00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة فاطر من أول السورة ـ آية 23 من ( اول ج 14 ـ 67 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الرابع عَشَر

[ 5 ]

 

سُورَة فاطر

مكّية

وعَدَدُ آيَاتِها خَمس وأربعُون آية

 [ 7 ]

سورة فاطر

محتوى السورة:

سمّيت هذه السورة بـ«فاطر» أو «الملائكة» لإبتداء آياتها بآية ذكر فيها «فاطر» و «الملائكة». وهي من السور المكيّة، مع أنّ البعض يستثني منها الآيات (29 و32) ويعتبرها مدنية، إلاّ أنّنا لم نجد دليلا على صحّة هذا الإستثناء.

ولكونها مكيّة النّزول، فانّ محتواها العام يعكس الملامح العامّة للسور المكية، كالحديث في المبدأ والمعاد والتوحيد، ودعوة الأنبياء، وذكر نعم الله عزّوجلّ ومصير المجرمين يوم الجزاء.

ويمكن تلخيص آيات هذه السورة في خمسة أقسام:

1 ـ قسم مهم من آيات هذه السورة يتحدّث حول آثار عظمة الله في عالم الوجود، وأدلّة التوحيد.

2 ـ قسم آخر من آياتها يبحث في ربوبية الله وتدبيره لجميع اُمور العالم، بالأخصّ اُمور الإنسان، وعن خالقيته ورزاقيته، وخلق الإنسان من التراب ومراحل تكامل الإنسان.

3 ـ قسم آخر يتحدّث حول المعاد ونتائج الأعمال في الآخرة، ورحمة الله الواسعة في الدنيا، وسنّته الثابتة في المستكبرين.

4 ـ قسم من الآيات يشير إلى مسألة قيادة الأنبياء وجهادهم الشديد والمتواصل ضدّ الأعداء المعاندين. ومواساة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الخصوص.

5 ـ القسم الأخير منها يتعرّض للمواعظ والنصائح الإلهية فيما يخصّ المواضيع المذكورة أعلاه، ويعتبر مكمّلا لها.

[ 8 ]

بعض المفسّرين لخّص جميع هذه السورة في موضوع واحد وهو: هيمنة وقهّارية الله في جميع الاُمور(1).

هذا الإعتبار وإن كان منسجماً مع القسم الأعظم من آيات السورة، إلاّ أنّه لا يمكن إنكار وجود موضوعات مختلفة اُخرى فيها.

 

فضيلة هذه السورة:

ورد في الحديث الشريف عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) «من قرأ سورة الملائكة، دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة أن ادخل من أي الأبواب شئت»(2).

ومع الإلتفات إلى ما نعلمه من أنّ أبواب الجنّة هي تلك العقائد والأعمال الصالحة التي سبّبت الوصول إلى الجنّة، كما ورد في بعض الروايات من أنّ هناك باباً باسم «باب المجاهدين» أو أمثاله، فيمكن أن تكون الرواية السالف ذكرها إشارة إلى أبواب القاعدة الإعتقادية الثلاثية الأساس «التوحيد ـ المعاد ـ النبوّة».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ «الحمدين: حمد سبأ، وحمد فاطر، من قرأهما في ليلة لم يزل في ليلته في حفظ الله وكلاءته، فمن قرأهما في نهاره لم يصبه في نهاره مكروه، واُعطي من خير الدنيا وخير الآخرة ما لم يخطر على قلبه ولم يبلغ مناه»(3).

ونقول كما قلنا سابقاً بأنّ القرآن برنامج عمل، وتلاوته بداية للتفكّر والإيمان الذي هو بدوره وسيلة للعمل بمحتوى الآيات، وكلّ هذا الثواب العظيم يتحقّق بهذه الشروط «فتأمّل!!».

 

* * *

________________________________

1 ـ تفسير في ظلال القرآن، بداية سورة فاطر.2 ـ مجمع البيان، المجلّد 4، صفحة 399.3 ـ نور الثقلين، المجلّد 4، صفحة 345، حديث 1.

[ 9 ]

الآيات

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ جَاعِلِ الْمَلَئِكَةِ رُسُلا أُوْلِى أَجْنِحَة مَّثْنَى وَثُلَـثَ وَرُبَـعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (1) مَّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَة  فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَـأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـلِق غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

التّفسير

فاتح مغاليق الأبواب!

تبدأ هذه السورة ـ كما هو الحال في سورة الفاتحة وسبأ والكهف ـ بحمد الله والثناء عليه لخلقه هذا الكون الفسيح، يقول تعالى: (الحمد لله فاطر السموات والأرض).

«فاطر» من مادّة «فطر» وأصله الشقّ طولا، لأنّ خلق الموجودات يشبه شقّ

[ 10 ]

ظلمة العدم وظهور نور الوجود، إستخدم هذا التعبير فيما يخصّ الخلق، خصوصاً إذا لاحظنا ما يقوله العلم الحديث من نظريات تشير إلى أنّ مجموعة عالم الوجود كانت في البدء كومة واحدة ثمّ انشقّت تدريجيّاً عن بعضها.

وإطلاق كلمة «فاطر» على الله سبحانه وتعالى، يعطي للكلمة مفهوماً جديداً وأكثر وضوحاً. نعم فنحن نحمد الله ونشكره على خالقيته، لأنّ كلّ ما هو موجود منه تعالى، وليس لأحد ممّن سواه شيء من ذاته(1).

ولأنّ تدبير اُمور هذا العالم قد نيطت من قبل الباري عزّوجلّ ـ بحكم كون عالمنا عالم أسباب ـ بعهدة الملائكة، فالآية تنتقل مباشرةً إلى الحديث في خلق الملائكة وقدراتها العظيمة التي وهبها الله إيّاها!

(جاعل الملائكة رسلا اُولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إنّ الله على كلّ شيء قدير).

هنا تطرح ثلاثة أسئلة:

الأوّل: ما هي رسالة الملائكة التي ورد ذكرها في الآية؟ هل هي رسالة تشريعية وجلب الأوامر من الباري إلى الأنبياء، أم انّها رسالة تكوينية، أي تحمّل مسؤولية المأموريات المختلفة في عالم الخلق، كما سترد الإشارة إليه لاحقاً، أم يُقصد منه الإحتمالان؟

يتّضح من ملاحظة ما ورد في الجملة الاُولى، من الحديث حول خلق السموات والأرض، وما ورد في الجملة الأخيرة من الحديث حول الأجنحة المتعدّدة للملائكة، والتي تدلّ على قدرتهم، وكذلك بملاحظة إطلاق مفهوم «الرسالة» بالنسبة إلى جميع الملائكة (يلاحظ أنّ الملائكة لفظة جمع لإقترانها بالألف واللام وتدلّ على العموم) يتّضح من ذلك كلّه أنّ المقصود من الرسالة

________________________________

1 ـ فيما يخصّ معنى «فاطر» و «فطر» تحدّثنا في ذيل الآية العاشرة من سورة إبراهيم، وكذلك في تفسير الآية (14) من سورة الأنعام.

[ 11 ]

مفهوم واسع يشمل كلا من «الرسالة التشريعيّة» و «الرسالة التكوينية».

إنّ إطلاق لفظة الرسالة على «الرسالة التشريعية» وإبلاغ الوحي إلى الأنبياء ورد في القرآن بكثرة، وإطلاق هذه اللفظة أيضاً على «الرسالة التكوينية» ليس بالقليل كذلك.

في الآية (21) من سورة يونس نقرأ (إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون).

وفي الآية (61) من سورة الأنعام نقرأ (حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).

وفي الآية (31) من سورة العنكبوت ورد (ولمّا جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنّا مهلكوا أهل هذه القرية إنّ أهلها كانوا ظالمين).

وفي آيات اُخرى من القرآن نرى أنّه قد عهد إلى الملائكة أيضاً بمأموريات مختلفة عدّت من رسالاتهم أيضاً، وعليه فإنّ للرسالة مفهوماً واسعاً.

الثاني: ما هو المقصود بالأجنحة التي عبّر عنها بـ (مثنى وثلاث ورباع).

ليس من المستبعد أن يكون المقصود بالأجنحة هنا هو القدرة على الإنتقال والتمكّن من الفعل، بحيث يكون بعضهم أفضل من بعض وله قدرة أكبر.

وعليه فقد ذكرت لهم سلسلة من المراتب بالأجنحة، فبعضهم له أربعة أجنحة (مثنى = إثنان إثنان)، والبعض له ستّة أجنحة، والبعض ثمانية، وهكذا.

«أجنحة» جمع (جناح) ما يستعين به الطائر على الطيران، وهو بمثابة اليد في الإنسان، ولأنّ الجناح في الطائر يستخدم كوسيلة مساعدة على الإنتقال والحركة والفعّالية، فقد إستخدمت هذه الكلمة كناية عن وسيلة الحركة ذاتها وعامل القدرة والإستطاعة، فمثلا يقال: إنّ فلاناً إحترقت أجنحته، كناية عن فقدانه قدرة الحركة أو الإمكانية، أو أنّ الإنسان يجب أن يطير بجناحي العلم والعمل، والكثير من هذه التعبيرات التي تشير إلى المعنى المستعار لهذه الكلمة.

كما يلاحظ أنّ المقصود من تعبيرات مثل «العرش» و «الكرسي» و «اللوح» و

[ 12 ]

«القلم» هي المفاهيم المعنوية لها، وليس واقعها المادّي.

من الطبيعي أنّه لا يمكن حمل ألفاظ القرآن على غير معانيها الظاهرية بدون قرينة، ولكن حيثما ظهر أثر لتلك القرائن فليس هناك مشكلة.

ورد في بعض الروايات أنّ «جبرئيل» رسول الوحي الإلهي، له ستمائة جناح، وكان يملأ ما بين الأرض والسماء حينما يلتقي به الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

أو ما ورد في «نهج البلاغة» حينما تحدّث أمير المؤمنين عن عظمة الملائكة. فقال: «ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم»(2).

أو أنّ هناك ملائكة ما بين شحمة آذانهم وعيونهم مسيرة خمسمائة عام من الطيران(3).

ومن الواضح انّ هذه التعبيرات لا يمكن حملها على البعد الجسماني والمادّي، بل المراد بيان العظمة المعنوية وأبعاد القدرة.

ونعلم أنّ الجناح ـ عادةً ـ يُستفاد منه في جو الأرض، لأنّ الأخيرة محاطة بغلاف غازي من الهواء الضاغط، والطيور إنّما تستفيد من أمواج الهواء للطيران، والإرتفاع والإنخفاض، ولكن بمجرد خروجنا من المحيط الغازي للأرض حيث ينعدم الهواء فانّ الجناح ليس له أدنى تأثير في تحقيق الحركة، ويكون حاله حال سائر الأعضاء.

ناهيك عن أنّ المَلَك الذي تكون أقدامه في أعماق الأرض ورأسه أعلى من أعلى السموات، ليس له حاجة إلى الطيران الجسماني!!

البحث في هل أنّ «الملائكة» أجسام لطيفة أو من المجردات بحث آخر،

________________________________

1 ـ نور الثقلين، ج4، ص349 ـ ح20.2 ـ نهج البلاغة، خطبة رقم 1.3 ـ تفسير علي بن إبراهيم طبقاً لما نقله نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 349.

[ 13 ]

سنشير له في البحوث ان شاء الله. المقصود الآن هو أن نعلم أنّ الجناح والريش بالنسبة لها وسيلة الفعّالية والحركة والقدرة، والذي عبّرت عنه القرائن المشار إليها أعلاه بقدر كاف، بالضبط كما قلناه بالنسبة لـ «العرش» و «الكرسي»، فانّ هاتين الكلمتين تشيران إلى قدرة الله في العالم من أبعاد مختلفة!!

وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) «الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، وإنّما يعيشون بنسيم العرش»(1).

السؤال الثالث: هل أنّ عبارة (يزيد في الخلق ما يشاء) إشارة إلى زيادة أجنحة الملائكة؟ كما قال به بعض المفسّرين؟ أم أنّ لها معنى أوسع من ذلك بحيث يشمل عدا الزيادة في أجنحة الملائكة الزيادات التي تحصل في خلق الموجودات الاُخرى؟

إطلاق الجملة من جهة، ودلالة بعض الروايات التي جاءت في تفسير هذه الآيات من جهة اُخرى، يشير إلى أنّ المعنى الثاني هو الأنسب.

فمن جملة ما ورد، حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الجملة أنّه قال: «هو الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن».

ونقر في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «حسّنوا القرآن بأصواتكم فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً» وقرأ (يزيد في الخلق ما يشاء).

بعد الحديث عن خالقية الله سبحانه وتعالى، ورسالة الملائكة الذين هم واسطة الفيض الإلهي، تنتقل الآيات إلى الحديث عن رحمة الله سبحانه، والتي هي الأساس لكلّ عالم الوجود، تقول الآية الكريمة: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم).

الخلاصة أنّ تمام خزائن الرحمة عنده، وهو يشمل بها كلّ من يراه أهلا لها، ويفتح أبوابها حيثما إقتضت حكمته، ولن يستطيع الناس بأجمعهم أن يغلقوا ما

________________________________

1 ـ في معنى «العرش» راجع شرحنا لهذه الكلمة في تفسير الآية (54) من سورة الأعراف.

[ 14 ]

فتح ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، أو أن يفتحوا باباً أغلقه سبحانه وتعالى، وهذا المفهوم في الحقيقة فرع مهم من بحث التوحيد حيث يتفرّع عنه فروع اُخرى «تأمّل».

وقد ورد شبيه هذا المعنى في الآيات القرآنية الاُخرى، ففي الآية 107 ـ سورة يونس يقول تعالى: (وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم).

* * *

 

ملاحظات

1 ـ التعبير بـ «يفتح» ـ من مادّة «فتح» ـ إشارة إلى وجود خزائن الرحمة الإلهية التي ورد ذكرها أيضاً في آيات اُخرى من القرآن الكريم، والملفت للنظر أنّ هذه الخزائن بمجرّد فتحها تجري الرحمة على الخلائق بلا أدنى حاجة إلى شيء آخر، وبدون أن يستطيع أحد منعها من ذلك.

وتقدّم مفهوم «فتح الرحمة» على «إمساكها»، لأنّ رحمة الله تسبق غضبه دوماً.

2 ـ تعبير «الرحمة» له معنى واسع وشامل، لكلّ المواهب الإلهيّة في الكون، معنويةً وماديةً، ولهذا السبب يحسّ المؤمن عندما توصد أمامه جميع الأبواب بأنّ الرحمة تنساب في قلبه وروحه، فيكون مسروراً وقانعاً هادئاً ومطمئناً، حتّى وإن كان مأسوراً في السجن.

