[451]
الآيات
سَيَقُولُ الْمُـخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلَـمَ اللهِ قُل لَن تَتَّبِعُونَا كَذلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً( 15 ) قُل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاَْعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْم أُولِى بَأْس شَدِيد تُقَـتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً( 16 ) لَيْسَ عَلَى الاَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاَْعرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَمَن يَتَوَلَّ يعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً( 17 )
التّفسير
المخلّفون الانتهازيّون:
يعتقد أغلب المفسّرين أنّ هذه الآيات ناظرة إلى «فتح خيبر» الذي كان في بداية السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبيّة! وتوضيح ذلك أنّه طبقاً للرّوايات حين كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعود من الحديبيّة بشّر المسلمين المشتركين بالحديبيّة ـ بأمر الله ـ بفتح خيبر، وصرّح أن يشترك في هذه الحرب من كان في الحديبيّة من المسلمين فحسب، وأنّ الغنائم لهم وحدهم ولن ينال المخلّفين منها شيء أبداً.
إلاّ أنّ عبيد الدنيا الجبناء لمّا فهموا من القرائن أنّ النّبي سينتصر في المعركة المقبلة قطعاً ـ وأنّه ستقع غنائم كثيرة في أيدي جنود الإسلام ـ أفادوا من الفرصة، فجاؤوا الى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبوا منه أن يأذن لهم بالاشتراك في حرب خيبر، وربّما توسّلوا بهذا العذر، وهو أنّهم يريدون التكفير عن خطئهم السابق والتوبة من الذنب وأن يتحمّلوا عبءَ المسؤولية، والخدمة الخالصة للإسلام والقرآن ويريدون الجهاد مع رسول الله في هذا الميدان، وقد غفلوا عن نزول الآيات آنفاً وأنّها كشفت حقيقتهم من قبلُ كما نقرأ ذلك في الآية الأُولى من الآيات محل البحث ـ: (سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم..).
[452]
ولا نجد ذلك في هذا المورد فحسب، بل في موارد كثيرة نجد هؤلاء الطامعين يركضون وراء اللقمة الدسمة التي لا تقترن بألم. ويهربون من المواطن الخطيرة وساحات القتال كما نقرأ ذلك في الآية (42) من سورة التوبة: (لو كان عرضاً قريباً و سفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقّة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم).
وعلى كلّ حال فإنّ القرآن الكريم يقول رداً على كلام هؤلاء الانتهازيين وطالبي الفُرص (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ثمّ يضيف قائلاً للنبي: (قل لن تتبعونا).
وليس هذا هو كلامي بل (كذلكم قال الله من قبل) وأخبرنا عن مستقبلكم أيضاً.
إنّ أمر الله أن تكون غنائم خيبر خاصّة بأهل الحديبيّة ولن يشاركهم في ذلك أحد. لكنّ هؤلاء المخلّفين الصلفين استمروا في تبجّحهم واتهموا النبيّ ومن معه بالحسد كما صرّح القرآن بذلك: (فسيقولون بل تحسدوننا).
وهكذا فإنّهم بهذا القول يكذّبون حتى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ويعدّون أساس منعهم من الاشتراك في معركة خيبر الحسد فحسب.
وفي ذيل الآية يصرّح القرآن عن حالهم فيقول: (بل كانوا لا يفقهون إلاّ قليلاً).
أجل إنّ أساس جميع شقائهم وسوء حظهم هو جهلهم وعدم فقاهتهم، فالجهل ملازم لهم أبداً، جهلهم بالله سبحانه وعدم معرفة مقام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وجهلهم عن مصير الإنسان وعدم توجّههم إلى أنّ الثروة في الدنيا لا قرار فيها، فهي زائلة لا محالة!.
صحيح أنّهم أذكياء في المسائل المادية والمنافع الشخصية، ولكن أي جهل أعظم من أن يبيع الإنسان جميع كيانه وكلّ شيء منه بالثروة!
[453]
وأخيراً وطبقاً لما نقلته التواريخ فإنّ النّبي الأكرم وزّع غنائم خيبر على أهل الحديبيّة فحسب، حتى الذين لم يشتركوا في خيبر وكانوا في الحديبيّة جعل لهم النّبي سهماً من غنائم خيبر، وبالطبع لم يكن لهذا المورد أكثر من مصداق واحد وهو «جابر بن عبد الله الأنصاري»(1).
واستكمالاً لهذا البحث فإنّ الآية التالية تقترح على المخلّفين عن الحديبيّة اقتراحاً وتفتح عليهم باب العودة فتقول: (قل للمخلّفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلّمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولّوا كما تولّيتم من قبل يعذّبكم عذاباً أليماً).
فمتى ما ندمتم عن أعمالكم وسيرتكم السابقة ورفعتم اليد عن عبادة الدنيا وطلب الراحة، فينبغي أن تؤدّوا امتحان صدقكم في الميادين الصعبة وأن تُسهموا فيها مرّةً أخرى، وإلاّ فإنّ إجتناب الميادين الصعبة، والمساهمة في الغنائم وميادين الراحة غير مقبول بأي وجه ودليل على نفاقكم أو ضعف إيمانكم وجبنكم.
الطريف هنا أنّ القرآن كرر التعبير بالمخلّفين في آياته، وبدلاً من الاستفادة من الضمير فقد عوّل على الاسم الظاهر.
وهذا التعبير خاصةً جاء بصيغة اسم المفعول «المخلَّفين» أي المتروكين وراء الظهر، وهو إشارة إلى أنّ المسلمين المؤمنين حين كانوا يشاهدون ضعف هؤلاء وتذرعهم بالحيل كانوا يخلّفونهم وراء ظهورهم ولا يعتنون أو يكترثون بكلامهم! ويسرعون إلى ميادين الجهاد!.
ولكنّ من هم هؤلاء القوم المعبّر عنهم بـ «أولي بأس شديد» في الآية وأي جماعة هم؟! هناك كلام بين المفسّرين..
____________________________________
1 ـ سيرة ابن هشام، الجزء 3، الصفحة 364.
[454]
وجملة (تقاتلونهم أو يسلمون) تدلُّ على أنّهم ليسوا من أهل الكتاب، لأنّ أهل الكتاب لا يُجبرون على قبول الإسلام، بل يُخيّرون بين قبوله أو دفع الجزية والحياة مع المسلمين على شروط أهل الذمّة.
وإنّما الذين لا يُقبل منهم إلاّ الإسلام هم المشركون وعبدة الأصنام فحسب، لأنّ الإسلام لا يعترف بعبادة الأصنام ديناً ويرى انّه لابدّ من إجبار الناس على ترك عبادتها.
ومع الإلتفات إلى أنّه لم تقع معركة مهمّة في عصر النّبي بعد حادثة الحديبيّة مع المشركين سوى فتح مكّة وغزوة حنين، فيمكن أن تكون الآية المتقدّمة إشارة إلى ذلك وخاصّة غزوة حنين لأنّها اشترك فيها أولو بأس شديد من «هوازن» و«بني سعد».
وما يراه بعض المفسّرين من احتمال أنّ الآية تشير إلى غزوة (مؤتة) التي حدثت مع أهل الروم فهذا بعيد، لأنّ أهل الروم كانوا كتابيين.
واحتمال أنّ المراد منها الغزوات التي حدثت بعد النّبي ومن جملتها غزوة فارس واليمامة، فهذا أبعد بكثير، لأنّ لحن الآيات مشعر بأنّ الحرب ستقع في زمان النبيّ ولا يلزمنا أبداً أن نطبّق ذلك على الحروب التي حدثت بعده، ويظهر أنّ للدوافع السياسية أثراً في بعض الأفكار المفسّرين في هذه القضية!.
وهنا ملاحظة جديرة بالتأمّل وهي أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يَعِدُهم بالقول أنّهم سيغنمون في الحروب والمعارك المقبلة، لأنّ الهدف من الجهاد ليس كسب الغنائم بل المعوّل عليه هو ثواب الله العظيم وهو عادةً إنّما يكون في الدار الآخرة!
وهنا ينقدح هذا السؤال، وهو أنّ الآية (83: من سورة التوبة تردّ ردّاً قاطعاً على هؤلاء المخلّفين فتقول: (فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً إنّكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا مع الخالفين).
في حين أنّ الآية محل البحث تدعوهم إلى الجهاد والقتال في ميدان صعب (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد). فما وجه ذلك؟
[455]
ولكن مع الإلتفات إلى الآية (83) في سورة التوبة تتعلق بالمخلّفين في معركة تبوك الذين قطع النّبي الأمل منهم، أمّا الآية محل البحث فتتحدّث عن المخلّفين عن الحديبيّة، وما يزال النّبي يأمل فيهم المشاركة، فيتّضح الجواب على هذا الاشكال!.
وحيث أنّ من بين المخلّفين ذوي أعذار لنقص عضوي في أبدانهم أو لمرض وما الى ذلك فلم يقدروا على الإشتراك في الجهاد، ولا ينبغي أن نُجحد حقهم، فإنّ الآية الأخيرة من الآيات محلّ البحث تبيّن أعذارهم وخاصّة أنّ بعض المفسّرين قالوا إنّ جماعة من المعوّقين جاؤوا إلى النّبي بعد نزول الآية وتهديدها للمخلّفين بقولها «يعذّبكم عذاباً أليماً»، فقالوا: يا رسول الله ما هي مسؤوليتنا في هذا الموقع؟ فنزل قوله تعالى: (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج).
وليس الجهاد وحده مشروطاً بالقدرة، فجميع التكاليف الإلهيّة هي سلسلة من الشرائط العامة ومن ضمنها الطاقة والقدرة، وكثيراً ما أشارت الآيات القرآنية إلى هذا المعنى وفي الآية (286) من سورة البقرة نقرأ تعبيراً كلياً عن هذا الأصل وهو: (لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها).
وهذا الشرط ثابت بالأدلة النقلية والعقليّة!.
وبالطبع فإن هذه الجماعة وإن كانت معذورة من الاشتراك في ميادين الجهاد، إلاّ أنّ عليها أن تساهم بمقدار ما تستطيع لتقوية قوى الإسلام وتقدّم الأهداف الإلهية كما نقرأ ذلك في الآية (91) من سورة التوبة: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله).
[456]
أي أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يؤدّوا عملاً بأيديهم، فلا ينبغي أن يألوا جهداً فيما يقدرون عليه ولا يعتذروا بألسنتهم عنه، وهذا التعبير الطريف يدلّ على أنّه لا ينبغي الاغماض عن القدرات أبداً، وبتعبير آخر أنّهم إذا لم يستطيعوا أن يشاركوا في الجبهة فعلى الأقل عليهم أن يُحكموا المواضع الخلفية للجبهة!
ولعلّ الجملة الأخيرة في الآية محل البحث تشير أيضاً إلى هذا المعنى فتقول: (ومن يطع الله ورسوله يُدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار ومن يتولّ يعذّبه عذاباً أليماً).
وهذا الاحتمال وارد أيضاً، وهو أنّ بعض الأفراد في المواقع الاستثنائية يعتذرون عن المساهمة [ويسيئون فهم النص] فالقرآن هنا يحذّرهم أنّهم إذا لم يكونوا معذورين واقعاً فإنّ الله أعدّ لهم عذاباً أليماً.
ومن نافلة القول أنّ كون المريض والأعمى والأعرج معذورين خاص بالجهاد، أمّا في الدفاع عن حمى الإسلام والبلد الإسلامي والنفس فيجب أن يدافع كلٌّ بما وسعه، ولا استثناء في هذا المجال!
* * *
[457]
الآيتان
لَقَدْ رَضِىَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَـبَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ( 18 )وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً( 19 )
التّفسير
رضي الله عن المشتركين في بيعة الرضوان:
ذكرنا آنفاً أنّه في الحديبيّة جرى حوار بين ممثلي قريش والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وكان من ضمن السفراء «عثمان بن عفان» الذي تشدّه أواصر القُربى بأبي سفيان، ولعلّ هذه العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعثه إلى أشراف مكّة ومشركي قريش ليطلعهم على أنّ النّبي لم يكن يقصد الحرب والقتال بل هدفه زيارة بيت الله واحترام الكعبة المشرّفة بمعية أصحابه.. إلاّ أنّ قريشاً أوقفت عثمان مؤقتاً وشاع على أثر ذلك بين المسلمين أنّ عثمان قد قُتل! فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا أبرح مكاني هذا حتى أقاتل عدوّي!
