّ شخصاً ما يزال يتمنّى أن لو اُضيف إليه فيكون متراكماً أكثر!

ثانياً: هذا الطلب يمكن أن يكون طلباً لتضييق المكان على أهل جهنّم وعقابهم الأليم أو تمنّي السعة لإستيعاب أنفار آخرين أكثر.

وعلى كلّ حال، فإنّ هذه الآية تدلّ دلالة واضحة أنّ أهل جهنّم كثيرون، وأنّ صورة جهنّم مرعبة وموحشة وأنّ تهديد الله جدّي وحقّ يربك الفكر في كلّ إنسان فيهزّه ويحذّره ألاّ يكون واحداً من أهلها! وهذا التفكير يمكن أن يصيّره ورعاً ملتزماً فلا يقدم على الذنوب الكبيرة والصغيرة!.

______________________________________

1 ـ بأي كلمة متعلّق لفظ «يوم»؟ هناك ثلاثة وجوه ـ الوجه الأوّل أنّه متعلّق بمحذوف وتقديره اذكروا. والوجه الثاني أنّه متعلّق بيبدّل. والوجه الثالث أنّه متعلّق بظلاّم، إلاّ أنّ الأوّل أولى.

[47]

وينقدح سؤال آخر، وهو كيف تخاطب النار وهي موجود غير عاقل فتردّ وتجيب على الخطاب!

ولهذا السؤال توجد إجابات ثلاث:

الاُولى: إنّ هذا التعبير نوع من التشبيه وبيان لسان الحال! أي أنّ الله يسأل بلسان التكوين جهنّم وهي تجيب بلسان الحال، ونظير هذا التعبير كثير في اللغات المختلفة!

الثّانية: إنّ الدار الآخرة دار حياة واقعية، فحتّى الموجودات المادية كالجنّة والنار يكون لها نوع من الإدراك والحياة والشعور، فالجنّة تشتاق إلى المؤمنين، وجهنّم تنتظر المجرمين.

وكما أنّ أعضاء جسم الإنسان تنطق في ذلك اليوم وتشهد على الإنسان، فلا عجب أن تكون الجنّة والنار كذلك!

بل وحسب إعتقاد بعض المفسّرين إنّ ذرّات هذا العالم جميعها لها إدراك وإحساس خاصّ، ولذلك فهي تسبّح الله وتحمده، وقد أشارت إليه بعض آيات القرآن كالآية (44) من سورة الإسراء(1).

والثّالثة: إنّ المخاطبين هم خزنة النار وهم الذين يردون على هذا السؤال.

وجميع هذه التفاسير يمكن قبولها، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب كما يبدو!

* * *

______________________________________

1 ـ يراجع ذيل الآية 44 من سورة الإسراء.

[48]

الآيات

وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد ( 31 ) هَـذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ ( 32 ) مَّنْ خَشِىَ الرَّحْمَـنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْب مُّنِيب( 33 ) ادْخُلُوهَا بِسَلَـم ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ ( 34 ) لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ( 35 ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْن هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِى الْبِلَـدِ هَلْ مِن مَّحِيص ( 36 ) إنَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ( 37 )

 

التّفسير

ادخلوا الجنّة .. أيّها المتّقون!

مع الإلتفات إلى أنّ أبحاث هذه السورة يدور أغلبها حول محور المعاد والاُمور التي تتعلّق به، ومع ملاحظة أنّ الآيات آنفة الذكر تتحدّث عن كيفية القاء الكفّار المعاندين في نار جهنّم وما يلاقونه من عذاب شديد وبيان صفاتهم التي جرّتهم وساقتهم إلى نار جهنّم! ففي هذه الآيات محلّ البحث تصوير لمشهد آخر، وهو دخول المتّقين الجنّة بمنتهى التكريم والتجلّة وإشارة إلى أنواع النعم في

[49]

الجنّة، كما أنّ هذه الآيات تبيّن صفات أهل الجنّة لتتّضح الحقائق أكثر بهذه المقارنة ما بين أهل النار وأهل الجنّة.

فتبدأ الآيات بالقول: (وأُزلفت الجنّة للمتّقين غير بعيد).

«اُزلفت»: من مادّة زُلفى ـ على زنة كُبرى ـ ومعناها القرب، أي قُرّبت.

والطريف هنا أنّ القرآن لا يقول: وقُرّب المتّقين إلى الجنّة، بل يقول واُزلفت أي وقرّبت الجنّة للمتّقين، وهذا أمر لا يمكن أن يتصوّر تبعاً للظروف الدنيوية وشروطها، ولكن حيث إنّ الاُصول الحاكمة على العالم الآخر تختلف إختلافاً بالغاً عمّا هي في هذه الدنيا، فلا ينبغي التعجّب إطلاقاً أن يُقرّب الله الجنّة للمتّقين بمنتهى التكريم بدلا من أن يذهبوا هم إليها.