وتارةً ينعكس الحال، وذلك حينما تكون جميع الأبواب الظاهرية مفتوحة أمام الإنسان، ومع ذلك يحسّ في أعماقه بالضيق والضغط ويرى الدنيا على سعتها سجناً مظلماً موحشاً، لمجرد عدم إنفتاح باب الرحمة الإلهية في أعماقه. وهذا أمر محسوس وملموس للجميع.

3 ـ إستعمال صفتي «العزيز» و «الحكيم» لتوضيح قدرة الله سبحانه وتعالى

[ 15 ]

على «إرسال» و «إمساك» الرحمة، وفي عين الحال إشارة إلى أنّ الفتح والإغلاق في أيّ وقت شاء تعالى إنّما هو على أساس الحكمة، لأنّ قدرة الباري وحكمته مقرونتان.

وعلى كلّ حال فإنّ الإنتفاع من محتوى هذه الآية، يمنح الإنسان المؤمن هدوءاً وسكينة، ويجعله مقاوماً لكلّ أنواع الحوادث، ولا يخاف من المشاكل، ويبعده عن الغرور في حال النجاح والفوز.

وتشير الآية التالية إلى «توحيد العبادة» على أساس «توحيد الخالقية والرازقية» فتقول الآية الكريمة: (ياأيّها الناس اذكروا نعمة الله عليكم).

فكّروا ملياً ما هو منشأ كلّ هذه المواهب والبركات والإمكانيات الحياتية التي قيّضت لكم .. (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض). فمن الذي يرسل عليكم من الشمس نورها الذي ينشر الحياة، وحبّات المطر التي تحيي الموات، والنسيم الذي ينعش الروح؟ ومن الذي يخرج لكم من الأرض معادنها وذخائرها وغذاءها وأنواع نباتاتها وثمارها وبركاتها الاُخرى؟

فإذا علمتم أنّ مصدر كلّ هذه البركات هو الله، فاعلموا أنّ: (لا إله إلاّ هو).

وعليه فكيف تنحرفون عن طريق الحقّ إلى الباطل، وتسجدون للأصنام بدلا من السجود لله سبحانه؟ (فأنّى تؤفكون).

«تؤفكون»: من مادّة «إفك»، بمعنى «كلّ مصروف عن وجهه الذي يحقّ أن يكون عليه» ولذا قيل لكلّ حديث ينصرف عن الصدق في المقال إلى الكذب «إفك» وإن كان البعض يرى أنّ هذه الكلمة تطلق على الكذب الفاحش والتهمة الشنيعة.

 

* * *

 

[ 16 ]

«بحث» الملائكة في القرآن الكريم:

تعرّض القرآن الكريم كثيراً لذكر الملائكة .. فقد تحدّثت آيات عديدة عن صفات، خصائص، مأموريات، ووظائف الملائكة. حتّى أنّ القرآن الكريم جعل الإيمان بالملائكة مرادفاً للإيمان بالله والأنبياء والكتب السماوية، ممّا يدلّل على أهميّة هذه المسألة الأساسية.

(آمن الرّسول بما اُنزل إليه من ربّه والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله).(1)

وممّا لا شكّ فيه أنّ وجود الملائكة من الاُمور الغيبية التي لا يمكن إثباتها بتلك الصفات والخصائص إلاّ بالأدلّة النقلية، ويجب الإيمان بها على أنّه إيمان بالغيب.

وبالجملة يطرح القرآن الكريم خصائص الملائكة كما يلي:

1 ـ الملائكة موجودات عاقلة لها شعور، وهم عباد مكرمون من عباد الله (بل عباد مكرمون)(2).

2 ـ مطيعون لأوامر الله ولا يعصونه أبداً: (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون).(3)

3 ـ أنّ لهم وظائف مهمّة وكثيرة التنوّع كلّفوا بها من قبل الباري عزّوجلّ.

مجموعة تحمّل العرش (والمَلَك على أرجائها ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية).(4)

مجموعة تدبّر الأمر (فالمدبّرات أمراً)(5).

________________________________

1 ـ البقرة، 285.2 ـ الأنبياء، 26.3 ـ الأنبياء، 27.4 ـ الحاقة، 17.5 ـ النازعات، 5.

[ 17 ]

واُخرى لقبض الأرواح (... حتّى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم ...).(1)

وآخرون يراقبون أعمال البشر (وإنّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون).(2)

مجموعة تحفظ الإنسان من المخاطر والحوادث (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتّى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون).(3)

واُخرى مأمورة بإحلال العذاب والعقوبة على أقوام معيّنة (ولمّا جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب)(4)

وآخرون يمدّون المؤمنين حال الحرب (ياأيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إن جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيراً)(5).

وأخيراً مجموعة لتبليغ رسالات الوحي وإنزال الكتب السماوية للأنبياء (يُنزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنّه لا إله إلاّ أنا فاتّقون).(6)

ولو أردنا الإسترسال في ذكر وظائف الملائكة لطال البحث واتّسع.

4 ـ الملائكة دائمو التسبيح والتقديس لله سبحانه وتعالى (والملائكة يسبّحون بحمد ربّهم ويستغفرون لمن في الأرض).(7)

5 ـ وبناءً على أنّ الإنسان بحسب إستعداده للتكامل يمكنه أن يكون أعلى مقاماً وأشرف موضعاً من الملائكة فقد سجدت الملائكة بدون إستثناء لخلق آدم،

________________________________

1 ـ الأعراف، 37.2 ـ الإنفطار، 10 ـ 13.3 ـ الأنعام، 61.4 ـ هود، 77.5 ـ الأحزاب، 9.6 ـ النحل، 2.7 ـ الشورى، 5.

[ 18 ]

وعدّوا آدم معلّماً لهم «الآيات 30 ـ 34 سورة البقرة».

6 ـ إنّ الملائكة يظهرون بصورة الإنسان للأنبياء وغير الأنبياء، كما نقرأ في الآية (17) من سورة مريم: (فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً).

كذلك يذكر القرآن الكريم تجلّيهم بصورة إنسان لإبراهيم ولوط (هود ـ 69 و77) كما أنّه يستفاد من أواخر تلك الآيات أنّ قوم لوط أيضاً رأوهم بتلك الصورة الإنسانية السوية «هود ـ 78».

فهل أنّ ذلك الظهور بالشكل الإنساني، له واقع عيني، أم هو بصورة تمثّل وتصرّف في قوّة الإدراك؟ ظاهر الآيات القرآنية يشير إلى المعنى الأوّل، وإن كان بعض من كبار المفسّرين قد إختار المعنى الثاني.

7 ـ يستفاد من الروايات أنّ أعداد الملائكة كثيرة بحيث انّه لا يمكن مقايسة أعدادهم بالبشر بأي شكل من الأشكال، فحينما سئل الإمام الصادق (عليه السلام): هل الملائكة أكثر أم بنو آدم؟ قال: «والذي نفسي بيده لملائكة الله في السموات أكثر من عدد التراب في الأرض، وما في السماء موضع قدم إلاّ وفيها ملك يسبّحه ويقدّسه، ولا في الأرض شجرة ولا مدر إلاّ وفيها ملك موكّل بها يأتي الله كلّ يوم بعملها والله أعلم بها، وما منهم أحد إلاّ ويتقرّب كلّ يوم إلى الله بولايتنا أهل البيت، ويستغفر لمحبّينا ويلعن أعداءنا، ويسأل الله أن يرسل عليهم العذاب إرسالا»(1).

8 ـ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتزوجون، فقد ورد عن الإمام الصادق في حديث طويل قوله: «إنّ الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، وإنّما يعيشون بنسيم العرش»(2).

9 ـ لا ينامون ولا يضعفون ولا يغفلون، ففي الحديث عن أمير المؤمنين علي

________________________________

1 ـ بحار الأنوار، الجزء 59، صفحة 176 حديث 7.2 ـ المصدر السابق، صفحة 174 ـ حديث 4. وقد نقلت روايات متعدّدة في هذا الشأن فراجع.

[ 19 ]

بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام «وملائكة خلقتهم وأسكنتهم سماواتك، فليس فيهم فترة ولا عندهم غفلة، ولا فيهم معصية هم أعلم خلقك بك، ... ولا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، لم يسكنوا الأصلاب ولم تضمّهم الأرحام» الحديث(1).

10 ـ إنّ لهم مقامات، ومراتب متفاوتة (ما منّا إلاّ له مقام معلوم وإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون)(2)

وكذلك نقرأ في الحديث المذكور عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وإنّ لله ملائكة ركعاً إلى يوم القيامة، وإنّ لله ملائكة سجداً إلى يوم القيامة»(3).

ولمزيد الإطلاع على أوصاف الملائكة وأصنافهم يراجع كتاب «السماء والعالم» من بحار الأنوار، أبواب الملائكة (المجلد 59 ـ الصفحات 144 ـ إلى 326) وكذلك نهج البلاغة الخطب (1 و91 ـ خطبة الأشباح ـ و109 و171).

هل أنّ الملائكة بتلك الأوصاف التي ذكرناها، موجودات مجردة أم مادية؟

لا شكّ أنّ من غير الممكن أن تكون الملائكة بهذه الأوصاف من هذه المادّة الكثيفة، ولكن لا مانع من أن تكون أجساماً لطيفة الخلق، أجساماً فوق هذه المادّة المألوفة لنا.

إثبات (التجرد المطلق) للملائكة من الزمان والمكان والجزئية، ليس بالأمر الهيّن، والوصول إلى تلك النتيجة ليس وراءه كثير فائدة، المهمّ هو أن نعرف الملائكة بالصفات التي وردت في القرآن والروايات الثابتة. وأنّها من الموجودات العلوية الراقية عند الله في مقامها ومكانتها، ولا نعتقد لها بغير مقام العبودية لله سبحانه، وأن نعلم بأنّ الإعتقاد بأنّها شريكة مع الله في أمر الخلق أو في العبادة كفر

________________________________

1 ـ بحار الأنوار، ج59، ص175، ج6.2 ـ الصافات، 164 ـ 166.3 ـ بحار الأنوار، المجلد 59، صفحة 174 ـ حديث 4.

[ 20 ]

محض وشرك بيّن.

نكتفي بهذا القدر من التفصيل حول الملائكة ونوكّل التفاصيل الأكثر إلى الكتب التي كتبت بهذا الشأن.

ونرى في الكثير من عبارات «التوراة» لدى الحديث عن الملائكة عبارة «الآلهة» وهو تعبير مشرك ومن علائم تحريف التوراة الحالية، ولكن القرآن الكريم نقي من هذه التعبيرات، لأنّه لا يرى لها سوى مقام العبودية والعبادة لله تعالى وإطاعة أوامره، وحتّى أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته يتفوّق الإنسان الكامل على الملائكة في المرتبة والمقام.

 

* * *

[ 21 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ (4) يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَـنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَـبِ السَّعِيرِ(6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)

 

التّفسير

لا يغرنّكم الشيطان والدنيا

ينتقل القسم الثاني من هذه المجموعة من الآيات ـ وبعد أن كان الحديث حول توحيد الخالقية والرازقية ـ إلى الحديث في تفصيل البرامج العملية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)ويوجّه الخطاب إليه أوّلا، ثمّ لعموم الناس وبيان المناهج العملية لهم بعد تفصيل البرامج العقائدية سابقاً.

في البداية تقدّم الآيات للرسول درس الإستقامة على الصراط السوي، والذي

[ 22 ]

هو أهمّ الدروس له، فتقول الآية الكريمة: (وإن يكذّبوك فقد كذبت رسل من قبلك) فهؤلاء الرسل الذين سبقوك قاوموا، ولم يهدأ لهم بال في أداء رسالتهم، وأنت أيضاً يجب أن تقف بصلابة، وتؤدّي رسالتك، والبقية بعهدة الله. (وإلى الله ترجع الاُمور) فهو الناظر والرقيب على كلّ شيء، وسوف يحاسب على جميع الأعمال.

فهو تعالى لا يتغافل عن المشاق التي تتحمّلها في هذا الطريق، كما أنّه لن يترك هؤلاء المكذّبين المخالفين المعاندين يمضون دون عقاب، فقد يكون للقلق محلّ لو لم يكن ليوم القيامة وجود، أمّا مع وجود تلك المحكمة الإلهية العظيمة، وتلك الكتابة لكلّ أعمال البشر لذلك اليوم العظيم، فأيّ داع للقلق بعد؟

ثمّ تنتقل الآيات لتوضيح أهم البرامج للبشرية، فتقول الآية الكريمة: (إنّ وعد الله حقّ) فالقيامة والحساب والكتاب والميزان والجزاء والعقاب والجنّة والنار كلّها وعود إلهية لا يمكن أن يُخلفها الله تعالى.

ومع الإنتباه إلى هذه الوعود الحقّة: (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور) فلا ينبغي أن تخدعكم الحياة الدنيا، ولا يخدعكم الشيطان بعفو الله ورحمته ..

أجل، إنّ عوامل الإثارة، وزخارف الدنيا وزبارجها، إنّما تريد أن تملأ قلوبكم، وتلهيكم عن تلك الوعود الإلهيّة العظيمة، وكذلك فإنّ شياطين الجنّ والإنس دائمة السعي بوساوسها وإغرائها وبمختلف وسائل الخداع والإحتيال، وهي أيضاً تريد إلفات إهتمامكم إليها، وإلهائكم عن التفكير في ذلك اليوم الموعود، فإن تمكّنت أضاليلهم وخدعهم منكم، فقد ضاعت عليكم حياتكم بأكملها، وكانت سعادتكم وآمالكم نقشاً على الماء، فالحذر الحذر!!

إنّ تكرار التنبيه للناس لكي لا يغتّروا بوساوس الشياطين أو بزخارف الدنيا ـ في الحقيقة ـ إشارة إلى أنّ للذنوب طريقين للولوج إلى النفس الإنسانية:

[ 23 ]

1 ـ مظاهر الدنيا الخدّاعة، كالجاه والمقام والمال والكبرياء وأنواع الشهوات.

2 ـ الإغترار بعفو الله وكرمه، وهنا فإنّ الشيطان يزيّن الدنيا في نظر الإنسان ويصوّرها له متاعاً مباحاً وجذّاباً ومحبّباً وقيّماً من جهة.

