00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الحج من بداية السورة ـ آية 25 من ( ص 269 ـ 318 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء العاشر)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[ 269  ]

سورة الحجّ

مدنيّة

وعددُ آياتِها ثمان وسَبعُونَ آيةً

[ 271  ]

 

«سورة الحجّ»

مضمون سورة الحجّ:

سمّيت هذه السورة بـ «سورة الحجّ» لأنّ جزءاً من آياتها تحدّث عن الحجّ. وهناك إختلاف بين المفسّرين وكتّاب تأريخ القرآن حول مكّيتها أو مدنيّتها. فالبعض يرى أنّها مكيّة باستثناء عدد من آياتها. في الوقت الذي يرى آخرون أنّها مدنية عدا بعض آياتها. وآخرون يرون أنّها مزيجاً من الآيات المكيّة والمدنيّة. إلاّ أنّنا لو أخذنا بنظر الإعتبار إستنتاجاتنا من السور المكية والمدنيّة، أو بتعبير آخر: أجواء هاتين المدينتين وحاجات المسلمين وكيفية صدور تعاليم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم في كلّ من هاتين المنطقتين، لوجدنا أنّ آيات هذه السورة تشبه السور المدنيّة، فالتعاليم الخاصّة بالحجّ، وكذلك التعاليم الخاصة بالجهاد تناسب أوضاع المسلمين في المدينة، مع أنّ تأكيد آيات في هذه السورة للمبدأ والمعاد لا تستبعد ملاءمتها للسور المكيّة.

يقول مؤلّف «تأريخ القرآن» إستناداً إلى «فهرست ابن النديم ونظم الدرر»: إنّ سورة الحجّ نزلت في المدينة، باستثناء آيات منها والتي نزلت بين مكّة والمدينة، ويُضيف: إنّها السورة السادسة بعد المائة التي نزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وتقع بعد سورة النور. وقبل سورة المنافقين.

وعلى أي حال فإنّ كون هذه السورة مدنيّة أقوى.

هذا ويمكن تقسيم مواضيعها إلى عدّة أقسام هي:

[ 272  ]

1 ـ تضمنّت آيات منها موضوع «المعاد» وأدلّته المنطقية، وإنذار الغافلين عن يوم القيامة ونظائر ذلك التي تبدأ هذه السورة بها لتضمّ جزءاً كبيراً منها.

2 ـ يتضمّن جزء ملحوظ من هذه الآيات جهاد الشرك والمشركين، وجلب إنتباه الناس إلى عظمة الخالق بواسطة معاجز الخلق في عالم الوجود.

3 ـ دعا جزء آخر من هذه السورة الناس إلى الإعتبار بمصير الأقوام البائدة، وما لاقت من عذاب إلهي، ومن هذه الأقوام قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم ولوط، وقوم شعيب وموسى.

4 ـ وتناول جزء آخر منها مسألة الحجّ وتاريخه منذ عهد إبراهيم (عليه السلام)، ومسألة القربان والطواف وأمثالها.

5 ـ وتضمّن الجزء الآخر مقاومة الظالمين والتصدّي لأعداء الإسلام المحاربين.

6 ـ وإحتوى قسم آخر نصائح في مجالات الحياة المختلفة.

7 ـ التشجيع على أعمال الصلاة والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوكّل والتوجّه إلى الله (سبحانه وتعالى).

فضيلة تلاوة سورة الحجّ:

جاء في حديث للرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) «من قرأ سورة الحجّ اُعطي من الأجر كحجّة حجّها، وعمرة إعتمرها، بعدد من حجّ وإعتمر فيما مضى وفيما بقي»(1)!

وهذا الثواب والفضل العظيم ليس لمجرد التلاوة اللفظيّة فقط، وإنّما لتلاوة تنير الفكر، وتفكّر يتبعه عمل وتطبيق.

___________________________

1 ـ مجمع البيان بداية سورة الحجّ.