كما أنّنا نقرأ في الآيتين (90) و91) من سورة الشعراء: (واُزلفت الجنّة للمتّقين وبُرّزت الجحيم للغاوين).

وهذا منتهى اللطف الإلهي لعباده المؤمنين حيث لا يتصوّر فوقه لطف آخر!.

والتعبير بـ (غير بعيد)(1) تأكيد على هذا المعنى أيضاً.

وعلى كلّ حال، فمفهوم الآية أنّ هذه القضيّة تقع في القيامة رغم أنّه عبّر عنها بالماضي «أزلفت» لكن الحوادث المستقبلية القطعية كثيراً ما يعبّر عنها بالماضي ـ لأنّ وقوعها سيتحقّق حتماً ـ .

وقيل: إنّ إزلاف الجنّة للمتّقين يتحقّق في الدنيا، لأنّه لا يفصلهم شيء عن الجنّة والتعبير بالماضي يراد به الماضي حقيقة. وعند الموت سيجدون أنفسهم في الجنّة. لكن مع ملاحظة الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدّث عن مشاهد القيامة يبدو أنّ هذا المعنى بعيد، والمناسب هو التّفسير الأوّل.

ثمّ تبيّن الآيات أوصاف أهل الجنّة فتقول: (هذا ما توعدون لكلّ أوّاب

______________________________________

1 ـ غير بعيد فيها ثلاثة أوجه إعرابية، فيحتمل أن تكون ظرفاً، كما يحتمل أن تكون حالا، ويحتمل أن تكون صفةً لمحذوف تقديره إزلافاً غير بعيد ..

[50]

حفيظ).

وقد اُشير في هذه الآية إلى وصفين من أوصافهم وهما «أوّاب» .. «وحفيظ».

وكلمة «الأوّاب»: من مادّة [أوب] ـ على زنة ذوب ـ ومعناها العودة، ولعلّها تعني التوبة عن الذنوب الكبيرة والصغيرة.

أو أنّها تعني العودة إلى الطاعة، ومع ملاحظة أنّ هذه الصيغة هي للمبالغة فإنّها تدلّ على أنّ أهل الجنّة رجال متّقون بحيث إنّ أيّ عامل أو مؤثّر أراد أن يبعدهم عن طاعة الله فهم يلتفتون ويتذكّرون فيرجعون إلى طاعته فوراً، ويتوبون عن معاصيهم وغفلاتهم ليبلغوا مقام «النفس المطمئنة».

«الحفيظ» معناه الحافظ، فما المراد منه؟ هل هو الحافظ لعهد الله إذ أخذه من بني آدم ألاّ يعبدوا الشيطان كما ورد في الآية (60) من سورة يس، أم هو الحافظ لحدود الله وقوانينه أو الحافظ لذنوبه والمتذكّر لها ممّا يستلزم التوبة والجبران، أو يعني جميع ما تقدّم من إحتمالات؟

ومع ملاحظة أنّ هذا الحكم ورد بصورة مطلقة، فإنّ التّفسير الأخير الجامع لهذه المعاني يبدو أقرب.

وإستدامةً لبيان هذه الأوصاف فإنّ الآية التالية تشير إلى وصفين آخرين منها، وهما في الحقيقة بمثابة التوضيح والتّفسير لما سبق ذكره، إذ تقول الآية: (من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب).

عبارة (من خشي الرحمن بالغيب) إشارة إلى أنّهم رغم عدم رؤيتهم الله بأعينهم، إلاّ أنّهم يؤمنون به عن طريق آثاره والإستدلال بها. فيؤمنون إيماناً مقروناً بالإحساس بتحمّل المسؤولية.

ويحتمل أنّ المراد من «الغيب» هو ما غاب عن أعين الناس، أي أنّهم لا يرتكبون الإثم لا بمرأى من الناس ولا في خلوتهم وإبتعادهم عنهم.

وهذا الخوف «أو الخشية» يكون سبباً للإنابة، فيكون قلبهم متوجّهاً إلى الله

[51]

ويقبل على طاعته دائماً ويتوب من كلّ ذنب، وأن يواصلوا هذه الحالة حتّى نهاية العمر ويردّوا عرصات المحشر على هذه الكيفية!.

ثمّ تضيف الآية الاُخرى بأنّ اُولئك الذين يتمتّعون بالصفات الأربع هذه حين تتلقّاهم الملائكة عند أبواب الجنّة يقولون لهم بنهاية التجلّة والإكرام (إدخلوها بسلام).