ومن جهة اُخرى فإنّه كلّما أراد الإنسان أن يتذكّر الآخرة ومحكمة العدل الإلهي ومقاومة الجاذبية الشديدة للدنيا وخِدعها، فانّه يغريه بعفو الله ورحمته، فيدفعه بالنتيجة إلى التسويف والطغيان وإرتكاب الذنوب. غافلا عن أنّ الله سبحانه مع كونه في موضع الرحمة و «أرحم الراحمين» فهو تعالى في موضع العقوبة «أشدّ المعاقبين»، فإنّ رحمته لا يمكن أن تكون أبداً باعثاً على المعصية، كما أنّ غضبه لا يمكن أن يكون سبباً لليأس والقنوط.

«غَرور» صيغة مبالغة بمعنى الخدّاع أو المضلّل غير العادي، والظاهر أنّه إشارة إلى جميع عوامل الإغواء والخداع، كما أنّه قد يكون إشارة إلى خصوص الشيطان. وإن كان المعنى الثاني أكثر مناسبة للآية الثانية، خاصّة إذا علمنا أنّ القرآن الكريم نسب «الغرور» إلى الشيطان في آيات مختلفة.

بعض المفسّرين، لهم تحليل خاص هنا ملخّصه: أنّ الناس الذين يتعرضون لعوامل الخداع والإغراء ثلاثة أصناف:

1 ـ صنف ضعيف وليس له قدرة بحيث أنّه يخدع بأبسط الحيل.

2 ـ صنف أقوى من الأوّل، لا يخدعون فقط بزخرف الدنيا وزبرجها، بل مع ضمّ وساوس الشياطين الذين يعملون على تحريك شهواتهم ويهوّنون لهم مفاسد أعمالهم عندها يمكن خداعهم. فالملذّات الدنيوية من جهة، والوساوس الشيطانية من جهة اُخرى، تدفعهم إلى إرتكاب أعمال قبيحة وسيّئة.

3 ـ أمّا الصنف الثالث وهو الأقوى والأعلم، فهم لا يغتّرون بأنفسهم ولا يمكن لأحد خداعهم.

وجملة (فلا تغرنّكم الحياة الدنيا) إشارة إلى الصنف الأوّل، وجملة

 

[ 24 ]

(ولا يغرنّكم بالله الغرور) إشارة إلى الصنف الثاني، وأمّا الصنف الثالث فهم مصداق قوله: (إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان)(1).

الآية التالية تنذر وتنبّه جميع المؤمنين فيما يخصّ مسألة وساوس الشيطان ومكائده والتي تعرّضت لها الآية السابقة فتقول: (إنّ الشيطان لكم عدو فاتّخذوه عدوّاً).

تلك العداوة التي شرع بها الشيطان من أوّل يوم خُلق فيه آدم (عليه السلام)، وأقسم حين طرد من قرب الله وجواره بسبب عدم تسليمه للأمر الإلهي بالسجود لآدم، أقسم وتوعّد بأن يسلك طريق العداء لآدم وبنيه، وحتّى أنّه دعا من الله أن يمهله ويطيل في عمره لذلك الغرض.

وقد التزم بما قال، ولم يفوّت أدنى فرصة لإبراز عدائه وإنزال الضربات بأفراد بني آدم، فهل يصحّ منكم يابني آدم أن لا تعتبروه عدوّاً لكم، أو أن تغفلوا عنه ولو لحظة واحدة، فكيف الحال باتّباعه وإقتفاء خطواته، أو تعدونه وليّاً شفيقاً وصاحباً ناصحاً (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو).(2)

مضافاً إلى أنّه عدو يهاجم من كلّ طرف وجانب، فهو نفسه «لعنه الله» يقول: على ما نقله القرآن الكريم: (ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم).(3)

وهو يكمن لكم ويراكم ولا ترونه: (إنّه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم).(4)

ومع ذلك، فهذا لا يعني أنّكم لا تقدرون على الدفاع عن أنفسكم أمام مكائده ووساوسه، فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلوات والسلام): أنّ الله

________________________________

1 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد 26، ص5.2 ـ الكهف، 50.3 ـ الأعراف، 17.4 ـ الأعراف، 27.

[ 25 ]

سبحانه وتعالى أوصى موسى (عليه السلام) أربع وصايا وطالبه بحفظها:

أُولاهنّ ما دمت لا ترى ذنوبك تغفر فلا تشتغل بعيوب غيرك!

والثانية: ما دمت لا ترى كنوزي قد نفذت فلا تهتم برزقك!

والثالثة: ما دمت لا ترى زوال ملكي فلا ترج أحداً غيري!

والرابعة: ما دمت لا ترى الشيطان ميتاً فلا تأمن مكره(1)!

على كلّ حال، فقد وردت في آيات كثيرة الإشارة إلى عداوة الشيطان لبني آدم، وأطلقت عليه مراراً وتكراراً عبارة (عدوّ مبين)(2) لذا يجب الحذر الدائم من هذا العدوّ.

في آخر الآية يضيف تعالى للتأكيد أكثر: (إنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير).

«حزب» في الأصل بمعنى الجماعة التي لها فعالية، ولكنّها تطلق عادةً على كلّ مجموعة تتبع برنامجاً وهدفاً خاصاً.

والمقصود (بحزب الشيطان) أتباعه.

طبيعي أنّ الشيطان لا يمكنه إدخال أيّ أحد من الناس ليكون عضواً رسمياً في حزبه ويقوده إلى جهنّم، فأعضاء حزبه هم الذين يتّصفون بالصفات المذكورة في بعض الآيات القرآنية ..

* فهم الذين طوّقوا أنفسهم بطوق العبودية للشيطان (إنّما سلطانه على الذين يتولّونه).(3)

* وهم الذين (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله اُولئك حزب الشيطان

________________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلّد 1، صفحة 501 ـ مادّة ربع.2 ـ لاحظ الآيات 161 و208 من سورة البقرة، والآية (142) من سورة الأنعام، والآية (22) من سورة الأعراف، والآية (5) سورة يوسف، والآية (60) سورة يس، والآية (62) من سورة الزخرف.3 ـ النحل، 100.

[ 26 ]

ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون).(1)

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم ذكر «حزب الله» في ثلاثة مواضع وكذلك ذكر «حزب الشيطان» في ثلاثة مواضع أيضاً، حتّى يتّضح من الذين يقيّدون أسماءهم في حزب الله، ومن هم أعضاّ حزب الشيطان؟

ولكن من الطبيعي أنّ الشيطان يدعو حزبه إلى المعاصي والذنوب ولوث الشهوات .. إلى الشرك والطغيان والإضطهاد، وبالنتيجة إلى جهنّم وبئس المصير.

وسوف نستوفي الشرح حول خصائص «حزب الله» وخصائص «حزب الشيطان» في تفسير الآية (22) من سورة «المجادلة» إن شاء الله.

آخر آية من هذه الآيات توضّح عاقبة «حزب الله» السعيدة وخاتمة «حزب الشيطان» المريرة، فتقول: (الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير).

من الجدير بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم اكتفى بذكر «الكفر» كسبب لإستحقاق العذاب، ولكنّه لم يكتف بذكر (الإيمان) وحده كسبب «للمغفرة والأجر الكبير» بل أردف مضيفاً له «العمل الصالح». لأنّ الكفر وحده يكفي للخلود في عذاب السعير، بينما الإيمان بدون العمل لا يكفي لتحقيق النجاة، فإنّهما مقترنان.

وقد ورد في الآية ذكر (المغفرة) ثمّ ذكر «الأجر الكبير» بعدها، باعتبار أنّ (المغفرة) تغسل المؤمنين في البدء وتهيؤهم لتلقّي «الأجر الكبير».

 

* * *

________________________________

1 ـ المجادلة، 19.

[ 27 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَت إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللهُ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَهُ إِلَى بَلَد مَيِّت فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّلِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

 

التّفسير

إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه:

ممّا مرّ من تقسيم الناس إلى مجموعتين «المجموعة المؤمنة» و «المجموعة الكافرة» أو «حزب الله» و «حزب الشيطان»، تنتقل هذه الآيات إلى بيان إحدى الخصائص المهمّة لهاتين المجموعتين والتي هي في الواقع المصدر لسائر برامجهما.

[ 28 ]

تقول الآية الاُولى: (أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً) كمن يرى الحقائق كما هي من حيث الحسن والقبح؟!

في الحقيقة إنّ هذه القضيّة هي المفتاح لكلّ مصائب الأقوام الضالّة والمعاندة، الذين يرون أعمالهم القبيحة أعمالا جميلة، وذلك لإنسجامها مع شهواتهم وقلوبهم المعتمة.

بديهي أنّ شخصاً كهذا، لا يتقبّل نصيحة، وليس لديه الإستعداد لسماع النقد وليس بحاضر أبداً لتغيير مسيره. كما أنّه لا يناقش أعماله ولا يفكّر بعواقبها الوخيمة.

وأدهى من ذلك وأمرّ أنّهم حينما يدور حديث حول المحسنين والمسيئين، يعتقدون بأنّ الضمير في الأوّل يعود عليهم، بينما يعود في المسيئين على المؤمنين الصلحاء!

والعجب من هؤلاء الكفّار المعاندين انّهم عندما يسمعون هذه الآيات تتلى عليهم وهي تتحدّث عن حزب الشيطان ومصيرهم الأسود طبّقوا ذلك على المؤمنين الصالحين، وعدّوا أنفسهم مصداقاً لحزب الله!!

وتلك مصيبة وفاجعة عظيمة!

أمّا من الذي زيّن سوء أعمال هؤلاء في أنظارهم؟ هل هو الله، أم هوى النفس، أم الشيطان؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ العامل الأصلي لذلك هو الهوى والشيطان، ولكن لأنّ الله هو الخالق لذلك الأثر في أعمالهم، فيمكن نسبة ذلك إلى الله تعالى، لأنّ الإنسان وفي بداية طريق المعاصي يشعر بعدم الإرتياح حين إرتكاب المعصية، لسلامة فطرته وحيوية وجدانه وسلامة عقله، ولكن بتكرار تلك الأعمال يقلّ عدم الإرتياح إلى أن يصل إلى درجة عدم الإكتراث. ثمّ إذا استمرّ في ذلك الطريق يمسي القبيح جميلا في نظره، حتّى يصل إلى أن يتوهّم أنّ ذلك من مفاخره وفضائله، والحال أنّه

[ 29 ]

يغطّ في بِركة آسنة من التعاسة والشقاء.

والملفت للنظر أنّ القرآن عندما يتساءل (أفمن زيّن له سوء عمله ...).  لا يتعرّض إلى ما يقابل ذلك صراحة، وكأنّه يريد أن يفسح المجال أمام المستمع لكي يتصوّر اُموراً مختلفة يمكنها أن تكون ما يقابل ذلك ويفهم أكثر وأكثر، وكأنّه يريد أن يقول: هل أنّ شخصاً كهذا هو كمن أبصر الحقيقة؟

هل أنّ شخصاً كهذا كمن هو نقي القلب ومشغول دوماً بمحاسبة نفسه؟.

وهل أنّ هناك أملا بالنجاة لهكذا شخص(1)؟.

ثمّ يضيف القرآن موضّحاً علّة الفرق بين الفريقين فيقول: (فإنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء).

فإذا زُيّنت الأعمال السيّئة بنظر المجموعة الاُولى، فإنّ ذلك نتيجة الإضلال الإلهي، فالله سبحانه وتعالى هو الذي جعل تلك الخاصية في النفس البشرية عند تكرارها للأعمال السيّئة، بأن تتطبّع عليها وتعتادها وتنسجم معها وتنطبع بطبيعتها.

وهو سبحانه الذي أعطى للمؤمنين الطاهري القلوب نفاذ البصر والبصيرة، وسمعاً واعياً لإدراك الحقائق كما هي.

وواضح أنّ هذه المشيئة الإلهيّة توأم لحكمته تعالى، وإنّما تعطي لكلّ ما يناسبه. لذا فإنّ الآية تضيف في الختام: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) وهذا التعبير يشابه ما ورد في الآية (3) من من سورة الشعراء: (لعلّك باخع نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين)(2).

التعبير بـ «حسرات» الذي هو «مفعول لأجله» لما قبله في الجملة، إشارة إلى أنّه ليس عندك عليهم حسرة واحدة، بل حسرات:

________________________________

1 ـ من هنا يتّضح أنّ في الآية جملة مقدّرة يمكن أن تكون «... كمن ليس كذلك، أو كمن يحاسب نفسه ويرى سوء عمله سيّئاً ... أو: هل يرجى له صلاح أو متاب» وهكذا.2 ـ ذكر أيضاً لهذه الآية تفسير آخر، وهو أنّ المقصود منها مخاطبة الرّسول الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن لا يتألّم من شدّة أذى ومخالفات هؤلاء، إذ أنّ الله مطّلع على أعمالهم تماماً وسينتقم منهم في الوقت المناسب.

[ 30 ]

«حسرة» على تضييع نعمة الهداية. «حسرة» على تضييع جوهر الإنسانية، «حسرة» على تضييع حاسّة التشخيص إلى حدّ رؤية القبيح جميلا، وأخيراً «حسرة» على الوقوع في نار الغضب والقهر الإلهي.

ولكن لماذا لا ينبغي أن تتحسّر عليهم؟! ذلك لأجل (إنّ الله عليم بما يصنعون).

واضح من نبرة الآية شدّة تحرّق الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الضالّين والمنحرفين، وكذلك هي حال القائد الإلهي المخلص يتألّم لعدم تقبّل الناس الحقّ وتسليمهم للباطل، وضربهم بكلّ أسباب السعادة عرض الجدار، إلى حدّ كأنّ روحه تريد أن تفارق بدنه.

وإستناداً إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر، تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة، وتقرن آيات المبدأ بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر، تقول الآية الكريمة: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً(1) فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور).

نظام دقيق يتحكّم في حركة الرياح، ثمّ في حركة السحاب، ثمّ في نزول قطرات المطر الباعثة للحياة، ثمّ في حياة الأرض الميتة، وهو أحسن دليل على أنّ يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير اُموره.

أوّلا، تؤمر الرياح الحارة بالتحرّك من المناطق الإستوائية إلى المناطق الباردة، وفي مسيرها تحمل معها بخار الماء من البحار وتطلقه في السماء، بعدئذ تتحرّك بجريانات منظّمة للبرد القطبي الذي يعاكس دوماً إتّجاه الحركة الأوّل، وتؤمر بتجميع البخار الحاصل لتشكيل الغيوم.

________________________________

1 ـ ذكر المفسّرون وجوهاً مختلفة لتفسير ظاهرة التنويع في الأفعال والضمائر في الجملة، فـ «أرسل» فعل ماض في حين «فتثير» فعل مضارع، والضمير في الأوّل غائب بينما في «فسقناه» متكلّم، وقد أشحنا عن ذكرها لما بدا من عدم دقّتها، ويمكن أن يكون ذلك للتفنّن في البيان والتنويع في الحديث.