[ 273  ]

ومن يجعل هذه السورة ومضمونها من مبدأ ومعاد وتعليمات تعبّدية أخلاقية ومسائل خاصّة بالجهاد ومقارعة الظالمين، مصباحاً لبصيرته ومنهاجاً لحياته، سيجد نفسه قد إرتبط بجميع المؤمنين السابقين واللاحقين ـ معنوياً وروحيّاً ـ إرتباطاً يُشعره بأنّه شريك في أعمالهم، وهم شركاء في أعماله، دون أن ينقص من أجرهم. وأنّه سيكون همزة وصل بين جميع المؤمنين عبر التاريخ.

وعلى هذا، فلا عجب من مقدار الثواب والأجر الذي نصّ عليه هذا الحديث.

* * *

[ 274  ]

الآيتان

يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شِىْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَة عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْل حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَـرَى وَمَا هُم بِسُكَـرَى وَلَـكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ(2)

التّفسير

زلزلة البعث العظيمة:

تبدأ هذه السورة بآيتين تشيران إلى يوم البعث ومقدّماته، وهما آيتان تبعدان الإنسان ـ دون إرادته ـ عن هذه الحياة المادية العابرة، ليفكّر بالمستقبل المخيف الذي ينتظره المستقبل الذي سيكون جميلا وسعيداً إن فكّرت فيه اليوم، ولكنّه مخيفٌ حقّاً إن لم تعدّ العدّة له، والآية المباركة: (ياأيّها الناس اتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم). خطاب للناس جميعاً بلا استثناء، فقوله تعالى: (ياأيّها الناس) دليل واضح على عدم التفريق بينهم من ناحية العنصر، واللغة، والزمان، والأماكن الجغرافية، والطوائف، والقبائل. فهو موجّه للجميع: المؤمن والكافر،

[ 275  ]

والكبير والصغير، والشيخ والشابّ، والرجل والمرأة، على إمتداد العصور.

وعبارة (اتّقوا ربّكم) خلاصة لجميع برامج السعادة، فهي تبيّن التوحيد في «ربّكم» من جهة والتقوى من جهة أُخرى. وبهذا جمعت البرامج الإعتقادية والعمليّة.

وجملة (إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم) التي جاءت في عدد من الآيات القرآنية، تكرّر هنا الحديث عنها بشكل مختصر، هو أنّ البعث يحدث ثورة وتبدّلا حادّاً في عالم الوجود، الجبال تقتلع من مكانها، وتموج البحار، وتنطبق السّماء على الأرض، ثمّ يبدأ عالم جديد وحياة جديدة، ويسيطر ذعر شديد على الناس يفقدهم صوابهم.

ثمّ بيّنت الآية التالية في عدّة جمل إنعكاس هذا الذعر الشديد، فقالت: (يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت) من شدّة الوحشة والرعب.

(وتضع كلّ ذات حمل حملها).

وثالث إنعكاس لهذا الذعر الشديد: (ترى الناس سكارى وما هم بسكارى)وعلّة ذلك هو شدّة العذاب في ذلك اليوم (ولكن عذاب الله شديد) هذا العذاب الذي أرعب الناس وأفقدهم صوابهم.

مسائل مهمّة

1 ـ تحدث هذه الظواهر المذكورة آنفاً بشكل يسير في الزلازل الدنيويّة والأحداث المرعبة، حيث تنسى الاُمّهات أطفالهنّ، وتسقط الحوامل حملهنّ، وترى آخرين كالسكارى قد فقدوا صوابهم، إلاّ أنّ هذا لا يتّخذ طابعاً عاماً. أمّا زلزال البعث فإنّه يصيب الناس جميعاً دون إستثناء.

2 ـ قد تكون هذه الآيات إشارة إلى خاتمة العالم التي تعتبر مقدّمة للبعث، وفي هذه الحالة ستأخذ عبارة «كلّ ذات حمل ... وتذهل كلّ مرضعة» مفهومها

[ 276  ]

الحقيقي، إلاّ أنّه يحتمل أنّها تشير إلى زلزال يوم البعث، بدلالة قوله سبحانه: (لكن عذاب الله شديد) والعبارات السابقة تكون كأمثلة. أي إنّ الموقف مرعب لدرجة أنّه لو فرض وجود ذات حمل لوضعت حملها، وتغفل الاُمّهات عن  أطفالهنّ ـ تماماً ـ إن شهدن هذا الموقف.

