00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة النور من أول السورة ـ آية 26 من ( اول المجلد 11 ـ 66 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الحادي عشر   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد الحَادي عَشَر

 

[5]

سُورَةُ الـنُّور

مَدنيّة وعددُ آياتِها أربَع وَسِتُّونَ آية

وهي تشكل الجزء الثّامن عشر من القرآن الكريم

[7]

«سورة النّور»

 فضل سورة النور:

جاء في حديث عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمِن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقى».

وجاء في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «حصنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النّور وحصّنوا بها نساءكم، فإنَّ من أدْمَنَ قراءتها في كل يوم أو في كل ليلة لم يزن أحَدٌ من أهل بيته أبداً حتى يموت»(1).

والإهتمام بمضمون السورة الذي دعا بطرق مختلفة إِلى مكافحة عناصر الإِنحراف بالتزام العفّة، يوضح الغاية الاساسية في الحديثين اعلاه ومفهومهما العملي.

محتوى سورة النّور:

يمكن اعتبار هذه السورة خاصّة بالطهارة والعفة، وكفاح الإِنحطاط الخلقي، لأن محور تعاليمها ينصب على تطهير المجتمع بطرق مختلفة مِن الرذائل والفواحش، والقرآن الكريم يحقق هذا الهدف عبر مراحل، هي:

المراحلة الأُولى: بيان العقاب الشديد للمرأة الزانية والرجل الزاني، وهو ما ورد حاسماً في الآية الثّانية من هذه السورة.

_____________________________

 

1 ـ تفسير مجمع البيان للآية موضع البحث، وكتاب ثواب الأعمال للصدوق (حسبما نقله نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 568).

[8]

المرحلة الثّانية: بيان حد الزنا الذي لا تَنْبِغي إِقامَتُه إِلاّ بشروط مشدّدة للغاية، إذ لابُدَّ من أربعةِ شهود يشهدون أنّهم رأوا بأُمِّ أعيُنِهم رجلا غريباً يَزْني بأمرأة غريبة عنه، يَفْعَلُ بِها فِعْلَ الزوج بزوجِه ساعة مُباشرته إيَّاها.

وَلو شهدَ الرجلُ على زوجتِه بالزّنا للاعَنَ القاضِي بينهما، أو يُقرِّ أحدُهما أو كلاهما بالحق.

ومن اتَّهم محصنةً ولم يأتِ بَأربعةِ شهود جلدَهُ القاضي أربعة أخماسِ حدّ الزِّنا، أي ثمانين جلدة، لِئلاّ يتصوَّرَ أحَدُ أنَّ بإمكانه الطَّعْنَ على الناسِ وَهَتك حُرُماتِهِم وهو في منجىَّ عن العقاب.

ثمّ طرحت الآية بهذه المناسبة الحديث المعروف باسم الإِفك، وما فيه من اتّهام إحدى نساء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). فعقّب القرآن المجيد على هذه المسألة مُوضَحاً للمسلمين مَدَى بشاعة الإِفتراء والتهمةِ، وَفظاعَةِ إشاعةِ الفاحِشة عُدواناً على الناس، وكاشفاً عمّا ينتظر القائم بذلك من عقوبات إِلهية.

وفي المرحلة الثّالثة: تناولت الآية أحد السبل المهمّة لاجتناب التدهور الأخلاقيّ، من أجل ألا يُتصوَّرَ أنَّ الإِسلام يهتم فقط بمعاقبة المذنبين.

فطرحت الآية نظر الرجال إِلى النساء بشهوة أو بالعكس، وحجاب المرأة المسلمة، لأنَّ أحد أسباب الإِنحراف الجنسي المهمّة ناجم عن هاتين المسألتين. وإذا لم تحل هاتان المسألتان جذرياً، لا يمكنُ القضاءُ على الإِنحطاط والتفسخ.

وفي المرحلة الرّابعة: كخطوة للنجاة من التلوث بما يُخِلُّ بالشرف ـ دعا القرآن المجيد إِلى الزواج اليسير التكاليف، ليحارب الإِشباع الجنسي غيرالمشروع باشباع مشروع.

وفي المرحلة الخامسة: بيّنت الآيات جانباً من آداب المعاملة، ومبادىء تربية الأولاد وعدم دخول الأبناء الغرفة المخصصة للوالدين في ساعات الخلوة والاستراحة إِلاَّ بإذن منهما، بغية المحافظة على أفكارهم من الإِنحراف. كما بيّنت

[9]

آداب الحياةِ الأُسريّة عامّة.

وفي المرحلة السادسة: جاء ذكر مسائل خاصّة بالتوحيد والمبدأ والمعاد والإِمتثال لتعاليم النّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم). كلّ ذلك خلال البحوث المطروحة. ومن المعلوم أن الإِعتقاد بالوحدانية والنّبوة والمبدأ والمعاد. يدعم مناهج التربية الأخلاقية في الفردِ والجماعة، فذلك الإِعتقاد هو الأصل، وما عداهُ مَنْ أمور فروع عَلَيْه، تورق وتثمر إِذا قويَ الأصْلُ واشتَدَّ.

وتطرقت بحوث هذه الآيات إِلى حكومة المؤمنين الصالحين العالمية، وأشارت إِلى تعاليم إسلامية أُخرى، وهي تشكل ـ بمجموعها ـ وحدة متكاملة شاملة.

 

* * *

[10]

 

الآيات

سُورَةٌ أَنزَلْنَـهَا وَفَرَضْنَـهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَآ ءَاَيَـتِ بَيِّنَـت لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَحِد مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَان أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)

 

التّفسير

حد الزاني والزانية:

سمّيت هذه السورة بالنّور لأنّ آية النور فيها من أهم آياتها، إضافة إِلى أنّ مضمونها يشعشع في جوانح الرجل والمرأة والأسرة والبشر عفّة وطهارة، وحرارة تقوى، ويعمر القلوب بالتوحيد والإِيمان بالمعاد والإِستجابة لدعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وأُولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة إِلى مجمل بحوث السورة (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون).

[11]

«سورة» كلمة مشتقّة من «السور» أي الجدار المرتفع، ثمّ أطلقت على الجدران التي تحيط بالمدن لحمايتها من مهاجمة الأعداء. وبما أنّ هذه الجدران كانت تعزل المدينة عن المنطقة المحيطة بها، فقد استعملت كلمة «سورة» تدريجياً في كل قطعة مفصولة عن شيء، ومنها استعملت لتعني قِسماً من القرآن. كما قال بعض اللغويين: إِنَّ «سورة» بناء جميل مرتفع، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على قسم من بناء كبير، وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن بعض(1).

وعلى كل حال فإنّ هذه العبارة إشارة إِلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة ـ من اعتقادات وآداب وأوامر إِلهية ـ ذات أهمّيّة فائقة، لأنّها كلها من الله.

وتؤكّد ذلك عبارة «فرضناها»، لأنّ «الفرض» يعني قطع الشي الصلب والتأثير فيه كما يقول الراغب في مفرداته.

وعبارة (آيات بينات) قد تكون إشارة إِلى الحقائق المنبعثة عن التوحيد والمبدأ والمعاد والنّبوة، التي تناولتها هذه السورة. وهي إزاء «فرضنا» التي تشير إِلى الأوامر الإِلهية والاحكام الشرعية التي بيّنتها هذه السورة. وبعباره أخرى: إحداها تشير إِلى الاعتقادات، والأُخرى إِلى الأحكام الشرعية.

ويحتمل أن تعني «الآيات البينات» الأدلة التي استندت إِليها هذه الأحكام الشرعية.

وعبارة (لعلكم تذكرون) تؤكّد أن جذور جميع الاعتقادات الصحيحة، وتعاليم الإِسلام التطبيقية، تكمن في فطرة البشر.

وعلى هذا الأساس فإن بيانها يعتبر نوعاً من التذكير.

وبعد هذا الإستعراض العام. تناولت السورة أوّل حكم حاسم للزاني والزانية

_____________________________

 

1 ـ «لسان العرب» المجلد الرّابع، مادة «سور».

[12]

(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) ولتأكيد هذا الحكم قالت (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر).

وأشارت الآية في نهايتها إِلى مسألة أخرى لإكمال الإستنتاج من العذاب الإِلهي (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين).

وتشتمل هذه الآية على ثلاثة تعاليم:

1 ـ الحكم بمعاقبة النساء والرجال الذين يمارسون الزنا.

2 ـ إقامة هذا الحكم الإِلهي بعيداً عن الرأفةِ بمن يقامُ عليه، فهذه الرأفةُ الكاذبة تؤدّي إِلى الفساد وانحطاط المجتمع. وتضع الآيةُ الإِيمان بالله ويوم الحساب مُقابِل الرأفةِ التي قَدْ يحس بها أحد تجاه الزاني والزانية ساعةِ إِقامة الحدّ عليهما، لأن أداء الأحكام الإِلهية من غير تأثُرِ بالعواطِفَ دليل على صدق الإِيمان بالمبدأ والمعاد، والإيمان بالله العالم الحكيم يعني أنّ لكل حكم من أحكامه غاية وهدف حكيم، والإيمان بالمعاد يُشعر الإِنسان بالمسؤولية إزاء كل مخالفة.

وذكر بهذا الصدد حديث مهم عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «يُؤتي بوال نقص من الحدّ سوطاً، فيقال له: لِمَ فعلت ذلك؟ فيقول: رحمةً لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم منّي؟! فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطاً، فيقال له: لم فعلت ذلك؟ فيقول: لينتهوا عن معاصيك! فيقول: أنت أحكم به منّي؟! فيؤمر به إلى النّار!».(1)

3 ـ أوجب الله حضور عدد من المؤمنين في ساحة معاقبة الزناة ليتعظ الناس بما يرونَ مِنْ إقامة حكم الله العادل على المذنبين، وبملاحظة النسيج الإِجتماعي للبشر نرى أن انحطاط الشخص لا ينحصر فيه، بل يسري إِلى الآخرين، ولإتمام التطهير يجب أن يكون العقاب علناً مثلماً كان الذنب علناً.

_____________________________

 

1 ـ تفسير الفخر الرّازي، المجلد الثّالث والعشرين، صفحة 148.

[13]

وبهذا يتّضح الجواب عن السؤال: لِمَ يعرّض الإِسلامُ كرامة إنسان بين الناس إلى الخدش والامتهان؟ فيقال: ما دَامَ الذنبُ سِرَّاً لِمَ يَطَّلِعْ عليه أحَدٌ وَلم يبلُغ القضاء، فلا بأسَ بكتمانِهِ في النفس وإستغفارِ الله مِنْهُ، فإنَّه تعالى يَسْتُرُهْ بلطفِهِ ويُحبُّ مَنْ يَسْتُرهُ، أمّا إذا ظهر الجُرْمُ بالأدِلَّةِ الشرعيّةِ، فلابُدَّ من تنفيذ العقاب بشكل يبطل آثار الذنب السيئة، ويبعثُ على استفظاعه وَبَشاعته. ومن الطبيعي أن يولي المجتمع السليم الأحكامَ اهتماماً كبيراً، فتكرار التحدِّي للحدود الشرعيَّة يُفْقِدُها فاعليتها في صيانَةَ الطمأنينة والأستقرار في النفوس، ومِنْ هنا وجبت إقامة هذا الحَدِّ عَلَناً ليمتنع الناسُ مِن تكرار فاحِشَة ساءَتْ سبيلا.

ويجب أن لا ننسى أن كثيراً من الناس يهتم باطّلاع الناسِ على سُوءِ فِعله أكثر من اهتمامه بِما يَنْزِلُ به من العقابِ على ذلك الفِعل الشنيع. ولهذا وجبت إقامة الحَدِّ على الزَّاني بحضور الناس، وهذا الإعلان لإقامة هذا الحدِّ الإِلهي أمام الناس قد يمنع المفسدين مِن الإستمرار في الفَسادِ ويكون بمثابة فرامل قوية امام التمادي في ركوب الشهوات.

وبعد بيان حدِّ الزِّنا، جاء بيان حكم الزواج من هؤلاء في الآية الثّالثة وكما يلي (الزاني لا ينكح إِلاّ زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين).

اختلف المفسّرون في كون هذه الآية بياناً لحكم إلهي، أو خبراً عَنْ قضيّة طبيعيَة.

فيرى البعض أنَّ الآية تبيّن واقعة ملموسة فقط، فالمنحطون يختاروُن المنحطات، وكذلِك يفعلْنَ هن في اختيارهن، بينما يَسْمُو المتطهّرون المؤمنون عن ذلك. ويحرّمون على أنفسهم اختيار الأزواج من ذلك الصنف تزكيةً وتطهيراً، وهذا ما يَشْهَدُ به ظاهِرُ الآية الذي جاء على شكل جملة خبرية.