ثمّ جاء إلى شجرة هناك فطلب من المسلمين تجديد البيعة تحتها، وطلب منهم أن لا يقصّروا في قتالهم المشركين وأن لا يُولّوا أدبارهم من ساحات القتال(1).
فبلغ صدى هذه البيعة مكّة واضطربت قريش من ذلك بشدّة واطلقوا عثمان.
وكما نعرف فإنّ هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت منعطفاً في تاريخ الإسلام.
فالآيتان محل البحث تتحدّثان عن هذه القصة فتقول الأولى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة).
والهدف من هذه البيعة الإنسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل المخلصين الأوفياء!
وهذه البيعة أعطت روحاً جديداً في المسلمين لأنّهم أعطوا أيديهم إلى النبيّ وأظهروا وفاءهم من أعماق قلوبهم.
فأعطى الله هؤلاء المؤمنين المضحّين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول الله في هذه اللحظة الحسّاسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور، ومن أهمّ تلك الأجور والاثابات الأجر العظيم وهو «رضوانه» كما عبّرت عنه الآية (72) من سورة التوبة (ورضوان من الله أكبر).. أيضاً.
____________________________________
1 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.
[458]
ثمّ تضيف الآية قائلة: (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم).
سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة» فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقاً إلى قلوبهم!.
وهذا هو الأجر الثّاني والموهبة الإلهية الأُخرى، وأساساً فإنّ الألطاف الخاصة والإمدادات الإلهية تشمل حال المخلصين والصادقين.
لذلك فإنّنا نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه!: «إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول يا ربّ ارزقني حتى افعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير فإذا علم الله عزَّ وجلَّ ذلك منه بصدق نيّته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إنّ الله واسع كريم»(1).
وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثّالث إذ تقول الآية: (وأثابهم فتحاً قريباً).
أجل، هذا الفتح وهو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسّرين [وإن كان يرى بعضهم أنّه فتح مكّة] هو ثالث أجر وثواب للمؤمنين المؤثرين، المضحّين.
والتعبير بـ«قريباً» تأييد على أنّ المراد منه «فتح خيبر»، لأنّ هذا الفتح حدث وتحقّق بعد بضعة أشهر من قضيّة الحديبيّة وفي بداية السنة السابعة للهجرة!
والأجر الرابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب المسلمين كما تقول الآية التالية هي: (ومغانم كثيرة يأخذونها).
وواحدة من هذه الغنائم الكثيرة هي «غنائم خيبر» التي وقعت في أيدي المسلمين بعد فترة قصيرة من قضية الحديبيّة، ومع الإلتفات إلى ثروة اليهود الكثيرة جدّاً تعرف أهمية هذه الغنائم.
إلاّ أنّ تحديد هذه الغنائم بغنائم خيبر لا دليل قطعي عليه، ويمكن عدّ الغنائم الأُخرى التي وقعت في أيدي المسلمين خلال الحروب الإسلامية بعد فتح (الحديبيّة) في هذه الغنائم الكثيرة!
وحيث أنّ على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئناناً كاملاً فإنّ الآية تضيف في الختام: (وكان الله عزيزاً حكيماً).
فإذا ما أمركم في الحديبيّة أن تصالحوا فإنّما هو على أساس من حكمته، حكمة كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم الكثيرة فهو قادر على أن يُلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقّق!
____________________________________
1 ـ بحار الأنوار، ج70، ص199.
[459]
وهكذا فإنّ المسلمين المضحّين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحسّاسة انتصاراً في الدنيا والآخرة، في حين أنّ المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات!
ونختم حديثنا بكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يتحدّث عن بسالة المسلمين الأوائل وثباتهم وجهادهم الذي لا نظير له ويخاطب ضعاف الإيمان موبّخاً إيّاهم على خذلانهم فيقول: «فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه ولعمري لو كنّا نأتي ما أتيتم. ما قام للدين عمود. ولا اخضرّ للإيمان عود وأيم الله لتحتلبنّها دماً ولتتبعنّها ندماً!»(1).
* * *
____________________________________
1 ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 56.
[460]
بحث
البيعة وخصوصيّاتها!
«البيعة» من مادة «بيع» وهي في الأصل إعطاء اليد عند إقرار المعاملة. ثمّ أطلق هذا التعبير على مدّ اليد على المعاهدة، وهكذا كانت حين كان الشخص يريد أن يعلم الآخر بوفائه له وأن يطيع أمره ويعرفه رسميّاً فيبايعه ويمدّ له يده، ولعلّ إطلاق هذه الكلمة من جهة أنّ كلاًّ من الطرفين يتعهّد كما يتعهّد ذوا المعاملة فيما بينهما، وكان المبايع مستعداً أحياناً أن يضحّي بروحه أو بماله أو بولده في سبيل الطاعة! والذي يقبل البيعة يتعهّد على رعايته وحمايته والدفاع عنه!..
يقول «ابن خلدون» في مقدمة تأريخه في هذا الصدد «كانوا إذا بايع الأمير جعل أيديهم في يده تأكيداً فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري»(1).
وتدل القرائن على أنّ البيعة ليست من إبداعات المسلمين، بل هي سنّة متّبعة بين العرب قبل الإسلام، ولهذا السبب فإنّ طائفة من «الأوس والخزرج» جاءوا في بداية الإسلام خلال موسم الحج من المدينة لى مكّة وبايعوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)في العقبة، وكان تعاملهم في قضية البيعة يوحي بأنّها أمر معروف، وبعدها وخلال فرص ومناسبات متعدّدة جدّد النّبي البيعة مع المسلمين، وكانت إحداها هذه البيعة التي عرفت ببيعة الرضوان في الحديبيّة، وأوسع منها البيعة التي كانت عند فتح مكّة، وسيأتي بيانها وشرحها في تفسير «سورة الممتحنة» بإذن الله!
ولكن كيف تتم البيعة؟!.. بصورة عامّة تتمّ البيعة كما يلي:
يمدّ المبايع يده إلى يد المبايَع ويبدي الطاعة والوفاء بلسان الحال أو المقال!.. وربّما ذكر شروطاً أو حدوداً لبيعته كأن يعقد البيعة على بذل ماله! أو بذل روحه أو بذل جميع الأشياء حتى الولد والمرأة!
وقد تقع البيعة أحياناً على أن لا يفرّ المبايعُ أبداً أو أن يبقى على عهده وبيعته حتى الموت «وكان هذان المعنيان جميعاً في بيعة الرضوان كما صرَّحت بذلك التواريخ».
وكان النّبي الكريم يقبلُ بيعة النساء أيضاً لكن لا على أن يمددن أيديهنّ إلى يده الكريمة بل كان يأمر بإناء كبير فيه ماء فيدخل يده في طرف منه وتدخل يدها في طرف آخر.
وكان يشترط في البيعة أحياناً على عمل معيّن أو ترك عمل معيّن كما اشترط النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) على النساء المبايعات له بعد مكّة على ألاّ (يُشركنَ بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن...)(2).
وعلى كلّ حال فإنّ في أحكام البيعة بحوثاً مختلفة نشير إليها هنا على نحو الإيجاز والإختصار وإن كانت مسائل هذا البحث محاطة بهالة من الإبهام في الفقه الإسلامي:
1 ـ «ماهية البيعة» نوع من العقد والمعاهدة بين المبايع من جهة والمبايَع من جهة أخرى، ومحتواها الطاعة والإتّباع والدفاع عن المبايَع، ولها درجاتٌ طبقاً للشروط الذي يذكرونها فيها: ويستفاد من لحن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنّ البيعة نوع من العقد اللازم من جهة المبايع، ويجب العمل طبقاً لما بايع عليه، ويكون مشمولاً بالقانون الكلّي «أوفوا بالعقود» فعلى هذا لا يحقّ للمبايع الفسخ، ولكن المبايَع له أن يفسخ البيعة إن وجد في الأمر صلاحاً وفي هذه الصور يتحرر للمبايع من بيعته(3).
____________________________________
1 ـ مقدمة ابن خلدون، صفحة 174.
2 ـ الممتحنة، الآية 12.
3 ـ نقرأ في حادثة كربلاء أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) خطب أصحابه ليلة العاشر من المحرم وأحلّ بيعته من أصحابه بعد أن أظهر تقديره لهم وشكرهم على مواساتهم إيّاه لينطلقوا حيث يشاؤون فقال: «انطلقوا في حِلٍّ منّي ليس عليكم منّي ذمام» لكنّهم لم يتركوا الحسين (عليه السلام) وبقوا على وفائهم [الكامل: لابن الأثير، ج4، ص57].
[461]
2 ـ ويرى البعض أنّ البيعة شبيهة بالإنتخابات أو نوعاً منها، في حين أنّ الإنتخابات على العكس منها تماماً، أي أنّ ماهيتها نوع من إيجاد المسؤولية الوظيفة والمقام للمنتخب، أو بتعبير آخر هي نوع من التوكيل في عمل ما بالرغم من أنّ الإنتخاب يقتضي وظائف على المنتخِب أيضاً «كسائر الوكالات» في حين أنّ البيعة ليست كذلك!
وبتعبير آخر إنّ الإنتخابات تعني إعطاء «المقام» وكما قلنا هي شبيهة بالتوكيل في حين أنّ البيعة تعهد بالطاعة!
ومن الممكن أن يتشابه كلٌّ من البيعة والإنتخاب في بعض الآثار، لكن هذا التشابه لا يعني وحدة المفهوم والماهية أبداً..
ولذلك لا يمكن للمبايع أن يفسخ البيعة، في حين أنّ المنتخبين لهم الحق في الفسخ في كثير من المواطن بحيث يستطيع جماعةٌ ما أن يعزلوا المنتخب «فلاحظوا بدقة»!
3 ـ وبالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين المنصوبين من قبل الله تعالى لا حاجة لهم بالبيعة، أي أنّ طاعة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم والمنصوب من قبل الله واجبة سواءً على من بايع أو لم يبايع!
وبتعبير آخر: إنّ لازم مقام النبوّة والإمامة وجوب الطاعة كما يقول القرآن الكريم: (أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم)(1).
____________________________________
1 ـ النساء، الآية 59.
[462]
لكن ينقدح هنا هذا السؤال وهو إذا كان الأمر كذلك فعلامَ أخذ النّبي من أصحابه ـ البيعة كراراً ـ أو المسلمين الجدد، وقد ورد في القرآن الإشارة إلى حالتين منها بصراحة إحداهما «بيعة الرضوان» ـ محل البحث ـ والأُخرى «البيعة مع أهل مكّة» المشار إليها في سورة الممتحنة!.
وفي الإجابة على هذا السؤال نقول: لا شك أنّ هذه المبايعات كانت نوعاً من التأكيد على الوفاء، وقد أُديّت في ظروف خاصة ولا سيما في مواجهة الأزمات والحوادث الصعبة لتنبض في ظلّها روح جديدة في الأفراد كما وجدنا تأثيرها المذهل في بيعة الرضوان في البحث السابق!..
إلاّ أنّه فيما يتعلّق بمبايعة الخلفاء فقد كانت البيعة على أساس أنّها قبول لمقام الخلافة وإن كنّا لا نعتقد بخلافة من يخلف النّبي والتي تؤخذ البيعة لها عن طريق الناس، بل هي من قبل الله وتتحقّق بالنص من قِبل النّبي أو الإمام السابق على اللاحق!
ومن هذا المنطلق فإنّ البيعة التي بايعها المسلمين لعلي (عليه السلام) أو للحسن أو الحسين(عليهما السلام) فيها (جنبة) تأكيد على الوفاء وهي شبيهة ببيعة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
4 ـ هل البيعة في العصر الحاضر مقبولة على أنّها أصل إسلامي، أو بتعبير آخر: هل يمكن تعميم البيعة، وهل للجماعة الفلانية أن تختار شخصاً لائقاً وواجداً للشرائط الشرعية كأن يكون آمراً للقوات المسلّحة أو رئيساً للجمعية أو رئيساً للحكومة فتبايعه؟ فهل أنّ مثل هذه البيعة مشمول بأحكام الشارع للبيعة؟!
وحيث أنّه لا يوجد عموم ولا إطلاق في القرآن والسنّة في خصوص البيعة فمن المشكل تعميم هذه المسألة وإن كان الاستدلال بعموم الآية (أوفوا بالعقود) غير بعيد!