«السلام» من كلّ أنواع الأذى والسوء والعذاب والمعاقبة، السلامة الكاملة في لباس الصحّة والعافية.

ولطمأنتهم يُضاف أنّ ذلك اليوم يوم الدعّة و (ذلك يوم الخلود).

وإضافةً لهاتين البشارتين بشرى الدخول بسلام، وبشرى الخلود في الجنّة، يبشّرهم الله بشريين اُخريين بحيث تكون مجموع البشريات أربعاً كما أنّهم يتّصفون بأربع صفات يقول: (لهم ما يشاءون فيها).

وإضافةً إلى كلّ ذلك فإنّه (لدينا مزيد) من النعم التي لم تخطر ببال أحد.

ولا يمكن أن يتصوّر تعبير أبلغ من هذا التعبير وأوقع منه في النفس، إذ يقول القرآن أوّلا: (لهم ما يشاءون فيها) على سعة معنى العبارة وما تحمله من مفهوم إذ لا إستثناء فيها، ثمّ يضاف عليها المزيد من قبل الله ما لم يخطر بقلب أحد، حيث أنّ الله الذي أنعم على المتّقين فشملهم بألطافه الخاصّة وهم يتنعمّون فيها، وهكذا فإنّ نعم الجنّة ومواهبها ذات أبعاد واسعة لا يمكن أن توصف بأيّ بيان.

كما يستفاد من هذا التعبير ضمناً أنّه لا مقايسة بين أعمال المؤمنين وثواب الله، بل هو أعلى وأسمى منها كثيراً، والجميع في يوم القيامة يواجهون فضله أو عدله! ونجازى بعدله!

وبعد الإنتهاء من بيان الحديث حول أهل الجنّة وأهل النار ودرجاتهما، فإنّ القرآن يلفت أنظار المجرمين للعبرة والإستنتاج فيقول: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدّ منهم بطشاً فنقّبوا في البلاد) فكانت تلك الأقوام أقوى من هؤلاء

[52]

وكانوا يفتحون البلدان ويتسلّطون عليها، إلاّ أنّهم وبسبب كفرهم وظلمهم أهلكناهم .. فهل وجدوا منفذاً ومخرجاً للخلاص من الموت والعذاب الإلهي (هل من محيص)؟!

«القرن» و «الإقتران» في الأصل هو «القرب» أو «الإقتراب» ما بين الشيئين أو الأشياء، ويطلق لفظ «القرن» على الجماعة المتزامنة في فترة واحدة، ويجمع على «قرون» ثمّ أطلق هذا اللفظ على فترة من الزمن حيث يطلق على ثلاثين سنة أحياناً كما يطلق على مئة سنة أيضاً، فإهلاك القرون معناه إهلاك الاُمم السابقة.

و «البطش» معناه حمل الشيء وأخذه بالقوّة والقدرة، كما يستعمل هذا اللفظ بمعنى الفتك والحرب.

و «نقّبوا»: فعل من مادّة نقب، ومعناه الثقب في الجدار أو الجلد، غير أنّ الثقب يطلق على ما يقع في الخشب، والنقب معناه أعمّ وأوسع.

وهذه المفردة إذا استعملت كفعل كما هو في الآية فيعني ذلك الحركة والسير وشقّ الطريق، كما يعني السيطرة على البلدان والنفوذ فيها أيضاً.

«المنقبة»: من المادّة ذاتها، وتطلق على الصفات البارزة في الشخص وأفعاله الكريمة التي لها تأثير ونفوذ في نفوس الآخرين، أو أنّها تشقّ له الطريق في الإرتقاء والسمو!

و «النقيب»: هو من يبحث عن أحوال جماعة ما ويطّلع على أخبارهم وينفذ في أنفسهم.

و «المحيص»: كلمة مشتقّة من الحيص على زنة «الحيف»، ومعناها الإنحراف والعدول عن الشيء، ومن هنا فقد إستعملت هذه الكلمة في الفرار من المشاكل والهزيمة عن المعركة!.

وعلى كلّ حال فإنّ الآية تنذر الكفّار المعاصرين للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستقرئوا تاريخ الماضين وأن ينظروا في قصصهم للإعتبار، ليروا ما صنع بهؤلاء المعاندين

[53]

.. الذين كانوا اُمماً وأقواماً أشدّ من هؤلاء «وليفكّروا بعاقبتهم أيضاً» وهذا المعنى ورد مراراً في القرآن منها الآية 8 من سورة الزخرف إذ نقرأ قوله تعالى: (فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً).