إِلاّ أنّ مجموعة أُخرى ترى في هذه العبارة حكماً شرعياً وأمراً إِلهياً يمنع

[14]

المؤمنين من الزواج مع الزانياتِ، ويمنع المؤمناتِ من الزواج مع الزناة، لأنّ الإِنحرافات الأخلاقية كالأمراضِ الجسميةِ المعدية في الغالب. فضلا عن أنَّ ذلك عارٌ يأباهُ المؤمِنُ وينأى عنه.

مضافاً إلى المصير المبهم والمشكوك للأبناء الذين ينشؤون في احضان ملوثة ومشكوكة. ينتظر الأبناءَ من مثل هذا الزواج!

ولهذه الأسباب والخصوصيات منعه الإسلام.

والشاهد على هذا التفسير جملة (وحرِّم ذلك على المؤمنين) الّتي تدلّ على تحريم الزنا.

والدليل الآخر أحاديث عديدة رويت عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) التي فسّرت هذه الآية باعتبارها حكماً إلهياً ينص على المنع.

وحتى أن بعض كبار المفسّرين كتب بشأن نزول هذه الآية: إنّ رجلا من المسلمين استأذن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في أن يتزوج «أم مهزول» وهي امرأة كانت تسافح ولها راية على بابها، فنزلت الآية(1)، عن عبدالله بن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة والزهري، والمراد بالآية النهي وإن كان ظاهرها الخَبَر.

ويؤيده ما روي عن أبي جعفر(عليه السلام) وأبي عبدالله(عليه السلام) أنّهما قالا: «هم رجال ونسَاء كانوا على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مشهورين بالزنا، فنهى الله عن أُولئك الرجال والنساء، والناس على تلك المنزلة، فمن شهر بشيء من ذلك وأقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى تعرف توبته»(2).

ولا بد أن نذكّر أن العديد من الأحكام جاء جملا خبرية. ولا ضرورة لأن تكون إنشائيةً آمرةً ناهيةً.

والجديرُ بالإِنتبَاهِ أَنَّ المشركين كانوا يعطفون على الزُناةُ، وهذا يكشِفُ عن

_____________________________

 

1 ـ مجمع البيان، تفسير الآية موضع البحث والقرطبي في تفسيره لهذه الآية. حيث رويا هذا الحديث.

2 ـ مجمع البيان، من تفسير الآية موضع البحث.

[15]

أنَّ الزّنا والشِّركَ صنوانِ. قال الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص»(1)

* * *

 

ملاحظات

1 ـ الحالات التي يعدم فيها الزاني

ما ذكرته الآيةُ السابقة حكْمٌ عامٌّ يُستثنى منه زنا المحصّن والمحصنة، فحدُّهُما القتل، إذا ثبت عليهما الجُرْمُ.

ويقصد بالمحصن الرجل الذي له زوجة تعيشُ معه، والمحصنة هي المرأة المتزوجة التي يعيش زوجها معها فمن توفر له السبيل المشروع لإرضاء الغريزة الجنسية ثمّ يزني فإنّ حدّه القتل.

كما أن الزنا بالمحرمات حكمه الإعدام.

وكذلك الزنا بالعنف والإكراه، أي الاغتصاب فحكمه القتل أيضاً. وفي بعض الحالات يحكم إضافة إِلى الجلد بالنفي وأحكام أُخرى ذكرتها الكتب الفقهية.

 

2 ـ لماذا ذكرت الزانية أولا؟

لا شك في أنّ ممارسة هذا العمل الذي يخالف العفة، هي في غايةِ القبح، وتزدادُ قُبحاً وبشاعةً بالنسبة للمرأةِ، فحياؤها أكثر من حياء الرجل، والخروج عليه دليل تمرد شديد جدّاً. وإضافة إلى أنّ عاقبته المشؤومةَ بالنسبةِ لها أكبر رغم فداحتِهِ وَوَبالِه على الطرفين كليهما.

_____________________________

 

1 ـ الكافي، الأصول، المجلد الثاني، صفحة 26 (المطبعة الإسلامية عام 1388). حسبما نقله صاحب نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 571.

[16]

ويحتمل أن تكون المرأة مصدر الوساوس في اقتراف هذا الذنب، وتعتبر في كثير من الأحيان السبب الأصلي فيه. ولهذا كله ذكرت الآية الزانية أولا ثمّ الزاني. إلاّ أن النساء والرجال من أهل العفّة والإيمان يجتنبون هذه الأعمال.

 

3 ـ لماذا تكون العقوبة علنية؟

تستوجب الآية السابقة ـ التي جاءت بصيغة الأمر ـ حضور طائفة من المؤمنين حين تنفيذَ حدّ الزنا، لكنّ القرآن لم يشترط أن يجري ذلك في الملأ العام، بل وقفه على الظروف، ويكفي حضور ثلاثة أشخاص أو أكثر وفق ما يقرر القاضي(1).

وفلسفة هذا الحكم واضحة; لأنّه أوّلاً: إنّ الهدف هو أن يكون هذا الحكم عبرة للناس جميعاً، وسبباً لتطهير المجتمع.

وثانياً: ليكون خجل المذنب مانعاً له من ارتكاب هذا الذنب في المستقبل.

وثالثاً: متى نفذ الحدّ بحضور مجموعة من الناس يتبرأ القاضي والقائمين على تنفيذ الحدّ من أية تهمة كالإِرتشاء أو المهادنة أو التفرقة أو ممارسة التعذيب وأمثال ذلك.

ورابعاً: حضور مجموعة من الناس يمنع التعنت والإِفراط في تنفيذ الحدّ.

وخامساً: حضور الناس يمنع المجرم من نشر الشائعات والإِتهامات ضد القاضي، كما يحول هذا الحضور من نشاط المجرم التخريبي في المستقبل وغير ذلك من الفوائد.

 

_____________________________

 

1 ـ شكك عدد من المفسّرين في ضرورة حضور مجموعة من المؤمنين حين تنفيذ حدّ الزنا، في حين أن الأمر بالحضور ظاهر من الآية، وهي لا تقصد الإِستحباب.

[17]

4 ـ ماذا كان حدّ الزاني سابقاً؟

يستفاد من الآيتين (15) و (16) من سورة النساء أنّ الحكم قبل نزول سورة النّور كان السجن المؤَيَّد للزانية (فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت)وإلحاق الأذى بالزناة غير المحصنين (فآذوهما) ولم يحدد مقدار هذا الأذى حتى حددته هذه الآيةُ بمائة جلدة. وعلى هذا حلّ الإِعدام محل السجن المؤيد في الحكم على الزانية المحصنة، وحُدِّدَ الأذى لغير المحصن بمائة جلدة (ولمزيد من الإِطّلاع راجع التّفسير الأمثل في تفسير الآيتين (15) و (16) من سورة النساء).

 

5 ـ منع الإِفراط والتفريط عند تنفيذ الحدّ!

لا ريب في أنّ القضايا الإِنسانية والعاطفية توجب بذل أقصى الجهود لمنع إصابة بريء بهذا العقاب، وإصدار العفو وفق الأحكام الإِلهية، أمّا إذا ثبت الذنب فلابُدَّ مِن الحسم مِن غير تأثر بالمشاعر الكاذبة والعواطف البشرية إلاّ بالحَقّ، فهيجانُها الجارفُ يُلحِقُ بالنظام الإِجتماعي ضرراً كبيراً.

ولا سيما وقد وردت في الآية عبارة: «في دين الله» أي: عندما يكون الحكم من الله فهو أَبْصَرُ وأحكَم بمواقِع الرأفةِ والرَّحمةِ، فحين ينهى عن الإِنفعال العاطفيّ في إقامة حكم شَرْعِي من أجل أنّ أكثرية الناس تتملّكهم هذه الحالة، فيحتمل غلبة عواطفهم واحساساتهم على عقلهم وايمانهم. ولا جدالَ في وجود فئة قليلة من الناس تِمِيلُ إِلى العُنْفِ، وهذا انحرافُ عَمَّا دَعَانا إليه رَبُّ العِزَّةِ والحِكمةِ ـ سبحانَهُ ـ مِنَ العَدْلِ والإِحسان اللذين لا يظهران إِلاّ بإقامةِ أحكامِهِ الرشيدة، فلا ينبغي لِمُسلِم أن يزيد أو ينقص في حكم الله سبحانه.

 

[18]

6 ـ شروط تحريم الزواج بالزانية والزاني:

ذكرنا أن ظاهر الآيات السابقة يحرّم الزواج من الزانية والزاني، وخصصتِ الأحاديث الشريفةُ ذلك بالذين اشتهروا بالزنى ولم يتوبوا، وأمّا إذا لم يشتهروا بهذا العمل القبيح، أو أنّهم تركوه وطهّروا أنفسهم منه، وحافظوا على عفتهم،  فلا مانع من الزواج منهم.

أمّا الدليل على الصورة الثّانية، وهي حالة التوبة، فإنه لا ينطبق عنوان الزاني والزانية على هؤلاء فكانت حالة مؤقّتة زالت عنهم. أمّا في الحالة الأُولى فقد ورد هذا القيد في الروايات الإِسلامية ويؤيده سبب نزول الآية السابقة. ففي حديث معتبر عن الإمام الصادق(عليه السلام) أن الفقيه المعروف «زرارة» سأَله عن تفسير (الزاني لا ينكح إلاّ زانية). فقال الإمام(عليه السلام): «هن نساء مشهورات بالزنا ورجال مشهورون بالزنا، قد شهروا بالزنا وعرفوا به، والناس اليوم بذلك المنزل، فمن أقيم عليه حد الزنا، أو شهر بالزنا، لا ينبغي لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه توبته»(1)

كما جاءت أحاديث أُخرى بهذا المضمون.

 

7 ـ فلسفة تحريم الزنا:

لا يخفى على أحد مساويء هذا العمل القبيح على الفرد والمجتمع، ومع ذلك نرى من اللازم بيان هذا المعنى باختصار: إنّ ممارسة هذا العمل القبيح وانتشاره يعرّض النظام الأسريّ إلى الدمار.

ويجعل العلاقة بين الابن وأبيه غامضة وسلبية.

وقد بيّنت لنا التجربة أنّ الأولاد المجهولي النسب يتحولون إلى جُناة خطرين

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الرّابع عشر، ص 335.

[19]

على المجتمع.

كما أنّ هذا العمل القبيح يؤدي إلى مصادمات بين أصحاب المطامع والأهواء.

إضافة إلى انتشار أنواع الأمراض النفسية والجلدية. وذلك ليس خافياً على أحد.

ومن نتائجه المشؤومة الإِجهاضُ وارتكاب الجرائم من هذا القبيل (ولمزيد الإِطلاع راجع التّفسير الأمثل آخر الآية 32 من سورة الإِسراء).

 

* * *

 

[20]

 الآيتان

 

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنـتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَـنِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَـدَةً أَبَدَاً وَأُؤلَـئكَ هُمُ الْفَـسِقُونَ(4) إَلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رِّحِيمٌ(5)

 

التّفسير

عقوبة البهتان:

قَد يستغِلّ المعترضون ما نَصَّتْ عليه الآيات السابقة من عقوبات شديدة للزاني والزانية فيسيئون للمتطهّرين، فبيّنت الآيات اللاحقةُ هنا عقوبات شديدة للذين يرمون المحصنات، ويُسخّرونَ هذا الحكم لأغراضهم الدنيئة. فجاءت هاتان الآيتان لحفظ الحرمات الطاهرة وصيانة الكرامات مِن عبث هؤلاء المفسدين.

تقول الآية: (والذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء)فالأشخاص الذين يتّهمون النساء العفيفات بعمل ينافي العفّة (أي الزنا)، ولم يأتوا بأربعة شهود عدول لاثبات ادعائهم. فحكمهم (فاجلدوهم ثمانين جلدة) وتضيف

[21]

الآية حكمين أخرين: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، وأُولئك هم الفاسقون).

فهنا لا يقع مثل هؤلاء الأشخاص تحت طائلة العقاب الفيزيقي الشديد فحسب، بل إنّ كلامهم وشهادتهم يسقطان عن الإعتبار أيضاً، لكيلا يتمكنوا من التلاعب بسمعة الاخرين وتلويث شرفهم في المستقبل، مضافاً إلى أن وصمة الفسق تكتب على جببينهم فيفتضح أمرأهم في المجتمع. وذلك لمنعِهم من تلويث سمعة الطاهرين.

وهذا التشديد في الحكم المشرَّع لحفظ الشرفِ والطهارةِ، ليس خاصاً بهذه المسألة، ففي كثير من التعاليم الإِسلامية نراه ماثلا أمامنا للأهمية البالغة التي يمنحها الإِسلام لشرف المرأة والرجل المؤمن الطاهر.

وجاء في حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «إذا اتهم المؤمن أخاه انماث الإِيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء»(1).