ولكن مع هذا الإبهام في المسائل المرتبطة بالبيعة فإنّ هناك مانعاً من أن نعوّل بصورة قطعية على (أوفوا بالعقود) وخاصةً أنّنا لا نجد في الفقه أي مورد للبيعة لغير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم.
وينبغي الإلتفات إلى هذه «اللطيفة» وهي أن مقام نيابة الوليّ الفقيه في نظرنا مقام منصوص عليه من قبل الأئمة المعصومين(عليهم السلام) ولا حاجة له بالبيعة وبالطبع فإنّ اتباع الناس للولي الفقيه وطاعتهم له يمنحه الإمكان من الاستفادة من هذا المقام ويعطيه ـ كما هو مصطلح عليه ـ بسط اليد، لكنّ هذا لا يعني أنّ مقامه مشروط بتبعيّة الناس له، ثمّ إنّ اتباع الناس إيّاه لا علاقة له بالبيعة، بل هو عمل بحكم الله في شأن ولاية الفقيه «فلاحظوا بدقّة».
[463]
5 ـ وعلى كلّ حال فإنّ البيعة مرتبطة بالمسائل الإجرائية ولا علاقة لها بالأحكام، أي إنّ البيعة لا تمنح أحداً حق «التشريع والتقنين» أبداً.. بل يجب أن تؤخذ القوانين من الكتاب والسنّة ثمّ تنفذ في حيّز الواقع، ولا كلام لأحد في هذا.
6 ـ يستفاد من الرّوايات أنّ البيعة مع الإمام المعصوم ينبغي أن تكون خالصةً لله، وبتعبير آخر هي من الأُمور التي يلزم فيها قصد القربة.
فقد ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم، رجل بايع إماماً لا يبايعه إلاّ للدنيا، إن أعطاه ما يريده وفى له وإلاّ كفّ ورجلاً بايع رجلاً بسلعته بعد العصر فحلف بالله عزَّ وجلَّ لقد أُعطى بها كذا وكذا فصدّقه وأخذها ولم يُعط فيها ما قال ورجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل»(1). «والتعبير بالعصر لعلّه لشرف هذا الوقت أو لأنّ كثيراً من الباعة يبيعون أجناسهم بالقيمة التي اشتروها في هذا الوقت».
7 ـ «نكث البيعة» من الذنوب الكبيرة، ونقرأ حديثاً عن الإمام موسى بن جعفر أنّه قال: «ثلاث موبقات، نكث الصفقة، وترك السنّة، وفراق الجماعة»(2).
ويظهر أنّ المراد من «ترك السنّة» هي ترك القوانين التي جاء بها النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وفراق الجماعة معناها الإعراض عنها لا محض عدم المشاركة في الجماعة.
8 ـ البيعة في كلام الإمام علي (عليه السلام)
هناك في نهج البلاغة كلمات تؤكّد على البيعة وقد عوّل الإمام علي (عليه السلام) عليها مراراً وأنّ الناس بايعوه.
ومن جملتها أنّه قال في بعض خطبه: «أيّها الناس إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليَّ حق فأمّا حقكم عليَّ فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا» ثمّ يضيف (عليه السلام): «وأمّا حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة بالمشهد والمغيب والإجابة حين أدعوكم والطاعة حين أمركم»(3).
____________________________________
1 ـ الخصال: باب الثلاثة ـ الحديث 70.
2 ـ بحار الأنوار، ج67، ص185.
3 ـ نهج البلاغة الخطبة 34.
[464]
ويقول (عليه السلام) ـ في مكان آخر: «لم تكن بيعتكم إيّاي فلتةً»(1).
وفي خطبته التي خطبها قبل حرب الجمل والتحرّك من المدينة نحو البصرة أشار الى بيعة الناس إيّاه وأن يثبتوا على ما بايعوه فقال (عليه السلام): «وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيّرين»(2).
ونقرأ أخيراً في بعض كتبه لمعاوية حين لم يبايع الإمام عليّاً وكان يريد الانتقاد من علي (عليه السلام) قوله: «بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد»(3).
ويستفاد من بعض عبارات النهج أنّ البيعة ليست أكثر من مرة واحدة ولا سبيل لتجديد النظر فيها وليس فيها اختيار الفسخ، ومن يخرج منها فهو طاعن، ومن يتريث ويفكر في قبولها أو ردّها فهو منافق.
[إنّها بيعة واحدة لا يثنَّى فيها النظر ولا يستأنف فيها الخيار; الخارج منها طاعن والمروّي فيها مداهن](4).
ويستفاد من مجموع هذه التعابير أنّ الإمام(عليه السلام) استدلّ على من لم يقبلوا بأنّ إمامته منصوص عليها من قِبل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وكانوا يتذرّعون بحجج واهية ـ بالبيعة التي كانت عندهم من المسلم بها، ولم تكن لهم الجرأة على أن يرفضوا طاعة الإمام ويسمعوا لمعاوية وأمثال معاوية، فكما أنّهم يرون مشروعية الخلافة للخلفاء الثلاثة السابقين، فعليهم أن يعتقدوا بأنّ خلافة الإمام مشروعة أيضاً وأن يذعنوا له «بل إنّ خلافته أكثر شرعيةً لأنّ بيعته كانت أوسع وكانت حسب رغبة الناس ورضاهم».
فبناءً على هذا لا منافاة بين الاستدلال بالبيعة ومسألة نصب الإمام بواسطة الله والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتأكيد البيعة.
لذلك فإنّ الإمام يشير في مكان من (نهج البلاغة) نفسه بحديث الثقلين الذي هو من نصوص الإمامة(5) كما يشير في مكان آخر إلى مسألة الوصية والوراثة(6). [فلاحظوا بدقّة].
كما يشير (عليه السلام) في بعض عباراته الأُخرى إلى لزوم الوفاء بالبيعة وعدم إمكان الفسخ والنكث وتجديد النظر وعدم الحاجة إلى التكرار وهذه هي مسائل مقبولة بالنسبة للبيعة أيضاً.
ويستفاد من هذه التعابير ضمناً بصورة جيّدة أنّ البيعة إذا كانت فيها «جنبة» إكراه أو إجبار أو أخذت على حين غرّة من الناس فلا عبرة بها ولا قيمة لها بل البيعة الحق التي تكون في حال الاختيار والحرية والإرادة والتفكّر والتدبّر.
* * *
____________________________________
1 ـ نهج البلاغة الخطبة 136.
2 ـ نهج البلاغة من كتاب له (عليه السلام) رقم 1.
3 ـ من كتاب له رقم 6، وينبغي الإلتفات إلى أنّ التعويل على بيعة الخلفاء السابقة هو لأنّ معاوية كان منصوباً من قِبلهم وكان يدافع عنهم فلا منافاة بين هذا وما جاء في الخطبة المعروفة بالشقشقية.
4 ـ نهج البلاغة: من كتاب له برقم 7.
5 ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 87.
6 ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 2.
[465]
الآيتان
وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً( 20 ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيراً( 21 )
التّفسير
من بركات صلح الحديبيّة مرّةً أخرى!
تتحدّث هاتان الآيتان كالآيات السابقة المتعلّقة بصلح الحديبيّة والوقائع التالية لها ـ عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق.
فتقول الآية الأولى منهما: (وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه).
ويدلّ لحن الآية أنّ المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها الله للمسلمين سواءً في أمد قصير أم بعيد حتى أنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أنّ المغانم التي تقع في أيدي المسلمين إلى يوم القيامة داخلة في هذه العبارة أيضاً.
أمّا قوله: (فعجّل لكم هذه) فيرى الكثير من المفسّرين أنّ المراد منه مغانم خيبر التي توفّرت خلال أمد قصير جداً بعد حادثة الحديبيّة!
غير أنّ البعض يرى أنّ كلمة «هذه» إشارة إلى فتح الحديبيّة الذي يُعدّ أكبر غنيمة معنوية!.
ثمّ يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف الله على المسلمين ـ في هذه الحادثة ـ فيقول: (وكفّ أيدي الناس عنكم).
وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العَدد والعُدد وفي نقطة نائية عن الوطن وفي مقربة من العدو ـ في مأمن منه وأن يلقي الله رعباً ووحشة منهم في قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم!.
ويرى جماعة من المفسّرين أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما جرى في خيبر إذ كانت بعض القبائل من «بني أسد» و«بني غطفان» قد صمّموا أن يهجموا على المدينة في غياب المسلمين وأن ينهبوا أموالهم ويأسروا نساءهم!
أو أنّها إشارة إلى تصميم جماعة من هاتين القبيلتين على أن ينهضوا لنصرة يهود خيبر فألقى الله الرعب في قلوبهم فصرفهم عن ذلك.
غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب ظاهراً! لأنّنا نشاهد شرطاً لهذا التعبير بعد بضعة آيات ورد في شأن أهل مكّة كما جاء في الآية محل البحث، وهو منسجم مع أسلوب القرآن الذي هو أسلوب إجمال وتفصيل!
المهم أنّه طبقاً للرّوايات المشهورة فإنّ سورة الفتح جميعها نزلت بعد حادثة الحديبية وخلال عودة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إلى المدينة!
ثمّ يضيف القرآن في تكملة الآية مشيراً إلى نعمتين كُبريين أُخريين من مواهب الله ونعمه إذ يقول: (ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً).
[466]
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ الضمير في لتكون عائد على الغنائم الكثيرة الموعودة، وبعضهم يراه عائداً على حماية المسلمين وكف أيدي الناس عنهم، غير أنّ المناسب أن يعود الضمير إلى جميع حوادث الحديبية ومجرياتها بعد ذلك.. لأنّ كلاًّ منها آية من آيات الله ودليل على صدق النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ووسيلة لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وكان في قسم منها (جنبة) أخبار بالمغيّبات، وكان بعضها لا ينسجم مع الظروف العادية، وهي في المجموع تعدّ معجزة واضحة من معاجز النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الآية التالية أعطى الله بشارةً أُخرى للمسلمين إذ قال: (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كلّ شيء قديراً).
وهناك كلام بين المفسّرين في أنّ هذا الوعد يشير إلى أية غنيمة؟ والى أي نصر؟!
يرى بعضهم أنّه إشارة إلى فتح مكّة وغنائم حنين.
ويرى آخرون أنّه إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين بعد النّبي (كفتح فارس والروم ومصر) كما يحتمل أيضاً أنّه إشارة لجميع ما تقدّم ذكره(1).
عبارة (لم تقدروا عليها) إشارة إلى أنّ المسلمين لم يحتملوا قبل ذلك أن يظفروا بمثل هذه الفتوحات والغنائم، إلاّ أنّه وببركة الإسلام والإمدادات الإلهية نالوا هذه القدرة والقوّة!
واستنبط بعض المفسّرين من هذه الجملة أنّ المسلمين كانوا يتحدّثون عن مثل هذه الفتوحات، إلاّ أنّهم كانوا يرون أنفسهم غير قادرين وخاصّة أنّنا نقرأ في قصة الأحزاب يوم بشّر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بفتح بلاد فارس والروم واليمن اتخذ المنافقون كلامه هزواً!
وجملة (قد أحاط الله بها) إشارة إلى إحاطة قدرة الله على هذه الغنائم أو الفتوحات، ويرى بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى إحاطة علمه، غير أنّ المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع تعابير الآية الأُخرى، وبالطبع لا مانع في الجمع بينهماع
وأخيراً فإنّ آخر جملة في الآية (وكان الله على كلّ شيء قديراً) هي في الحقيقة بمنزلة بيان العلة للجملة السابقة، وهي إشارة إلى أنّه مع قدرة الله على كلّ شيء فلا عجب أن ينال المسلمون مثل هذه الفتوحات!.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية من إخبار القرآن بالمغيّبات والحوادث الآتية، وقد حدثت هذه الفتوحات في مدة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء!
* * *
____________________________________
1 ـ أخرى: هنا صفة لمحذوف تقدير (ومغانم أُخرى لم تقدروا عليها) وهي منصوبة لعطفها على (وعدكم الله مغانم كثيرة)..
[467]
ملاحظة
قصة غزوة خيبر:
لمّا عاد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبيّة نحو المدينة أمضى شهر ذي الحجة كلّه وأياماً من شهر محرم الحرام من السنة السابعة للهجرة في المدينة، ثمّ تحرّك بألف وأربعمائة نفر من المسلمين الذين كانوا حضروا الحديبيّة نحو «خيبر» [حيث كان مركزاً للتحرّكات المناوئة للإسلام وكان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحيّن الفرص لتدمير ذلك المركز للفساد].