ويرى بعض المفسّرين أنّ الآية محلّ البحث تشير إلى «ثمود» هذه الطائفة التي كانت تسكن مناطق جبلية تدعى «بالحجر» وتقع شمال الحجاز، فكانت تقطنها وتنقّب في الجبال وتحفر صخورها فتصنع منها القصور الرائعة، غير أنّ ظاهر النصّ أنّ هذه الآية مفهومها واسع، فيشمل هؤلاء وغيرهم أيضاً.

أمّا جملة (هل من محيص) فيحتمل أن تكون سؤالا على لسان الكفّار السابقين حين أحدق بهم العذاب، فكانوا يسألون: هل من فرار ومحيص عنه، كما يحتمل أن يكون سؤالا من قبل الله للكفّار المعاصرين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي هل إستطاع مَن كان قبلكم من الكفرة الفرار من قبضة العذاب؟ أو هل يستطيع من يعاند النّبي أن يهرب من مثل هذا لو أحدق به؟!

ويضيف القرآن في آخر آية من الآيات محل البحث مؤكّداً أكثر فيقول: (إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).

والمراد بـ «القلب» هنا وفي الآيات الاُخر من القرآن التي تتكلّم على إدراك المسائل هو العقل والشعور والإدراك، كما أنّ كتب اللغة تشير إلى أنّ واحداً من معاني القلب هو العقل، أمّا الراغب فقد فسّر القلب في الآية محلّ البحث بالعلم والفهم، كما نقرأ في لسان العرب أنّ القلب قد يطلق على العقل أيضاً(1).

كما ورد في تفسير عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) لهذه الآية أنّه قال: إنّ القلب هو العقل(2).

والجذر اللغوي لكلمة «قلب» في الأصل: التغيير والتحوّل، وإصطلاحاً معناه

______________________________________

1 ـ لسان العرب مادّة القلب. [ق ل ب].

2 ـ اُصول الكافي، ج1 ـ كتاب العقل والجهل، الحديث 11.

[54]

الإنقلاب، وحيث أنّ فكر الإنسان أو عقله في تقلّب دائم وفي حال مختلفة فقد أطلقت عليه كلمة «القلب» .. ولذلك فإنّ القرآن يعوّل على إطمئنان القلب والسكينة فيقول: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين)(1) كما يقول في آية اُخرى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)،(2) أجل إنّما يُهّدىء هذا الموجود المضطرب ذكر الله فحسب.

أمّا (ألقى السمع) فكناية عن الإصغاء ومنتهى الإستماع بدقّة، وهناك تعبير في العرف يشبه هذا التعبير يقول «اُذني معك» أي إنّني أصغي إليك بدقّة!

و «الشهيد» يطلق على من هو حاضر القلب، أو كما يقال قلبه في المجلس وهو يتابع المسائل بدقّة!.

وهكذا فإنّ مضمون الآية بمجموعة يعني ما يلي: إنّ هناك فريقين ينتفعان بهذه المواعظ والنصيحة .. فالفريق الأوّل من يتمتّع بالذكاء والعقل .. ويستطيع بنفسه أن يحلّل المسائل بفكره!

أمّا الفريق الآخر فليس بهذا المستوى، إلاّ أنّه يمكن أن يلقي السمع للعلماء ويصغي لكلماتهم بحضور القلب ويعرف الحقائق عن طريق الإرشاد.

ويشبه هذا التعبير ما نقرؤه في الآية 10 من سورة الملك على لسان أهل النار، إذ ورد هكذا: (وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير)!

لأنّ علائم الحقّ واضحة، فأهل التحقيق يعرفونها جيّداً .. ومن لم يكن كذلك فيستطيع أن يعرفها عن طريق إرشاد المخلصين من العلماء.

فعلى هذا يجب أن يتمتّع الإنسان بعقل كاف وعلم واف .. أو يتمتّع باُذن واعية(3).

* * *

______________________________________

1 ـ سورة الفتح، الآية 4.

2 ـ سورة الرعد، الآية 28.

3 ـ لاحظوا أنّ الآيتين عطفت الموضوعين «بأو» وهذا يدلّ على أنّ واحداً منهما على الأقل ضروري للإنسان!..

[55]

الآيات

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّام وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوب ( 38 ) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ( 39 ) وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَـرَ السُّجُودِ ( 40 )

 

التّفسير

خالق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى:

تعقيباً على ما ورد في الآيات آنفة الذكر ودلائلها المتعدّدة في شأن المعاد، تشير الآيات محلّ البحث إلى دليل آخر من دلائل إمكان المعاد .. ثمّ تأمر النّبي بالصبر والإستقامة والتسبيح بحمد الله ليبطل دسائس المتآمرين وما يحيكونه ضدّه، فتقول الآية الاُولى من هذه الآيات: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب).