3 ـ نعلم أنّ كلمة «المرضع» تطلق في اللغة العربية على المرأة التي ترضع ولدها(1)، إلاّ أنّ مجموعة من المفسّرين وبعض اللغويين يقولون: إنّ هذه الكلمة تستخدم بصيغة مؤنثة «مرضعة» لتشير إلى لحظة الإرضاع، أي يطلق على المرأة التي يمكنها إرضاع طفلها كلمة المرضع، وكلمة المرضعة خاصة بالمرأة التي هي في حالة إرضاع طفلها(2).

ولهذا التعبير في الآية أهميّة خاصّة، فشدّة زلزال البعث، ورعبه بدرجة كبيرة، يدفعان المرضعة إلى سحب ثديها من فم رضيعها ونسيانه دون وعي منها.

4 ـ إنّ عبارة (ترى الناس سكارى) إشارة إلى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المخاطب فيها فيقول له: سترى الناس هكذا، أمّا أنت فلست مثلهم، ويحتمل أن يكون الخطاب للمؤمنين الراسخين في الإيمان الذين ساروا على خطى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بأنّهم في أمان من هذا الخوف الشديد.

5 ـ نقل كثير من المفسّرين ورواة الحديث في خاتمة هذه الآيات حديثاً عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو أنّ الآيتان من بداية السورة نزلتا ليلا في غزاة بني المصطلق(3)ـ وهم حي من خزاعة ـ والناس يسيرون، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحثّوا المطي حتّى كانوا حوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرأها عليهم. فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة، فلمّا

___________________________

1 ـ يؤتى بعلامة التأنيث في حالة أن يكون للكلمة تذكير وتأنيث، إلاّ أنّ الحمل والإرضاع خاصين بالنساء، لهذا لا حاجة لهما بتاء التأنيث وأمثالها.

2 ـ يراجع قاموس اللغة، وتفسير الكشّاف، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير الميزان.

3 ـ وقعت هذه الغزوة في شهر شعبان في السنة السادسة للهجرة.

[ 277  ]

أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام، والناس بين باك حزين أو جالس يتفكّر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أتدرون أي يوم ذاك؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذاك يوم يدخل الناس من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النّار، وواحد إلى الجنّة»! فكبر ذلك على المسلمين وبكوا بشدّة! وقالوا: فمن ينجو يارسول الله؟ فأجابهم بأنّ المذنبين الذين يشكّلون الأكثرية هم غيركم. ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة» فكبّروا، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة» فكبّروا، ثمّ قال: «إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، وإنّ أهل

الجنّة مائة وعشرون صفّاً، ثمانون منها اُمّتي»(1).

* * *

___________________________

1 ـ بتلخيص عن تفسير مجمع البيان، وتفسير نور الثقلين، وتفاسير أُخرى.

[ 278  ]

الآيتان

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـدِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَـن مَّرِيد(3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4)

التّفسير

أتباع الشيطان!

بعد أن أعطت الآيات السابقة صورة لرعب الناس حين وقوع زلزلة القيامة، أوضحت الآيات اللاحقة حالة اُولئك الذين نسوا الله، وكيف غفلوا عن مثل هذا الحدث العظيم، فقالت: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم).

نجد هؤلاء الناس يجادلون مرّة في أساس التوحيد ووحدانيّة الحقّ تبارك وتعالى، وفي إنكار وجود شريك له. ومرّة يجادلون في قدرة الله على إحياء الموتى، وفي البعث والنشور، ولا دليل لهم على ما يقولون.

قال بعض المفسّرين: إنّ هذه الآية نزلت في «النضر بن الحارث» الذي كان من المشركين المعاندين، وكان يصرّ على القول بأنّ الملائكة بنات الله، وأنّ القرآن مجموعة من أساطير السلف تنسب إلى الله، كما كان ينكر الحياة بعد الموت.