وقد صمّمت قبيلة غطفان في البداية أن تحمي يهود خيبر غير أنّها خافت بعدئذ عواقب أمرها (فاجتنبت حمايتها لهم).
فلمّا وصل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قريباً من قلاع خيبر أمر أصحابه أن يقفوا ثمّ رفع رأسه الشريف للسماء ودعا بهذا الدعاء:
«اللّهمَّ ربّ السماوات وما أظللن وربّ الأرضين وما أقللن، نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها وشرّ ما فيها».
ثمّ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أقدموا بسم الله»، وهكذا وصلوا خيبر ليلاً وعند الصباح ـ حيث علم أهل خيبر بالخبر ـ وجدوا أنفسهم محاصرين من قبل جنود الإسلام، ثمّ فتح النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القلاع قلعة بعد اُخرى حتى بلغ أقوى القلاع وأمنعها وآخرها وكان فيها «مرحب» قائد اليهود المعروف.
وفي هذه الأيّام أصاب رأس النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجع شديد كان ينتابه أحياناً حتى أنّه لم يستطع الخروج من خيمته ـ يوماً أو يومين.. وفي هذه الأثناء وطبقاً لما ورد في التاريخ الإسلامي، حمل أبو بكر الراية في يده وتوجّه بالمسلمين نحو معسكر اليهود غير أنّه سرعان ما عاد وهو صفر اليدين دون نتيجة، ومرّة أُخرى أخذ عمر الراية وحمل بالمسلمين بصورة أشد فما أسرع ما عاد دون جدوى...
فلمّا بلغ الخبر مسمع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «والله لأعطينها غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله يأخذها عنوة!».
[468]
فاشرأبت الأعناق من كلّ جانب تُرى من هو المقصود، وقد حدس جماعة منهم أنّ مقصوده (علي) (عليه السلام)، إلاّ أنّ علياً كان مصاباً بوجع في عينه فلم يكن حاضراً حينئذ، ولمّا كان الغد أمر النّبي بأن يدعو له علياً، فجاء راكباً على بعير له حتى أناخ قريباً من خباء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أرمد قد عصّب عينيه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما لك؟
قال علي (عليه السلام): رمدت بعدك.
فقال له: أدنُ مني، فدنا منه، فتفل في عينيه، فما شكا وجعاً حتى مضى بسبيله. ثمّ أعطاه الراية.
فتوجّه علي (عليه السلام) بجيش الإسلام نحو القلعة الكبرى (من خيبر) فرآه رجل يهودي من أعلى الجدار فسأله من أنت؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب. فنادى اليهودي: أيّتها الجماعة حان اندحاركم، فجاء «مرحب» آمر الحصن ونازل علياً فما كان إلاّ أن هوى إلى الأرض صريعاً بضربة علي(عليه السلام)، فالتحمت الحرب بين المسلمين واليهود بشدّة فاقترب علي(عليه السلام) من باب الحصن فقَلعه فدحاه فرماه بقوّة خارقة إلى مكان آخر، وهكذا فُتحت القلعة ودخلها المسلمون فاتحين.
واستسلم اليهود وطلبوا من النّبي أن يحقن دماءهم لاستسلامهم، فقبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وغنم الجيش الإسلامي الغنائم المنقولة، وأودع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الأرض والأشجار بأيدي اليهود على أن يعطوا المسلمين نصف حاصلها(1).
* * *
____________________________________
1 ـ نقلاً بتلخيص عن [الكامل في التاريخ لابن الأثير] ج2، ص216 ـ 221.
[469]
الآيات
وَلَوْ قَـتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُا الاَْدْبَـرَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( 21 ) سُنَّةَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً( 22 ) وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً( 23 ) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَـتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم لِيُدْخِلَ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوْا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً( 24 )
التّفسير
لو حَدَثتِ الحرب في الحديبيّة!؟
هذه الآيات تتحدّث أيضاً عن أبعاد أُخر لما جرى في الحديبيّة وتشير إلى «لطيفتين» مهمّتين في هذا الشأن!
الأولى: هي أنّه لا تتصوّروا أنّه لو وقعت الحرب بينكم وبين مشركي مكّة في الحديبيّة لانتصر المشركون والكفرة! (ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثمّ لا يجدون وليّاً ولا نصيراً).
وليس هذا منحصراً بكم بل: (سنّة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلاً).
فهذا هو قانون إلهي دائم، فمتى واجه المؤمنون العدوّ بنيّات خالصة وقلوب طاهرة ولم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم الله على عدوّهم، وربّما حدث في هذا الشأن إبطاء أو تعجيل لإمتحان المؤمنين أو لأهداف أخرى، ولكنّ النصر النهائي على كل حال هو حليف المؤمنين..
لكن في موارد كمعركة أحد مثلاً حيث أنّ جماعة لم يتّبعوا أمر الرّسول ومالت طائفة منهم إلى الدنيا وزخرفها فلوّثت نياتها وعكفت على جمع الغنائم فإنّها ذاقت هزيمة مرّة، وهكذا بعد!
[470]
اللطيفة المهمّة التي تبيّنها الآيات هي أن لا تجلس قريش فتقول: مع الأسف إنّنا لم نقاتل هذه الطائفة القليلة العدد، أسفاً إذ بلغ «الصيد» مكّة فغفلنا عنه.. أبداً ليس الأمر كذلك.. فبالرغم من أنّ المسلمين كانوا قلّة وبعيدين عن الوطن والمأمن وفاقدين للأعتدة والمؤن. ولكن مع هذه الحال لو وقع قتال بين المشركين والمؤمنين لانتصر المؤمنون ببركة قوى الإيمان ونصر الله أيضاً.. ألم يكونوا في بدر أو الأحزاب قلة وأعداؤهم كثرة، فكيف انهزم الجمع وولّوا الدبر في المعركتين؟!
وعلى كلّ حال فإنّ بيان هذه الحقيقة كان سبباً لتقوية روحية المؤمنين وتضعيف روحية الأعداء وإنهاء القيل والقال من قبل المنافقين، ودلّ على أنّه حتى لو حدثت حرب في هذه الظروف غير الملائمة بحسب الظاهر فإنّ النصر سيكون حليف المؤمنين الخُلّص!.
واللطيفة الأُخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت: (وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً).
حقاً.. كان ما حدث مصداقاً جليّاً «للفتح المبين» ونعمَ ما اختاره القرآن له من وصف، فالعدوّ الذي زحف بجيشه مراراً نحو المدينة وسعى سعياً عجيباً لإيقاع الهزيمة بالمسلمين، إلاّ أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم، فأيّ فتح مبين أكبر من هذا الفتح إذ ينال المسلمون هذا التفوّق على العدو دون أن تسفك قطرة دم واحدة من المسلمين!؟
ولا شكّ أنّ ما جرى في الحديبيّة كان يعدّ في جزيرة العرب عامة نصراً للمسلمين وهزيمة لقريش.
هذا وقد ذكر جماعة من المفسّرين في نزول هذه الآية أنّ مشركي مكّة عبّؤوا أربعين رجلاً للهجوم على المسلمين (بصورة خفية) في الحديبيّة، غير أنّ المسلمين أفشلوا مؤامرتهم وأجهضوا مكيدتهم ـ بفطنتهم ـ فأسر المسلمون هؤلاء الأربعين جميعاً وجاءوا بهم إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخلّى عنهم سبيلهم.
[471]
وقال بعضهم: أنّهم كانوا ثمانين أرادوا أن يهجموا على المسلمين من جبل التنعيم عند صلاة الغداة وبالاستفادة من العتمة، وقال بعضهم: كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يستظلّ تحت الشجرة ليكتب معاهدة الصلح مع ممثل قريش وعلي مشغول بالإملاء، فحمل عليه ثلاثون شابّاً من أهل مكّة بأسلحتهم ولكن بمعجزة مذهلة فشلت خطتهم وأُسر جميعهم وخلّى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم سبيلهم(1).
وطبقاً لشأن النّزول هذا فإنّ جملة (من بعد أن أظفركم عليهم) إشارة إلى الإنتصار على هذه الطائفة، في حين أنّه طبقاً للتفسير السابق يكون المقصود هو النصر الكلّي للمسلمين على المشركين وهذا التّفسير أكثر انسجاماً مع مفاد الآية..
ممّا يستلفت النظر أنّ القرآن يؤكّد على عدم القتال في بطن مكّة، وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى لطيفتين:
الأولى: إنّ مكّة كانت مركزاً لقوّة العدو، وعلى القاعدة كان على أهل مكّة [المشركين] أن يغتنموا الفرصة المناسبة فيحملوا على المسلمين فقد كانوا يبحثون عنهم وعن فرصة للقضاء عليهم فإذا هم في دارهم وفي قبضتهم فما كان ينبغي أن يتركوا هذه الفرصة بهذه البساطة، لكنّ الله سلب عنهم قدرتهم وصرفهم عنهم!
الثانية: إنّ مكّة كانت حرم الله الآمن. فلو وقع القتال فيها لسالت الدماء فتهتك حرمة الحرم من جانب، وتكون عاراً على المسلمين وعيباً أيضاً. إذ سلبوا أمن هذه الأرض المقدّسة، ولذلك فإنّ من نِعَم الله على نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)وعلى المسلمين أنّه وبعد هذه القضية بسنتين فتح عليهم مكّة وكان ذلك من دون سفك دم أيضاً..
وفي آخر آية من الآيات محل البحث إشارة إلى لطيفة أُخرى تتعلّق بمسألة صلح الحديبيّة وحكمتها إذ تقول الآية: (هم الذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله)(2).
كان أحد ذنوبهم كفرهم، والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العُمرة زيارة بيت الله ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله، أي مكّة (الهدي في العمرة ينحر [أو يذبح] في مكّة وفي الحج بمنى) على حين ينبغي أن يكون بيت الله للجميع وصدّ المؤمنين عنه من أعظم الكبائر، كما يصرّح القرآن بذلك في مكان آخر من سورة: (ومن أظلم ممّن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه)(3).
____________________________________
1 ـ (مجمع البيان) ج9، ص123، مع شيء من التصرف كما ذكر هذا الشأن (القرطبي) بتفاوت يسير و(أبو الفتوح الرازي) و(الآلوسي في روح المعاني) و(الشيخ الطوسي في التبيان) و(المراغي) وأضرابهم.
2 ـ «معكوفاً» مشتق من العكوف ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان.
3 ـ البقرة، الآية 114.
[472]
ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم الله عليهم لتعاقبوهم بشدّة! لكنّ الله تعالى لم يفعل ذلك فلماذا؟! ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم)(1)..
وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكّة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة.
فلو قاتل المسلمون أهل مكّة لأوقعوا أرواح هؤلاء المستضعفين في خطر ولامتدت ألسنة المشركين بالقول: إنّ جنود الإسلام لم يرحموا لا أعداءهم ومخالفيهم ولا أتباعهم ومؤالفيهم، وهذا عيب وعار كبير!
وقال بعضهم أيضاً، إنّ المراد من هذا العيب لزوم الكفارة ودية قتل الخطأ، لكنّ المعنى الأوّل أكثر مناسبةً ظاهراً.
«المعرّة» من مادة «عرّ» على زنة «شرّ» «والعرّ على زنة الحر» في الأصل معناه مرض الجرب وهو من الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحياناً ثمّ توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كلّ ضرر يصيب الإنسان.
ولإكمال الموضوع تضيف الآية: (ليدخل الله في رحمته من يشاء).
أجل، كان الله يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكّة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أية صدمة..
كما يرد هذا الإحتمال أيضاً وهو أنّ أحد أهداف صلح الحديبيّة أنّ من المشركين من فيه قابلية الهداية فيهتدي ببركة هذا الصلح ويدخل في رحمة الله.
والتعبير بـ «من يشاء» يراد منه الذين فيهم اللياقة والجدارة، لأنّ مشيئة الله تنبع من حكمته دائماً، والحكيم لا يشاء إلاّ بدليل ولا يعمل عملاً دون دقّة وحساب..
____________________________________
1 ـ جواب لولا في الجملة الآنفة محذوف والتقدير: لمّا كفَ أيديكم عنهم، أو: لوطأتم رقاب المشركين بنصرنا إيّاكم..
[473]
ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة: (لو تزيلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً) أي لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكّة ولم يكن هناك خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذاباً أليماً.