«اللغوب» بمعنى «التعب» وبديهي أنّ من لديه قدرة محدودة وأراد أن يعمل عملا فوق طاقته وقدرته فإنّه يتعب ويناله اللغوب والنصب، إلاّ أنّ من كان ذا قدرة لا نهاية لها، وقوّة لا حدّ لها فإنّ التعب والنصب واللغوب لا تعني شيئاً لديه ..

[56]

فعلى هذا من كان قادراً على إيجاد السماوات والأرض وخلق الكواكب والمجرّات وأفلاكها جميعاً، قادر على إعادة الإنسان بعد موته وأن يُلبسه ثوباً جديداً من الحياة.

بعض المفسّرين ذكر في شأن نزول الآية أنّ اليهود كانوا يتصوّرون أنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام «ستّة أيّام من أيّام الأسبوع»! ثمّ إستراح في اليوم السابع «السبت» فوضع رجلا على رجل اُخرى!! وهكذا فإنّهم يرون أنّ الجلوس على هذه الشاكلة غير لائق، وأنّه خاصّ بالله، فنزلت الآية آنفة الذكر وحسمت الكلام في مثل هذه الخرافات المضحكة(1)!

إلاّ أنّ هذا الشأن لا يمنع من أن يتابع مسألة إمكان المعاد في الوقت الذي هو دليل على توحيد الله وقدرته وعلمه، إذ خلق السماوات والأرض بما فيهما من عجائب و (ملايين) الأحياء والأسرار المذهلة ونظمها الخاصّة بحيث أنّ التفكّر في زاوية واحدة من هذا الخلق يسوقنا إلى الخالق الذي حرّكت يد قدرته هذه الكواكب ونثرت نور الحياة في كلّ مكان ليكون دليلا عليه.

وقد تكرّر موضوع خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام في آيات متعدّدة من القرآن(2).

وكلمة «يوم» يراد منها الفترة الزمنية لا بمعنى أربع وعشرين ساعة أو إثنتي عشرة ساعة، كأن نقول «كان الناس يعيشون في ظلّ النّبي يوماً، وسلّط عليهم بنو اُميّة يوماً وبنو العبّاس يوماً آخر!.. الخ».

وواضح أنّ كلمة «اليوم» في هذه التعبيرات وأمثالها يراد منها الفترة الزمانية سواءً كانت سنّةً أو شهراً أو جيلا .. أو آلاف السنين .. فنقول مثلا: كانت الكرة

______________________________________

1 ـ راجع تفسير الدرّ المنثور، ج6، ص110.

2 ـ راجع سورة الأعراف الآية 54; سورة يونس الآية 3; سورة هود الآية 7; سورة السجدة الآية 4; الحديد الآية 4; الفرقان الآية 59.

[57]

الأرضية قطعةً متلهّبة يوماً، وبردت يوماً فغدت مهيّأة للحياة، فجميع هذه التعبيرات تشير إلى الفترات الزمنية.

فيستفاد من التعبيرات الواردة في الآية آنفة الذكر أنّ الله خلق جميع السماوات والأرض والموجودات الاُخرى في ستّ مراحل أو ستّ فترات زمانية. «وتفصيل هذا الكلام مبيّن في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف فلا بأس بمراجعته».

إذاً، لا يبقى مجال للسؤال بأنّه لم يكن قبل خلق السماء والأرض ليل أو نهار فكيف خلقتهما في ستّة أيّام؟!

وبعد ذكر دلائل المعاد المختلفة وتصوير مشاهد المعاد ويوم القيامة المتعدّدة فإنّ القرآن يخاطب النّبي ويأمره بالصبر ـ لأنّ هناك طائفة لا تذعن للحقّ وتصرّ على الباطل فيقول: (فاصبر على ما يقولون) إذ بالصبر والإستقامة ـ وحدهما ـ يستطاع التغلّب على مثل هذه المشاكل.

وحيث أنّ الصبر والإستقامة يحتاجان إلى دعامة ومعتمد، فخير دعامة لهما ذكر الله والإرتباط بالمبدأ ـ مبدأ العلم القادر على إيجاد العالم ـ لذلك فإنّ القرآن يضيف تعقيباً على الأمر بالصبر قائلا: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب).

وكذلك: (ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود).

فهذا الذكر والتسبيح والمستمر ينصبّ على صعيد قلبك كإنصباب الغيث على الأرض ليهبها الحياة ويسقيها الرواء، فالتسبيح أيضاً يُلهم قلبك النشاط والإستقامة بوجه الأعداء المعاندين.

وهناك أقوال مختلفة بين المفسّرين في المراد من «التسبيح» في الأوقات الأربعة «قبل طلوع الشمس وبعد الغروب ومن الليل وأدبار السجود!».