[ 279  ]

والبعض الآخر من المفسّرين يعتقد أنّ هذه الآية إشارة إلى جميع المشركين الذين يجادلون في التوحيد وفي قدرة الله.

إلاّ أنّ سبب النّزول لا يمكنه أن يضيّق مفهوم هذه الآية، فهذان القولان يصبّان في معنى واحد، يشمل جميع الذين يشتركون في جدال مع الله تعالى، إمّا عن تقليد أعمى، وإمّا عن عصبية، أو لإتّباع الخرافات، أو الأهواء النفسية.

ثمّ تضيف هذه الآية (ويتّبع كلّ شيطان مريد) فهؤلاء الأشخاص الذين لا يتّبعون منطقاً أو علماً، وإنّما يتّبعون كلّ شيطان عنيد ومتمرّد، ولا يخضعون لشيطان واحد، بل لجميع الشياطين! شياطين الإنس والجنّ، الذين لكلّ منهم برنامجه وأحابيله وشراكه.

وكلمة «مريد» مشتقّة من «مَرَدَ» وأصلها الأرض المرتفعة التي لا نبت فيها. وتطلق أيضاً كلمة «أمرد» على الشجرة الجرداء، ولهذا تطلق أيضاً على كلّ صبي لم ينبت الشعر في وجهه، وهنا يقصد بـ«المريد» الشخص الذي خلا من أي خير وسعادة. وطبيعي أن يكون مثل هذا الشخص عنيداً وظالماً وعاصياً. وبهذا يتّضح مصير الإنسان الذي يتّبع الشيطان الخالي من كلّ خير!!

ومن هنا كانت الآية اللاحقة (كتب عليه أنّه من تولاّه فإنّه يضلّه ويهديه إلى عذاب السعير)(1).

* * *

ملاحظات

1 ـ الجدال في الحقّ والباطل

رغم أنّ كلمة «المجادلة» تعني في عرف الناس البحث غير المنطقي، فإنّ

___________________________

1 ـ «السعير» مشتقّة من «سَعَرَ» بمعنى لهب النّار، وتعني هنا نار جهنّم الحارقة. التي تمتاز بأنّها أكثر حرقاً من أي نار.

[ 280  ]

أصلها اللغوي ليس كذلك. بل تعني أي نقاش كان. لهذا نرى القرآن يوصي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن)(1) أي جادل مخالفيك بأفضل اُسلوب.

2 ـ جدال الباطل سبيل الشيطان

يرى بعض كبار المفسّرين أنّ عبارة (يجادل في الله بغير علم) إشارة إلى أقوال المشركين التي تفتقد السند والدليل. وعبارة (ويتّبع كلّ شيطان مريد)إشارة إلى أفعال المشركين الخاطئة.

ويرى آخرون أنّ العبارة الأُولى تشير إلى إعتقاداتهم الفاسدة والخرافية. أمّا العبارة الثّانية فتشير إلى سلوكياتهم الخاطئة والمنحرفة.

وبما أنّ الآية السابقة والتالية هذه الآية، تناولتا الاُسس الإعتقادية، فلا يستبعد أن تشير هاتان الجملتان إلى حقيقة واحدة، أو بتعبير آخر: تتضمنّان طرفي موضوع واحد ـ نفيه وإثباته ـ فالعبارة الأُولى تقول: (يجادل في الله بغير علم) أي يجادل في الله وقدرته تقليداً لأحد، أو عصبيّة، أو هوى نفس، والعبارة الثّانية تشير إلى أن من لا يتّبع العلم والمعرفة، فمن الطبيعي أنّه يتّبع كلّ شيطان طاغ عنيد.

3 ـ لماذا أي شيطان كان؟

إنّه ممّا يلفت النظر أنّ القرآن لم يقل أنّ هذا الشخص يتّبع الشيطان، بل ذكر أنّه يتّبع أي شيطان عنيد كان، وهذا يشير إلى تعدّد مناهج ومكائد الشياطين، فكلّ منهم إختار لنفسه مكيدة خاصّة، وهذه المكائد والفخاخ متنوّعة ومتكثّرة إلى حدّ

___________________________

1 ـ النحل، 125.