صحيح أنّ الله قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق الإعجاز، ولكنّ سنّة الله ـ في ما عدا الموارد الإستثنائية ـ أن تكون الأُمور وفقاً للأسباب العاديّة.
جملة «تزيلوا» من مادة زوال، وهنا معناها الإنفصال والتفرّق.
ويستفاد من روايات متعدّدة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة حول ذيل هذه الآية أنّ المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين والله سبحانه لأجل هؤلاء لم يعذّب الكافرين..
ومن جملة هذه الروايات نقرأ في الرواية أنّه سأل رجلٌ الإمام الصادق (عليه السلام): ألم يكن علي (عليه السلام) قوياً في دين الله؟ قال (عليه السلام): بلى. فقال: فعلام إذ سُلّط على قوم (في الجمل) لم يفتك بهم فما كان منعه من ذلك؟!
فقال الإمام: آية في القرآن!
فقال الرجل: وأية آية؟!
فقال الصادق (عليه السلام) قوله تعالى: (لو تزيلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً).. ثمّ أضاف (عليه السلام): أنّه كان لله عزَّ وجلَّ ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين، ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع.. وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله عزَّ وجلّ(1).
أي أن اللّه سبحانه يعلم أنّ جماعة سيولدون منهم في ما بعد وسيؤمنون عن إختيارهم وإرادتهم ولأجلهم لم يعذب اللّه أباءهم وقد أورد هذا القرطبي في تفسيره بعبارة اُخرى.
ولا يمنع أن تكون الآية مشيرة إلى المؤمنين المختلطين بالكفّار في مكّة وإلى المؤمنين الذين هم في أصلاب الكافرين وسيولدون في ما بعد!..
* * *
____________________________________
1 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص70، وروايات أُخر متعددة وردت أيضاً في هذا المجال!.
[474]
الآية
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَـهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيماً( 26 )
التّفسير
التعصّب «وحمية الجاهلية» أكبر سدٍّ في طريق الكفّار:
هذه الآية تتحدّث مرّة أُخرى عن (مجريات) الحديبيّة وتجسّم ميادين أُخرى من قضيتها العظمى.. فتشير أوّلاً إلى واحد من أهم العوامل التي تمنع الكفار من الإيمان بالله ورسوله والإذعان والتسليم للحق والعدالة فتقول: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية)(1).
ولذلك منعوا النّبي والمؤمنين أن يدخلوا بيت الله ويؤدّوا مناسكهم وينحروا «الهدي» في مكّة. وقالوا لو دخل هؤلاء ـ الذين قتلوا آباءنا وإخواننا في الحرب ـ أرضنا وديارنا وعادوا سالمين فما عسى أن تقول العرب فينا؟! وأية حيثية واعتبار لنا بعد؟
هذا الكبر والغرور والحميّة ـ حمية الجاهلية ـ منعتهم حتى من كتابة «بسم الله الرحمن الرحيم» بصورتها الصحيحة عند تنظيم معاهدة صلح الحديبيّة، مع أنّ عاداتهم وسننهم كانت تجيز العُمرة وزيارة بيت الله للجميع، وكانت مكّة عندهم حرماً آمناً حتى لو وجد أحدهم قاتل أبيه فيها أو أثناء المناسك فلا يناله منه سوء
____________________________________
1 ـ يستوفي الفعل (جعل) مفعولاً واحداً أحياناً وذلك إذا كان معناه «الإيجاد» كالآية محل البحث وفاعله الذين كفروا ومفعوله الحمية والمراد بالإيجاد هنا البقاء على هذه الحالة والتعلّق بها، وقد يستوفي هذا الفعل (جعل) مفعولين وذلك إذا كان بمعنى (صار).
[475]
وأذى لحرمة البيت عنده، فهؤلاء ـ بهذا العمل ـ هتكوا حرمة بيت الله والحرم الآمن من جهة، وخالفوا سننهم وعاداتهم من جهة أخرى، كما أسدلوا ستاراً بينهم وبين الحقيقة أيضاً، وهكذا هي آثار حمية الجاهلية المميتة!
«الحمية» في الأصل من مادة حَمي ـ على وزن حمد ـ ومعناها حرارة الشمس أو النّار التي تصيب جسم الإنسان وما شاكله، ومن هنا سمّيت الحُمّى التي تصيب الإنسان بهذا الاسم «حُمّى» على وزن كبرى، ويقال لحالة الغضب أو النخوة أو التعصّب المقرون بالغضب حمية أيضاً.
وهذه الحالة السائدة في الأُمم هي بسبب الجهل وقصور الفكر والإنحطاط الثقافي خاصةً بين «الجاهليّين» وكانت مدعاة لكثير من الحروب وسفك الدماء!..
ثمّ تضيف الآية الكريمة ـ وفي قبال ذلك ـ (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين)..
هذه السكينة التي هي وليدة الإيمان والإعتقاد بالله والإعتماد على لطفه دعتهم الى الإطمئنان وضبط النفس وأطفأت لهب غضبهم حتى أنّهم قبلوا ـ ومن أجل أن يحفظوا ويرعوا أهدافهم الكبرى ـ بحذف جملة «بسم الله الرحمن الرحيم» التي هي رمز الإسلام في بداية الأعمال وأن يثبتوا ـ مكانها «بسمك اللّهمَّ» التي هي من موروثات العرب السابقين ـ في أوّل المعاهدة وحذفوا حتى لقب «رسول الله» التي يلي اسم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقبلوا بالعودة إلى المدينة من الحديبيّة دون أن يستجيبوا لهوى عشقهم بالبيت ويؤدّوا مناسك العمرة! ونحروا هديهم خلافاً للسنّة التي في الحج أو العمرة في المكان ذاته وأحلّوا من احرامهم دون أداء المناسك!..
أجل، لقد رضوا بمرارة أن يصبروا إزاء كلّ المشاكل الصعبة، ولو كانت فيهم حميّة الجاهلية لكان واحد من هذه الأُمور الآنفة كفيلاً أن يشعل الحرب بينهم في تلك الأرض!
أجل.. إنّ الثقافة الجاهلية تدعو إلى «الحمية» و«التعصّب» و«الحفيظة الجاهلية»، غير أنّ الثقافة الإسلامية تدعو إلى «السكينة» و«الإطمئنان» و«ضبط النفس».
ثمّ يضيف القرآن في هذا الصدد قائلاً: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقّ بها وأهلها)..
[476]
(كلمة) هنا بمعنى «روح»، ومعنى الآية أنّ الله ألقى روح التقوى في قلوب أولئك المؤمنين وجعلها ملازمة لهم ومعهم، كما نقرأ ـ في هذا المعنى ـ أيضاً الآية (171) من سورة النساء في شأن عيسى بن مريم إذ تقول الآية: (إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروح منه).
واحتمل بعض المفسّرين أنّ المراد من «كلمة التقوى» ما أمر الله به المؤمنين في هذا الصدد!
إلاّ أنّ المناسب هو «روح التقوى» التي تحمل مفهوماً تكوينياً، وهي وليدة الإيمان والسكينة والإلتزام القلبي بأوامر الله سبحانه، لذا ورد في بعض الروايات عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ المراد بكلمة التقوى هو كلمة لا إله إلاّ الله(1)، وفي رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه فسّرها بالإيمان(2).
ونقرأ في بعض خطب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى»(3)وشبيه بهذا التعبير ما نُقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) قوله: «ونحن كلمة التقوى والعروة الوثقى»(4)!
وواضح أنّ الإيمان بالنبوّة والولاية مكمل للإيمان بأصل التوحيد ومعرفة الله لأنّهما جميعاً داعيانِ إلى الله ومناديان للتوحيد.
وعلى كلّ حال فإنّ المسلمين لم يُبتلوا في هذه اللحظات الحسّاسة بالحميّة والعصبية والنخوة والحفيظة، وما كتب الله لهم من العاقبة المشرفة في الحديبيّة لم تمسسْه نار الحمية والجهالة!
لأنّ الله يقول: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقّ بها وأهلها).
وبديهي أنّه لا يُنتظر من حفنة عتاة وجهلة وعبدة أصنام سوى (حميّة الجاهلية) ولا ينتظر من المسلمين الموحّدين الذين تربّوا سنين طويلة في مدرسة الإسلام مثل هذا الخلق والطباع الجاهلية، ما ينتظر منهم هو الإطمئنان والسكينة والوقار والتقوى، وذلك ما أظهروه في الحديبيّة ولكن بعض حاديّ الطبع والمزاج أوشكوا على كسر هذا السدّ المنيع بما يحملوه من أنفسهم من ترسبات الماضي وأثاروا البلبلة والضوضاء، غير أنّ سكينة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووقاره كانا كمثل الماء المسكوب على النّار فأطفأها!
وتُختتم الآية بقوله سبحانه: (وكان الله بكلّ شيء عليماً). فهو سبحانه يعرف نيّات الكفّار السيئة ويعرف طهارة قلوب المؤمنين أيضاً فينزل السكينة والتقوى عليهم هنا، ويترك أُولئك في غيّهم وحميّتهم حميّة الجاهلية، فالله يشمل كلّ قوم وأمّة بما تستحقّه من اللطف والرحمة أو الغضب والنقمة!
* * *
____________________________________
1 ـ الدر المنثور، الجزء 6، ص80.
2 ـ أصول الكافي طبقاً لما نقل في تفسير نور الثقلين، ج5، ص73.
3 ـ خصال الصدوق: عن نور الثقلين، ج5، ص73.
4 ـ المصدر السابق، ص74.
[477]
ملاحظة
ما هي حميّة الجاهلية؟!
قلنا أنّ «الحميّة» في الأصل من مادة «حَمِي» ومعناها الحرارة، ثمّ صارت تستعمل في معنى الغضب، ثمّ استعملت في النخوة والتعصّب الممزوج بالغضب أيضاً..
وهذه الكلمة قد تستعمل في هذا المعنى المذموم «مقرونة بالجاهلية أو بدونها» بعض الأحيان، وقد تستعمل في المدح حيناً آخر، فتكون عندئذ بمعنى التعصّب في الأُمور الإيجابية البنّاءة!
يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) حين انتقده بعض أصحابه الضعاف المعاندين: «مُنيت بمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت أما دين يجمعكم ولا حميّة تحشمكم»(1).
غير أنّ هذه الكلمة غالباً ما ترد في الذم كما ذكرها الإمام علي (عليه السلام)مراراً في خطبته القاصعة ذامّاً بها إبليس أمام المستكبرين: «صدّقه به أبناءُ الحمية وأخوان العصبية وفرسان الكبر والجاهلية»(2).
وفي مكان آخر من هذه الخطبة يقول محذّراً من العصبيات الجاهلية: «فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية فإنّما تلك الحمية تكون في المسلم من خطرات الشيطان ونخواته ونزعاته ونفثاته»(3).
وعلى كلّ حال فلا شكّ أنّ وجود مثل هذه الحالة في الفرد أو المجتمع باعث على تخّلف ذلك المجتمع وتكبيل العقل والفكر الإنساني ومنعه من الإدراك الصحيح والتشخيص السالم.. وربّما تذرُ جميع مصالحه مع الرياح!..
وأساساً فإنّ انتقال السنن الخاطئة من جيل لآخر ومن قوم لآخرين ما كان إلاّ في ظل هذه الحميّة المشؤومة، ومقاومة الأمم للأنبياء والقادة غالباً ما تكون عن هذه السبيل أيضاً..
يُنقل عن الإمام علي بن الحسين حين سئل عن «العصبية» أنّه قال (عليه السلام): «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم»(4).
إنّ خير سبيل لمقاومة هذه السجية السيئة والنجاة من هذه المهلكة العظمى السعي والجد لرفع المستوى الثقافي والفكري وإيمان كلّ قوم وجماعة..
وفي الحقيقة إنّ القرآن عالج هذا المرض بالآية المتقدّمة ـ محل البحث ـ حيث يتحدّث عن المؤمنين ذوي السكينة والتقوى، فحيث توجد التقوى فلا توجد حميّة الجاهلية، وحيث توجد حميّة الجاهلية فلا تقوى ولا سكينة.
* * *
____________________________________
1 ـ نهج البلاغة. الخطبة 39.
2 ـ نهج البلاغة الخطبة القاصعة 192.
3 ـ نهج البلاغة: المصدر السابق.
4 ـ تفسير نور الثقلين، ج5، ص73، الحديث السبعون.