فبعضهم يعتقد أنّ المراد من هذه التعبيرات هو الصلوات الخمس اليومية ..

[58]

وبعضاً من النوافل الفضلى على الترتيب والنحو التالي.

فـ (قبل طلوع الشمس) إشارة إلى صلاة الصبح، لأنّ في آخر وقتها تطلع الشمس فينبغي أداؤها قبل طلوع الشمس.

وقبل الغروب إشارة إلى صلاتي الظهر والعصر لأنّ الشمس تغرب آخر وقتيهما.

أمّا قوله: (ومن الليل) فيشير إلى صلاتي المغرب والعشاء وقوله: (وادبار السجود) ناظر إلى النوافل بعد صلاة المغرب، وقال ابن عبّاس بهذا التّفسير ـ مع هذا القيد ـ وهو أنّ المراد من إدبار السجود هو جميع النوافل التي تؤدّى بعد الفرائض ولكن حيث أنّا نعتقد بأنّ ما يؤدّى من النوافل اليومية بعد الفرائض هما نافلة المغرب ونافلة العشاء فحسب، فلا يصحّ هذا التعميم آنفاً.

كما فسّر بعضهم قوله «قبل طلوع الشمس» بصلاة الصبح، «وقبل الغروب» بصلاة العصر، «ومن الليل فسبّحه» بصلاتي المغرب والعشاء، فلم يذكروا شيئاً عن صلاة الظهر هنا، وهذا دليل على ضعف هذا التّفسير.

ونقرأ في بعض الرّوايات المنقولة عن الإمام الصادق أنّه حين سئل عن الآية: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) .. قال (عليه السلام): «تقول حين تصبح وتمسي عشر مرّات لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير»(1).

ولا يتنافى هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ويمكن أن يجتمعا في الآية معاً.

وممّا ينبغي الإلتفات إليه هو ورود نظير هذا المعنى بإختلاف يسير في الآية (130) من سورة طه أيضاً إذ تقول الآية: (وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبّح وأطراف النهار لعلّك ترضى).

______________________________________

1 ـ مجمع البيان ـ ذيل الآيات محلّ البحث ـ .

[59]

جملة «لعلّك ترضى» ـ تدلّ على أنّ لهذا التسبيح والذكر في هذه الأوقات أثراً مهمّاً في إطمئنان القلب ورضا الخاطر، إذ يمنح القلب قوّة وشدّة بوجه الحوادث.

وهناك لطيفة تسترعي النظر وهي أنّ الآية (49) من سورة الطور تقول هكذا: (ومن الليل فسبّحه وادبار النجوم)(1).

وقد ورد في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «المراد بـ (أدبار السجود)ركعتا نافلة تؤدّيان بعد صلاة المغرب «ينبغي الإلتفات إلى أنّ نافلة المغرب أربع ركعات وقد اُشير إلى إثنين منهما هنا فحسب» وإدبار النجوم ركعتا نافلة الصبح إذ تؤدّيان عند غروب النجوم وتفرّقها وقبل صلاة الصبح»(2).

كما ورد في رواية اُخرى أنّ المراد من «ادبار السجود» هو نافلة الوتر التي تؤدّى آخر الليل(3).

وعلى كلّ حال فإنّ التّفسير الأوّل أقرب من الجميع وأكثر تناسباً وإن كان مفهوم التسبيح وسعته شاملا لكثير من التفاسير المشار إليها في الرّوايات آنفاً.

* * *

 

ملاحظة

الصبر مفتاح لكلّ فلاح:

لم يكن تعويل القرآن وإعتماده على الصبر بوجه المشاكل لأوّل مرّة هنا فحسب، فطالما أمر النّبي والمؤمنون عامّة في الآيات مراراً بالصبر وأكّد على هذا

______________________________________

1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ إدبار هنا جاءت بالكسر على زنة «إقبال» أمّا في الآية محلّ البحث فجاءت أدبار بفتح الهمزة على زنة أفكار، وهي هنا جمع دبر ومعناه العقب، فيكون المعنى في أدبار السجود أي بعد كلّ سجدة، وأمّا معنى إدبار النجوم أي عند تفرّق النجوم.

2 ـ مجمع البيان، ذيل الآية محلّ البحث ـ .

3 ـ المصدر آنف الذكر.

[60]

الموضوع كما أنّ التجارب تدلّ على أنّ النصر والغلبة من نصيب اُولئك الذين تمتّعوا بالصبر والإستقامة.