[ 31 ]

ثمّ تؤمر نفس تلك الريح بحمل تلك الغيوم وإرسالها إلى الصحاري الميتة، لتلقي قطرات المطر الباعثة للحياة فيها.

بعد ذلك ـ بشروط خاصّة ـ تؤمر الأرض والبذور التي نثرت عليها بقبول الماء والنمو والإخضرار، ومن موجودات حقيرة وعديمة القيمة ظاهراً تنبت موجودات حيّة وكثيرة التنوّع والجمال، طريّة خضراء، مفيدة ومثمرة .. تدلّل بدورها على قدرته سبحانه وتعالى، وتشهد على حكمته، وتكون نموذجاً من البعث الكبير.

في الحقيقة إنّ الآية أعلاه تدعو إلى التوحيد في عدّة جوانب:

«برهان النظم» دليل على الوحدانية، و «الحركة» تقتضي وجود محرّك لكلّ متحرّك، ومن جانب آخر فإنّ النعم تدعو إلى شكر المنعم فطرياً.

وكذلك فهي دليل على مسألة المعاد من جهات أيضاً:

فتكامل الموجودات في حركتها ومسارها وإنبعاث الحياة من الأرض الميتة تقول للإنسان: أيّها الإنسان إنّك ترى مشهد المعاد في فصول كلّ عام أمام ناظريك وتحت قدميك.

من اللازم أيضاً الإلتفات إلى أن (تثير) من مادّة (إثارة) بمعنى النشر والتفريق، وهي إشارة إلى أنّ توليد الغيوم ناتج عن هبوب الرياح على سطح المحيطات، لأنّ مسألة حركة الغيوم وردت في الجملة التي بعدها (فسقناه إلى بلد ميّت).

واللطيف ما نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأله أحد الصحابة قائلا: يارسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟

قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضراً»؟

قلت: نعم! يارسول الله.

قال: «فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه»(1).

________________________________

1 ـ تفسير القرطبي، ج8، ص5409، الآية مورد الحديث.

[ 32 ]

ولنا بحث آخر حول نفس الموضوع أوردناه عند تفسير الآية (48) من سورة الروم.

الآن، وبعد هذا المبحث التوحيدي، تشير الآية إلى الإشتباه الخطير الذي وقع فيه المشركون لإعتقادهم بأنّ العزّة تأتيهم من أصنامهم، وبأنّ الإيمان بالرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) سيكون سبباً في تخطّف الناس إيّاهم (إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا).(1)فتقول الآية: (من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعاً).

«العزّة»: على ما يقول الراغب في مفرداته: حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب .. من قولهم: أرض عزاز، أي صُلبة.

ولأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تُغلب، وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تُغلب، وعليه فإنّ العزّة جميعها من الله، وكلّ من اكتسب عزّة فمن بحر عزّته اللامتناهي.

في حديث ينقل عن أنس عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».

وفي الحقيقة إنّ الإنسان العاقل يجب أن يتزوّد بالماء من منبعه، لأنّ الماء الصافي والوافر متوفّر هناك، لا في الأواني الصغيرة المحدودة أو الملوّثة في يد هذا وذاك.

وفي حديث عن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) نقرأ بأنّ «جنادة بن أبي اُميّة» قال: دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة، من السم الذي سقاه معاوية (لعنه الله)، فقلت: يامولاي ما لك لا تعالج نفسك؟

فقال: «ياعبدالله، بماذا اُعالج الموت؟

قلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

________________________________

1 ـ القصص، 57.

[ 33 ]

ثمّ التفت إليّ وقال: ضمن وصايا عديدة: «.. وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّوجلّ» ... الحديث.

ولو لاحظنا بعض الآيات الكريمة في القرآن، فإنّها تذكر العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين).(1)إذ أنّ الرّسول والمؤمنين اكتسبوا عزّتهم من شعاع عزّة الباري عزّوجلّ، وساروا في طريق طاعته.

ثمّ توضّح الآية طريق الوصول إلى (العزّة) فيقول تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه).

(الكلم الطيّب): طيّبٌ بمحتواه، وذلك لأجل المفاهيم التي تنطبق على الواقع العيني الظاهر المشرق، وما هو أطهر وأكثر واقعية من ذات الله تعالى، ومرآة حقّه وعدالته، وهؤلاء الصلحاء الذين يسلكون طريق نشر ذلك؟

لذا فقد فسّر «الكلم الطيّب» بأنّه العقائد الصحيحة فيما يخصّ المبدأ والمعاد والنبوّة، نعم .. فعقيدة صحيحة هكذا تصعد إلى الله، وتجعل المعتقد بها يحلق هو الآخر، حتّى يكون في قرب جوار الحقّ تعالى، وتغمره في عزّة الله ليكون عزيزاً.

بديهي أن ينبت من هذا الجذر الطاهر، ساق وفروع، ثمرها العمل الصالح، وكلّ عمل لائق وبنّاء ومفيد، سواء كانت دعوة إلى الحقّ، أو حماية لمظلوم، أو جهاداً للظلم والطغيان، أو تقويم النفس والعبادة، أو تعلّم، وبالجملة فكلّ عمل خير يدخل في هذا المفهوم الشامل الواسع، إذا كان لأجله سبحانه ـ فقط ـ ولأجل كسب رضاه فهو يصعد إليه، ويعرج في سماء لطفه سبحانه ويكون سبباً في تكامل ومعراج صاحبه حتّى يجعله أهلا للتعزّز بعزّة الحقّ تعالى.

وذلك هو ما أشارت إليه الآية (24) من سورة إبراهيم: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربّها).

________________________________

1 ـ المنافقون، 8.

[ 34 ]

وممّا ذكرنا، يتّضح أنّ ما قال به بعض المفسّرين من أنّ «الكلمة الطيّبة» هي « لا إله إلاّ الله» أو «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر» أو «إثبات الرسالة للرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) والولاية والخلافة لعلي (عليه السلام) بعد التوحيد» أو ما ورد في بعض الروايات من أنّ «الكلم الطيّب» و «العمل الصالح» هو «ولاية أهل البيت (عليهم السلام)» أو أمثال هذه التفاسير، فإنّها جميعاً من قبيل بيان المصاديق الأكثر وضوحاً لذلك المفهوم الواسع الشامل، وليس من قبيل وضع الحدود لذلك المفهوم. إذ أنّ كلّ كلام طيّب وصالح المحتوى يدخل تحت هذا العنوان.

على كلّ حال هو الله سبحانه وتعالى الذي يحيي الأرض الميتة بقطرات المطر ـ بمقتضى الآية السابقة ـ هو سبحانه الذي ينمي «الكلام الطيّب» و «العمل الصالح» ويوصله إلى جوار قربه تعالى.

ثمّ تنتقل الآية إلى ما يقابل كلّ ذلك فتقول: (والذين يمكرون السيّئات لهم عذاب شديد ومكر اُولئك هو يبور).

فمع أنّ هؤلاء الفاسدين المفسدين توهّمون أنّهم بالظلم والكذب والتزوير يستطيعون كسب العزّة والمال والثروة والقدرة، إلاّ أنّهم في النهاية يضعون أنفسهم في قبضة العذاب الإلهي من جهة، وكلّ جهودهم تذهب أدراج الرياح من جهة اُخرى.

أشخاص قال عنهم القرآن: (واتّخذوا من اللّه دون آلهةً ليكونوا لهم عزّاً).(1)ومنافقون اعتقدوا بعزّتهم، وذلّة المؤمنين (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل).(2)

وآخرون اعتقدوا بأنّ القرب من الفراعنة سبب لعزّتهم، وأراد غيرهم الكرامة بالظلم والإضطهاد، لكنّهم يتساقطون دوماً، والإيمان والعمل الصالح فقط هو

________________________________

1 ـ مريم، 81.2 ـ المنافقون، 8.

[ 35 ]

الذي يصعد إلى الله سبحانه!

(مكر): مع أنّ هذه الكلمة لغوياً بمعنى التفكّر في حلّ المشكل، ولكنّها جاءت في موارد كثيرة بمعنى التفكّر بالحلّ مع إقترانها بالإفساد، كما في هذه الآية.

(السيّئات): كلّ القبائح والمذمومات، أعمّ من القبائح الإعتقادية أو العملية، وما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المعنى هو المؤامرات التي قام بها المشركون لقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إبعاده عن مكّة، فليس هو إلاّ أحد مصاديق الكلمة دون مفهومها العامّ.

جملة «يبور» من مادّة «بوار» و «بوران» في الأصل بمعنى الكساد المفرط، ولأنّ مثل هذا الكساد يكون سبباً للهلاك، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الهلاك والفناء، وكما قيل «كسد حتّى فسد».

* * *

 

ملاحظتان

1 ـ العزّة جميعاً من الله عزّ اسمه

ما هي حقيقة العزّة؟ هل هي سوى بلوغ مرحلة المنعة؟ وإن كان كذلك فأين يجب البحث عن العزّة؟ وأي شيء يمكنه أن يعطي للإنسان العزّة؟!.

يتّضح لنا بالتحليل أنّ حقيقة العزّة بالدرجة الاُولى ـ قدرة تتجلّى في قلب وروح الإنسان، وتبعده عن الخضوع والتسليم والإستسلام أمام الطغاة والعصاة، قدرة بامتلاكها لا يخضع الإنسان للشهوات أبداً، ولن يجد الهوى والهوس طريقاً للتسلّط عليه.

قدرة ترتقي به إلى مستوى الصلابة أمام تأثير زخارف الدنيا.

فهل أنّ هذه القدرة لها منبع آخر غير الايمان بالله، أي الارتباط بالمنبع الأصلي للقدرة والعزّة؟

[ 36 ]

هذا في مرحلة الفكر والإعتقاد والروح، أمّا في مرحلة العمل فإنّ «العزّة» تنبع من الأعمال السليمة الأصل والدقيقة الاُسلوب، وبتعبير آخر يمكن تلخيص ذلك بـ«العمل الصالح» هذان الإثنان يعطيان الإنسان العظمة والرفعة والعزّة والمنعة.

«السحرة» المعاصرون لفرعون، شرعوا بحيلهم باسم فرعون وبعزّته (وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون).(1)

ولكنّهم هزموا بسرعة أمام عصى موسى (عليه السلام). وبمجرّد أن خرجوا من ذلّة فرعون، ولجأوا إلى ظلّ التوحيد وآمنوا، أصبحوا أقوياء لا يمكن هزيمتهم بحيث لم تؤثّر بهم أشدّ تهديدات فرعون، وقدّموا أيديهم وأرجلهم وحتّى أرواحهم العاشقة الوالهة وتجرّعوا كأس الشهادة، ودلّلوا بذلك العمل على عدم إستسلامهم أمام الترغيب والترهيب، وعدم إنهزامهم، وأصبح تأريخهم اليوم بالنسبة لنا عالماً من الدروس البليغة.

 

2 ـ الفرق بين «الكلام الطيّب» و «العمل الصالح»

قد يطرح سؤال هو: لماذا تقول الآية السالفة الذكر حول «الكلام الطيّب» (إليه يصعد الكلم الطيّب) بينما بالنسبة إلى «العمل الصالح» قالت (والعمل الصالح يرفعه

يمكن الإجابة على هذا السؤال بأنّ «الكلم الطيّب» إشارة إلى الإيمان والإعتقاد السليم، وذلك هو عين الصعود إلى الله، وحقيقة الإيمان ليس سوى ذلك، ولكن «العمل الصالح» الذي يتقبّله الله تعالى ويضاعف الأجر عليه، ويعطيه الدوام والبقاء ثمّ يرفعه (دقّق النظر)!!.

 

* * *

________________________________

1 ـ الشعراء، 44.

[ 37 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّر  وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (11)وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)

 

التّفسير

وما يستوي البحران!!

مع الإلتفات إلى ما كان من حديث في الآيات السابقة حول التوحيد والمعاد وصفات الله، تتعرّض هذه الآيات أيضاً إلى قسم آخر من آيات «الأنفس والآفاق» التي تدلّل على قدرة الله من جانب، وعلى علمه من جانب آخر، وقضيّة إمكانية المعاد من جانب ثالث.

[ 38 ]

في البداية تشير إلى خلق الإنسان في مراحله المختلفة فتقول: (والله خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ جعلكم أزواجاً).

وهذه ثلاث مراحل من مراحل خلق الإنسان: الطين ـ والنطفة ـ ومرحلة الزوجية.

بديهي أنّ الإنسان من التراب، إذ أنّ آدم (عليه السلام) خلق من تراب، كما أنّ جميع المواد سواء التي يتشكّل منها جسم الإنسان، أو التي يتغذّى عليها، أو التي تنعقد منها نطفته، جميعها تنتهي إلى مواد هي ذاتها التي يحتويها التراب.

إحتمل البعض أنّ الخلق من التراب، إشارة إلى الخلق الأوّل فقط، أمّا الخلق من النطفة فهو إشارة إلى المراحل التالية التي أوّلها مرحلة الخلقة الإجمالية للبشر (بلحاظ أنّ وجود الجميع يتلخّص بوجود آدم (عليه السلام)) وثانيها المرحلة التفضيلية بإنفصال الإنسان من الآخر.

وعلى كلّ حال فإنّ مرحلة «الزوجية» هي مرحلة إدامة نسل الإنسان وحفظ نوعه، وأمّا ما احتمله البعض من أنّ معنى «أزواجاً» هنا «الأصناف» أو «الروح والجسم» وأمثالها، فيبدو بعيداً.

ثمّ ينتقل إلى المرحلة الرابعة والخامسة، «حمل النساء» و «الولادة» فيقول تعالى: (وما تحمل من اُنثى ولا تضع إلاّ بعلمه).

نعم، الحمل والتحوّلات والتغيّرات المذهلة والمعقّدة في الجنين، ثمّ بلوغ مرحلة وضع الحمل والإضطرابات والتغيّرات المحيّرة للاُمّ من جهة، وللجنين من جهة ثانية، بشكل وبمقدار منظّم ودقيق لا يمكن تعقّله بدون إسناده إلى العلم الإلهي اللامتناهي، فلو اُصيب النظام الذي يحكم هذه العملية باختلال ولو بمقدار رأس الإبرة لأدّى إلى عسر أو إختلال الحمل أو عملية الولادة، ثمّ إلى ضياع الجنين وهلاكه.