[ 281  ]

يكون من العسير تشخيصها، إلاّ المؤمنين المتوكّلين على الله والمشمولين برحمته وحمايته: (إلاّ عبادك منهم المخلصين)(1).

ولابدّ من الإنتباه إلى أنّ كلمة الشيطان تستبطن التمرّد والعناد والبعد عن كلّ خير وبركة. إلاّ أنّ ذكر كلمة «مريد» (الفاقد لكلّ خير وسعادة) بعد كلمة الشيطان مباشرةً، هو تأكيد لتوضيح مصير من يتّبعه.

4 ـ تفسير عبارة (كتب عليه)(2).

واضح أنّ هذه العبارة تعني «الإلزام»، سواء كانت في عالم الخلق أم في عالم التشريع. إلاّ أنّه يجب أن لا نتصوّر أنّها تعني «الجبر» وأنّ الشياطين مجبورون على إضلال أتباعهم ليرسلوهم إلى دار البوار. بل إنّها نتيجة مؤكّدة لبرنامج إختاروه بمحض إرادتهم. فإبليس قائد الشياطين وكبيرهم خالف أمر الله وعانده بملء إرادته، حتّى بلغت به الجرأة أن يعترض على ذات الله. فهو ضالّ ومضلّ وكذلك سائر الشياطين من الجنّ والإنس. وذلك كما نقول للمدمن على المخدرات: كُتب على جبينه سوء الطالع والتعاسة، فهل يعني ذلك جبراً؟!

* * *

___________________________

1 ـ سورة الحجر، 40.

2 ـ قال البعض: إنّ ضمير «عليه» يعود إلى الشيطان، وقال آخرون: إنّه يعود إلى اتّباع الشيطاع. كما يستنتج ذلك من عبارة «ومن الناس» أيضاً، إلاّ أنّ ظاهره يؤكّد أنّه يعود إلى الشيطان، لا سيّما وأنّ الضمير المتّصل بـ «من تولاّه» يعود إلى الشيطان أيضاً.

[ 282  ]

الآيات

يَـأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْب مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَـكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ مِن مُّضْغَة مُّخَلَّقَة وَغَيْرِ مُخَلَّقَة لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاَْرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَل مُّسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْم شَيْئاً وَتَرَى الاَْرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْج بَهِيج(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(6) وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ(7)

التّفسير

دليل المعاد في عالم الأجنّة والنبات:

بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويّين لإثبات المعاد

[ 283  ]

الجسماني: أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.

والقرآن شرح صوراً للمعاد ممّا يلمسه الناس في هذه الدنيا، ويرونه باُمّ أعينهم، إلاّ أنّهم لم ينتبهوا لذلك، ليعلموا أنّ الحياة بعد الموت ليست ضرباً من الخيال، بل هي حادثة فعلا مشهودة للعيان، والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره (ياأيّها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة)(1) كلّ ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأي عمل (لنبيّن لكم).

فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها. ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل (ونُقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى) ثمّ تبدأ الأجنّة مرحلة تطوّر جديدة. لنخرجكم أطفالا من أرحام اُمّهاتكم.

(ثمّ نخرجكم طفلا) وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون اُمّهاتكم. فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء، وإمكانات واسعة جدّاً، إلاّ أنّ تكاملكم يستمرّ في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف، ألا وهو الرُّشد والكمال الجسمي والعقلي. (ثمّ لتبلغوا أشدّكم).

وهنا يتبدّل الجهل إلى علم، والضعف إلى قوّة، والتبعيّة إلى الإستقلال، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمرّ آخرون حتّى المرحلة الأخيرة من الحياة، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم: (ومنكم من يتوفّى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر).