ففي حديث عن الإمام الصادق أنّه أمر بعض أصحابه «ولعلّه كان لا يطيق بعض الظروف الصعبة في ذلك الزمان»: «عليك بالصبر في جميع اُمورك. ثمّ قال (عليه السلام)إنّ الله بعث محمّداً وأمره بالصبر والمداراة فصبر حتّى نسبوا إليه ما لا يليق فضاق صدره فأنزل الله عليه الآية: (ولقد نعلم أنّك يضيق صدرك بما يقولون فسبّح بحمد ربّك وكن من الساجدين).

فصبر فكذّبوه أيضاً، ورشقوه بنبال التّهم من كلّ جانب فحزن وتأثّر لذلك، فأنزل الله عليه تسلية قوله: (قد نعلم أنّه ليحزنك الذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذّبوا واُوذوا حتّى أتاهم نصرنا).

ثمّ يضيف الإمام (عليه السلام) أنّ النّبي واصل صبره إلاّ أنّهم تجاوزوا الحدّ فكذّبوا الله فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد صبرت في نفسي وأهلي وعرضي ولا صبر لي على ذكر إلهي فأنزل الله عزّوجلّ: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام وما مسّنا من لغوب) .. أي خلقنا السماوات والأرض في عدّة فترات ولم نعجل ولم يمسّنا تعب ونصب، فعليك أن تصبر، فصبر النّبي في جميع أحواله ما كان يواجهه حتّى إنتصر على أعدائه»(1).

 

* * *

______________________________________

1 ـ راجع اُصول الكافي، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج5، ص117.

[61]

الآيات

وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَان قَرِيب ( 42 ) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ ( 2 ) إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( 43 ) يَوْمَ تَشَقَّقُ الاَْرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( 44 ) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّار فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( 45 )

 

التّفسير

يخرج الجميع أحياءً عند صيحة القيامة:

هذه الآيات محلّ البحث التي تختتم بها سورة ـ «ق» كسائر آياتها تتحدّث على المعاد والقيامة كما أنّها تعرض جانباً منهما أيضاً وهو موضوع النفخة في الصور، وخروج الأموات من القبور في يوم النشور .. فتقول: (واستمع يوم ينادِ المنادِ من مكان قريب ... يوم يسمعون الصيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج).

والمخاطب بالفعل «استمع» هو النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه إلاّ أنّه من المسلّم به أنّ المقصود جميع الناس.

والمراد من «استمع» إمّا هو الإنتظار والترقّب، لأنّ من ينتظر حادثة تبدأ

[62]

بصوت مهول يُرى في حالة ترقّب دائماً، فهو منتظر لأن يسمع الصوت; أو هو الإصغاء إلى كلام الله فيكون المعنى «استمع كلام الله» إذ يقول: يوم يسمعون الصيحة الخ(1).

لكن من هو هذا المنادي؟ يحتمل أن يكون الذات المقدّسة جلّ وعلا، ولكن الإحتمال الأقوى هو «إسرافيل» الذي ينفخ في الصور .. وقد وردت الإشارة في آيات القرآن إليه لا بالإسم بل بتعبيرات خاصّة.

عبارة (من مكان قريب) إشارة إلى أنّ هذه الصيحة ينتشر صداها في الفضاء بدرجة أنّها كما لو كانت في أُذن كلّ أحد، وجميعهم يسمعونها بدرجة واحدة من القرب.

نحن اليوم نستطيع أن نسمع كلام أي إنسان وفي أيّة نقطة كان بوسائل مختلفة فكأنّ المتكلّم على مقربة منّا، ويتحدّث معنا، إلاّ أنّ يوم القيامة يسمع الناس كلّهم الصيحة دون حاجة إلى مثل هذه الوسائل وهي قريبة منهم(2).

وعلى كلّ حال، فليست هذه الصيحة هي الصيحة الاُولى التي تقع مؤذنة بنهاية العالم، بل هي الصيحة الثانية، أي الصيحة للنشور والحشر، وفي الحقيقة أنّ الآية الثانية توضيح للآية السابقة وتفسير لها إذ تقول: (يوم يسمعون الصيحة بالحقّ ذلك يوم الخروج) من القبور والبعث والنشور.

ولكي يعرف من الحاكم في هذه المحكمة الكبرى، فإنّ القرآن يضيف قائلا: (إنّا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير).

______________________________________

1 ـ بناءً على التّفسير الأوّل فإنّ «يوم» مفعول استمع، وبناءً على التّفسير الثّاني فإنّ مفعول استمع محذوف وتقديره استمع حديث ربّك فيكون نصب كلمة يوم على فعل مقدّر من الخروج وتقديره يخرجون يوم ينادي المنادي من مكان قريب.