[478]
الآية
لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً( 27 )
التّفسير
رؤيا النّبي الصادقة:
هذه الآية ـ أيضاً ـ ترسم جانباً آخر من جوانب قصة الحديبيّة المهمّة، والقصة كانت على النحو التالي:
رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة رؤيا أنّه يدخل مكّة مع أصحابه لأداء مناسك العمرة، فحدّث أصحابه عن رؤياه فسُرّوا جميعاً، غير أنّه لمّا كان جماعة من أصحابه يتصوّرون أنّ تعبير الرؤيا سيتحقق في تلك السنة ذاتها ومنعهم المشركون من الدخول إلى مكّة أصابهم الشك والتردّد... ترى هل من الممكن أن تكون رؤيا النّبي غير صادقة؟ ألم يكن البناء أن نعتمر هذا العام؟! فأين هذا الوعد؟ وأين صارت هذه الرؤيا الرحمانية؟!
فكان جواب النّبي لهم: هل قلت لكم أنّ هذه الرؤيا ستتحقق هذا العام؟!
فنزلت الآية الآنفة في هذا الصدد والنّبي عائد من الحديبية إلى المدينة وأكّدت أنّ هذه الرؤيا كانت صادقة ولابدّ أنّها كائنة... تقول الآية: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق)(1) فما رآه النّبي في المنام كان حقّاً وصدقاً.
ثمّ تضيف الآية قائلة: (لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصّرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا) وكان في هذا التأخير حكمةٌ: (فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً).
* * *
____________________________________
1 ـ «صدق» فعل ماض قد يستوفي مفعولين كما هي الحال في الآية الآنفة فرسوله مفعول به أوّل والرؤيا مفعول ثان، وقد يستوفي هذا الفعل مفعولاً واحداً يتعدّى إلى المفعول الثّاني بفي كقولك صدقته في حديثه.
[479]
ملاحظات
وفي الآية الكريمة عدّة ملاحظات تلفت النظر:
1 ـ ينبغي الإلتفات إلى أنّ «اللام» في (لتدخلنّ) هي لام القسم، وأنّ «النون» في آخر الفعل هي للتوكيد، بأنّ هذا هو وعد إلهي قطعي في المستقبل وتنبؤ معجز صريح عن أداء المناسك والعمرة في كامل الأمان ومنتهى الطمأنينة ـ وكما سنبيّن ـ كان هذا التوقّع والتنبّؤ صادقاً في شهر ذي القعدة ذاته من السنة المقبلة، وهكذا أدّى المسلمون مناسك العمرة بهذه الصورة!
2 ـ جملة (إن شاء الله) هنا لعلّها نوع من تعليم العباد لكي يعوّلوا على مشيئة الله عند الإخبار عن المستقبل وأن لا ينسوا إرادة الله، وأن لا يجدوا أنفسهم غير محتاجين أو مستقلّين عنه. وربّما هي إشارة للظروف التي يهيّؤها الله لهذا التوفيق «توفيق الله المسلمين لزيارة بيته في المستقبل القريب» والبقاء على خط «التوحيد والسكينة والتقوى»...
كما يمكن أن تكون إشارة إلى بعض المسلمين الذين تنتهي أعمارهم في هذه الفترة والفاصلة الزمانية ولا يوفّقون إلى زيارة بيت الله، والجمع بين هذه المعاني كلها لا مانع منه أبداً...
3 ـ التعبير بـ (فتحاً قريباً) كما يعتقد كثيرٌ من المفسّرين هو إشارة إلى صلح الحديبيّة الذي عبّر عنه القرآن بالفتح المبين، ونعرف أنّ هذا الفتح كان السبيل إلى دخول المسجد الحرام في السنة التالية.
على حين أنّ جماعة آخرين يعتقدون أنّ (فتحاً قريباً) إشارة إلى «فتح خيبر».
وبالطبع فإنّ كلمة (قريباً) فيها تناسبٌ أكثر مع «فتح خيبر» لأنّه كان ـ «تحقّقه العيني» بعد هذه الرؤيا في فترة أقل زمناً من فتح مكّة بعدها، ثمّ بعد هذا فإنّ القرآن يقول في الآية (18) من هذه السورة ذاتها عند الكلام على بيعة الرضوان: (فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً). وكما قلنا ـ ويعتقد بذلك أكثر المفسّرين أيضاً ـ أنّ المراد من هذا الفتح هو «فتح خيبر» والقرائن الموجودة في الآية تحكي عن هذا الفتح
[480]
أيضاً، ومع الإلتفات إلى أنّ الآية محل البحث تنسجم مع تلك الآية فيبدو أنّ الآيتين بمعنى واحد...(1).
وفي تفسير علي بن إبراهيم رواية تشير إلى هذا المعنى أيضاً(2).
4 ـ جملة «محلّقين رؤوسكم ومقصّرين» إشارة إلى واحد من مناسك العمرة وآدابها وهو «التقصير» وبه يخرج المحرم من إحرامه وقد استدل بعضهم بالآية في التخيير عند الخروج من الإحرام بين التقصير في تقليم الأظافرالحلق، لأنّ الجمع بينهما ليس واجباً قطعاً.
5 ـ جملة «فعلم ما لم تعلموا» إشارة إلى مسائل مهمّة مطوية في صلح الحديبيّة وقد انكشفت بمرور الزمن ـ إذ قويت قواعد الإسلام وانتشر صوته وترامت اصداؤه في كلّ مكان وطُويت نزعة الحرب عند المسلمين واستطاعوا أن يفتحوا «خيبر» بفارغ البال وقرار البلبال، وأرسلوا المبلّغين إلى أطراف الجزيرة العربية وبعث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسائله إلى أعاظم رؤوساء الدول آنئذ، فهذه مسائل كان الفرد المسلم لا يعرفها لكنّ الله كان يعلمها...
6 ـ نواجه في هذه الآية الكريمة موضوع الرؤيا، وهي رؤيا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)الصادقة التي تعدّ (غصناً من غصون) الوحي وهي مشابهة لقصة رؤيا إبراهيم (عليه السلام)وذبح ولده إسماعيل الواردة في سورة الصافات (الآية 102).
«ولمزيد الإيضاح وتفصيل البيان حول الرؤيا وتعبير الأحلام من المناسب مراجعة تفسير سورة يوسف في هذا التّفسير».
7 ـ الآية محل البحث واحدة من المسائل الغيبية التي أخبر عنها القرآن، وهي شاهد على أنّ هذا الكتاب سماويّ وأنّه من معاجز النّبي الكريم حيث يخبرُ قاطعاً عن أداء مناسك العمرة ودخول المسجد الحرام في المستقبل القريب وعن الفتح القريب قبله أيضاً، وكما نعلم أنّ هذين التنبّؤين قد حدثا فعلاً، وقد ذكرنا قصة «فتح خيبر» والآن نتحدّث عن قصة «عمرة القضاء»:
* * *
____________________________________
1 ـ التعبير بـ «من دون ذلك» إمّا بمعنى قبل ذلك، أي قبل أداء العمرة يفتح الله عليكم فتحاً قريباً في السنة المقبلة، أو بمعنى «غير ذلك» أي سينال المؤمنون فتحاً قريباً غير زيارة بيت الله والعمرة أيضاً.
2 ـ نور الثقلين، ج5، ص76.
[481]
عمرة القضاء:
عمرة القضاء هى العمرة التي أدّاها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه بعد صلح الحديبيّة بعام، أي في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة (على وجه الدقّة بعد عام من منع المشركين أن يدخل الرّسول وأصحابه مكّة).
وتسمية «عمرة القضاء» بهذا الأسم لأنّها في الحقيقة تعد قضاءً عن السنة السابقة...
وتوضيح ذلك: أنّه طبقاً لإحدى مواد معاهدة الحديبيّة أصبح من المقرر أن يؤدّي المسلمون العمرة وزيارة بيت الله في العام المقبل على أن لا يمكثوا في مكّة أكثر من ثلاثة أيام، وفي الوقت ذاته يخرج المشركون من مكّة ورؤساء قريش أيضاً،لئلا يقع نزاع محتمل بين الطرفين ولئلا يروا المسلمين يؤدّون المناسك فيثيرهم منظر العبادة «التوحيدية».
وقد ورد في بعض التواريخ أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحرم في السنة المقبلة مع أصحابه والجمال المساقة للهدي وتحرّكوا جميعاً حتى بلغوا أطراف «الظهران» وضواحيه فأرسل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان عنده من أسلحة وخيول تستلفت النظر مع أحد أصحابه واسمه «محمّد بن مسلمة» فلمّا رأى المشركون هذه الخطة فزعوا وخافوا خوفاً شديداً وظنّوا أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد أن يقاتلهم وينقض المعاهدة الممضاة لعشر سنين واخبروا أهل مكّة بذلك.
غير أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين وصل منطقة قريبة من مكّة أمر أن توضع الأسلحة من السهام والرماح وغيرها من الأسلحة في منطقة تدعى «ياجج»، ودخل هو وأصحابه مكّة بالسيوف المغمدة.
فلمّا رأى أهل مكّة من النّبي ما رأوا فرحوا إذ وفى النّبي بوعده [فكأنّ النبي باقدامه هذا أنذر المشركين أن لو نقضوا العهد وأرادوا أن ينازلوا المسلمين فهم على أتم الإستعداد].
فخرج رؤوساء مكّة منها لئلاّ تتأثر عواطفهم وقلوبهم بهذه «المناظر» ولا تثيرهم مناسك العمرة من قبل المسلمين.
[482]
غير أنّ بقية أهل مكّة من الرجال والنساء والأطفال اجتمعوا في السطوح وحول الكعبة وخلال الطريق ليروا كيف يؤدّي المسلمون مناسكهم...
فدخل النّبي مكّة بهذه الأُبّهة الخاصة وكانت معه جمال كثيرة مسوقة للهدي فعامل أهل مكّة بمنتهى اللطف والمحبّة وأمر المسلمين أن يسرعوا أثناء الطواف وأن يزيحوا الإحرام عن اكتافهم قليلاً لتبدو علائم القدرة والقوّة فيهم وأن تترك هذه الحالة في أفكار أهل مكّة وأنفسهم تأثيراً كبيراً ودليلاً حيّاً على قوة المسلمين وحكمتهم!
وعلى كلّ حال فإنّ «عمرة القضاء» كانت عبارة كما كانت في الوقت ذاته عَرضاً «للعضلات المفتولة» وينبغي القول أنّ «فتح مكّة» الذي تحقّق بعد سنة أُخرى كان قد نثر بذره في هذه السنة وهيّأ الأرضية لإستسلام أهل مكّة للفاتحين (المسلمين).
وكان هذا الأمر مدعاةً لقلق رؤساء قريش إلى درجة أنّهم بعثوا رجلاً بعد مضي ثلاثة أيّام إلى النّبي يطلب منه أن يغادر بسرعة هو وأصحابه مكّة طبقاً للمعاهدة...
الطريف هنا أنّ النّبي تزوّج أرملة من نساء قريش وكانت من أقرباء بعض رؤسائهم المعروفين وذلك ليشدّ أواصره بهم ويخفّف من غلوائهم وبغضائهم.
وحين سمع النّبي اقتراحهم بالمغادرة قال: «ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه». قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنّا.
ولو كان تمّ ذلك لكان له أثره في نفوذ أمر النّبي في قلوبهم غير أنّهم لم يقبلوا ذلك منه(3).
* * *
____________________________________
3 ـ مجمع البيان للطبرسي، ج9، ص127 ـ في ظلال القرآن، ج7، ص511، تاريخ الطبري، ج2، ص310 مع شيء من التلخيص..
[483]
الآيتان
هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً( 28 ) مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الاِْنجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْـئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـلِحَـتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً( 29 )
التّفسير
(أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم):
في هاتين الآيتين اللتين بهما تنتهي سورة الفتح إشارة إلى مسألتين مهمّتين من «الفتح المبين» أي «صلح الحديبيّة» احداهما تتعلّق بعالميّة الإسلام والثانية تتعلّق بأوصاف أصحاب النّبي وخصائصهم وما وعدهم الله سبحانه به!
فالأولى منهما تقول: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه وكفى بالله شهيداً).
وهذا وعد صريح وقاطع من الله سبحانه في غلبة الإسلام وظهوره على سائر الأديان.