أجل، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكّر فيها شيئاً، حيث يسيطر عليه النسيان،

___________________________

1 ـ «المضغة» مشتّقة من «المضغ» وتعني مقداراً من اللحم يمكن للإنسان مضغهُ في لقمة واحدة. وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

[ 284  ]

ويصبح في وضع وكأنّه طفل (لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً) وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة إنتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج ممّا يدلّ على وصولها إلى مرحلة الإنفصال.

وهذه التغيّرات المدهشة المتلاحقة التي تتحدّث عن قدرة الله تعالى غير المحدودة، توضّح أنّ إحياء الموتى يسير على الله جلّت عظمته. وهناك بحوث تعرض لمراحل الحياة المختلفة هذه، سنذكرها في الملاحظات القادمة.

ثمّ تتناول الآية بيان الدليل الثّاني أي حياة النباتات، فتبيّن ما يلي: تنظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء إهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج)(1).

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه، وذلك بإستعراض خمس

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ ما إستعرضته الآيات الخاصّة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات، من أجل أن تعلموا أنّ الله تعالى حقّ (ذلك بأنّ الله هو الحقّ) وبما أنّه هو الحقّ، فالنظام الذي خلقه حقّ أيضاً، لهذا لا يمكن أن يكون

___________________________

1 ـ «الهامدة» تعني في الأصل النّار التي أطفئت، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة «مفردات الراغب الاصفهاني» والبعض الآخر قال: إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«إهتزّت» مشتقّة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدّة.
«ربت» مشتقّة من «الربو» وتعني الزيادة والنمو، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقة أيضاً من «الربو».
«بهيج» تعني الجميل السّاحر السارّ.

[ 285  ]

هذا الخلق دون هدف، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر: (وما خلقنا السّماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا)(1).

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثاً، وأنّ لها هدفاً، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتماً.

2 ـ إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا (وأنّه يحيي الموتى). إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل، ويمنح الحياة للأرض الميتة، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى، فهل يمكن التردّد في قبول فكرة المعاد مع وجود كلّ هذه التشكيلات الحيّة الدائمة للخالق جلّ وعلا في هذا العالم(2)؟

3 ـ الهدف الآخر هو أن نعلم (وأنّه على كلّ شيء قدير) ولا يستحيل على قدرته شيء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة؟ ويلبسها كلّ يوم لباساً جديداً من الحياة! ويجعل الأرض الجافّة العديمة الروح خضراء زاهيةً تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4 ـ إنّ كلّ هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر، ستحلّ بلا شكّ فيها (وإن الساعة آتية لا ريب فيها).

5 ـ ثمّ إنّ كلّ هذا مقدّمة لنتيجة أخيرة هي (وأنّ الله يبعث من في القبور).

___________________________

1 ـ سورة ص، 27.

2 ـ يرى بعض المفسّرين في عبارة (أنّه يحيي الموتى) إشارة إلى حياة الناس في القيامة. مع أنّ هذا المعنى تضمنّته عبارة (وأنّ الله يبعث من في القبور) أيضاً، مع فارق هو أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى أصل الحياة، والثّانية إشارة إلى كيفية إحياء الموتى.

إلاّ أنّ التّفسير الآخر الذي إستندنا إليه بصورة أكثر، هو أنّ عبارة (أنّه يحيي الموتى) إشارة إلى منح الله الحياة بشكل مستمر في هذه الدنيا، ليكون دليلا على إمكان تحققّ ذلك يوم البعث.

[ 286  ]

وهذه النتائج الخمس بعضها مقدّمة، وبعضها ذو المقدّمة، البعض منها إشارة إلى الإمكان، والآخر إشارة إلى الوقوع، ومترتّبة بعضها على بعض وكلّ يكمل صاحبه، وجميعها ينتهي إلى نقطة واحدة، هي أنّ البعث ليس ممكن فحسب، بل إنّه سيقع حتماً.

فالذين يشكّون في إمكان الحياة بعد الموت يشاهدون الصور المشابهة لها في حياة البشر والنباتات باُمّ أعينهم. وهي تتكرّر كلّ يوم وكلّ عام.