ولكِنَّ المولى العزيزَ الحكيمَ سبحانه وتعالى لا يسدّ بابَ رحمته في وجه التائبين، الذين تابوا من ذنوبهم وطهّروا أنفسهم، وندموا على ما فرَّطوا، وسعوا في تعويض ما فاتهم مِن البرِّ (إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفور رحيم).

وقد اختلف المفسّرون في كون هذا الإِستثناء يعود إلى جملة (أُولئك هم الفاسقون) أو إِلى جملة (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً)، فإذا كانَ الإِستثناءُ عائداً إلى الجملتينِ معاً، فمعنى ذلك قبول شهادتهم بعد التوبة وإزالَتُه الحكمَ بفسقهم. أمّا إذا كان عائداً إلى الجملة الأخيرة، فإن الحكم عليهم بالفسق سيزول عنهم في جميع الأحكام الإِسلامية، إلاَّ أن شهادتهم تظل باطلة لا تُقبَلُ منهم حتى آخر أعمارهم.

إلاَّ أن المبادىء المعمول بها في «أُصول الفقه» تقول: «إن الإستثناء الوارد

_____________________________

 

1 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، صفحة 269، باب التهمة وسوء الظن.

[22]

بعد عدّة جمل يعود إلى الأخيرةِ منها، إلاَّ في حالة وجود قرائن تنص على شمول هذه الجمل بهذا الإستثناء. وهنا يوجد مثل هذه القرينة، لأنّه عندما يزول الحكم بالفسق عن الشخص بتوبته إلى الله، فلا يبقى دليل على رَدُّ شهادته لأنّ عدم قبول الشهادة كان من أجل فسقه. فإذا تاب ورجعت إليه ملكة العدالة فلا يسمى فاسقاً.

وجاءت أحاديث عن أهل البيت(عليهم السلام) مؤكّدة هذا المعنى، فقد روى أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد وحماد عن القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حداً، ثمّ يتوب ولا نعلم منه إلاّ خيراً أتجوز شهادته؟ قال: «نعم. ما يقال عندكم؟».

قلت: يقولون: توبته فيما بينه وبين الله، ولا تقبل شهادته أبداً.

فقال: «بئس ما قالوا: كان أبي يقول: إذا تاب ولم نعلم منه إلاّ خيراً جازت شهادته»(1)

كما رويت أحاديث أُخرى في هذا الباب بهذا المعنى، ولكن يوجد حديث واحد يحمل على التقية.

ومن الضروري أن نذكّر بأن كلمة «أبداً» في جملة (لا تقبلوا لهم شهادة أبداً)دليل على عمومية الحكم. وكما نعلم فإنّ كل عام يقبل الإستثناء (خاصّة الإستثناء المتصل به)، فالرأي القائل أن لفظة (أبداً) تمنع تأثير التوبة خطأ مؤكّد.

* * *

 

بحوث

1 ـ المراد من كلمة «رمى»

«الرّمي» في الأصل هو اطلاق السهم أو قذف الحجر وأمثالهما، وطبيعي أنه

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 18 كتاب الشهادات، الباب 36 صفحة 282.

[23]

يؤذي في معظم الأوقات، وقد استخدمت الكلمة هنا كناية عن اتهام الأشخاص وسبابهم ووصفِهم بما لا يليق، لأن هذه الكلمات كالسهم يصيب الشخص ويجرحه.

ولعل ذلك هو السبب في استخدام هذه الآيات ـ والآيات المقبلة ـ لهذه الكلمة بشكل مطلق، فلم ترِدِ الآيةُ على هذا النحو (والذين يرمون المحصنات بالزنا) وإنّما جاءت (والذين يرمون المحصنات) لأنّ مفهوم «يرمون» وخاصّة مع ملاحظة القرائن الكلامية يستبطن معنى (الزنا)، وعدم التصريح به ولا سيما عند الحديث عن النساء العفيفات نوع من الاحترام لهن. وهذا التعبير مثال بارزٌ لإكرام المتطهرين، ونموذج لإحترام الآدب والعفة في الكلام.

 

2 ـ لماذا أربعة شهود؟

من المعلوم أن شاهدين عادلين يكفيان ـ في الشريعة الإِسلامية ـ لإثبات حق، أوذنب اقترفه شخص ما، حتى وإن كان قتل النفس. أمّا في إثبات الزنا فقد اشترط الله تعالى أربعة شهود. وقد يكون ذلك لأن الناس يتعجلون الحكم في هذه المسألة، ويتطاولون بإلصاق تهمة الزنا بمجرّد الشك، ولهذا شدّد الإِسلام في هذا المجال ليحفظ حرمات الناس وشرفهم. أمّا في القضايا الأُخرى ـ حتى قتل النفس ـ فإن موقف الناس يختلف.

إضافة إلى أن قتل النفس ذو طرف واحد في الدعوى، أي إنّ المجرم واحد، أمّا الزنا فذو طرفين، حيث يثبت الذنب على شخصين أو يُنْفَى عنهما، فإذ كان المخصص لكل طرف شاهدين، فيكون المجموع أربعة شهود.

وهذا الكلام تضمنه الحديث التالي: عن أبي حنيفة قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام)أيّهما أشدّ الزنا أم القتل؟ قال: فقال(عليه السلام): القتل: قال: فقلت: فما بال القتل جاز فيه شاهدان، ولا يجوز في الزنا إِلاَّ أربعة؟ فقال لي: ما عندكم فيه يا أبا حنيفة، قال:

[24]

قلت: ما عندنا فيه إلاَّ حديث عمر، إنّ الله أجرى في الشهادة كلمتين على العباد، قال: ليس كذلك يا أبا حنيفة ولكنّ الزنا فيه حدّان، ولا يجوز أن يشهد كلّ اثنين على واحد، لأنّ الرجل والمرأة جميعاً عليهما الحدّ، والقتل إنّما يقام الحدّ على القاتل ويدفع عن المقتول(1).

وهناك حالات معينة في الزنا، ينفذ الحد فيها على طرف واحد (كالزنا بالإِكراه وأمثاله) إلاّ أنها حالات مستثناة والمتعارف فيه اتفاق الطرفين، ومن المعلوم أن غايات الأحكام تتبع الغالب في الأفراد.

 

3 ـ الشّرط المهم في قبول التوبة

قلنا مراراً: إنّ التوبة ليست فقط بالندامة على ما اقترفه الإنسان وتصميمه على تركه في المستقبل، بل تقتضي ـ إضافة إلى هذا ـ أن يقوم الشخص بالتعويض عن ذنوبه اقترفها، فإذا وجّه المرء تهمة لامرأة أو رجل طاهر ثمّ تاب، فيجب عليه أن يعيد الاعتبار إلى من تَضَرَّرَ باتّهامِه، وذلِك بأن يكذب هذه التهمة بَيْنَ كل الذين سمعوها عنه.

فعبارة (واصلحوا) التي أعقبت عبارة (تابوا) هي إشارة إلى هذه الحقيقة، حيث أوجبت التوبة ـ كما قلنا ـ أولا، ثمّ إصلاح ما أفسده وإعادة ماء وجه الذي أساء إليه، وليس صحيحاً أن يتَّهم إنسانٌ أخاهُ ظلماً في ملأ عام، أو يعلن عن ذلك في الصحّف وأجهزة الإعلام، ثمّ يستغفر في خلوة داره ـ مثلا ـ ويطلب من الله الصفح عنه، وبالطبع لن يقبل الله مثل هذه التوبة.

لذلك روي عن أئمّة المسلمين قال الرّاوي: سألته عن الذي يقذف المحصنات، تقبل شهادته بعد الحدّ إذا مات؟ قال: نعم، قلت، وما توبته؟ قال:

_____________________________

 

1 ـ نور الثقلين، المجلد الثالث، ص 574.

[25]

 لا يجىء فيكذب نفسه عند الإمام ويقول: «قد افتريت على فلانة ويتوب ممّا قال»(1).

 

4 ـ أحكام القذف:

يوجد باب تحت عنوان «حد القذف» في كتاب الحدود.

و«القذف» على وزن «فَعْلُ» يعني لغةً رمي الشيء نحو هدف بعيد، إلاّ أنّه استخدمت كلمة «رمى» كناية عن إتهام شخص ما في عرضه، أو بتعبير آخر: هو سباب يرتبط بهذه الأُمور.

و «القذف» إذا جرى بلفظ صريح، وبأي لغة وأية صورة فحدّة ـ كما قلنا سابقاً ـ هو ثمانون جلدةً. وإذا لم يكن صريحاً فيعزّر القاذف. (ولم ترد في الشريعة الإِسلامية حدود للتعزير، بل وكل التعزير إلى تقدير القاضي، ليقرر حدودها وفق خصائص المذنب وكيفية وقوع الذنب والشروط الأُخرى).

وإذا وجه شخص اتهاماً لمجموعة من الناس، وكرره بالنسبة لكل واحد منهم، فإنه يواجه حدّ القذف لكل تهمة تفوّه بها، أمّا إذا اتهمهم مرّة واحدة، فينفَّذُ بحقه حَدٌّ واحدٌ إن طالبوا القاضي جميعاً مرة واحدة. وأمّا إذا أقام كلّ واحد منهم الدعوى بصورة مستقلة، فإنه يعاقب المذنب بعدد هذه الدعاوي.

وهذا الموضوع من الأهمية إلى درجة أنّه إذا إتهم شخصاً ومات المتهم، فلورثته الحق في المطالبة باقامة الحدّ على الذي إتهم مورثّهم بشيء. وبما أن هذا الحكم مرتبط بحق الشخص، فلصاحب الحق العفو عن الذنب وإسقاط الحدّ عنه، بإستثناء حالة تكرر هذا الذنب من شخص معين بحيث يعرض وجود وشرف المجتمع إلى الخطر، فيكون حسابه عسيراً.

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد الثامن عشر، صفحة (283) (أبواب الشهادات باب 36 الحديث 4).

[26]

وإذا تسابّ شخصان سَقَط الحد عنهما، إلاَّ أنّ حاكم الشرع يعزرهما، ولهذا  لا يجوز للشخص رَدُّ السّباب بالمثل، بَل لَهُ أنْ يطلب من حاكم الشرع معاقبة المذنب.

وعلى كل حال فإنّ هذا الحكم الإِسلامي يَرْمي إلى المحافظة على سمعة الناس وشرفهم، وإلى الحيلولةِ دون انتشار المفاسد الإِجتماعية والأخلاقية التي يبتلي المجتمع بها عن هذا الطريق. ولو تُرِكَ المفسدون يعملون ما يحلو لهم يسبّون ويتهمون الأشخاص والمجتمع متى شاؤوا دون رادع، لتعرض شرف الناس وكرامتهم إلى الهتك، ولوصل الأمر بسبب هذه التهم الباطلة إلى وقوع الريبة بين الزوج وزوجته، وسوء ظن الأب بشرعية ولده إلى الخطر. ويسيطر الشك وسوء الظن على المجتمع كله. وتروّج الشائعات فتصيب الطاهرين أيضاً. وهنا يستوجب العمل بحزم كبير مثلما عامل الإِسلام هؤلاء المسيئين مروّجي التهم والشائعات.

أجل، يجب أن يُضربوا ثمانين جلدة إزاء كل تهمة بالزنا ليقفوا عند حَدّهم، ولتتم المحافظة على كرامة الناس وشرفهم.

* * *

 

[27]

 

 

الآيات

 

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدآءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَـدَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّـدِقِينَ (6)وَالْخَـمِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَـذِبينَ (7)وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَـدَتِ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَـذِبينَ(8) وَالْخَـمِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الْصَّـدِقينَ(9) وَلَوْ لاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأنَّ اللهُ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)

 

سبب النّزول

روى ابن عباس أن سعد بن عبادة (سيد الأنصار) من الخزرج، قال لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بحضور جمع من الأصحاب: «يا رسول الله! لو أتيت لكاع (زوجته) وقد يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله ما كنت لآتي باربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة، فقال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

[28]

يا معشر الأنصار ما تَسمعون إلى ما قال سيدكم؟

فقالوا: لا تلمه فإنّه رجل غيور. ما تزوج امرأة إلاّ بكراً، ولا طلّق امرأة له فاجترى رجل منّا أن يتزوجها.

فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، بأبي أنت وأُمي، والله إنّي لأعرف أنّها من الله، وأنّها حق، ولكن عجبت من ذلك لما اخبرتك.

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): فإنّ الله يأبى إلاّ ذاك.

فقال: صدق الله ورسوله.

فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ابن عم له، يقال له: هلال بن أُمية قد رأى رجلا مع امرأته ليلا، فجاء شاكياً إلى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إنّي جئت أهلي عِشَاءُ فوجدت معها رجلا رأيته بعيني وسمعته بأُذني.