هذه المراحل الخمس من حياة الإنسان، إحداها أعجب من الاُخرى وأكثر

[ 39 ]

إثارة للدهشة. فأين الثرى من الثريّا .. أين ذلك التراب الميّت الجامد من الإنسان الحي العاقل الفطن المبتكر؟! وأين تلك النطفة الحقيرة التي تتكوّن من بضع قطرات من الماء المتعفّن من ذلك الإنسان الراشد الجميل والمجهّز بالحواس والأجهزة العضوية المختلفة(1).

بعد هذه المرحلة، تأتي مرحلة تقسيم النوع البشري إلى جنسين «المذكّر» و «المؤنّث» بالفروقات الكثيرة في الجسم والروح، والاُمور الفسلجية التي تبدأ بالتحدّد منذ اللحظات الاُولى لإنعقاد النطفة، وإتّخاذ مسيرها الخاص والتكامل في كلّ جنس باتّجاه الرسالة التي اُنيطت به.

ثمّ تظهر مسألة رسالة الاُمّ في قبول وتحمّل ذلك الحمل وحفظه وتغذيته وتربيته والتي حيّرت العلماء لقرون طويلة، حتّى اعترفوا بأنّها من أعجب مسائل الوجود.

وآخر مرحلة في هذا المسير هي مرحلة الولادة، وهي مرحلة تحوّل كامل تقترن بعجائب كثيرة.

فما هي العوامل التي تدفع الجنين إلى الخروج من بطن اُمّه؟

كيف يتمّ التنسيق بين هذا الأمر وبين إعداد جسم الاُمّ لتحقّق ذلك الأمر؟

كيف يتمكّن الجنين بعد تعوّده على وضع ما لمدّة تسعة أشهر، أن يلبس وضعاً جديداً ويطبّق كلّ مفرداته الجديدة بلحظة واحدة، ففي لحظة واحدة يقطع صلته باُمّه، ويتنفّس الهواء الطلق! يتناول طعامه من فمه بدلا من الحبل السرّي! يخرج إلى محيط غارق في النور والإشراق بدلا من محيط بطن اُمّه المظلم؟!

أليست هذه أعظم الدلائل على قدرة الله وعلمه اللا محدودين؟

وهل أنّ هذه المادّة الجامدة الميتة وهذه الطبيعة غير الهادفة يمكنها أن تنظّم

________________________________

1 ـ «نطفة» كما ذكرنا سابقاً، في الأصل بمعنى «الماء» أو بالأخصّ «الماء القليل الصافي» ثمّ اُطلقت لهذا السبب على الماء القليل الذي هو مبدأ إنعقاد الجنين.

[ 40 ]

حلقة واحدة صغيرة من آلاف الحلقات في سلسلة الخلق بالإستفادة من المصادفات العمياء؟

فيا للأسف كيف يتعقّل الإنسان مثل هذا الإحتمال الموهوم فيما يخصّ خلقته؟!

ثمّ .. تشير الآية إلى المرحلتين السادسة والسابعة من هذا البرنامج المذهل بانتقالها إلى حلقة اُخرى، فتذكر مراحل العمر المختلفة والعوامل المؤثّرة في زيادته ونقصانه فتقول الآية الكريمة: (وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب)(1) ويخضع لقوانين ومناهج مدروسة يتحكّم فيها علم الله وقدرته المطلقة.

فما هي العوامل المؤثّرة في إدامة حياة الإنسان؟ وما هي العوامل التي تهدّد إدامتها؟

وبإختصار ما هي العوامل التي يجب أن تتظافر مع بعضها حتّى يستطيع الإنسان أن يعمّر مائة سنة أو أكثر أو أقل؟ وأخيراً ما هي العوامل الموجبة لتفاوت أعمار الناس؟ كلّ ذلك له حسابات دقيقة ومعقّدة لا يعلمها إلاّ الله. وما نعلمه نحن اليوم حول هذه الموضوعات بالقياس إلى ما لا نعلمه يعتبر شيئاً تافهاً.

«معمّر» من مادّة «عُمْر» في الأصل من «العمارة» نقيض الخراب، والعمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة خلال مدّة معيّنة.

«معمر» أي الشخص الطويل العمر.

وأخيراً تختم الآية بهذه الجملة (إنّ ذلك على الله يسير).

فخلق هذا الموجود العجيب من التراب، وبدء خلق إنسان كامل من «ماء النطفة» وكذلك المسائل المرتبطة بتحديد الجنس، ثمّ الزوجية، والحمل، والولادة،

________________________________

1 ـ المقصود من «الكتاب» هو العلم الإلهي اللامحدود، وما ذكره البعض من أنّه «اللوح المحفوظ» أو «صفحة حياة الإنسان» يعود بالنتيجة إلى ذلك العلم الإلهي.

[ 41 ]

وزيادة أو نقص العمر سواء بلحاظ القدرة أو بلحاظ العلم والحسابات كلّها بالنسبة إليه تعالى سهلة وبسيطة. وذلك بمجموعه يمثّل جانباً من «آيات الأنفس» التي تربطنا ببداية عالم الوجود والتعرّف عليه من جهة، كما تعتبر أدلّة حيّة على مسألة إمكانية المعاد من جهة اُخرى.

 

فهل أنّ القادر على الخلق الأوّل من التراب والنطفة غير قادر على إعادة الحياة للناس مرّة اُخرى!؟

وهل أنّ العالم بكلّ دقائق وتفاصيل الاُمور المرتبطة بتلك القوانين، يواجه مشكلة في حفظ أعمال العباد ليوم المعاد.

تشير الآية التالية ـ التي تعتبر قسماً آخر من آيات الآفاق الدالّة على عظمته وقدرته سبحانه وتعالى ـ إلى خلق البحار وبركاتها وفوائدها، فتقول الآية الكريمة: (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اُجاج)(1).

فمع أنّ كلا البحرين في الأصل كانا بصورة قطرات من الماء الصافي والسائغ نزلت من السماء إلى الأرض، وأنّ كليهما من أصل واحد، إلاّ أنّهما يظهران على هيئتين متفاوتتين تماماً بشكل كامل وبفوائد متفاوتة أيضاً.

والعجيب أنّ الإنسان يحصل على السمك الطازج من كلّ منهما: (ومن كلّ تأكلون لحماً طريّاً وتستخرجون حلية تلبسونها) علاوة على إمكانية الإفادة من كليهما للنقل والإنتقال (وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون).

 

تأمّل الاُمور التالية:

1 ـ «فرات»: على ما ذكر في لسان العرب هو الماء العذب جدّاً.

________________________________

1 ـ «عذب» كما يذكر الراغب في مفرداته بمعنى «الماء النقي البارد» وفي لسان العرب بمعنى: «الماء الطيّب»، ويمكن أن يكون النقي والبارد داخلان في مفهوم «الطيّب».

[ 42 ]

«سائغ»: الماء الذي يُستمرأ بسهولة لعذوبته، على عكس الماء المالح ـ أو الاُجاج ـ وهو الماء المرّ الذي يمجّه الإنسان.

2 ـ بعض المفسّرين قالوا بأنّ هذه الآية مثال للفرق بين المؤمن والكافر، ولكن الآيات السابقة واللاحقة لها، والتي تتحدّث عن الخلقة، وحتّى نفس هذه الآية، شاهدة على حقيقة أنّ هذه الجملة أيضاً تبحث في أسرار التوحيد، وتشير إلى تنوّع المياه وآثارها المتفاوتة وفوائدها المشتركة.

3 ـ ذكرت الآية ثلاث فوائد من فوائد البحار الكثيرة وهي: المواد الغذائية، ووسائل الزينة، ومسألة الحمل والنقل.

ونعلم بأنّ البحر يشكّل منبعاً مهمّاً من المنابع الغذائية للبشر، وكلّ عام يُستخرج منه ملايين الأطنان من اللحوم الطازجة، بدون أن يتحمّل الإنسان في سبيل ذلك تعباً أو مشقّة، فإنّ نظام التوازن في الطبيعة يشتمل على برنامج دقيق محسوب بحيث يستطيع الناس الإفادة من تلك المائدة الإلهيّة بدون إعتراض وبأقل زحمة ومشقّة.

كذلك يستخرج من البحار أيضاً وسائل الزينة المختلفة من أمثال (اللؤلؤ ـ والمرجان ـ والصدف ـ والدرّ)، وتركيز القرآن على ذكر هذه المسألة لأنّ روح الإنسان تختلف عن الحيوان باحتوائها على أبعاد مختلفة منها «الحسّ الجمالي» الذي هو منبع ظهور جميع المسائل الذوقية والفنيّة والأدبية التي يؤدّي إشباعها بصورة صحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير إلى إشاعة السرور في النفس، وإعطاء الإنسان النشاط والهدوء، وتساعد الإنسان على إنجاز أعمال الحياة الشاقّة.

وأمّا مسألة الحمل والنقل والتي تعدّ واحدة من أهم اُسس التمدّن الإنساني والحياة الإجتماعية، فمع ملاحظة أنّ البحار تشكّل القسم الأعظم من الكرة الأرضية وأنّها مرتبطة مع بعضها، فإنّها تستطيع أن تقدّم للإنسان أهمّ الخدمات

[ 43 ]

بهذا الخصوص. إذ أنّ البضائع التي يتمّ حملها ونقلها عبر البحار، وكذا أعداد المسافرين الذين يتمّ نقلهم من مكان إلى آخر، على درجة من الكثرة بحيث لا يمكن مقايستها مع أيّة من وسائل النقل الاُخرى، وعلى سبيل المثال فإنّ سفينة واحدة تستطيع حمل عشرات الآلاف من السيارات على ظهرها(1).

4 ـ بديهي أنّ فوائد البحار لا يمكن حصرها بالاُمور التي ذكرت أعلاه، والقرآن الكريم لا يريد بذلك أن يحدّدها ضمن تلك الأقسام الثلاثة المذكورة، فهناك مسألة تكون الغيوم، الأدوية النفط، الألبسة، الأسمدة للأراضي البور، التأثير في إيجاد الرياح .. إلى غير ذلك من بركات البحار الاُخرى.

5 ـ تأكيد القرآن الكريم على مفهوم «لحماً طريّاً» إشارة عميقة المحتوى لفوائد التغذية بهذه اللحوم في مقابل أضرار اللحوم القديمة والمعلّبة وأمثال ذلك.

6 ـ هنا يثار سؤال وهو أنّ البحار المالحة تملأ الكرة الأرضية في إنتشارها، فأين تقع بحور الماء العذب؟

وللإجابة يجب القول أنّ بحر وبحيرات الماء العذب أيضاً ليست قليلة في الكرة الأرضية مثل بحيرات الماء العذب في الولايات المتحدة وغيرها، إضافةً إلى أنّ الأنهر الكبيرة تسمّى بحاراً أيضاً في بعض الأحيان، فقد ورد إستعمال كلمة «البحر» لـ (نهر النيل) في قصّة موسى، كما في سورة البقرة ـ الآية 50 والشعراء ـ 63 والأعراف ـ 138).

كذلك فإنّه يمكن إعتبار مصبّات الأنهار في البحار والمحيطات عبارة عن بحيرات عذبة، لأنّ مياه الأنهار عند إنصبابها في المحيط تدفع مياه البحار وتبقى غير قابلة للإختلاط لمدّة قصيرة.

________________________________

1 ـ لقد صنعت حالياً سفن حمولتها خمسمائة الف طنّ لنقل النفط، ولا يمكن لأيّة وسيلة اُخرى غير السفينة أن تنقل هذا المقدار الضخم من النفط، كما أنّه لا يمكن لأي طريق أن يحمل مثل هذه الناقلة، كما أنّ قدرة السفن في السابق كانت أكثر من قدرة الحيوانات.

[ 44 ]

7 ـ جملة (لتبتغوا من فضله) لها معنى واسع وشامل لكلّ فعّالية إقتصادية تعتمد على البحر.

* * *

 

بحث

العوامل المعنوية المؤثّرة في طول العمر

قام المفسّرون ببحوث مختلفة بما يتناسب مع البحث الوارد في هذه الآيات حول إطالة وإقصار العمر بأمر الله، وذلك بما يتوافق مع الروايات الواردة في هذا الخصوص.

طبيعي أنّ هناك سلسلة من العوامل الطبيعية التي تؤثّر على طول أو قصر العمر، والتي أصبح أكثرها معروفاً عند الناس، كالتغذية الصحيحة بعيداً عن الإفراط والتفريط، العمل وإدامة الحركة، تحاشي المواد المخدّرة، والإدمانات الخطرة والمشروبات الكحولية، الإبتعاد عن المهيّجات المستمرة، التمسّك بإيمان قوي يساعد الإنسان على العيش بإطمئنان وهدوء في الملمّات، ويعطيه القدرة على مواجهة ذلك.

وإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك عوامل اُخرى غير واضحة الإرتباط ظاهراً بقضيّة طول العمر، ولكن الروايات أكّدت عليها، وكنموذج نورد الروايات التالية:

أ ـ عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار»(1).

ب ـ وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «من سرّه أن يبسط في رزقه وينسىء له في أجله فليصل رحمه»(2).

________________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، مجلّد 4، صفحة 354 و355.2 ـ المصدر السابق.

[ 45 ]

ج ـ وفيما يخصّ بعض المعاصي مثل الزنا وأثرها في تقصير عمر الإنسان نقرأ في الرواية المشهورة عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «يامعشر المسلمين إيّاكم والزنا فإنّ فيه ستّ خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أمّا التي في الدنيا فإنّه يذهب بالبهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر»(1).

د ـ عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «البر وصدقة السرّ ينفيان الفقر ويزيدان في العمر، ويدفعان عن سبعين ميتة سوء»(2).

كذلك فقد وردت الإشارة إلى المعاصي والذنوب الاُخرى كالظلم، بل مطلق المعاصي.

بعض المفسّرين الذين لم يتمكّنوا من التفريق بين «الأجل المحتوم» و «الأجل المعلّق» اعترضوا على مثل هذه الأحاديث واعتقدوا بأنّها مخالفة لنصّ القرآن وأنّ عمر الإنسان له حدّ ثابت لا يتغيّر.

توضيح المسألة: ـ لا شكّ أن للإنسان أجلا محتوماً وأجلا معلّقاً.

الأجل المحتوم الذي هو نهاية إستعداد الجسم للبقاء، وبحلوله ينتهي كلّ شيء بأمر الله.