[484]
أي لا تعجبوا لو أخبركم اللّه عن طريق رؤيا نبيّه محمّد بالإنتصار وأن تدخلوا المسجد الحرام بمنتهى الأمان وتؤدّوا مناسك العمرة دون أن يجرؤ أحد على إيذائكم، كما لا تعجبوا أن يبشّركم الله بالفتح القريب ـ فتح خيبر «فأوّل الغيث قطرة» وسيكون الإسلام باسطاً ظلاله في أرجاء المعمورة ويظهر على جميع الأديان...
ولِمَ لا يكون كذلك ومحتوى دعوة النّبي هداية الله إذ «أرسله بالهدى» ودينه «دين الحق» ويستطيع كلّ ناظر غير منحاز أن يرى حقّانيته في آيات القرآن وأحكام الإسلام الفرديّة والإجتماعية والقضائية والسياسية! وكذلك تعليماته الأخلاقية والإنسانية. وأن يعرف علاقة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله حقّاً من خلال إخباره بالمغيّبات وتنبّؤاته التي تقع في المستقبل بصورة قاطعة.
أجلْ: إنّ منطق الإسلام المتين ومحتواه الغني الغزير يطهّر الأرض من أديان الشرك الملوّثة، وتخضع له الأديان السماوية المحرّفة الأُخرى وأن يشدّ بأسلوبه الشائق(1) القلوب إليه.
ولكن ما المراد بـ «الظهور على الدين كلّه»؟ أهو الظهور المنطقي؟! أم الظهور (والغلبة) العسكريان؟! هناك اختلاف بين المفسّرين..
يعتقد جماعة منهم أنّ هذا الظهور هو الظهور المنطقي والإستدلالي فحسب وهذا الأمر متحقق، لأنّ الإسلام متفوّق من حيث الإستدلال والقدرة المنطقية على جميع الأديان.
_______________________________
1 ـ يجري على ألسنة الناس وبعض الأدباء قولهم هذا أسلوب شيّق، وهذا التعبير خطأ، والصحيح «شائق» أي مثير للشوق أمّا الشيّق فهو المشتاق (المصحّح).
[485]
ولكنّ جماعة آخرين فسّروا هذا الظهور بالغلبة الظاهرية وغلبة القوة، وموارد استعمال كلمة «يظهر» ومشتقاتها أيضاً دليل على الغلبة الخارجية... ولهذا يمكن القول أنّه بالإضافة إلى نفوذ الإسلام في مناطق كثيرة واسعة من الشرق والغرب وهي تحت لوائه اليوم وتدين به أكثر من أربعين دولة إسلامية بنفوس يقدّر إحصاؤها بأكثر من مليارد نسمة فإنّه سيأتي زمان على الناس يستوعب الإسلام جميع أرجاء المعمورة «رسميّاً» وسيكتمل هذا الأمر بظهور المهدي أرواحنا فداء إن شاء الله.
وكما نقل عن بعض أحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله الله كلمة الإسلام»(1).
وسبق أن بحثنا في هذا المجال في نفس هذا التّفسير ذيل الآية (33) من سورة التوبة المشابهة لهذه الآية محل البحث.
وهنا ملاحظة تلتفت النظر إليها وهي أنّ البعض ذهب إلى أنّ التعبير بالهدى إشارة الى استحكام العقائد الإسلامية، في حين أنّ التعبير بـ «دين الحق» ناظرٌ إلى حقّانية فروع الدين، إلاّ أنّه لا دليل لدينا على هذا التقسيم، والظاهر أنّ الهداية والحقّانية هما في الأصول والفروع معاً...
وفي عود الضمير في «ليظهره» هل يعود على الإسلام أم على النبي؟ للمفسّرين احتمالان، إلاّ أنّ القرائن تدل بوضوح على أنّ المقصود هو دين الحق، لأنّه قريب من الضمير، هذا من حيث النظم والسبك اللغوي، كما أنّ المناسب ظهور الدين على الدين الآخر لا ظهور الشخص على الدين ـ أيضاً ـ.
وآخر ما نريد بيانه في شأن هذه الآية أنّ جملة (كفى بالله شهيداً) إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ هذا التوقع أو التنبّؤ لا يحتاج إلى أي شاهد، لأنّ شاهده الله، ورسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً لا تحتاج إلى شاهد آخر، لأنّ الشاهد هو الله أيضاً، وإذا لم يوافق سهيل بن عمرو وأمثاله على كتابة عنوان (رسول الله) بعد اسم النّبي محمّد فليس ذلك مدعاة للتأثر أبداً.
_______________________________
1 ـ تفسير مجمع البيان، الجزء 5، ص25، القرطبي نقل هذه الرواية عن النّبي أيضاً ذيل الآية 55 من سورة النور، ج7، ص4692.
[486]
وفي آخر آية وصفٌ بليغٌ لأصحاب النّبي الخاصّين والذين كانوا على منهاجه على لسان التوراة والإنجيل وهو مدعاة افتخار لهم إذ أبدوا شهامتهم ورُجولتهم في الحديبيّة والمراحل الأُخر كما أنّه درس اختبار لجميع المسلمين على مدى القرون والأعصار!...
فتقول الآية في البداية: (محمّد رسول الله).
سواء رضي به خفافيش الليل كسهيل بن عمرو أم لم يرضَ به؟! واخفوا أنفسهم عن هذه الشمس التي أشرقت على العالم أجمع أم لم يُخفوا؟! فالله يشهد على رسالته ويشهد بذلك العارفون.
ثمّ تصف الآية أصحابه وخلالهم (وسجاياهم) الباطنية والظاهرية ضمن خمس صفات إذ تقول في وصفهم: (والذين معه أشدّاء على الكفّار).
وصفتهم الثانية أنّهم: (رحماء بينهم).
أجل: هم منطلق للمحبّة والرحمة فيما بينهم كما أنّهم نار ملتهبة وسد محكم بوجه أعدائهم الكفّار...
وفي الحقيقة أنّ عواطفهم وأفكارهم تتلخّص في هاتين الخصلتين: «الرحمة» و«الشدّة»... لكن لا تضادّ في الجمع بينهما أوّلاً، ولا رحمتهم فيما بينهم وشدّتهم على الكفّار تقتضي أن تحيد أقدامهم عن جادّة الحق ثانياً...
ثمّ تضيف الآية مبيّنة وصفهم الثّالث فتقول: (تراهم ركّعاً سجّداً).
هذا التعبير يجسد العبادة بركنيها الأساسيين: «الركوع والسجود» على أنّها حالة دائمية لهم، العبادة التي هي رمز للتسليم أمام أمر الله الحق، ونفي الكبر والغرور والأنانية عن وجودهم.
أمّا الوصف الرابع الذي تذكره الآية عن هؤلاء الأصحاب فهو بيان نيّتهم الخالصة الطاهرة فتقول: (يبتغون فضلاً من الله ورضواناً) فهم لا يعملون رياءً ولا يبتغون من الخلق الثواب، بل هدفهم رضا الله وفضله فحسب، والباعث على تحرّكهم في حياتهم جميعاً هو هذا الهدف ليس إلاّ!...
حتى التعبير بـ«فضلاً» يدل على أنّهم معترفون بتقصيرهم ويرون أعمالهم أقل من أن يطلبوا الثواب من الله، بل إنّهم مع كلّ عبادتهم وأعمالهم الصالحة ما يزالون قائلين: لولا فضلك يا ربّنا فالويل لنا..
أمّا الوصف الخامس فهو عن سيماهم المشرق إذ تقول الآية: (سيماهم في وجوههم من أثر السجود)(1).
____________________________________
1 ـ سيماهم: مبتدأ و«في وجوههم» خبره و«من أثر السجود» قد يكون حالاً عن السيماء والأفضل أن تعد (من) نشوية أي: «سيماهم في وجوههم وهذه السيماء والعلامة من أثر سجودهم».
[487]
«سيما» في الأصل معناها العلامة والهيأة، سواءً أكانت هذه العلامة في الوجه أم في مكان آخر وإن كانت في الإستعمال العرفي تشير إلى علامة الوجه! والأثر الظاهريّ له...
وبعبارة أُخرى أنّ قيافتهم تدلّ بصورة جيدة أنّهم أناس خاضعون أمام الله والحق والقانون والعدالة، وليست العلامة في وجوههم فحسب، بل في جميع وجودهم وحياتهم تبدو هذه العلامة...
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى بأنّ «السيماء» هي الأثر الظاهر في الجبهة من السجود أو أثر التراب عليها من مكان السجدة... غير أنّ هذه الآية كما يظهر لها مفهوم أوسع ترتسم ملامحه على وجوه هؤلاء الرجال الربّانيين...
وقال بعضهم: هذه الآية إشارة إلى إشراق وجوههم يوم القيامة كالبدر من كثرة سجودهم....
وبالطبع يمكن أن تكون جباههم ووجوههم على هذه الهيّأة يوم القيامة إلاّ أنّ الآية تتحدّث عن وضعهم الظاهري في الدنيا...
وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق في تفسير هذه الجملة أنّه قال: «هو السهر في الصلاة!»(1).
ولا مانع من الجمع بين هذه المعاني كلّها!...
وعلى كلّ حال فإنّ القرآن يضيف بعد بيان هذه الأوصاف: (ذلك مثلهم في التوراة)!
فهذه حقيقة مقولة قبلاً وأوصافٌ وردت في كتاب سماوي نزل منذ أكثر من ألفي عام...
ولكن لا ينبغي أن ننسى أنّ التعبير بـ(والذين معه) يحكي عن معيّة النّبي في كلّ شيء، في الفكر والعقيدة والأخلاق والعمل لا عن أولئك الذين كانوا في عصره ـ وإن اختلفوا وإيّاه في المنهج.
ثمّ يتحدّث القرآن عن وصفهم في كتاب سماوي كبير آخر وهو الإنجيل فيقول: (ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع)(2).
«الشطأ»: معناه الفسيل أو البرعم الذي يخرج إلى جانب الساق الأصلي للزرع... و«آزره» مشتقٌّ من المؤازرة أي المعاونة.
و«استغلظ» مشتقٌّ من مادة الغلظة، أي أنّه متين...
____________________________________
1 ـ «من لا يحضره الفقيه» و«روضة الواعظين»، طبقاً لما ورد في تفسير نور الثقلين، ج5، ص78.
2 ـ هناك كلام بين المفسّرين في جملة «ومثلهم في الإنجيل» أهي جملة مستقلة ووصف آخر عن أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)غير ما وُصفوا في التوراة، أم هي معطوفة على جملة ذلك مثلهم في التوراة؟ فيكون الوصفان مذكورين في كتابين سماويين! الظاهر أنّ الآية ذكرت الوصفين كلاًّ على حدة في كتاب سماوي ولذلك كرّرت كلمة «مثلهم» ولو كان هذا الوصف معطوفاً على السابق لاقتضت الفصاحة أن يكون التعبير: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل.
[488]
وجملة «استوى على سوقه» مفهومها أنّ هذا الزرع بلغ قدراً من المتانة بحيث ثبت على سيقانه: و«سوق» جمع ساق ـ والتعبير بـ«يعجب الزرّاع» يعني أنّ هذا الزرع يكون سريع النمو كثير البراعم وافر النتاج إلى درجة يُسرّ به الزراع ويعجبون منه، والطريف أنّ وصفهم الثّاني في الإنجيل جاء على خمسة أمور أيضاً هي:
1 ـ أخراج الشطأ. 2 ـ والمؤازرة للنموّ. 3 ـ والإستغلاظ. 4 ـ والإستواء. 5 ـ والنمو المعجب.
وفي الحقيقة إنّ أوصافهم المذكورة في «التوراة» تتحدّث عن أبعاد وجودهم من جهة العواطف والأهداف والأعمال وصورتهم الظاهرية...
وأمّا الأوصاف الواردة في «الإنجيل» فهي تتحدّث عن حركتهم ونموّهم وتكاملهم في جوانب مختلفة (فلاحظوا بدقة).
أجل هم أناس متّصفون بصفات عليا لا يفترون عن الحركة لحظة واحدة... وتتنامى براعمهم دائماً ويثمرون ويتآزرون كلّ حين... وينشرون الإسلام بأقوالهم وأعمالهم في العالم ويوماً بعد يوم يزداد عددهم في المجتمع الإسلامي!...
أجل، إنّهم لا يتكاسلون في حركتهم المتّجهة إلى الإمام دائماً، وهم في حال عبادتهم مجاهدون، وفي حال جهادهم عابدون ظاهرهم سوي، وباطنهم سليم، وعواطفهم صادقة، ونيّاتهم خالصة، وهم مظهر غضب الله بوجه أعداء الحق، ومظهر الرحمة بوجه إخوانهم.