فكره ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى رؤيت الكراهة في وجهه، فقال هلال: إنّي لأرى الكراهة في وجهك، والله يعلم إنِّي لصادق، وإنّي لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً.

فهمَّ رسولُ الله بضربه، واجتمعت الأنصار وقالوا: ابتلينا بما قال سعد، أيجلد هلال وتبطل شهادته؟ فنزل الوحي وأمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد نزل، فأنزل الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآيات، فقال رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أبشريا هلال، فإنّ الله تعالى قد جعل فرجاً.

فقال: قد كنت أرجوا ذاك من الله تعالى.(1)

وبنزول الآيات السابقة علم المسلمون الحل السليم لهذه المشكلة، وشرحها كما يأتي.

* * *

_____________________________

 

1 ـ تفاسير مجمع البيان، وفي ظلال القرآن، ونورالثقلين، والميزان، في تفسير الآيات موضع البحث (مع بعض الإختلاف).

[29]

التّفسير

عقاب توجيه التهمة إلى الزوجة!

يستنتج من سبب النّزول أنّ هذه الآيات في حكم الإِستثناء الوارد على حد القذف، فلا يُطبق حدّ القذف (ثمانين جلدة) على زوج يتّهم زوجته بممارسة الزنا مع رجل آخر، وتقبل شهادته لوحدها. ويمكن في هذه الحالة أن يكون صادقاً كما يمكن أن يكون كاذباً في شهادته. وهنا يقدم القرآن المجيد حلا أمثل هو:

على الزوج أن يشهد أربع مرات على صدق ادعائه (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم الشهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) وبهذا على الرجل أن يعيد هذه العبارة «اشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها من الزنا» أربع مرات لإثبات ادعائه من جهة، وليدفع عن نفسه حد القذف من جهة أُخرى. ويقول في الخامسة: «لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين».

وهنا تقف المرأة على مفترق طريقين، فإمّا أن تقر بالتهمة التي وجهها إليها زوجها، أو تنكرها على وفق ما ذكرته الآيات التالية.

ففي الحالة الأُولى تثبت التهمة.

وفي الثّانية (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين). وبهذا الترتيب تشهد المرأة خمس مرات مقابلُ شهادات الرجل الخمس ـ أيضاً ـ لتنفي التهمة عنها. بأن تكرر أربع شهادات «أشهد بالله إنّه لمن الكاذبين فيما رماني من الزنا» وفي الخامسة تقول «أن غضب الله عليَّ إن كان من الصادقين».

وهذِهِ الشهاداتُ منهما هي ما يسمّى بـ «اللعان»، لاستخدام عبارة اللعن في الشهادة.

وليترتب على هذين الزوجين أربعة أحكام نهائية.

[30]

أوّلها: انفصالهما دون طلاق.

وثانيها: تحرم الزوج على الزوجة إلى الأبد، أي لا يمكنهما العودة إلى الحياة الزوجية معاً بعقد جديد.

وثالثها: سقوط حد القذف عن الرجل، وحد الزنا عن المرأة (وإذا رفض أحدهما تنفيذ هذه الشهادات يقام عليه حَدُّ القذف إن كان الرافض الرجل، وإن كانت المرأة يقام عليها حد الزنا.

ورابعها: الطفل الذي يولد بعد هذه القضية لا ينسب إلى الرجل، وتحفظ نسبته للمرأة فقط.

ولم ترد تفاصيل الحكم السابق في الآيات المذكورة أعلاه، وإنّما جاء في آخر الآية موضع البحث (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). فهذه الآية إشارة إجمالية إلى تأكيد الأحكام السابقة، لأنّها تدل على أن اللعانَ فضل من الله، إذ يحل المشكلة التي يواجهها الزوجان، بشكل صحيح.

فمن جهة لا يجبر الرجل على التزام الصمت إزاء سوء تصرف زوجته ويمتنع من مراجعة الحاكم الشرعي.

ومن جهة أُخرى لا تتعرض المرأة إلى حدّ الزنا الخاص بالمحصنة بمجرّد توجيه التهمة إليها، بل يمنحها الإسلام حق الدفاع عن نفسها.

ومن جهة ثالثة لا يلزم الرجل البحث عن شهود أربعة إن واجه هذه المشكلة، لاثبات هذه التهمة النكراء والكشف عن هذه الفضيحة المخزية.

ومن جهة رابعة يفصل بين هذين الزوجين ولا يسمح لهما بالعودة إلى الحياة الزوجية بعقد جديد في المستقبل أبداً، لتعذّر الإستمرارُ في الحياة الزوجيةِ إن كانت التهمة صادقة، كما أن المرأة تصاب بصدمة نفسية إن كانت التهمة كاذبة. وتجعل الحياة المشتركة ثانية صعبة للغاية ولا تقتصر على حياة باردة وخاملة، بل ينتج عن هذه التهمة عداء مستفحلٌ بينهما.

[31]

ومن جهة خامسة توضح الآية مستقبل الوليد الذي يولد بعد توجيه هذه التهمة.

هذا كله فضل من الله ورحمة منّ بها على عباده. وحل هذه المشكلة بشكل عادلُ يُعبِّرُ عَنْ لطفِ اللهِ بعبادِهِ وَرَحمته لهم. ولو دققنا النظر في الحكم لرأينا أنّه  لا يتقاطع مع ضرورة وجود شهود أربعة في هذه القضية. إذ أن تكرار كل من الرجل والمرأة شهادتهما أربع مرات يعوض عن ذلك.

* * *

 

ملاحظات

1 ـ لماذا استثني الزوجان من حكم القذف؟

السّؤال الأوّل الذي يطرح نفسه هنا: ما هي خاصية الزوجين، ليصدر هذا الحكم المستثنى بحقّهما؟

ونجد جواب هذا السؤال من جهة في سبب نزول الآية، وهو عدم تمكن الرجل من التزام الصمت إزاء مشاهدته لزوجته وهي تخونه مع رجل آخر.

كيف له أن يمتنع عن رد الفعل إزاء الإعتداء على شرفه؟ وإذا توجّه إلى القاضي وهو يصرخ ويستنجد، فقد يواجه حدّ القذف، لعدم تيقن القاضي من صدق دعواه. وإذا حاول إحضار أربعة شهود، فإن ذلك صعب عليه لمساسه بشرفه، وقد تنتهي الحادثة ولا يمكنه إحضار شهوده في الوقت المناسب.

ومن جهة أُخرى، فإنّ الغرباء يتّهمون بعضهم بعضاً بسهولة، ولكن الرجل والمرأة نادراً ما يتّهم أحدهما الآخر.

ولهذا السبب حكم الشارع في هذه القضية بوجوب إحضار أربعة شهود في غير الزوجين، وإلاّ نُفِّذَ حَدُّ القذف على الذي يوجه تهمة الزنا، وليس الأمر كذلك بالنسبة للزوجين، ولهذا خصّهما الحكم المذكور لما فيهما من ميزات خاصّة في هذه الحالة.

[32]

2 ـ كيفية اللعان

توصلنا بعد الإِيضاحات التي ذكرناها خلال تفسير هذه الآيات، إلى وجوب تكرار الرجل شهادته أربع مرات ليثبت صحة دعواه في اتهامه لزوجته بالزنا، ولينجو من حَدِّ القذف. وبهذا فإن هذه الشهادات الأربع من الزوج بمثابة أربعة شهود، وفي الخامسة يتقبل لعنة الله عليه إن كان كاذباً.

ومع الإلتفات إلى أن تنفيذ هذه الاحكام يتم عادة في محيط اسلامي ملتزم وبيئة متديّنة، ويرى الزوج نفسه مضطراً للوقوف بين يدي الحاكم الشرعي، ليدلي بشهادته أربع مرات بشكل حاسم لا يقبل الشك والترديد، وفي الخامسة يطلب من الله أن يلعنه إن كان كاذباً، فهذا كله يمنع الرجل من التهوّر وتوجيه اتهام باطل إلى زوجته.

أمّا المرأة التي تريد الدفاع عن نفسها وترى نفسها بريئة من هذه التهمة، فعليها تكرار شهادتها أربع مرات وتشهد أن التهمة باطلة، لإيجاد موازنة بين شهادتي الرجل والمرأة، وبما أن التُّهمة موجهة للمرأة، فإنّها تدافع عن نفسها بعبارة أقوى في المرحلة الخامسة، حيث تدعو الله أن ينزل غضبه عليها إن كانت كاذبة.

وكما نعلم فإنّ «اللعنة» إبتعاد عن الرحمة.

وأمّا «الغضب» فإنّه أمر أشد من اللعنة، لأنّ الغضب يستلزم العقاب، فهو أكثر من الابتعاد عن الرحمة.

ولهذا قلنا في تفسير سورة الحمد: إنَّ (المغضوب عليهم) هم أسْوَأ من (الضالين) على الرغم من أنّ الضالّين هم بالتأكيد بعيدون عن رحمة الله تعالى.

 

3 ـ العقاب المحذوف في الآية:

جاءت الآية الأخيرةُ ـ ممّا نحن بصدده ـ جملةً شرطيةً لم يذكر جزاءها

[33]

حيث تقول: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله توّاب حكيم). لكنّها لم تذكر نتيجة ذلك. وبملاحظة القرائن فيها يتّضح لنا جواب الشرط. والصمت إزاء مسألة ما يكشف عن أهميتها البالغة، ويثير في مخيلة المرء تصورات عديدة لها. وكل تصور منها له مفهوم جديد. فهنا قد يكون جواب الشرط: لو لا فضل الله ورحمته عليكم، لكشف عن أعمالكم وفضحكم.

أو: لولا فضل الله ورحمته عليكم، لعاقبكم فوراً وأهلككم.

أو: لولا هذا الفضل، لما وضع الله سبحانه وتعالى مثل هذه الأحكام الدقيقة من أجل تربيتكم.

وفي الواقع فإن حذف جواب الشرط يثير في فكر القارىء كل هذه الأُمور(1).

 

* * *

_____________________________

 

1 ـ ذكر تفسير «الميزان» جواب الشرط بشكل يشمل التفاسير الأُخرى قال: «لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين وتوبته لمذنبيكم وتشريع الشرائع لنظم أمور حياتكم، لزمتكم الشقوة، وأهلكتكم المعصية والخطيئة، واختل نظام حياتكم بالجهالة».

[34]

 

الآيات

 

إِنَّ الَّذِينَ جَآءُو بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىء مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الاِْثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11) لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَـتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)لَّولاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذَ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلـئِكَ عِندَ اللهِ هُمُ الْكَـذِبُونَ(13) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللهِ عَظِيمٌ(15) وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَنْ نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَـنَكَ هَذَا بُهْتَـنٌ عَظِيمٌ(16)

 

سبب النّزول

ذكر سببين لنزول الآيات السابقة:

أوّلهما: ما روته عائشة زوجة الرّسول قالت: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن

[35]

يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة(1) غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما نزل الحجاب وأنا أُحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوته تلك وقفل.

فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار(2). قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكانت النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم إنّما تأكل المرأة العلقة(3) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فيممت منزلي الذي كنت به فظننت أنّهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت.

وكان صفوان بن المعطل السلمي ثمّ الذكر إنّي من وراء الجيش فأدلج(4)فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة واحدة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطّى على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك.

_____________________________

 

1 ـ هي غزوة بني المصطلق في العام الخامس لللهجرة.

2 ـ ظفار كقطام بلد باليمين قرب صنعاء، وجزع ظفاري منسوب إليها والجزع الخرز وهو الذي فيه سواد وبياض.

3 ـ العلقة من الطعام ما يمسك به الرمق.

4 ـ أدلج القوم: ساروا الليل كله أو في آخره.

[36]

وكان الذي تولى الإفك عبدالله بن أُبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أُشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكى إنّما عليَّ فيسلم ثمّ يقول: كيف تيكم؟ ثمّ ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أُشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أُم مسطح قبل المناصع(1) وهي متبرزنا وكنّا لا نخرج إلاّ ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأوّل في التبرّز قبل الغائط فكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.

فانطلقت أنا وأُم مسطح فأقبلت أنا وأُم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا(2) من ثيابنا فعثرت أُم مسطح في مرطها(3) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدراً؟ قالت: إي هنتاه(4) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي.

فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم ثمّ قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ ـ قالت: وأنا حينئذ أُريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت: فأذن لي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت لأبوي فقلت لاُمي: يا أُمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقاً لي دمع ولا أكتحل بنوم ثمّ أصبحت أبكي.

_____________________________

 

1 ـ المناصع: المواضع يتخلى فيها لبول أو حاجة.

2 ـ أي رفعنا ثيابنا.

3 ـ المرط ـ بالكسر ـ كساء واسع يؤتزر به وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفع به.