الأجل المعلّق أو المخروم الذي ينتفي بانتفاء شرائطه، مثلا إنسان ينتحر فلو أنّه لم يقم بتلك الكبيرة فإنّه سيبقى لسنوات اُخرى يواصل حياته. أو أنّه نتيجة تعاطي المشروبات الكحولية والمواد المخدّرة وممارسة الشهوات بدون قيد أو شرط، يفقد الجسم قدراته في مدّة قصيرة. في حال أنّه بالإبتعاد عن هذه الاُمور يستطيع أن يعيش لسنوات طويلة اُخرى.

هذه اُمور قابلة للإدراك والتجربة بالنسبة إلى الجميع، ولا يستطيع أحد أن ينكر ذلك.

________________________________

1 ـ المصدر السابق.2 ـ سفينة البحار، المجلّد 2، صفحة33 ـ مادّة صدقة.

[ 46 ]

كذلك فإنّه فيما يخصّ الأقدار فإنّ هناك اُموراً ترتبط بالأجل المخروم، وهي أيضاً غير قابلة للإنكار.

وعليه فإذا ورد في الروايات أنّ الإنفاق في سبيل الله أو صلة الرحم تطيل العمر وتدفع أنواعاً من البلاء، فهي في الحقيقة تقصد هذه العوامل.

وإذا لم نفصل بين الأجل المخروم والأجل المحتوم لا يمكننا إدراك كثير من الامور المتعلّقة بالقضاء والقدر، وتأثير الجهاد والسعي والعمل الدائب في الحياة، وسوف تبقى هذه الاُمور غير قابلة للحلّ.

هذا البحث يمكن توضيحه بمثال واحد بسيط وهو الآتي:

لو اشترى أحدهم سيارة جديدة بحيث يتوقّع من صناعتها أن تدوم عشرين عاماً، بشرط المحافظة عليها وصيانتها، وفي هذه الحالة فإنّ الأجل الحتمي لهذه السيارة هو عشرون عاماً، ولكن لو لم تتحقّق لها الصيانة المطلوبة وقام صاحبها بتسليمها إلى أشخاص لا مبالين وغير عارفين بقيادة السيارات، أو أن يحملها فوق طاقتها، أو أن يقودها بعنف في طرق وعرة يومياً، فإنّ أجلها المحتوم ذلك يمكن أن يهبط إلى النصف أو العشر، وذلك هو الأجل المخروم، ونحن نعجب كيف أنّ بعض المفسّرين لم يلتفتوا إلى هذه القضية الواضحة.

 

* * *

[ 47 ]

 

 

 

 

 

الآيتان

 

يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَل مُّسَمّىً ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَـمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير (14)

 

التّفسير

الأصنام لا تسمع دعاءكم!!

تعاود هذه الآيات الإشارة إلى قسم آخر من آيات التوحيد والنعم الإلهية اللامتناهية، لكي تدفع الإنسان مع تعريفه بتلك النعم إلى شكرها ومعرفة المعبود الحقيقي، وليرجع عن أيّ شرك أو عبادة خرافية، يقول تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل).

«يولج» من مادّة «إيلاج» بمعنى الدخول في مضيق. ويمكن أن يكون إشارة إلى أحد المعنيين أو كليهما، أي: الزيادة والنقص التدريجي في الليل والنهار على مدار السنة. ممّا يؤدّي إلى حصول الفصول المختلفة بكلّ آثارها وبركاتها، أو

[ 48 ]

الإنتقال التدريجي من الليل إلى النهار وبالعكس، وذلك بواسطة الشفق والغسق الذي يقلّل من مخاطر الإنتقال المفاجىء من النور إلى الظلام وبالعكس(1).

ثمّ يشير إلى مسألة تسخير الشمس والقمر فيقول تعالى: (وسخّر الشمس والقمر). وأيّ تسخير أفضل من حركة هذين الكوكبين باتّجاه تحقيق المنافع المختلفة للبشر، وهذا التسخير يعتبر مصدراً لمختلف أنواع البركات في حياة البشر، فإنّ السحاب والريح والقمر والشمس والأفلاك في حركة دائبة لكي يستطيع الإنسان إدامة حياته، وليفيق من غفلته فيذكر الواهب الأصلي لهذه المواهب بالنسبة إلى تسخير الشمس والقمر عرضنا شرحاً في تفسير الآية الثانية من سورة الرعد والآية 33 من سورة إبراهيم).

ومع ما تتمتّع به الشمس والقمر في أفلاكها من مسير دقيق ومنتظم لتؤدّي المنفعة المناسبة والجيّدة للبشر، فإنّ النظام الذي يحكمها ليس بخالد، فحتّى هذه السيارات العظيمة بكلّ ذلك النور والإشراق ستصيبها العتمة في النهاية. وتتوقّف عن العمل. لذا يشير تعالى إلى ذلك بعد ذكر التسخير فيقول: (كلّ يجري لأجل مسمّى).

فبمقتضى (إذا الشمس كوّرت وإذا النجوم إنكدرت)(2)، فإنّها جميعاً ستواجه مصير الإنطفاء والفناء.

بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لجملة (أجل مسمّى)، وذلك أنّها تعبير عن حركة دوران الشمس والقمر حول محوريهما، والتي تتمّ في الاُولى في عام، وفي الثانية في شهر واحد(3).

ولكن بملاحظة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في القرآن الكريم ـ بمعنى

________________________________

1 ـ بحثنا موضوع التغيير التدريجي لليل والنهار في تفسير الآية (27) من سورة آل عمران.2 ـ سورة التكوير، 1 ـ 2.3 ـ تفسير «روح البيان» و «أبو الفتوح الرازي».

[ 49 ]

إنتهاء العمر ـ يتّضح أنّ التّفسير المشار إليه صحيحاً، كما أنّ التّفسير الأوّل أيضاً ـ أي نهاية عمر الشمس والقمر ـ ورد في الآيات (61 ـ النحل و45 ـ فاطر 42 ـ الزمر 4 ـ النور 67 ـ غافر).

ثمّ يقول تعالى مسلّطاً الضوء على نتيجة هذا البحث التوحيدي (ذلكم الله ربّكم) الله الذي قرّر نظام النوم والظلام والحركات الدقيقة للشمس والقمر بكلّ بركاتها. (له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير)(1).

«قطمير»: على ما يقول الراغب: هو الأثر في ظهر النواة، وذلك مثل للشيء الطفيف، ويقول «الطبرسي» في مجمع البيان والقرطبي في تفسيره: هو الغشاء الرقيق الشفّاف الذي يغلف نواة التمر بكاملها. وعلى كلّ حال فهو كناية عن موجودات حقيرة تافهة.

نعم فهذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع، لا تدفع عنكم ولا حتّى عن نفسها، لا تحكم ولا تملك حتّى غلاف نواة تمر! فإذا كانت حالها كذلك، فكيف تعبدونها أيّها المغفّلون، وتريدون منها حلا لمشكلاتكم.

ثمّ تضيف الآية: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم)، لأنّها قطع من الحجر والخشب لا أكثر، جمادات لا شعور لها، (ولو سمعوا ما استجابوا لكم).

إذ اتّضح أنّها لا تملك نفعاً ولا ضرّاً حتّى بمقدار (قطمير) وعلى هذا فكيف تنتظرون منها أن تعمل لكم شيئاً أو تحلّ لكم عقدة.

وأدهى من ذلك (ويوم القيامة يكفرون بشرككم). ويقولون: اللهمّ إنّهم لم يعبدوننا، بل إنّهم عبدوا أهواءهم في الحقيقة.

هذه الشهادة إمّا بلسان الحال الذي يدركه كلّ شخص بآذان وجدانه، أو أنّ الله في ذلك اليوم يعطي فيه جوارح الإنسان وأعضاءه إمكانية التكلّم فتنطق هذه

________________________________

1 ـ التعبير بـ «الذين» الذي هو عادةً لجمع المذكّر العاقل، ذكرت هنا للأصنام بسبب إعتقاد المشركين الوهمي بهذه الموجودات الجامدة، وقد ذكره القرآن هكذا، ثمّ ردّ عليه بشدّة.

[ 50 ]

الأصنام أيضاً، ويشهدن بأنّ هؤلاء المشركين المنحرفين إنّما عبدوا في الحقيقة أوهامهم وشهواتهم.

ما ورد في هذه الآية شبيه بما ورد في الآية (28) من سورة يونس حيث يقول تعالى: (ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون).

احتمل جمع من المفسّرين أنّ أمثال هذه التعبيرات وردت بخصوص معبودات من أمثال الملائكة أو حضرة المسيح (عليه السلام)، لأنّ الحديث والتكلّم من خصوصية هؤلاء فقط، وجملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) إشارة إلى أنّهم مشغولون بأنفسهم إلى درجة أنّكم لو خاطبتموهم لا يسمعون دعائكم(1).

ولكن ـ مع الإلتفات إلى سعة مفهوم (الذين تدعون من دونه) ـ يظهر أنّ المقصود هو الأصنام، وأنّ جملة (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) ترتبط بالدنيا خاصّة. ثمّ يقول تعالى في ختام الآية من أجل تأكيد أكثر: أن لا أحد يخبرك عن جميع الحقائق كما يخبرك الله تعالى: (ولا ينبئك مثل خبير).

فإذا قالت الآية أنّ الأصنام تتنكّر لكم في يوم القيامة، وتتضايق منكم، فلا تتعجّبوا من هذا القول، فإنّ من يخبركم هو الذي يعلم بكلّ ما في هذا الكون بالتفصيل، فهو المحيط علماً بالمستقبل والماضي والحاضر.

* * *

 

بحث

الدين أصل التحوّلات:

بسبب إحساس العقائد المادية والشيوعية بالخطر من المذاهب السماوية الحقّة، فهي تدعوها بـ (أفيون الشعوب) أي أنّها عامل تخدير لأفكار الجماهير!!

________________________________

1 ـ ورد هذا التّفسير في مجمع البيان، وتفسير الآلوسي، والقرطبي.

[ 51 ]

وقد سعى المستعمرون في الغرب والشرق إلى تلقين مثل هذا الرأي عن طريق علماء الإجتماع وعلماء النفس، وذلك لتضليل الجماهير وإبعادها عن فطرتها، والذي دفعهم إلى هذا هو خوفهم وحذرهم من نهضة الشعوب المؤمنة المسلّحة بالأفكار الدينية السماوية، ومن إستقبالها الشهادة في سبيل الله بصدور رحبة!.. والأنكى من ذلك أنّهم أوعزوا منشأ الدين لجهل البشر بالعوامل الطبيعيّة.

والجواب على مثل الكلام مرّ في محلّه، ولسنا هنا في معرض سرد الردود جميعاً، ولكن الآيات التي نحن بصددها تدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر، واعتبرت طريق التفكّر هو الأساس لتطور وتكامل البشرية.

كيف يمكن أن يكون الإسلام داعية لتخدير أفكار الناس، أو أنّه نشأ بفعل جهل البشر بالعوامل الطبيعيّة، ويدعو الناس إلى النهضة والتفكّر والعيش بصفاء في محيط بعيد عن الضوضاء والضجيج الإعلامي المسموم، بعيداً عن التعصّب والعناد؟! هل يمكن إتّهام الدين الذي يدعو الناس لمثل هذه الأفكار بكونه أفيون الشعب، أو عامل تخدير لها؟!

ويمكن هنا القول: إنّ على الإنسان أن لا يفكّر لوحده وبشكل إنفرادي، بل عليه مشاورة الآخرين وأن تتعاضد آراؤه معهم، لسماع دعوة الأنبياء الصادقة، ومطالعة الدلائل والآيات التي جاؤوا بها .. عند ذلك يمكن للإنسان الإذعان للحقّ.

إنّ الأحداث التي مرّت في عصرنا الحالي سيّما نهضة المسلمين الثوريين في مختلف البلدان الإسلامية بوجه القوى الكبرى وعملائها في الشرق والغرب، والتي جعلت الدنيا ظلاماً دامساً في وجوههم، وهزّت كياناتهم، تشير جميعاً إلى أنّ الخطر الكبير الذي يتهدّد هذه القوى هو العقائد الدينية الأصيلة، ومن هنا يفهم هدف الإتّهامات الموجّهة ضدّ العقائد الدينية.

وممّا يثير العجب والغرابة أنّ علماء الإجتماع في الغرب قالوا بعدم وجود عالم ما وراء الطبيعة، واعتبروا الدين ظاهرة من صنع البشر، كما قالوا بوجود عوامل

[ 52 ]

مختلفة لنشوء الدين، كالعامل الإقتصادي، وخوف الإنسان، وعدم إطّلاعه، والعقد النفسية ... الخ!! كما أنّهم غير مستعدّين للتفكّر ولو للحظة واحدة بعالم ما وراء الطبيعة وبالدلائل المدهشة والواضحة لتوحيد الخالق جلّ وعلا، والعلامات الصريحة لنبوّة الأنبياء كنبيّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وغير مستعدّين أيضاً للتنصّل عن أحكامهم التي أثبتت فشلها.

لا يمكن أن نماثل بين هؤلاء وبين مشركي عصر الجاهلية بالتعصّب والعناد وعدم الإطّلاع، نعم، هؤلاء متعصّبون ومعاندون ولكنّهم مطّلعون، ولهذا فهم أكثر خطراً وضلالةً من مشركي عصر الجاهلية.

وممّا يجدر ذكره أنّ ذيل أكثر الآيات القرآنية يدعو الإنسان إلى التفكّر والتعقّل والتذكّر: فأحياناً تقول: (إنّ في ذلك لآية لقوم يتفكّرون) (النحل ـ 11 و69) واُخرى تقول: (إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) (الرعد ـ 3، والزمر ـ 42، والجاثية ـ 13) وثالثة تقول: (لعلّهم يتفكّرون) (الحشر ـ 21، والأعراف ـ 176)، وأحياناً تطرح الآيات القرآنية نفس المفهوم وجهاً لوجه (كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون) (البقرة ـ 219 و266).

وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من هذا القبيل، منه الدعوة إلى الفقه ـ أي الفهم ـ والدعوة إلى العقل والتعقّل، ومدح الناس المتعقّلين، والندم الشديد لاُولئك المتعصّبين، وقد جاء ذلك في (46) آية من آيات القرآن المجيد، وقد قال الكثير من العلماء: إنّنا لو أردنا جمع هذه الآيات وتفسيرها لأحتجنا إلى كتاب مستقل.

وفي هذا المجال ذكر القرآن الكريم أنّ أحد صفات أهل النار هو عدم التفكّر والتعقّل كقوله تعالى: (وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير) ومنه قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اُولئك كالأنعام بل هم أضلّ اُولئك هم الغافلون).