2 ـ يرى جماعة من المفسّرين أنّ المكان القريب يُحتمل أن تكون صخرة بيت المقدس ـ تلك الصخرة الخاصّة التي عرج منها الرّسول الأكرم(عليه السلام) نحو السماء فيقف المنادي على طرفها ويصيح أيّتها العظام البالية والأوصال المتقطّعة واللحوم المتمزّقة قومي لفصل القضاء وما أعدّ الله لكم من الجزاء .. لكن لا دليل بيّن على ذلك.

[63]

والمراد من «نحيي» هو الحياة الاُولى في الدنيا، والمراد من «نميت» هو في نهاية العمر، وجملة «إلينا المصير» إشارة إلى الأحياء في يوم القيامة.

وفي الحقيقة أنّ الآية تشير إلى هذه الحقيقة وهي كما أنّ الحياة والموت في الدنيا بأيدينا، فكذلك المعاد وقيام الساعة بأيدينا أيضاً.

ثمّ يضيف القرآن فيخبر عن ميقات النشور فيقول: (يوم تشقّق الأرض عنهم سراعاً) أي يخرجون مسرعين من القبور(1) ويضيف مختتماً: (ذلك حشر علينا يسير).

و «الحشر» معناه الجمع من كلّ جهة ومكان.

وواضح أنّ خالق السماوات والأرض وما بينهما من اليسير عليه أن ينشر الموتى ويحشرهم للحساب والثواب أو العقاب.

وأساساً، فإنّ موضوع الصعوبة واليُسر يقال في من يتمتع بقدرة محدودة، إلاّ أنّ القادر على كلّ شيء ولا حدّ لقدرته فكلّ شيء عليه سهل ويسير.

الطريف هنا أنّنا نقرأ في بعض الرّوايات: أنّ أوّل من يبعث ويخرج من قبره ويرد المحشر هو النّبي الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي معه(2).

أمّا آخر آية من الآيات محلّ البحث وهي آخر آية من سورة ق ذاتها فهي تخاطب النّبي وتسرّي عنه وتسلّي قلبه لما يلاقيه من المعاندين والكفرة فتقول: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبّار).

فمسؤوليتك البلاغ والدعوة نحو الحقّ والبشارة والنذارة: (فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد)(3).

______________________________________

1 ـ «سراعاً» منصوب على أنّه حال للفاعل في «يخرجون» المحذوف والتقدير «يخرجون سراعاً» وهو جمع لكلمة «سريع» كما في «كرام» جمع «كريم» والبعض يرى أنّ «سراع» مصدر في موضع الحال.

2 ـ كتاب الخصال: طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج5، ص119.

3 ـ كلمة وعيد أصلها وعيدي وحذفت ياؤها وأبقيت الكسرة لتدلّ عليها وهي مفعول للفعل يخاف.

[64]

وقد ورد في تفسير القرطبي عن ابن عبّاس أنّه قال جاء جماعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا انذرنا يارسول الله وبشّرنا، فنزلت الآية محلّ البحث وقالت: (فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد)(1).

وذلك إشارة إلى أنّ القرآن كاف للإنذار وإيقاظ المؤمنين، فكلّ صفحة منه تذكر بيوم القيامة وآياته المختلفة التي تتحدّث عن قصص الماضين وعاقبتهم وتصف أهل النار وأهل الجنّة وما يقع عند قيام الساعة في محكمة عدل الله هي خير موعظة ونصيحة لجميع الناس.

والحقّ أن تذكر مشهد تشقّق الأرض وولوج الأرواح في الموتى وخروجهم من القبر وإكتسائهم ثوب الحياة وتحركهم في حال من الوحشة والإضطراب من القرن حتّى القدم وهم يساقون إلى محكمة عدل الله هذا المشهد مثير جدّاً.

ولا سيّما أنّ بعض القبور يضمّ في لحده على تقادم الزمان ومرور الأعوام أجساداً متعدّدة من الناس بعضهم صالح وبعضهم طالح وبعضهم مؤمن وبعضهم كافر وكما يقول المعرّي:

ربّ قبر قد صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين في طويل الآجال والآماد!

ربّنا اجعلنا من الذي يخافون وعيدك ويتّعظون بالقرآن.

اللهمّ ارحمنا يوم يستوحش الناس ويضطربون فيه وألق في نفوسنا السكينة والطمأنينة.

إلهنا .. إنّ أيّام العمر مهما طالت فهي تمضي سراعاً وما هو خالد فذاك اليوم الآخر والدار الآخرة، فارزقنا حسن العاقبة والنجاة في الآخرة!

آمّين يارب العالمين

انتهاء سورة ق

* * *

______________________________________

1 ـ القرطبي، ج9، ص6198




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22216404

  • التاريخ : 3/02/2025 - 22:49

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net