4 ـ خطاب للمرأة يقال للرجل يا هناه.

[37]

ودعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب وأُسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأمّا اسامة فأشار على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً، وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت شيئاً يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمضه أكثر من أنّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.

فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعذر يومئذ من عبدالله بن أبي فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواتنا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحاً ولكن احتملته الحميّة ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بن خضير وهو ابن عم سعد بن عبادة، قال: كذبت لنقتلنه فإنّك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيّان: الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)قائم على المنبر فلم يزل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يخفضهم حتى سكنوا وسكت.

فبكيت يومي ذلك فلا يرقاً لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقاً لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.

[38]

فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأبصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)ثمّ جلس ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثمّ قال: أمّا بعد يا عائشة إنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرؤك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا إعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه.

فلمّا قضى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته قلص(1) دمعي حتى ما أُحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عنّي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت لاُمي: أجيبي عني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إنّي والله لقد علمت أنّكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدّقتم به فلئن قلت لكم: إنّي بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أنّي منه بريئة لتصدّقنّي، والله لا أجد لي ولكم مثلا إلاّ قول أبي يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.

ثمّ تحوّلت فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرَّئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا يبرَّئني الله بها.

قالت: فوالله ما رام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أُنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدّر منه

_____________________________

 

1 ـ قلص: اجتمع وانقبض.

[39]

مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أُنزل عليه فلمّا سري عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سري عنه وهو يضحك فكان أوّل كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أمّا الله فقد برّأك، فقالت أُمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلاّ الله الذي أنزل براءتي، وأنزل الله: «إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم» العشر الآيات كلها.

فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبوبكر، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أُنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: «ولا يأتلِ أُولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين ـ إلى قوله ـ رحيم» قال أبوبكر: والله إنّي اُحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مَسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.

قالت عائشة: فكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يسأل زينب أبنة حجش عن أمري فقال: يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلاّ خيراً، قالت: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمها الله بالورع، وطفقت اختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك.(1)

إمام باقر(عليه السلام) يقول: لما هلك إبراهيم بن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حزن عليه حزناً شديداً فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلاّ ابن جريح، فبعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علياً(عليه السلام) وأمره بقتله.

فذهب علي(عليه السلام) ومعه السيف وكان جريح القبطي في حائط فضرب علي(عليه السلام)باب البستان فأقبل جريح له ليفتح الباب فلما رأى عليّاً(عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان فوثب علي(عليه السلام) على الحائط ونزل إِلى البستان واتبعه وولى جريح مدبراً فلما خشي أن يرهقه(2) صعد في نخلة وصعد

_____________________________

 

1 ـ تفسير الميزان، ج15، ص96 ـ 100.

2 ـ أرهقه: أدركه.

[40]

علي(عليه السلام) في أثره فلما دنا منه رمي بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإِذا ليس له ما للرجال ولا له ماللنساء.

فانصرف علي(عليه السلام) إِلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا رسول الله إِذا بعثتني في الأمر أكون كالسمار المحميّ في الوبر أم أُثبّت؟ قال: لابل تثبّت. قال: والذي بعثك بالحق ما له ماللرجال وما له ماللنساء، فقال: الحمدالله الذي صرف عنّا السوء أهل البيت.(1)

* * *

 

تحقيق المسألة:

على رغم ممّا ذكرته معظم المصادر الإسلامية لهذين السببين فإن هناك أموراً غامضةً في السبب الأوّل تثير النقاش، منها:

1 ـ يستفاد من تعابير هذا الحديث ـ رغم تناقضاته ـ أنّ الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)وقع تحت تأثير الشائعة، وأدى ذلك إلى مشاورتِهِ أصحابَهُ وتغيير سلوكِهِ مع عائشة حتى ابتعد عنها لمدّة طويلة.

وهذا الموضوع لا ينسجم مع عصمةِ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحسب، بل كل مسلم ثابت الإِيمان لا ينبغي أن يقع تحت تأثير الشائعات دون مبرر، وإذا تأثّر بالشائعة فعليه ألا يُغيِّر سلوكَهُ عملياً، ولا يَسْتَسلِم للشائعةِ وأثرها فكيف بالمعصوم.

فهل يمكن التصديق أنَّ العتاب الشديد الذي ذكرته الآيات التالية وتساءلت: لماذا وقع بعض المؤمنين تحت تأثير هذه الشائعة، ولماذا لم يطلبوا شهوداً أربعة، يشمل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هذه تساؤلات تدفعنا في أقل تقدير إلى الشك في صحة سبب النّزول الأول.

_____________________________

 

1 ـ المصدر السابق، ص103.

[41]

2 ـ رغم أن ظاهر الآيات يَدُلُّ على أن حكم القذف (الإتهام بعمل مخل بالشرف والعفة) نزل قبل حديث الإِفك، فلماذا لم يستدع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عبدالله بن أبي سلول وعدداً آخر ممَّنْ نشروا هذه الشائعة ليجري الحد الذي فرضه الله؟ (الاّ أن يقال بأن آيات القذف والافك نزلت سويةً، وأن حكم القذف قد شرح حينذاك لتناسبه مع الموضوع، ففي هذه الصورة ينتفي هذا الإشكال ولكن يبقى الأوّل على قوّته).

أمّا بالنسبة لسبب النّزول الثّاني، فإنّ ما يثير فيه النقاش هو عدّة أُمور، منها:

1 ـ إن الذي وجه التهمة ـ وفقاً لسبب النّزول هذا ـ هو شخصٌ واحدٌ لا غير، في الوقت الذي ذكرت الآيات فيه أنّهم مجموعة، وقد روّجوا لها لدرجة شيوعها تقريباً في المدينة كلها. لهذا استخدمت الآيات ضمير جمع للمؤمنين الذي عاتبتهم بشدّة، والذين تورّطوا في تصديق وترويج هذه الشائعة، وهذا لا ينسجم أبداً مع سبب النّزول الثّاني.

2 ـ يبقى سؤال هو: إذا كانت عائشة ارتكبت هذا الإثم (القذف) ثمّ ثبت خلاقة، فلماذا لم يُنفِّذِ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حَدَّ القذف بحقها؟

3 ـ كيف يمكن للنبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصدر حكم القتل بحق شخص بشهادة امرأة واحدة؟ مع أنّ التنافس بين زوجات رجل واحد أمراً اعتياديّاً، والإنحراف عن الحق والعدل أو ارتكاب إحداهن لخطأ على الأقل ممكن.

وليس مهماً ما يكون سبب النّزول، بل المهم أن نعلم من مجموع الآيات هو أنه قد اتهم شخص بريء بعمل مخلّ بالعفة والشرف حين نزول هذه الآيات، وأن الشائعات كانت منتشرة في المدينة، كما يفهم من الدلائل الموجودة في هذه الآية، أن هذه التهمة كانت موجهة لشخص له أهمية خاصّة في المجتمع آنذاك. وأن مجموعة من المنافقين المتظاهرين بالإسلام أرادوا الاخلال بالمجتمع الإِسلامي بترويجهم هذه الشائعة، فنزلت هذه الآيات، وتصدّت لهذه الحادثة بقوة، ودفعت

[42]

المنحرفين والمنافقين الحاقدين إلى جحورهم.

ومهما يكن سبب نزول هذه الأحكام، فإنها لا تخص سبب النّزول وحده، ولا تنصرف لزمانه ومكانه فقط، بل هي أحكام نافذة في كُلِّ بيئة وزمان.

بعد هذا الحديث نشرع في تفسير هذه الآيات لنرى كيف يتابع القرآن بفصاحته وبلاغته هذه الحادثة الخاصّة، وكيف يبحث تفاصيلها بدقة.

* * *

 

التّفسير

حديث الافك المثير:

تقول أوّل آية من الآيات موضع البحث، دون أن تطرح أصل الحادثة (إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم) لأن من علائم الفصاحة والبلاغة، حذفَ الجملِ الزائدة، والإكتفاء بما تدلّ عليه الكلمات من معان شاملة.

كلمة «الإفك» على وزن «فكر» كما يقول الراغب الأصفهاني: يقصد بها كل مصروف عن وجهه، الذي يحق له أن يكون عليه، ومنه قيل للرياح العادلة عن المهاب «مؤتفكة» ثمّ اطلقت على كل كلام منحرف عن الحق ومجانب للصواب، ومن ذلك يطلق على الكذب «أفك».

ويرى «الطبرسي» في مجمع البيان أن الأفك لا يطلق على كل كذبة بل الكذبة الكبيرة التي تبدل الموضوع عن حالته الأصلية، وعلى هذا يستفاد أن كلمة «الأفك» بنفسها تبيّن أهمية هذه الحادثة وكذب التهمة المطروحة.

وأمّا كلمة «العُصبة» فعلى وزنِ «فُعْلَة» مشتقّة من العَصَبْ، وجمعها أعصاب، وهي التي تربط عضلات الجسم بعضها مع بعض، وعلى شكل شبكة منتشرة في الجسم، ثمّ أطلقت كلمة «عصبة» على مجموعة من الناس متحدة وذات عقيدة واحدة.

[43]

واستخدام هذه الكلمة يكشف عن الإِرتباط الوثيق بين المتآمرين المشتركين في ترويج حديث الإفك، حيث كانوا يشكلون شبكة قوية منسجمة ومستعدة لتنفيذ المؤامرات.

وقال البعض: إن هذه المفردة تستعمل في عشرة إلى أربعين شخصاً(1).

وعلى كل حال فإن القرآن طمأن وهدّأ روع المؤمنين الذين آلمهم توجيه هذه التهمة إلى شخصية متطهرة (لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم)، لأنّه كشف عن حقيقةِ عدد من الأعداء المهزومين أو المنافقين الجبناء، وفضح أمر هؤلاء المرائين، وسوّد وجوههم إلى الأبد.

ولو لم تكن هذه الحادثة، لما افتضح أمرهم بهذا الشكل، ولكانوا أكثر خطراً على المسلمين.

إنّ هذا الحادث علّم المسلمين أن اتّباع الذين يروّجون الشائعات يجرّهم إلى الشقاء، وأنَّ عليهم أن يَقِفُوا بقوّة امام هذا العمل. كما علّم هذا الحادث المسلمين درساً آخر، وهو أنَّ لا ينظروا إلى ظاهر الحادِثِ المؤلم، بل عليهم أن يتبحّروا فيه، فقد يكون فيه خيراً كثيراً رغم سوء ظاهره.

وممّا يلفت النظر أنّ ذكر ضمير «لكم» يعمّ جميع المؤمنين في هذا الحادث، وهذا حقّ، لأن شرف المؤمنين وكيانهم الإجتماعي لا ينفصل بعضه عن بعض، فهم شركاء في السرّاء والضرّاء.

ثمّ تعقّب هذه الآية بذكر مسألتين:

أوّلاهما: (لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم) إشارة إلى أنّ المسؤولية الكبرى التي تقع على عاتق كبار المذنبين لا تحول دون تحمل الآخرين لجزء من هذه المسؤولية، ولهذا يتحمل كلّ شخص مسؤوليته إزاء أية مؤامرة.

_____________________________

 

1 ـ نقل تفسير «روح المعاني» هذا المعنى عن كتاب «الصحاح».

[44]

والمسألة الثّانية: (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) قال بعض المفسّرين: إن الشخص المقصود هو «عبدالله بن أبي سلول» قائد أصحاب الإفك.

وقال آخرون: إنّه مسطح بن أُثاثة. وحسان بن ثابت كمصاديف لهذا الخطاب.

وعلى كل حال، فإنّ الذي نشط في هذا الحادث أكثر من الآخرين، وأضرم نار الإفك، هو قائد هذه المجموعة الذي سيُعاقَبُ عِقاباً عظيماً لِكبر ذنبه. (ويحتمل أن كلمة «تولى» يقصد بها رأس مروجي حديث الإِفك).

ثمّ تَوجّهت الآية التالية: إلى المؤمنين الذين انخدعوا بهذا الحديث فوقعوا تحت تأثير الشائعات، فلا متهم بشدّة (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً).

أي: لِمَاذا لم تقفوا في وَجْهِ المنافقين بقوّة، بل استمعتم إلى أقوالهم الّتي مسّت مؤمنين آخرين كانوا بمنزلة أنفسكم منكم. ولماذا لم تدفعوا هذه التهمة وتقولوا بأن هذا الكلام كذب وافتراء: (وقالوا هذا افك مبين).

أنّكم كنتم تعرفون جيداً الماضي القبيح لهذه المجموعة من المنافقين، وتعرفون جيداً طهارة الذي اتّهم، وكنتم مطمئنين من عدم صدق هذه التهمة وفق الدلائل المتوفرة لديكم.