[489]
ثمّ تضيف الآية معقّبةَ: أنّ هذه الأوصاف العليا وهذا النمو والتكامل السريع وهذه الحركة المباركة بقدر ما تعجب المحبّين وتسرّهم فهي في الوقت ذاته: (ليغيظ بهم الكفّار)(1).
ويضيف القرآن مختتماً هذه الآية المباركة: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً).
بديهي أنّ أوصاف أصحاب النّبي التي وردت في بداية الآية محل البحث جمعت فيها الإيمان والعمل الصالح، فتكرار هذين الوصفين إشارة إلى استمرارهما وديمومتهما: أي أنّ الله وعد أولئك الذين بقوا على نهجهم من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) واستمروا بالإيمان والعمل الصالح، وإلاّ فإنّ من كان يوماً مع النّبي ويوماً آخر مع سواه وعلى خلاف طريقته فلا يُشملون بهذا الوعد أبداً.
والتعبير بـ «منهم» مع الإلتفات إلى هذه المسألة، وهي أنّ الأصل في كلمة «من» في مثل هذه الموارد التبعيض، وظاهر الآية يُعطي هذا المعنى أيضاً، وهذا التعبير يدلُّ على أنّ أصحاب النّبي ينقسمون قسمين ـ فطائفة منهم ـ يواصلون إيمانهم وعملهم الصالح وتشملهم رحمة الله الواسعة وأجره العظيم، وطائفة يحيدون عن نهجه فيحرمون من هذا الفيض العظيم!...
وليس معلوماً السبب في إصرار بعض المفسّرين على أنّ «من» في كلمة «منهم» بيانيّة حتماً، في حين لو ارتكبنا خلاف الظاهر وقلنا إنّ من هنا بيانية فكيف يمكن أن ندع القرائن العقلية هنا، فلا أحد يدّعي أبداً أنّ جميع أصحاب النّبي معصومون وفي هذه الصورة يزول احتمال أنّ كلّ واحد منهم بقي على عمله الصالح وإيمانه، ومع هذه الحال فكيف يعدهم الله بالمغفرة والأجر العظيم دون قيد وشرط سواءً عملوا الصالحات في طول مسيرتهم، أو أن يعملوا الصالحات في وقت، ثمّ ينحرفوا من منتصف الطريق!...
وهذه اللطيفة تستدعي الإلتفات وهي أنّ جملة: (والذين معه) لا تعني المرافقة الجسدية مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمصاحبة الجسمانية لأنّ المنافقين كانوا على هذه الشاكلة أيضاً... بل المراد من «معه» هو المعيّة من جهة أصول الإيمان والتقوى قطعاً... فبناءً على هذا لا يمكننا أن نستنتج حكماً كليّاً من الآية الآنفة في شأن جميع المعاصرين والمجالسين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)...
* * *
____________________________________
1 ـ يرى كثير من المفسّرين أنّ اللام في جملة «ليغيظ بهم الكفّار» هي لام التعليل، فيكون مفهوم الجملة: إنّ هذه القوّة والقدرة جعلها الله نصيب أصحاب محمّد ليغيظ بهم الكفّار..
[490]
بحثان
1 ـ قصة تنزيه الصحابة!
المعروف بين علماء أهل السنّة أنّ صحابة رسول الله جميعاً أولو امتياز خاص دون سائر الناس من أُمّة محمّد فهم مطهّرون أزكياء معصومون من الزلل وليس لنا الحق في انتقاص أي منهم أو انتقاده ويحرم الإساءة إليهم بالكلام وغيره، حتى أنّ بعضهم قال بكفر من يفعل ذلك واستدلّوا على ذلك بآيات من الذكر الحكيم منها هذه الآية: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرةً وأجراً عظيماً)...
وبالآية (100) من سورة التوبة إذ تعبّر عن المهاجرين والأنصار بعد ذكرهم في آيات سابقة بقولها: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)...
ولكنّنا إذا ابتعدنا عن الأحكام المسبقة الإعتباطية، فسنجد أمامنا قرائن تتزلزل عندها هذه العقيدة!
الأولى: إنّ جملة: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) الواردة في سورة التوبة لا تخصّ المهاجرين والأنصار فحسب، لأنّ في الآية تعبيراً آخر وهو: (والذين اتبعوهم بإحسان) يشمل كلّ من يتّبعهم بالإحسان والصلاح إلى يوم القيامة...
فكما أنّ «التابعين» إذا كانوا في خط الإيمان يوماً وفي خط الكفر والإساءة يوماً آخر يخرجون من خيمة رضا الله، فإنّ الموضوع ذاته وارد في الصحابة لأنّهم في آخر سورة الفتح مقيّدون بالإيمان والعمل الصالح أيضاً بحيث لو خرجوا عن هذا القيد ولو يوماً واحداً لخرجوا عن رضوان الله سبحانه...
وبتعبير آخر: إنّ كلمة «بإحسان» هي في شأن التابعين والمتبوعين جميعاً، فأي منهما خرج عن خطّ الإحسان فلن يشمله رضا الله ولطفه...
الثانية: أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّ أصحاب النّبي وإن امتازوا بشرف صحبته، إلاّ أنّ من يأتي بعدهم في الفترات المقبلة وهم ذوو عمل صالح وإيمان راسخ أفضل منهم من جهة واحدة وهي أنّ أصحاب النّبي شهدوا معاجزه بجميع أنواعها غير أنّ الآخرين اتبعوا منهاجه دون مشاهدتها وساروا على هداه بالإفادة من الدلائل الأُخر...
[491]
ونقرأ في بعض أحاديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سأله أصحابه: «نحن إخوانُك يا رسول الله؟! قال: لا أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون بعدي. آمنوا بي ولم يروني، وقال: للعامل منهم أجر خمسين
منكم، قالوا: بل منهم يا رسول الله؟! قال: بل منكم ردّدها ثلاثاً، ثمّ قال: لأنّكم تجدون على الخير أعواناً»(1).
كما نقل في صحيح مسلم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ودِدْتُ أنّا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَ لسنا إخوانك يا رسول الله؟! فقال: أنتم أصحابي وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعد»(2).
ويؤيّد العقل والمنطق هذه المقولة أيضاً حيث إنّ من لم يدركوا رسول الله ولم يتعلّموا بين يديه وهم في الوقت ذاته مثل أصحابه من حيث الإيمان والعمل الصالح فهم أفضل من الصحابة...
الثالثة: إنّ هذا الكلام من وجهة النظر التاريخية مقدوح فيه كثيراً لأنّ بعض الصحابة بعد زمان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل حتى في عصره حاد عن جادّة الصواب...
فكيف يمكن أن نُبرّئ الذين أشعلوا نار فتنة «الجمل» وقتلوا ما قتلوا وحملوا على خليفة رسول الله حقّاً بالسيف ولا نعدّهم آثمين خاطئين...
____________________________________
1 ـ تفسير روح المعاني، ج9، ص61.
2 ـ صحيح مسلم، ج1، الحديث 39.
[492]
أو أن نقول إنّ الذين اجتمعوا في النهروان وصفّين وثاروا على وصي رسول الله وخليفته المنتخب من قبل المسلمين وسفكوا الدماء الغزيرة مشمولون برضوان الله ولا غبار عليهم من الذنب والإثم؟!
وأعجب من ذلك كله أن يُعتذر ـ عن أولئك الذين أخطأواً كلّ هذه الأخطاء وفعلوا ما فعلوا ـ بأنّهم مجتهدون، والمجتهد معذور! هكذا وجّهوا الأمر!!
وإذا أمكن أن توجّه أمثال هذه الذنوب الكبيرة على أنّها اجتهاد فلا مجال لملامة أي قاتل، ولا داعي لإقامة حدود الله في شأنه!! فلعلّه اجتهد فأخطأ!!...
وبتعبير آخر: أنّه قد تقابلت في معركة الجمل وصفّين والنهروان طائفتان متحاربتان ومن المسلّم به قطعاً أنّهما لم تكونا جميعاً على الحق، لأنّ الجمع بين الضدّين محال، فمع هذا التقدير كيف يمكن القول بأنّ الطائفتين كلتيهما مشمولتان برضا الله، والمسألة لم تكن من المسائل العويصة الملتوية ولم يكن التمييز بين الحق والباطل صعباً ولا مشكلاً... فالجميع كانوا يعرفون أنّ علياً (عليه السلام) أمّا طبقاً لنص النّبي عليه أو بانتخاب المسلمين هو الخليفة الحق ومع هذا فقد واجهوه بالسيف، فكيف يُوجه هذا العمل عن طريق الإجتهاد؟
ولمَ لا يوجّهون قيام «أصحاب الردّة» في زمان أبي بكر عن طريق الإجتهاد وعدوّهم مرتدّين رسماً... غير أنّهم برّأوا أصحاب الجمل وصفّين والنهروان من أي ذنب وإثم!!؟
وعلى كلّ حال... يبدو أنّ مسألة «تنزيه الصحابة» بصورة مطلقة كانت حكماً سياسياً لتحفّظ جماعة بعد النّبي موقعها وتعوّل على هذا الحكم، وتصون نفسها من الإنتقاد...
وهذا الموضوع لا ينسجم مع حكم العقل ولا مع التواريخ الإسلامية المسلّم بها...
وما أحسن أن نحتكم في شأن أصحاب النّبي في الوقت الذي نجلّهم ونحترمهم ذاته ـ إلى معيار يقضي عليهم بالحق من خلال أعمالهم وعقائدهم عبر حياتهم من البداية حتى النهاية، ذلك المعيار الذي أفدناه من القرآن الكريم وذلك المعيار الذي وزن النّبي به صحابته...
[493]
2 ـ المحبّة الإسلامية المتبادلة
في الروايات الإسلامية الواردة في تفسير الآية الأخيرة من سورة الفتح تأكيد لا مزيد عليه على قوله تعالى: (رحماء بينهم) ومن بين هذه الروايات ما نقرأه عن الإمام الصادق (عليه السلام): «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يخونه ويحقّ على المسلم الإجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض، حتى تكونوا كما أمركم الله عزَّ وجلَّ رحماء بينكم متراحمين، مغتّمين
[494]
لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول الله»(1).
إلاّ أنّ العجيب أنّ المسلمين في هذا العصر لا يقتدون بتعاليم هذه الآية المؤثرة وما تنقله من خصائص أصحاب رسول الله والمؤمنين الصادقين، وربّما تحامل بعضهم على بعض وأثار الحفيظة وسفك الدماء وهو ما لم يفعله أعداء الإسلام أحياناً...
وربّما ارتبطوا بالكفّار وأنشأوا علائق المحبّة حتى تظن أنّهم إخوان من أصل واحد ونسب واحد.
فلا خبر عن الركوع والسجود ولا النيّات الخالصة ولا ابتغاء فضل الله ولا آثار السجود في سيماهم ولا الزرع الذي أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه!!
والعجيب أيضاً... أنّه كلّما ابتعدنا عن الأصول القرآنية هذه منينا بالذل والنكبة أكثر فأكثر ومع ذلك لا نلتفت من أين نؤكل؟! وما تزال حميّة الجاهلية تصدّنا عن التفكير وإعادة النظر والعودة نحو القرآن...
____________________________________
1 ـ أصول الكافي ـ طبقاً لتفسير نور الثقلين، ج5، ص77، الحديث 91.
[495]
اللّهمَّ نبّهنا من نومة الغافلين!...
اللّهمَّ وفّقنا أن نحيى فيها خلال أصحاب رسول الله وصفاتهم التي ذكرتها هذه الآيات البيّنات...
اللّهمَّ ارزقنا الشدّة على أعدائنا والرحمة فيما بيننا والتسليم لأمرك، والإهتمام الى ما توليه إيّانا من العنايات الخاصّة والجد والسعي إلى النهوض بالمجتمع الإسلامي إلى الخير والإزدهار.
اللّهمَّ ارزقنا فتحاً مبيناً يتحرّك في ظلّه المجتمع الإسلامي وأن نوفّق إلى نشر تعاليم هذا الدين القويم الذي يهب الحياة للناس في هذا العصر الذي هو أحوج الى المعنويات من أي وقت آخر، وأن نفتح كلّ يوم قلوباً جديدة إلى نور الإسلام...
آمين يا ربّ العالمين
انتهت سورة الفتح