* * *

[ 53 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ (15)إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْق جَدِيد (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيز (17) وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِها لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (18)

 

التّفسير

لا تزر وازرة وزر اُخرى:

بعد الدعوة المؤكّدة إلى التوحيد ومحاربة أي شكل من أشكال الشرك وعبادة الأوثان، يحتمل أن يتوهّم البعض فيقول: ما هي حاجة الله لأن يُعبد بحيث يصرّ كلّ هذا الإصرار، ويؤكّد كلّ هذا التأكيد على عبادته وحده؟ لذا فإنّ هذه الآيات توضّح هذه الحقيقة وهي أنّنا نحن المحتاجون لعبادته لا هو سبحانه وتعالى، فتقول الآية الكريمة: (ياأيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).

[ 54 ]

فيا له من حديث مهمّ وقيم ذلك الذي يوضّح موقعنا في عالم الوجود من خالق الوجود، ويكشف الكثير من الغموض، ويجيب على الكثير من الأسئلة.

نعم، فالقائم بذاته غير المحتاج لسواه، واحد أحد، وهو الله تعالى، وكلّ البشر بل كلّ الموجودات محتاجة إليه في جميع شؤونها وفقيرة إليه ومرتبطة بذلك الوجود المستقل بحيث لو قطع إرتباطها به لحظة واحدة لأصبحت عدم في عدم، فكما أنّه غير محتاج مطلقاً، فإنّ البشر يمثّلون الفقر المطلق، وكما أنّه قائم بذاته، فالمخلوقات كلّها قائمة به تعالى، لأنّه وجود لا متناهي من كلّ ناحية، وواجب الوجود في الذات والصفات.

ومع حال كهذه، ما حاجته تعالى لعبادتنا؟! فنحن المحتاجون والفقراء إلى الله ونسلك سبيل تكاملنا عن طريق عبادته وطاعته، ونقترب بذلك من مصدر الفيض اللامتناهي، ونغترف من أنوار ذاته وصفاته.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الآية توضيح للآيات السابقة حيث يقول تعالى: (ذلكم الله ربّكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير).

وعليه فإنّ البشر محتاجون له لا لسواه، لذا فيجب عليهم أن لا يطأطئوا رؤوسهم لغيره تعالى، وأن لا يطلبوا حاجاتهم إلاّ منه تبارك إسمه، لأنّ ما سوى الله محتاج إلى الله كحاجتهم إليه، وحتّى أنّ تعظيم أنبياء الله وقادة الحقّ إنّما هو لأنّهم رسله تعالى وممثّلوه، لا لذواتهم مستقلّة.

وعليه فهو «غني» كما أنّه «حميد» أي إنّه في عين إستغنائه عن كلّ أحد، فهو رحيم وعطوف وأهل بكل حمد وشكر، وفي عين انّه أرحم الراحمين، فهو غير محتاج لأحد مطلقاً.

الإلتفات إلى هذه الحقيقة له أثران إيجابيان على المؤمنين، فهي تستنزلهم من مركب الغرور والأنانية والطغيان من جانب، وتنبههم إلى أنّهم لا يملكون شيئاً من أنفسهم يستقلّون به، وأنّهم مؤتمنون على كلّ ما في أيديهم من جانب آخر، لكي لا

[ 55 ]

يمدّوا يد الحاجة إلى غيره، ولا يضعوا طوق العبودية لغير الله في أعناقهم، وأن يتحرّروا من كلّ تعلّق آخر، ويعتمدوا على همّتهم، وبهذه النظرة الشمولية يرى المؤمنون أنّ كلّ موجود في هذا العالم إنّما هو من أشعّة وجوده تعالى، وأن لا ينشغلوا عن (مسبّب الأسباب) بالأسباب ذاتها.

جمع من الفلاسفة عدّوا هذه الآية إشارةً إلى البرهان المعروف «الإمكان والفقر» أو «الإمكان والوجوب» لإثبات واجب الوجود، مع أنّ الآية ليست في مقام بيان الإستدلال على إثبات وجود الله، بل إنّها شرح لصفاته تعالى، ولكن يمكن إعتبار البرهان المذكور من لوازم مفاد هذه الآية.

 

شرح برهان الإمكان والوجوب «الفقر والغنى»:

إنّ جميع الموجودات التي نراها في هذا العالم كانت كلّها ذات يوم «عدماً»، ثمّ اكتست بلباس الوجود، أو بتعبير أدقّ: كان يوم لم تكن شيئاً فيه، ثمّ صارت وجوداً، وهذا بحدّ ذاته دليل على أنّها معلولة في وجودها لوجود آخر، وليس لها وجود من ذاتها.

ونعلم بأنّ أي وجود معلول، مرتبط وقائم بعلّته وكلّه إحتياج، وإذا كانت تلك (العلّة) أيضاً معلولة لعلّة اُخرى فإنّها بدورها ستكون محتاجة، ولو تسلسل هذا الأمر إلى ما لا نهاية فسوف تكون الحصيلة مجموعة من الموجودات المحتاجة الفقيرة، وبديهي أنّ مجموعة كهذه لن يكون لها وجود أبداً، لأنّ منتهى الإحتياج إحتياج، ومنتهى الفقر فقر، وما لا نهاية له من الأصفار لا يمكن أن يحصل منه أي عدد، كما أنّه ممّا لا نهاية له من المرتبطات بغيرها لا تنتج أي حالة إستقلال.

من هنا نستنتج أنّنا في النهاية يجب أن نصل إلى وجود قائم بذاته، ومستقل من جميع النواحي، وهو علّة لا معلول، وهو واجب الوجود.

هنا يثار السؤال التالي: لماذا تتعرّض الآية أعلاه للإنسان وحاجته إلى الله

[ 56 ]

فقط؟ بينما جميع الموجودات تشترك في هذا الفقر؟

والجواب: إذا كان الإنسان ـ الذي يعتبر سيّد المخلوقات ـ غارقاً في الحاجة والفقر إلى الله، فإنّ حال بقيّة الموجودات واضحة، وبتعبير آخر فإنّ بقيّة الموجودات تشترك مع الإنسان في الفقر الذي هو «إمكان الوجود».

وتخصيص الحديث في الإنسان إنّما هو لأجل كبح جماح غروره، وإلفات نظره إلى حاجته إلى الله في كلّ حال، وفي كلّ شيء وكلّ مكان، ليكون ذلك أساس الصفات الحسنة والفضائل والملكات الأخلاقية، ذلك الإلتفات الذي يؤدّي إلى التواضع وترك الظلم والغرور والكبر والعصبية والبخل والحرص والحسد، ويبعث على التواضع أمام الحقّ.

ولتأكيد هذا الفقر والحاجة في الإنسان يقول تعالى في الآية التالية: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد).

وعليه فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إليكم أو إلى عبادتكم، وإنّما أنتم الفقراء إليه.

وهذه الآية شبيهة بما ورد في الآية (133) من سورة الأنعام حيث يقول تعالى: (وربّك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذريّة قوم آخرين).

فهو تعالى ليس محتاجاً لطاعتكم ولا خائفاً من معصيتكم، وفي نفس الوقت فإنّ رحمته الواسعة تشملكم جميعاً، ولا ينقص من عظمته شيئاً ذهاب العالم بأسره، كما أنّ خلق هذا العالم لا يضيف إلى مقام كبريائه شيئاً.

وفي الآية الثالثة أيضاً يعود التأكيد مرّةً ثانية فيقول تعالى: (وما ذلك على الله بعزيز) نعم، فإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وهذا يصدق على جميع عالم الوجود.

على كلّ حال، فإنّه تعالى إذا أمركم بالإيمان والطاعة والعبادة فإنّما ذلك

[ 57 ]

لأجلكم أنتم، وكلّ ما ينشأ عن ذلك من فائدة أو بركة إنّما يعود عليكم.

الآية الأخيرة من هذه الآيات تشير إلى خمسة مواضيع فيما يتعلّق بما سبق بحثه في الآيات السابقة:

الأوّل: من الممكن أن يثير ما ورد في الآية الماضية من قوله تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) سؤالا في أذهان البعض من أنّ المقصودين في هذه الآية ليس المذنبين فقط، إذ أنّ المؤمنين الصالحين موجودون في كلّ عصر وزمان، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أيضاً معرضين للعقوبات المترتبة على أعمال الطالحين، ويُحكمون بالفناء على حد سواء؟

هنا يجيب (ولا تزر وازرة وزر اُخرى).

«وِزر» بمعنى الثقل، وقد اُخذ من «وَزر» (على زنة كرب) بمعنى الملجأ في الجبل، وأحياناً يأتي بمعنى المسؤولية ويعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل، والوزير المتحمّل ثقل المسؤولية من أميره، والموازرة: المعاونة(1)، لأنّ الشخص عند المعاونة يتحمّل قسطاً من الثقل عن رفيقه.

وهذه الجملة تعتبر واحدة من الاُسس الهامّة في الإعتقادات الإسلامية، والحقيقة أنّها ترتبط من جانب بالعدل الإلهي، بحيث يرتهن كلّ بعمله. وهو تعالى إنّما يثيب الشخص على سعيه وإجتهاده في طريق الخير، ويعاقبه على ذنبه.

ومن جانب آخر فإنّ فيها إشارة إلى شدّة العقوبة يوم القيامة، بحيث لا يكون أحد مستعدّاً لتحمّل وزر عمل غيره على عاتقه مهما كان قريباً منه.

والإلتفات إلى هذا المعنى له الأثر الفعّال في البناء الروحي للإنسان، حيث يكون مراقباً لنفسه، ولا يسمح لها بالفساد بحجّة فساد الأقران أو المحيط، ففساد المحيط لا يمكن إعتباره مسوغاً لإفساد النفس، إذ أنّ كلا يحمل وحده وزر ذنبه.

ومن جانب آخر فإنّه يفهم الناس ويبصرهم بأنّ حساب الله للمجتمع لا يكون

________________________________

1 ـ الراغب في مفرداته كتاب الواو.

[ 58 ]

حساباً جمعياً، بل إنّ كلّ فرد يحاسب بشكل مستقل، أي إنّ الفرد إذا أدّى ما عليه من تطهير نفسه، ومحاربة الفساد، فليس عليه أدنى بأس أو خوف إذا كان العالم بأسره ملوّثين بالكفر والشرك والظلم والمعصية.

وأساساً فلن يكون لأي برنامج تربوي أثر ما لم يولّ إهتماماً لهذا الأصل المهمّ (دقّق النظر)!!

هذه المسألة تطرح في الجملة الثانية من الآية بشكل آخر، يقول تعالى: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى)(1).

في حديث عن ابن عبّاس أو غيره، أنّ اُمّاً وإبنها يأتيان في يوم القيامة وكلاًّ منهما عليه ذنوب كثيرة، وتطلب الاُمّ من إبنها أن يحمل عنها بعض تلك المسؤوليات في قبال تربيتها له وحملها به، فيقول لها إبتعدي عنّي فأنا أسوأ منك حالا(2).

ويبرز هنا السؤال التالي: هل أنّ هذه الآية تنافي ما ورد في الروايات الكثيرة حول السنّة السيّئة والسنّة الحسنة؟ حيث أنّ الروايات تقول: «من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزرها ووزر من عمل بها».

 

ولكنّنا إذا التفتنا إلى نكتة واحدة، يتّضح الجواب على هذا السؤال، وهي أنّ عدم تسجيل ذنب أحد على آخر، إنّما هو في صورة أن لا يكون له سهم في ذلك

________________________________

1 ـ «مثقلة» بمعنى «الحامل لحمل ثقيل» ويقصد بها هنا حامل الوزر على عاتقه، و (حمل): على ما يقوله الراغب: معنى واحد اعتبر في أشياء كثيرة، فسوّي بين لفظة في فعل وفرّق بين كثير منها في مصادرها، فقيل في الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر (حِملٌ)، وفي الأثقال المحمولة في الباطن (حَملٌ) كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تشبيهاً بحمل المرأة، ولأنّ ما ورد في هذه الآية، هو تشبيه للذنب بالحمل المحمول على العاتق، فيجب أن تقرأ بكسر الحاء.2 ـ مع أنّ الحديث ورد في تفاسير مختلفة حيناً عن الفضيل بن عيّاض، وحيناً عن ابن عبّاس، ولكن يستبعد أن يكون الحديث عنهما مستقلا، فمن الممكن أن يكون أصل الحديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم).راجع تفسير (أبو الفتوح، والقرطبي، وروح البيان) وقد أوردناه بالمعنى.

[ 59 ]

العمل، ولكن إذا كان له سهم في إيجاد سنّة، أو الإعانة والمساعدة أو الترغيب والتشجيع، فمن المسلّم أنّه يُحسب من عمله ويكون شريكاً ومساهماً في ذلك العمل.

وأخيراً، في الجملة الثالثة من الآية، ترفع الستارة عن حقيقة أنّ إنذارات الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لها أثرها في القلوب المهيّأة لذلك فقط، تقول الآية الكريمة: (إنّما تنذر الذين يخشون ربّهم بالغيب وأقاموا الصلاة).

فإن لم يكن خوف الله متمكّناً من القلب، ولم يكن هناك إحساس بمراقبة قوّة غيبية في السرّ أو العلن، ولم تنفع الصلاة التي تؤدّي إلى إحياء القلب والتذكير بالله في تقوية ذلك الإحساس ... فلن يكون لإنذارات الأنبياء أثر يذكر.

وحين لا يكون الإنسان قد إعتنق عقيدة ما ولم يؤمن، فلو لم تكن لديه روح البحث عن الحقّ، وإحساس بالمسؤولية تجاه معرفة الحقيقة، فلن يصغي لدعوة الأنبياء، ولن يتفكّر في آيات الله في هذه الدنيا.

وفي الجملة الرابعة يعود مرّة اُخرى إلى حقيقة (إنّ الله غير محتاج لأحد) فتضيف: (ومن تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه).

وفي الختام ينبّه في الجملة الخامسة إلى أنّ المحسنين والمسيئين إن لم ينالوا جزاء أعمالهم في الدنيا فليس لذلك أهميّة ما دام المصير إلى الله (وإلى الله المصير) وبالتالي فانّه سيحاسب الجميع على أعمالهم.

 

* * *

[ 60 ]

 

 

 

 

 

الآيات

 

وَمَا يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلاَ الظُّلُمَـتُ وَلاَ النُّورُ(20) وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِى الاَْحْيَاءُ  وَلاَ  الاَْمْوَتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِع مَّن فِى الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)

 

التّفسير

وما تستوي الظلمات ولا النّور:

تذكر الآيات مورد البحث ـ بما يتناسب مع البحوث التي مرّت حول الإيمان والكفر في الآيات السابقة ـ أربعة أمثلة جميلة للمؤمن والكافر، توضّح بأجلى شكل آثار الإيمان والكفر.