وإذا شكّوا في قدرة الله فإنّ قدرة الله جعلتهم يشاهدون أمثلة بارزة لها بأعينهم. ألم يخلق الإنسان من تراب؟ ألا نشاهد كلّ عام احياء الأرض الميتة؟ فهل عجيب أمر حياة الأموات ثانية ونهوضهم من تراب؟

وإن شكّوا في وقوع مثل هذه الاُمور، فعليهم أن يعلموا أنّ النظام المسيطر على الخلق في العالم يدلّ على وجود هدف له، وإلاّ فإنّه باطل تافه، والحياة القصيرة المملوءة بالآلام وخيبة الآمال غير جديرة بأن تكون هي الهدف الأخير لعالم الخلق.

وعلى هذا يجب أن يكون هناك عالم آخر، وسيع، خالد، جدير بأن يعدّ هدفاً للخلق.

* * *

بحوث

1 ـ مراحل حياة الإنسان السبع

الآيات السابقة شرحت حركة الإنسان في مسيرة ذات مراحل سبع، لتبيّن البعث وتثبت إمكانه:

المرحلة الأُولى: عندما كان الإنسان تراباً، وقد يراد به التراب الذي خلق منه آدم (عليه السلام). كما قد يكون إشارة إلى أنّ جميع البشر ـ من تراب، لأنّ جميع المواد

[ 287  ]

الغذائية التي تكوّن النطفة وغذاءها ـ من بعد ـ من تراب. ولا شكّ في أنّ الماء يشكّل جزءاً ملحوظاً من جسم الإنسان، والجزء الآخر من الأوكسجين والكاربون، وليس من التراب، إلاّ أنّ العنصر الأساس الذي تتشكّل منه أعضاء الجسم مصدره التراب. إذن عبارة خلق الإنسان من تراب صحيحة حتماً.

المرحلة الثّانية: (النطفة): يتحوّل التراب، هذا الموجود البسيط المهمل العديم الحسّ والحركة، يتحوّل إلى نطفة تتألّف من أحياء مجهولة مثيرة تسمّى عند الرجل «أسپر» أو الحيمن وعند المرأة «أوول» أو البويضة وهي غاية في الصغر حتّى أنّها تبلغ الملايين في نطفة الرجل!

والمثير أنّ الإنسان يواصل عقب ولادته حركة تدريجيّة هادئة، تأخذ في الغالب شكل «التكامل الكمّي» في الوقت الذي كانت حركته في الرحم «كيفيّة» ترافقها طفرات سريعة مغيّرة. والتغيّرات المتعاقبة للجنين في الرحم مدهشة إلى درجة يمكن تشبيهها بحشرة صغيرة بسيطة تتطوّر بعد أشهر قليلة إلى طائرة نفّاثة!

وقد تطوّرت وتوسّعت الدراسات عن «علم الأجنة» اليوم بحيث تمكّن علماؤه من دراسة الجنين في مراحله المختلفة، وكشفوا عن أسرار هذه الظاهرة العجيبة في عالم الوجود. وعرضوا النتائج الباهرة التي توصّلوا إليها في دراساتهم عن الجنين.

وفي المرحلة الثّالثة يصبح الجنين علقة، وتكون خلاياه كحبّات التوت، بشكل قطعة دم خاثر متلاصقة، يطلق عليها علميّاً «مورولا». وبعد مضي مدّة قصيرة تظهر أخاديد التقسيم الصغيرة كبداية لتقسيم أجزاء الجنين، ويطلق على الجنين في هذه المرحلة اسم «لاستولا».

وفي المرحلة الرّابعة يتّخذ الجنين شكل قطعة لحم ممضوغ، دون أن تتّضح معالم الأعضاء فيه. وفجأةً تحدث تغييرات في قشرة «الجنين» وتتّخذ شكلا يلائم العمل المطلوب منه القيام به، فتظهر أعضاء الجسم تدريجيّاً، ويسقط كلّ جنين

[ 288  ]

 لا يمكنه المرور بهذه المرحلة، ويمكن أن تكون عبارة (مخلّقة وغير مخلّقة)إشارة إلى هذه المرحلة، أي أنّ الجنين يكون «كامل الخلقة» أو «ناقص الخلقة».