وكنتم تعلمون أيضاً بما يحاك من مؤامرات ضدّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الأعداء والمنافقين، لذا فإنّكم تستحقون اللوم والتأنيب لمجرد هذه الشائعات الكاذبة، ولالتزامكم الصمت إزاءها، فكيف بكم وقد اشتركتم في نشر هذه الشائعة بوعي أو دون وعي منكم؟

وممّا يلفت النظر أن الآية السابقة بدلا من أن تقول: عليكم أن تحسنوا الظن بالمتهم وتصدقوا تهمته، فإنها تقول (ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً)وهذه العبارة ـ كما قلنا ـ إشارة إلى أنَّ أنفس المؤمنين كنفس واحدة، فإذا اتهم

[45]

أحدهم، فكأن التهمة موجهة لجميعهم، ومثالهم في ذلك كمن اشتكى عضو منه فهبت بقية الأعضاء لنجدته.

وهكذا يجب أن يهب المسلم للدفاع عن إخوته وأخواته في الدين مثلما يدافع عن نفسه(1).

وقد استعملت كلمة «الأنفس» في آيات أخرى من القرآن في هذا المعنى أيضاً ـ في مثل هذه الحالات ـ كما هو في الآية (11) من سورة الحجرات (ولا تلمزوا أنفسكم)! أمّا الإستناد إلى الرجال والنساء المؤمنين فيشير إلى قدرة الإيمان على ردع سوء الظن بالآخرين.

وحتى هذه اللحظة كانت الملامة ذات طابع أخلاقي ومعنوي، وتقضي بعدم التزام المؤمنين جانب الصمت إزاء مثل هذه التهم القبيحة، أو أن يكونوا وسيلة بيد مُروِّجي الشائعات.

ثمّ تهتم الآيات بالجانب القضائي للمسألة فتقول: (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) أي لماذا لم تطلبوا منهم الإيتان بأربعة شهود. (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون).

إنّ هذه الملامة تبيّن أن الحكم بأداء أربعة أشخاص لشهادتهم، وكذلك حد القذف في حالة عدمه قد نزل قبل الآيات التي تناولت حديث الإفك.

وأمّا الجواب عن سؤال: كيف لم يقدم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على تنفيذ هذا الحدّ؟ فإنّه واضح، لأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقدم على شيء ما لم يسند من قبل الناس، فالتعصب القبلي قد يؤدي إلى مقاوة سلبية لبعض أحكام الله ولو بصورة مؤقتة، وقد ذكر المؤرخون أنّ الأمر كان هكذا في هذه القضية.

وأخيراً جمعت الآية التالية هذه الملامات، فقالت (ولولا فضل الله عليكم

_____________________________

 

1 ـ وأمّا قول البعض بأن المضاف محذوف وتقديره «ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفس بعضهم خيراً»

ليس صائباً ويفقد الآية جمالها وروعتها.

[46]

ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم).

ونظراً لأن «أفضتم» مشتقة من الإفاضة، بمعنى خروج الماء بكثرة، واستُعْمِلت في حالات أُخرى للتوغل في الماء، نَتَج مِن هذِهِ العبارة أنَّ شائعة الإتهام توسعت بشكل شملت المؤمنين مضافاً إلى مروجيها الأصليين (المنافقين).

وتبيّن الآية التالية ـ في الحقيقة ـ البحث السابق. وهو كيف ابتلي المؤمنين بهذا الذنب العظيم نتيجة تساهلهم؟ فتقول (إذ تلقونه بألسنتكم) أي تذكّروا كيف رحبتم بهذه التهمة الباطلة فتناقلتموها (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم  ولا تحسبونه هيناً هو عندالله عظيم).

وتشير هذه الآية إلى ثلاثة أنواع من ذنوبهم العظيمة في هذا المجال:

الأوّل: تَقَبُّل الشائعة: استقبالها وتناقلها.

الثّاني: نشر الشائعة دون أي تحقيق أو علم بصدقها.

الثّالث: استصغار الشائعة واعتبارها وسيلة للّهو وقضاء الوقت، في وقت تمس فيه كيان المجتمع الإِسلامي وشرفه، إضافة إلى مساسها بشرف بعض المسلمين.

وممّا يلفت النظر أنَّ الآية استعملت تعبير «بألسنتكم» تارةً أخرى تعبير «بأفواهكم» على الرغمِ من أنَّ جميعَ الكلام يصدر عن طريق الفم واللسان، إشارة إلى أنّكم لم تطلبوا الدليل على الكلام الذي تقبلتموه، ولا تملكون دليلا يُسوِّغُ لكم نَشْرَهُ، والأمر الوحيد الذي كان بأيديكم هو لقلقة لسانكم وحركات أفواهكم.

ونظراً لهول هذه الحادثة التي استصغرها بعض المسلمين، أكدتها الآية ثانية، فانَّبتهم مرّة أُخرى ولذعتهم بعباراتها إذْ قالت (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم).

[47]

وسبق لهذه الآية أن وجهت اللوم لهم لسوء ظنهم بالذي وجه إليه الإتهام باطلا، وهنا تقول الآية: إضافة إلى وجوب حسن الظن بالمتهم يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بالتحدث عنه، ولا تتناولوا التهمة الموجهة إليه، فكيف بكم وقد كنتم سبباً لنشرها!

عليكم أن تعجبوا لهذه التهمة الكبيرة، وأن تذكروا الله سبحانه وتعالى، وأن تلجأوا إلى الله يطهركم من نشر هذه التهمة وإشاعتها. ومع كل الأسف استصغرتموها ونشرتموها بكل يسر، فأصبحتم بذلك آلةً بيد المنافقين المتآمرين المروجين للشائعات.

هذا وسنتناول بالبحث ـ خلال تفسير الآيات القادمة ـ ذنب اختلاق الشائعة ودوافعها، والسبيل إلى مكافحتها، بعون الله وتوفيقه.

* * *

[48]

 

 

الآيات

 

يَعُظِكُمُ اللهُ أَن تَعُودُوا لْمِثْلِهِ أبَدَاً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(17) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الاَْيَـتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَـحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَتَعْلَمُونَ(19) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ(20)

 

التّفسير

حرمة إشاعة الفحشاء:

تحدثت هذه الآيات أيضاً عن حديث الإفك، والنتائج المشؤومة والأليمة لاختلاق الشائعات ونشرها، واتهام الأشخاص الطاهرين بتهمة تمس شرفهم وعفتهم. وهذه القضية مهمه بدرجة أن القرآن المجيد تناولها عدّة مرات، وعَرَضَ لها من طرق مختلفة مؤثرة، باحثاً محللا لها من أجل ألاّ تتكرر مثل هذه الواقعة الأليمة في المجتمع الإسلامي، فذكر أولا (يعظكم الله أن تعودوا لمثله)(1).

_____________________________

 

1 ـ لهذه الجملة كلمة محذوفة هي حرف «لا»

وتقديرها: «يعظكم الله أن لا تعودوا لمثله أبداً»

وإذا لم نقدّر محذوفاً، فإن عبارة «يعظكم» تعني ينهاكم. أي إن الله ينهاكم من العودة إلى مثل هذا العمل.

[49]

أي أن من علامات الإيمان أن لا يتوجه الإنسان نحو الذنوب العظام، وإذا ارتكبها فذلك يدلّ على عدم إيمانه أو ضعفه، والجملة المذكورة تشكل ـ في الحقيقة ـ أحد أركان التوبة، إذ أنَّ الندم على الماضي لا يكفي، بل يجب التصميم على عدم تكرار ارتكاب الذنوب في المستقبل، لتكون توبة كاملة.

ولتأكيد أكثر على أنَّ هذا الكلام ليس اعتيادياً، بل صادر عن الله العليم الحكيم، ولبيان الحقائق ذات الأثَر الفَعَّال في مصير الإنسان، يقول سبحانه وتعالى (ويبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم).

فهو يعلم تفاصيل أعمالكم تمام العلم، ويصدر أحكامَهُ بمقتضى حكمته الهادِيةِ لكم. وبتعبير آخر: إنه يعلم حاجاتكم وما يضرّكم وما ينفعكم بمقتضى علمه الواسع، ويصدر أحكامه وأوامره المتناسبة لاحتياجاتكم بمقتضى حكمته.

ولتثبيت الأمر نقل الكلام من مورده الخاص إلى بيان عام لقانون شامل دائم، فقال: (إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم من الدنيا والآخرة).

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم لم يقل «الذين يشيعون الفاحشة، بل قال: (الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) وهذا يحكي عن الأهمية القصوى التي يدليها القرآن لذلك. وبعبارة أخرى: أنّه لا ينبغي توهم أن ذلك كان من أجل زوجة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو شخص آخر بمنزلتها، بل من أجل كلّ مؤمن ومؤمنة، فلا خصوصية في ذلك، إنّما هي عامّة للجميع على الرغم من أن كل حالة لها خصائصها، وقد تزيد الواحدة على الأُخرى في الخصائص أو تنقص.

كما يجب الإنتباه إلى أن إشاعة الفحشاء لا تنحصر في ترويج تُهمة كاذبة ضد مسلم مؤمن، يتهم بعمل مخل بالشرف، بل هذه مصداق من مصاديقها ولهذا التعبير مفهوم واسع يضم كل عمل يساعد في نشر الفحشاء والمنكر.

وقد وردت في القرآن المجيدِ كلمةُ «الفحشاء» غالباً للدلالة على العمل

[50]

المخل بالعفّة والشرف. ولكن من الناحية اللغوية، فقد ذكر الراغب الإصفهاني مفهوماً واسعاً لها فقال: الفحش والفحشاء والفاحشة، ما عظم قبحه من الأفعال والأقوال.

ويستعمل القرآن أحياناً هذا المفهوم الواسع، حيث يقول (والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش).(1)

وبهذا يتّضح المفهوم الواسع للآية:

أمّا قول القرآن الكريم: (لهم عذاب عظيم في الدنيا) فقد يكون إشارة إلى الحدود والتعزيرات الشرعية. وردود الفعل الإجتماعية، وما يبتلى به الناس في هذه الدنيا من مظاهر مشؤومة بسبب أعمالهم القبيحة، إضافة إلى عدم تقبل أية شهادة منهم، وإدانتهم بالفسق والفجور وافتضاح أمرهم. كل ذلك من النتائج الدنيوية التي تترتب على أقوالهم وأعمالهم القبيحة.

وأمّا عذابهم الأليم في الآخرة، فيكون في ابتعادهم عن رحمةِ الله، واستحقاقهم غضب الله وعذاب النار.

وتختم الآية بالقول (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) أجل، وإن الله يعلم بالعاقبة المشؤومة التي تنتظر الذي يشيعون الفحشاء في الدنيا والآخرة، ولكنّكم  لا تعلمون أبعاد هذه القضية.

إنّه يعلم الذين يبيتون في قلوبهم حب هذا الذنب، ويعلم الذين يمارسونه تحت واجهات خداعة، أمّا أنتم فلا تعلمون ذلك ولا تدركونَهُ.

أجل، يعلم الله كيف ينزل أحكامه ليحول دون ارتكاب هذه الأعمال القبيحة.

وكررت الآية الأخيرةُ ـ ممّا نَحنُ بصددِه مِن الآيات التي تناولت حديث الافك ومكافحة إشاعة الفحشاء، وقَذْف المؤمنين المتطهرين ـ هذه الحقيقة

_____________________________

 

1 ـ سورة الشورى، 37.

[51]

لتؤكّد القول (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رؤوف رحيم).(1)

* * *

 

بحوث

1 ـ مامعنى إشاعة الفحشاء؟

بما أن الإنسان مخلوق إجتماعي، فالمجتمع البشري الذي يعيش فيه لَهُ حُرْمة يجب أن لا تقِلَّ عَنْ حرْمتِهِ الشخصيَّةِ، وطهارةُ كِلَّ مِنْهُما تُساعِدُ في طهارةِ الآخر، وقبح كلِّ منهما يسري إلى صاحِبه. وبموجب هذا المبدأ كافح الإسلام بشدّة كُلَّ عمل ينشر السموم في المجتمع، أو يدفعه نحو الهاوية والإِنحطاط.

ولهذا السبب حارب الإسلام ـ بقوة ـ الغيبة والنميمة، لأن الغيبة تكشف العيوب الخفية، وتسيء إلى حرمة المجتمع.

أوجب الإسلام ستر العيوب والسبب في ذلك هو ما تقدم من الحيلولة دون انتشار الذنوب في المجتمع، واكتسابها طابع العمومية والشمول.

وعندما نرى اختصاص الذنب العلني بأهمية أكثر من الذنب الذي يرتكب في الخفاء، حتى أن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) قال: «المذيع بالسيئة مخذول والمستتر بالسيئة مغفور له»(2). فالسبب هو ماذكرنا.