في المثال الأوّل: شبّه «الكافر والمؤمن» بـ «الأعمى والبصير» حيث تقول الآية الكريمة: (وما يستوي الأعمى والبصير).

الإيمان نور وإشراق، يعطي البصيرة والمعرفة للإنسان في النظرة إلى العالم، وفي الإعتقاد، والعمل وفي كلّ الحياة، أمّا الكفر فظلمة كالحة، فلا إعتقاد صحيح ونظرة سليمة عن العالم، ولا عمل صالح.

[ 61 ]

تشير الآية (257) من سورة البقرة إلى هذا الموضوع فتقول: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات اُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

وبما أنّ العين المبصرة وحدها لا تكفي لتحقّق الرؤية، فيجب توفّر النور والإضاءة أيضاً لكي يستطيع الإنسان ـ الإبصار بمساعدة هذين العاملين ـ تضيف الآية التالية: (ولا الظلمات ولا النور).

لأنّ الظلام منشأ الضلال، الظلام سبب السكون والركود، الظلام مسبّب لكلّ أنواع المخاطر، أمّا النور والضياء فهو منشأ الحياة والمعيشة والحركة والرشد والنمو والتكامل، فلو زال النور لتوقّفت كلّ حركة وتلاشت جميع الطاقات في العالم، ولعمّ الموت العالم المادّي ـ بأسره، وكذلك نور الإيمان في عالم المعنى، فهو سبب الرشد والتكامل والحياة والحركة.

ثمّ تضيف الآية (ولا الظلّ ولا الحرور) فالمؤمن يستظلّ في ظلّ إيمانه بهدوء وأمن وأمان، أمّا الكافر فلكفره يحترق بالعذاب والألم.

يقول «الراغب» في مفرداته: الحرور: (على وزن قبول) الريح الحارّة. وإعتبرها بعضهم «ريح السموم» وبعضهم قال بأنّها «شدّة حرارة الشمس».

ويقول «الزمخشري» في الكشّاف: «السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار، وقيل بالليل خاصّة»(1)، على أيّة حال، فأين الحرور من الظلّ البارد المنعش الذي يبعث الإرتياح في روح وجسم الإنسان.

ثمّ يقول تعالى في آخر تشبيه: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات). المؤمنون حيويون، سعاة متحرّكون، لهم رشد ونمو، لهم فروع وأوراق وورود وثمر، أمّا الكافر فمثل الخشبة اليابسة، لا فيها طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظلّ لها،  ولا تصلح إلاّ حطباً للنار.

________________________________

1 ـ الكشّاف، الجزء 3، ص608.

[ 62 ]

في الآية (122) من سورة الأنعام نقرأ: (أو من كان ميّتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).

وفي ختام الآية يضيف تعالى: (إنّ الله يُسمع من يشاء) لكي يسمع دعوة الحقّ ويلبّي نداء التوحيد ودعوة الأنبياء (وما أنت بمسمع من في القبور).

فمهما بلغ صراخك، ومهما كان حديثك قريباً من القلب، ومهما كان بيانك معبّراً، فإنّ الموتى لا يسعهم إدراك شيء من ذلك، ومن فقد الروح الإنسانية نتيجة الإصرار على المعاصي، وغرق في التعصّب والعناد والظلم والفساد، فبديهي أنّ ليس لديه الإستعداد لقبول دعوتك.

وعليه فلا تقلق من عدم إيمانهم، ولا تجزع، فليس عليك من وظيفة إلاّ الإبلاغ والإنذار (إن أنت إلاّ نذير).

* * *

 

بحوث

1 ـ آثار الإيمان والكفر

نعلم أنّ القرآن لا يعير إهتماماً للحواجز الجغرافية والعرقية والطبقية وأمثالها ممّا يفرّق بين الناس، فالقرآن الكريم يعتبر أنّ الحدّ هو الحدّ بين ]الإيمان والكفر[، وعليه فإنّه يقسّم المجتمع البشري إلى قسمين «المؤمنين» و «الكافرين».

ولتعريف «الإيمان» شبّهه القرآن الكريم بـ «النور»، كما أنّه شبّه الكفر بـ «الظلام» وهذا التشبيه أحسن مؤشّر على ما يستخلصه القرآن الكريم من مسألة الكفر والإيمان(1).

فالإيمان نوع من الإحساس والنظرة الباطنية، ونوع من العلم والمعرفة متوائمة

________________________________

1 ـ راجع الآيات 257: البقرة، 15: المائدة، 16: المائدة، 1 و5: إبراهيم، 22: الزمر، 9: الحديد، 11: الطلاق.

[ 63 ]

مع عقيدة قلبية وحركة، ونوع من التصديق الذي ينفذ في أعماق روح الإنسان ليكون منبعاً لكلّ الفعّاليات البنّاءة.

أمّا الكفر، فجهل وعدم معرفة وتكذيب يؤدّي إلى تبلّد، بل فقدان الإحساس بالمسؤولية، كما يؤدّي إلى كلّ أنواع الحركات الشيطانية والتخريبية.

كذلك نعلم أيضاً بأنّ «النور» منشأ لكلّ حياة وحركة ونمو ورشد في الحياة، بالنسبة إلى الإنسان والحيوان والنبات، على عكس الظلام فهو عامل الصمت والنوم والموت والفناء في حال إستمراره. لذا فلا عجب حينما يشبه القرآن الكريم «الإيمان والكفر» «بالنور والظلمة» تارةً و «بالحياة والموت» تارةً اُخرى، وفي مكان آخر يشبّههما (بالظلّ الظليل والريح السموم)، أو حينما يشبّه (المؤمن والكافر) (بالبصير والأعمى). وقد أوضحنا كلّ ما يتعلّق بهذه التشبيهات الأربعة.

ولا نبتعد كثيراً، فعندما نجالس (مؤمناً) نحسّ أثر ذلك النور في كلّ وجوده، أفكاره تنير لمن حوله، وحديثه مليء بالإشراق، أعماله وأخلاقه تعرّفنا حقيقة الحياة وحياة الحقيقة.

أمّا الكافر فكلّ وجوده مليء بالظلمة، لا يفكّر إلاّ بمنافعه الماديّة وكيفية الترقّي في الحياة الماديّة، أفقه وفضاء فكره لا يتجاوز حدود حياته الشخصية، غارق في الشهوات، لا يدفع روح وقلب جليسه إلاّ إلى أمواج الظلمات.

وعليه فإنّ ما أوضحه القرآن في هذه الآيات، قابل للإدراك والتعقّل بشكل محسوس وملموس.

 

2 ـ هل أنّ الموتى واقعاً لا يدركون؟

من ملاحظة ما ورد في الآيات أعلاه، يطرح هنا سؤالان:

الأوّل: كيف يقول تعالى في القرآن الكريم مخاطباً الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وما أنت بمسمع من في القبور)؟ مع أنّه جاء في الحديث المعروف أنّ الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)

[ 64 ]

أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طويّ من أطواء بدر خبيث مخبّث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلمّا كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته، فشدّ عليها رحلها ثمّ مشى واتّبعه أصحابه وقالوا: ما نراه ينطلق إلاّ لبعض حاجته، حتّى قام على شفة الركي مجفل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يافلان بن فلان ويافلان بن فلان أيسّركم أنّكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّاً فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّاً؟ قال: فقال عمر: يارسول الله ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «والذي نفس محمّد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»(1).

أو ما ورد في آداب دفن الموتى من تلقينهم عقائد الحقّ.

فكيف يمكن التوفيق بين هذه الاُمور والآيات مورد البحث أعلاه.

يتّضح الجواب على هذا السؤال إذا أخذنا بنظر الإعتبار ما يلي: إنّ الحديث في الآيات كان حول عدم إدراك الموتى بالشكل الطبيعي والإعتيادي، أمّا الرواية التي ذكرناها أو تلقين الميّت فإنّما ترتبط بظروف خاصّة وغير عاديّة، حيث أنّ الله سبحانه مكّن حديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الحالة من الوصول إلى أسماع الموتى.

وبتعبير آخر فإنّ الإنسان في عالم البرزخ ينقطع إرتباطه مع عالم الدنيا، إلاّ في الموارد التي يأذن الله فيها أن يوصل هذا الإرتباط، ولذا فإنّنا لا نستطيع عادةً الإتّصال بالموتى في الظروف العادية.

السؤال الآخر: هو إذا كان حديثنا غير بالغ أسماع الموتى فما معنى لسلامنا على الرّسول الأكرم والأئمّة (عليهم السلام) والتوسّل بهم، وزيارة قبورهم، وطلب الشفاعة منهم عند الله؟

________________________________

1 ـ تفسير «روح البيان» ذيل الآيات مورد البحث: وورد هذا الحديث أيضاً في صحيح البخاري بتفاوت يسير (صحيح البخاري، الجزء الخامس، ص97 باب قتل أبي جهل).

[ 65 ]

وقد إستندت جماعة من الوهّابيين المعروفين بجمودهم الفكري على هذا التوهّم الباطل، وبالتمسّك بظواهر الآيات القرآنية، دون الإهتمام بمحتواها العميق، أو الإلتفات إلى الأحاديث الشريفة الكثيرة الواردة في هذا المجال، سعوا إلى نفي وردّ مفهوم «التوسّل» وإثبات بطلانه.

الجواب على هذا السؤال أيضاً يتّضح ممّا ذكرناه كمقدّمة في الإجابة على السؤال الأوّل، من أنّ التعامل مع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأولياء الله يختلف عنه مع الآخرين، فهؤلاء كالشهداء (بل إنّهم يحتّلون الصفّ الأوّل أمام الشهداء) وهم أحياء وخالدون، وهم مصداق لقوله: (أحياءٌ عند ربّهم يرزقون)، وبأمر من الله فإنّهم يحتفظون بإرتباطهم بهذا العالم، كما أنّهم يستطيعون وهم في هذه الدنيا أن يتّصلوا بالموتى ـ كما في حالة قتلى بدر ـ .

إستناداً إلى ذلك نقرأ في روايات كثيرة وردت في كتب الفريقين أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة (عليهم السلام) يسمعون سلام من يسلّم عليهم سواء كان قريباً أو بعيداً، بل إنّ أعمال الاُمّة تعرض عليهم(1).

الجدير بالملاحظة أنّنا مأمورون بالسلام على الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في التشهّد الأخير للصلوات اليومية، وهذا إعتقاد المسلمين عامّة، أعمّ من كونهم شيعة أو سنّة، فكيف يمكن مخاطبة من لا يمكنه السماع أصلا؟

كذلك وردت روايات متعدّدة في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة، عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ الله»(2).

كذلك وردت الإشارة في نهج البلاغة إلى مسألة الإرتباط مع أرواح الموتى، فعندما كان أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه قال راجعاً من صفّين أشرف

________________________________

1 ـ كشف الإرتياب، ص109 ـ كذلك فقد أشرنا إلى روايات (عرض الأعمال) عند تفسير الآية (105) من سورة التوبة ـ راجع المجلّد السادس من هذا التّفسير.2 ـ صحيح مسلم، كتاب الجنائز ، حديث 1 و2 (المجلّد 2، صفحة 631).

[ 66 ]

على القبور بظاهر الكوفة: «ياأهل الديار الموحشة ... إلى أن قال: أما لو أُذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى»(1).

 

3 ـ تنويع التعبيرات جزء من الفصاحة

لوحظ في التشبيهات الأربعة الواردة في الآيات أعلاه، تعبيرات متفاوتة تماماً مثلا (أعمى ـ بصير) و (ظلّ ـ حرور) جاءت بصورة المفرد في حال أنّ (أحياء ـ أموات) بصورة الجمع، وجاءت (ظلمات ـ نور) بصورة جمع والثانية بصورة مفرد.. هذا من جانب.

ومن جانب آخر فقد قدمت التشبيهات ذات المنحى السلبي على غيرها في التشبيه الأوّل والثاني (أعمى ـ ظلمات) في حال قدمت التشبيهات ذات المنحى الإيجابي في التشبيه الثالث والرابع (ظلّ ـ أحياء).

ومن جانب ثالث تكرّرت أداة النفي في التشبيهات الثاني والثالث والرابع في حين أنّها لم تتكرّر في التشبيه الأوّل.

وأخيراً، فإنّ جملة (ما يستوي) وردت فقط في التشبيه الأوّل والأخير، ولا أثر لها في التشبيهات الاُخرى.

بعض المفسّرين علّلوا هذه الإختلافات بتعليلات كثيرة بعضها جدير بالإهتمام وبعضها الآخر مورد مساءلة.

وضمن جملة التعليلات اللطيفة أنّ جمع «الظلمات» وإفراد «النور» للتدليل على أنّ الظلمة ـ التي تعني الكفر ـ ذات تشعّبات كثيرة، بينما حقيقة «الإيمان» والتوحيد واحدة ليس إلاّ. فالإيمان كالخطّ المستقيم الذي يوصل بين نقطتين لا وجود لسواه بينهما، في حين أنّ ظلمة الكفر مثل آلاف الآلاف من الخطوط المتعرّجة المنحرفة التي يمكن إيجادها بين نقطتين.

________________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، جملة 130.

[ 67 ]

كذلك فإنّ تقديم التشبيهات ذات المنحى السلبي في المثالين الأوّليين إنّما هو للإشارة إلى الإسلام نقل الناس من الجاهلية وظلمات الشرك إلى نور الهداية.

وأمّا المثالان الأخيران فإشارة إلى المراحل الاُخرى التي أحكم الإسلام فيها جذوره في القلوب، ووسّع المناحي الإيجابية في المجتمع.

وإذا تجاوزنا كلّ ذلك فإنّ التنوّع أصلا في البيان يمنح الحديث طراوة وروحاً خاصّة، ممّا يجعل ذلك مؤثّراً وجميلا وجذّاباً، في حال أنّ التكرار على نمط واحد يسلب الحديث لطافته ـ إلاّ في موارد إستثنائية ـ وبناءً على هذا فإنّ الفصحاء والبلغاء يسعون دائماً إلى تنويع تعبيراتهم وجعلها مؤثّرة، ونعلم أنّ القرآن على أعلى درجات الفصاحة والبلاغة.

وعليه، فلو لم يكن غير مراعاة الفصاحة أمر آخر لكفى، مع أنّ من الممكن أن يتوصّل غيرنا من الأجيال القادمة إلى كشف أسرار اُخرى غير ما ذكرنا ممّا هو محجوب عنّا الآن.

 

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21335177

  • التاريخ : 28/03/2024 - 14:25

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net