وهكذا لنفس السبب يدين القرآن ـ بشدّة ـ ارتكاب الذنوب في العلن، كإشاعة الفحشاء التي ذكرتها الآيات السابقة فارتكاب الذنوب كالنار التي تسري في الهشيم، تأتي على المجتمع مِن أساسه فتنخُره حتى تَهْدِمَهُ وَتَذْروهُ، لهذا يجب الإسراع لإطفاء هذه النار، أو لمحاصرتها على الأقل. أمّا إذا زدنا النار لهيباً،

_____________________________

 

1 ـ لهذه الجملة محذوف كما يبدو في آيات اُخرى سبقت، وتقديره «لولا فضل اللّه عليكم لمسّكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم»

.

2 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، باب ستر العيوب.

[52]

ونقلناها من مكان إلى آخر، فإنّها ستحرق الجميع، ولا يمكن بَعْدَئذ إطفاؤُها أو السيطرة عليها.

وإضافة إلى ذلك، فإنّه لو عظم الذنب في نظر عامّة الناس، وتمّت المحافظة على سلامة ظاهر المجتمع من التلوث والفساد، فإن ذلك يمنع انتشار الفاحشة بصورة مؤكدة. أمّا اشاعة الفحشاء والذنوب والتجاهر بالفسق، فمن نشأنها أن تحطم هذا السد الحاجز للفساد. ويستصغر شأن الذنوب من قبل الناس، ويسهل التورط فيها.

وقد جاء في حديث للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله «من أذاع فاحشة كان كمبتدئها»(1).

وجاء في حديث آخر عن محمد بن الفضيل الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: قلت له: جعلت فداك الرجل من اخواني بلغني عنه الشيء الذي اكرهه فاسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرني عنه قوم ثقات؟ فقال الإمام(عليه السلام) لي: «يا محمّد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، وإن شهد عندك خمسون قسامة. وقال لك قول فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به وتهدم به مروءته، فتكون من الذين قال الله عزَّوجلّ:(إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة)(2)(3).

وممّا يلزم ذكره أنّ لإشاعة الفحشاء صوراً عديدةً فتارة يكون من قبيل افتعال تهمة كاذبة ونَقلِها بين الناس.

واخرى يكون بانشاء مراكِزَ للفساد ونشر الفحشاء.

_____________________________

 

1 ـ أصول الكافي، المجلد الثاني، باب القبح.

2 ـ كتاب ثواب الأعمال، حسبما ذكره تفسير نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 582.

3 ـ لهذه القضية استنثاءات، منها موضوع الشهادة في المحكمة، أو حالات النهي عن المنكر حيث لا سبيل إلاّ بكشف العمل القبيح الذي يرتكبه شخص ما والشهادة ضده.

[53]

وثالثة بتوفير وسائل المعصية للناس، أو تشجيعهم على ارتكاب الذنوب.

ورابعة يرتكب الذنب في العلن دون ملاحظة الدين، ولا رعاية لقانون ولا التفات لآداب عامّة، وكل هذه مصاديق لإشاعة الفحشاء. لانّ لهذه الكلمة مفهوماً واسعاً (فتأملوا جيداً).

 

2 ـ مصيبة الشائعات

إن اختلاق ونشر الشائعة الكاذبة يُودِّي إلى سَيْطَرةِ القَلَقِ واستبدادِ الإضطراب وانعدام الثقةِ، وهذِهِ مِن أهَمِّ ما تَرْمي إليه الحَرْبُ النفسيّةُ للمستعمرين بغية إثارة الْبَلْبلةِ وَنشْرَ الفَزَع، ليتسنى لهم التَّغَلُّب العَسكريّ والسياسيّ.

فعندما يعجز العدو عن إلحاق الضرر بصورة مباشرة، يقوم بنشر الشائعات، لبث الرعب والقلق في الناس، ليشغلهم بأنفُسهم، وَلِيَحْرِفَهُمْ عَنْ أهم قضاياهم حساسيةٌ، وليتسنَّى لَهُ الظُهُورُ عليهم والتمكُّنُ مِنهُم في كل مجال. واختلاق الشائعة من الأسلحة المخربة المستعملة ضدّ الصالحين والطيبين، لِعَزْلِهِم وإقصاءِ الناس عنهم.

وبحسب أسباب النّزول المعروفة بشأن الآيات موضع البحث لجأ المنافقون إلى أخَسَّ السبل لتلويث سمعة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والحط من شأنه المقدّس لدى الناس، باختلاق شائعة تمسّ طهارة وعفة إحدى زوجاته مستغلين في ذلك فرصة سنحت لهم، ممّا أدى إلى تشويش أفكار المسلمين، وإدخال الحزن إلى قلوبهم، بحيث اضطرب الجميع. وأصاب المؤمنين القلق الشديد حتى نزل الوحي وأنقذهم من هذه الحالة، ومرّغ أنُوفَ المنافقين في الوَحلِ بما اختلقوا هذه الشائعة. وجعلهم عبرة للآخرين .

ورغم أن اختلاق الشائعة يعد نوعاً من الكفاح في المجتمعات التي تسودها الدكتاتورية ويفتقد الناس فيها الحرية… إلاَّ أن من أسبابها ودوافعها الإنتقام،

[54]

وتصفية الحساب مع أشخاص معنيين، وإزالة الثقة العامّة بالشخصيات الكبيرة. وحرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية.

ولا يهمنا أن نعلم دوافع اختلاق الشائعات، إنّما المهم تحذير المجتمع من مغبة الوقوع في برائن الذين يختلقون الشائعات وينشرونها بين الناس، وبذلك يدمرون المجتمع وأنفسهم بأيديهم! وأن نعلّم الناس بأن يدفنوا الشائعة في مهدها،وإلاّ فقد أدخلنا السرور إلى قلب العدو، وعرضنا أنفسنا إلى عذاب الدنيا والآخرة كما نصت عليه الآيات السابقة.

 

3 ـ استصغار الذنب

يستفاد من الآيات السابقة أنها استنكرتْ استصغار نشر البهتان والتهمة، وهو خطأ فادِحٌ وَجُرْمٌ عظيمٌ وفي الحقيقة إن استصغار الذنب بذاته ذنب آخر. فالذي يرتكب الذنب ويشعر بعظمة ذنبه، ويندم على ما فعل هو الذي يؤمل فيه التوبة والجبران.

أمّا الذي يستصغر الذنب ويقول: ماأسعدني إن كان ذنبي هذا فقط فهذا الشخص يسير في طريق خطر وقد يواصل ارتكاب ذنبه، لهذا نقرأ في حديث للإمام علي(عليه السلام) قوله: «أشد الذنوب ما استهان به صاحبهُ»(1).

 

* * *

 

_____________________________

 

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 348.

[55]

 

الآيات

 

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَتَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَد أَبَداً وَلَـكِنَّ اللهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَآءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوآ أُولِى الْقُرْبَى وَالْمَسَـكِينَ وَالْمُهَـجِرينَ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الُْمحْصَنَـتِ الْغَـفِلَـتِ الْمُؤْمَنَـتِ لُعِنُوا فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24) يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبينُ(25) الْخَبِيثَـتُ لِلْخَبِيثينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـتِ وَالطَّيِّبَـتُ لِلطَّيِّبينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـتِ أُوْلَئكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزقٌ كَرِيمٌ(26)

 

[56]

التّفسير

للعقوبات حساب!

على الرغم من عدم متابعة هذه الآيات حديث الإفك بصراحة، إلاّ إنّها تعتبر مكملة لمضمون ذلك البحث، وتحذّر المؤمنين جميعاً من تأثير الأفكار الشيطانية التي تبدو أوّلا في صورة باهتة، فلابدّ من الإنتباه إليها، وإلاّ فالنتيجة سيئة للغاية، ولا يمكن تلافيها بسهولة فعلى هذا حينما يشعر الفرد بأوّل وسوسة شيطانية بإشاعةِ الفحشاء أو إرتكاب أي ذنب آخر فيجب التصدي له بقوّة حاسمة، حتى يمنع من انتشاره وتوسّعه.

وتخاطب الآية الأُولى المؤمنين، فتقول (يا أيّها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنّه يأمر بالفحشاء والمنكر)(1).

وإذا فسّرنا الشيطان بأنه كل مخلوق مؤذ وفاسد ومخرّب، يتّضح لنا شمولية هذا التحذير لأبعادِ حياتنا كلها، وحيث لا يمكن جرّ أي إنسان مؤمن متطهر مرّة واحدة إلى الفساد، فإنّ ذلك يتمّ خطوة بعد أُخرى في طريق الفساد:

الخطوة الأُولى: مرافقة الملوثين والمنحرفين.

الخطوة الثّانية: المشاركة في مجالسهم.

الخطوة الثّالثة: التفكير بارتكاب الذنوب.

الخطوة الرّابعة: ارتكاب الأعمال المشتبه بها.

الخطوة الخامسة: إرتكاب الذنوب الصغيرة.

وأخيراً الإبتلاء بالكبائر. وكأنّ الإنسان في هذه المرحلة يسلّم نفسه لمجرم

_____________________________

 

1 ـ هناك محذوف لجملة (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء)

وهو جواب الشرط وتقديره «ومن يتبع خطوات الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنّه يأمر بهما»

(روح المعاني، المجلد الثامن عشر، صفحة 112 تفسير آخر الآيات موضع البحث) ويجب الإِنتباه إلى أن جملة فإنه يأمر بالفحشاء، لا يمكن اعتبارها جواباً للشرط.

[57]

ليقوده نحو الهاوية، أجل هذه (خطوات الشيطان)(1).

ثمّ تشير الآية إلى أهم النعم الكبيرة التي منَّ الله بها على الإنسان في هدايته فتقول: (ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء والله سميع عليم).

ولا شك في أنّ الفضل والرحمة الإلهية ينقذان الإنسان من الإنحطاط والإنحراف من الذنوب جميعاً، فالله منحه العَقْلَ، ولطف به فأرسل إليهِ الرُّسُلَ، وَيسَّرَ له سُبُلَ الإِرتقاء والإهتداء، وأعانَهُ على استكمالِ الخَيْرِ. وإضافة إلى هذه المواهب شمل الله الذين تطهروا بتوفيقاته الخاصّة، وإمداداته التي يستحقونها، والتي تعتبر أهم عنصر في تطهير وتزكية النفس.

وكما أسلفنا. مراراً، فإنّ عبارة «من يشاء» لا تعني المشيئة دون مبرّر، بل إنّ الله يهدي عباده الذين يسعون في نيلها، الذين يسيرون في الطريق إلى الله، ويجاهدون في سبيله، فيمسك الله بيدهم ويحفظهم من وساوس الشيطان وكيده حتى يبلغهم الهدف الأسمى.

وبعبارة أُخرى: إنَّ الفضل والرحمة الإلهية تارة يكون لهما جانب تشريعي عن طريق الرسل عليهم السلام والكتب السماوية وما فيها من تعاليم إلهية وبشارات وإنذارات سماوية. وأُخرى يتخذ الفضل والرحمة الإِلهية جانباً تكوينياً عن طريق الإِمدادات المعنوية الإِلهية.

والآيات موضع البحث استهدفت القسم الثّاني، بدليل عبارة «من يشاء»، ويجب الإنتباه إلى أن «الزكاة» و «التزكية» تعني في الأصل النمو، والعمل من أجل النمو، إلاّ أنها وردتْ غالباً بمعنى التطهُّر والتطهير.

ويمكن إرجاعها إلى أصل واحد، إذ أنّ النمو والرشد لا يمكن أن يتحققا إلاّ

_____________________________

 

1 ـ بحثنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (90) من سورة النحل.

[58]

بزوالِ الحواجز والتطهير من المفاسد والرذائل.

وذكر عدد من المفسّرين سبباً لنزول الآية الثّانية ـ من الآيات موضع البحث ـ يكشف عن تلاحمها مع الآيات السابقة، قال: إنّ هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورّطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس، وألا يشاركوهم همومَهم، فنزلت هذه الآية لتمنعهم من رَدَّ فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.

وقد روى سبب النّزول هذا «القرطبي» في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك، ورواه المرحوم «الطبرسي» عن ابن عبّاس، ورواهُ آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث، وهو يمتاز بعموميته.

إلاّ أن مجموعة من مفسّري أهل السنة يُصرُّون على أن هذه الآية نزلت بخصوص «أبي بكر» حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية لـ «مسطح بن أثاثة» الذي كان ابن خالته، أو ابن أخته، وهو الذين نشر شائعة الإفك، في حين أنّ الضمائر التي استعملتها الآية، جاءت بصيغة الجمع، وتبيّن أنّ مجموعة من المسلمين اتخذوا قراراً بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين، إلاّ أنّ هذه الآية نهتهم عن العمل.

ومن المعلوم أنّ الآيات القرآنية لا تختص بسبب النّزول فقط، بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، فهي توصي المسلمين جميعاً بألاّ يستسلموا لعواطفهم، وألاّ يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاءِ الآخرين.

نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النّزول هذا:

يقول القرآن (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله).

إنّ هذا التعبير يكشف أنّ عدداً ممن تورّط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذْ خدعهم المنافقون، ولم يُجز الله طردهم من المجتمع

]59]

الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر ممّا يستحقونه.

كلمة «يأتل» مشتقّة من «أليّة» (على وزن عطيّة) أي اليمين، أو إنّها مشتقة من «ألُو» (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.

وعلى هذا، فإنّ الآية تعني وفق المعنى الأوّل النّهي عن هذا القَسَمْ بقطع مثل هذه المساعدات(1)، وعلى المعنى الثّاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.

ثمّ تضيف الآية (وليعفوا وليصفحوا) لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: (ألا تحبّون أن يغفر الله لكم).

فإنّكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين (والله غفور رحيم).

والمثير للدهشة أنّ أصحاب الإفك أُدينوا بشدّة في آيات شديدة اللهجة، إلاّ أنّها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحدّ في العقوبة بثلاث جمل ذاتِ تَشَعْشُع أخَّاد، الأول: الأمر بالعفو والسماح.

ثمّ تقول: ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك.

ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله «الغفور» و«الرحيم».

وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم، وهو يأمركم بألاّ تقطعوا مساعداتكم.

ممّا لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضلَّلون.

ولا شك في أنّهم جميعاً مقصّرون ومذنبون، ولكن بين هاتين المجموعتين

_____________________________

 

1 ـ في هذه الحالة يجب تقدير وجود حرف «لا»

قبل «يؤتوا»

فيكون التقدير «ولا يأتل ... أن لا يؤتوا».

[60]

فرق كبير، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.

وعلى كل حال، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحدُّ المقرّرُ في معاقبةِ المذنبينِ،  ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي، أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافاً فيقعوا في أحضان العدو، أو ينحازوا إلى جانبه.

وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم «قوة الدفع». وأمّا الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفوراً رحيماً. فإنها تكشف عن «قوة الجذب»!

ثمّ تعود الآية إلى قضية القذف واتّهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم).

ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ: «المحصنات» أي العفيفات الطاهرات الذيل و«الغافلات» البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و«المؤمنات»، كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل(1).

كما أنّ عبارة ـ «غافلات» تلفت النظر، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن  لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه مرحلة عالية من التقوى.

_____________________________

 

1 ـ الميزان، تفسير الآيات موضع البحث، المجلد 15، صفحة 122.

[61]

ويحتمل أن يكون المراد من «الغافلات» أنهن لا يعلمن بما ينسب اليهنّ من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهنّ، وفي النتيجة فإنّ الآية تطرح موضوعاً جديداً للبحث، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلاّ أنّ الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحدّ الشرعي: فتقول الآية: أنّ هؤلاء لا يتصوروا أنّهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب الإلهي دائماً، لأنّ الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا. كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.

إن هذه الآية رغم مجيئها بعد حديث الإفك، وظهورها بمظهر الإرتباط بذلك الحادث، فإنها كبقية الآيات التي تنزل لسبب خاص، وهي ذات مفهوم عامّ،  لا تختص بحالة معينة.

والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المفسّرين كالفخر الرازي في «التّفسير الكبير»، وآخرين، على أنّ مفهوم هذه الآية خاص باتهام نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ويجعلون هذا الذنب بدرجة الكفر، ويستدلون بكلمة «اللعن» التي ذكرتها الآية، في الوقت الذي لا يمكن فيه اعتبار توجيه التهمة ـ حتى إن كان هذا الذنب عظيماً كإتهام نساء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لوحده سبباً للكفر. لهذا لم يعامل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أصحاب الإفك معاملة المرتدين عن دينهم. بل إن الآيات التالية التي بيّنا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم الإفراط في عقابهم، فذنبهم لا يُوازي الكفر بالله.

وأمّا «لعنة الله» فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضاً، وعليه أوردت هذه الآيات المتحدِّثة عن حدّ القذف (في الأحكام الخاصّة باللعان) مرتين كلمة «لعن» ضد الكذابين المسيئين للناس. كما استعملت الأحاديث الإسلامية كراراً كلمة «اللعن» ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة. وحديث «لعن الله في الخمر عشر طوائف...» معروف.

[62]

وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي، قائلة (ويوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون).

تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق. وعندما يجد المجرمون الدلائل والشواهد العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية، تراهم يُعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلافاً لرغبتهم الباطنية، حيث لا ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم.

وتشهد أيديهم وأرجلهم، وكما ذكرت الآيات القرآنية: تنطق جلودهم وكأنّها شريط مسجّل، تنطق بما اقترف صاحبها من ذنوب، حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره، حقاً إنّه يوم البروز والإفتضاح، ويوم تنكشف فيه السرائر.

وإذا وجدنا في بعض آيات القرآن إشارة إلى يوم القيامة تذكر (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون)(1) فإنّه لاخلاف فيها مع هذا البحث، إذ يمكن أن تتعطل الأفواه عن الكلام أولا، فتشهد سائر أعضاء الجسم. وعندها تكشف الأيدي والأرجل الحقائق، ينطق اللسان بما جرى ويعترف بالذنوب كلّها.

* * *

 

بحوث

1 ـ مَن هن الخبيثات ومَن هم الخبيثون؟

ذكر المفسّرون تعاريف مختلفة لـ «الخبيثات» و«الخبيثون» و«الطيبات» و«الطيبون».

1 ـ قيل أنّ المراد هو الكلام السيء والتهمة والإفتراء والكذب الصادر عن

_____________________________

 

1 ـ سورة يس، الآية 65.

[63]

المخطئين والمذنبين من الناس، وعلى العكس من ذلك الكلام الطيّب ما يصدر عن الطيّبين المتطهرين، وحسبما يقول المثل المأثور «ينضح الإناء بما فيه».

2 ـ وقيل إن كلمة «الخبيثات» تعني «السيئات» وكل الأعمال السيئة وغير المرغوب فيها التي تصدر عن الخبثاء من الناس، وعلى العكس من ذلك «الحسنات» الخاصّة بالطيبين من الناس.

2 ـ «الخبيثات» و«الخبيثون» تعنيان النساء والرجال الساقطين، وهم عكس (الطيبات) و(الطيبون) الخاصتين بالنساء والرجال المتطهرين.

وظاهر الآية قصد هذا المعنى بذاته، حيث هناك قرائن تؤكّد هذا المعنى:

أ ـ جاءت هذه الآيات إثر آيات الإفك ـ وبعد آية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين)وهذا التّفسير ينسجم مع مفهوم تلك الآيات.

ب ـ إن جملة (اُولئك مبرءون ممّا يقولون) التي تقصد الرجال والنساء الطاهرين من الدنس دليل آخر على صحة هذا التّفسير.

ج ـ قرينة المقابلة لجمع المذكر السالم في «الخبيثون» حيث يقصد بها الرجال الخبيثون، فمن ذلك يعلم أن الخبيثات جمع مؤنث حقيقي، وتعني النساء الساقطات.

د ـ إضافة إلى ذلك روي حديث عن الإمامين الباقر والصّادق(عليهما السلام) «إنّ هذه الآية كآية (الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة) همّ رجال ونساء كانوا على عهد رسول الله6 مشهورين بالزنا فنهى الله عن أُولئك الرجال والنساء والناس على تلك منزلة..».(1)

كما نقرأ في روايات كتاب النكاح، كيف كان أصحاب الإِمام يستفسرون منه

_____________________________

 

1 ـ مجمع البيان، في تفسير الآيات موضع البحث.

[64]

أحياناً عن الزواج بالخبيثات فيجيبهم سلباً. وهذا يدل على أن الخبيثة تعني المرأة الساقطة، وليس الكلام السيء ولا العمل المنحط(1).

والسؤال الآخر: هل أن خبث هذه المجموعة من النساء والرجال أو طيبهم يرادبه الشرف والعفّة، أو يتعلّق بانحطاط في الفكر أو العمل أو القول؟

إنَّ المفهوم الأوّل للآية هو الأصوب، لأنّه يطابق ما جاء في الآيات والأحاديث، لكنَّ بعضَ الأحاديث يعطي معنىً واسعاً لكلمتي الخبيث والطيب اللتين وردتا في هذه الآيات، ولا يحصرهما بالإِنحطاط الخلقي وطهارة الشخص.

وعلى هذا فلا يبعد أن يكون مفهوم الآية الأُولى خاصاً بذلك المعنى الخاص، إلاّ أنه بملاحظة الملاك والغاية من الحكم يمكن تعميمه وتوسعته.

وبتعبير آخر: إن الآية السابقة بيان لميل الصنو إلى صنوه، رغم اختصاصها من حيث الموضوع يبحث العفّة والإنحطاط الخلقي، «تأملوا جيداً».

 

2 ـ هل هذا حكم تكويني أم تشريعي؟

لا شكّ في أن الأمثال التالية تشير إلى سنة تكوينيّة تطبق على المخلوقات جميعاً، حتى على ذرات الوجود في الأرض والسماء، وهي جذب الشيء لنظيره كما يجذب الكهرب التبن.

أصحاب النور ينجذبون إلى أصحاب النور.

وأصحاب النّار يميلون إلى أصحاب النّار.

و«السنخية علّة الانظمام» كما يقول المثل.

وعلى كل حال، فإن كل صنو يتبع صنوه، وكل مجموعة متجانسة ترتاح

_____________________________

 

1 ـ وسائل الشيعة، المجلد 14، صفحة 337، الباب 14 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.

[65]

لأفرادها، إلاّ أنّ هذه الحقيقة لا تمنع من كون الآية السابقة كما هي عليه الآية (الزانية لا ينكحها إلاّ زان أو مشرك) إشارة إلى حكم شرعي يمنع الزواج من النساء اللواتي اشتهرن بالعمل المخلّ بالشرف.

أليس لجميع الأحكام التشريعية جذور تكوينية؟

أليس هناك انسجام بين السنن الإِلهية، التشريعية منها والتكوينية؟ (لإيضاح أكثر راجع شرح الآية التي ذكرناها).

 

3 ـ جواب استفسار:

الإستفسار هو: إننا نشاهد عبر التاريخ أو في حياتنا حالات لا تنسجم مع القانون السابق؟ ومثال ذلك ما جاء في القرآن المجيد (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وأمرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما)(1)... ومقابل هذه الحالة ذكر القرآن المجيد زوجة فرعون مثالا للإِيمان والطهارة: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجنّي من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)(2).

كما شوهد نظير هاتين الحالتين في صدر الإسلام، حيث ابتلي بعض قادة المسلمين بنساء سيئات، وآخرون من الله عليهم بنساء مؤمنات جاء ذكرهن في كتب التاريخ الإسلامي.

وفي الجواب عن ذلك نقول أنّه مضافاً إلى أنّ لكل قانون استثناءات، فلابدّ من ذكر مسألتين:

1 ـ قلنا خلال تفسير الآية موضع البحث: إنَّ القصد من الخبث الإنحطاط الخلقي والسقوط بارتكاب أعمال مخلة بالشرف، والطيب ضد الخبث، وعلى

_____________________________

 

1 ـ سورة التحريم، 10.

2 ـ سورة التحريم، 11.

[66]

هذا فجوابُ السؤال السابق يكون واضحاً، لأن نساء الأنبياء والأئمة الأطهار(عليهم السلام). لم ينحرفن والم يخبثن أبداً، وإنّما القصد من الخيانة في قصة نوح ولوط(عليهما السلام)، التجسس لمصلحة الكفّار وليس خيانة شرفهما، وأساساً إن هذا العيب من العيوب المنفّرة ونعلم أن المحيط العائلي للأنبياء(عليهم السلام) يجب أن يكون طاهراً من أمثال هذه العيوب المنفرة للناس حتى لا يتقاطع مع هذف النّبوة في جذب الناس إلى الرسالة الإلهية.

2 ـ إضافة إلى ذلك، فإنّ نساء الأنبياء والإِئمّة(عليهم السلام)، لم يكنّ كافرات منذ البداية، بل يصبن بالضلال أحياناً فيما بعد، ولهذا تستمر علاقة الأنبياء والأولياء بهنّ على ما كانت عليه قبل ضلالهنّ، كما أنّ أمرأة فرعون لم تكن مؤمنة بربّ موسى حين زواجها، إذ أنّ موسى(عليه السلام) لم يكن قد ولد بعد، وقد آمنت برسالته السماوية بعد أن بعثه الله، ولم يكن لها مخرج إلاّ بمواصلة حياتها الزوجية والكفاح، حتّى انتهت حياتها باستشهادها.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21404209

  • التاريخ : 20/04/2024 - 05:34

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net