ومن المثير أنّ القرآن المجيد ذكر عبارة (لنبيّن لكم) بعد ذكر هذه المراحل الأربع، مؤكّداً أنّ هذه التغييرات السريعة المدهشة التي تغيّر قطرة ماء صغيرة إلى إنسان كامل، لدليل واضح على أنّ الله قادر على كلّ شيء.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى مرحلة الجنين الخامسة والسّادسة والسّابعة، التي تلي الولادة أي «الطفولة» و «البلوغ» و «الشّيخوخة»(1).

والجدير بالذكر أنّ ولادة الإنسان ـ من التراب ـ كائناً حيّاً، قفزة كبيرة، ومراحل الجنين المختلفة قفزات متعاقبة، وولادة الإنسان من بطن اُمّه قفزة مهمّة جدّاً، وهكذا البلوغ والشيخوخة.

وتعبير القرآن عن يوم القيامة بالبعث، قد يكون إشارةً إلى مفهوم القفزة ذاتها التي تحدث يوم البعث أيضاً. وما أجدرنا بالإنتباه إلى أنّ القرآن تحدّث عن مراحل تكوّن الجنين قبل أن يظهر علم الأجنّة، وحديثه عنها في ذلك الزمن دليل حيّ على أنّ هذا الكتاب العظيم إنّما هو وحي يُوحى من قُدرة قادرة هي التي أبدعت الطبيعة وما وراءها.

2 ـ المعاد الجسماني

ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم أينما تحدث عن البعث قصد بعث الإنسان جسماً وروحاً في العالم الاُخروي، والذين حصروا البعث في الروح وقالوا ببقائها هي وحدها لم يفقهوا آيات القرآن قطّ.

___________________________

1 ـ الذي يثير الإنتباه أنّ تعبير القرآن (ثمّ نخرجكم طفلا) عن ولادة الإنسان لم يرد بصيغة الجمع (أطفال) وفقاً للقاعدة، إلاّ أنّ هذا التعبير (طفلا) يمكن أن يكون مصدراً يتساوى فيه المفرد والجمع، أو أن يكون الهدف بيان النوع. وليس خصائص الأطفال، فالفروق بين البشر في هذه المرحلة مخفية تبرز في المراحل اللاحقة.

[ 289  ]

فهذه الآيات المباركة كالآية السابقة تصرّح بالمعاد الجسماني. وإلاّ فما هو وجه التشابه بين المعاد الروحي، ومراحل الجنين وإحياء الأرض الموات بنمو النباتات؟ ويؤكّد ذلك ختام الآيات التي نحن بصددها إذ تقول: (وإنّ الله يبعث من في القبور) والقبر موضع جسم الإنسان وليس روحه.

وأساساً فانّ تعجّب المشركين إنّما هو من البعث الجسماني، فهم يقولون: كيف يمكن للإنسان أن يعود للحياة ثانية بعد ما صار تراباً؟ وبقاء الروح لم يكن شيئاً عجباً، لأنّه كان موضع قبول ورضى الأقوام الجاهلية.

3 ـ ما هو «أرذل العمر»؟

«الأرذل» مشتقّة من «رذل» أي المنحطّ وغير المرغوب فيه. ويقصد بـ «أرذل العمر» تلك المرحلة من عمر الإنسان التي هي أكثر إنحطاطاً وغير مرغوب فيها لما يفقده فيها الإنسان من القوّة والذاكرة، ولما يغلبه فيها من الضعف والإنفعال، حتّى تراه يغتاظ من أدنى شيء، ويرضى ويفرح لا يسر شيء، ويفقد سعة صدره وصبره، وربّما قام بحركات طفولية. مع فارق بينه وبين الطفل وهو أنّ الناس  لا يتوقّعون منه ذلك، لأنّه ليس طفلا، مضافاً إلى أنّ الطفل يؤمل في أن يكبر وينضج جسديّاً ونفسيّاً وتزول عنه هذه الحركات الصبيانية، لهذا يتركوا أحراراً في ممارستها، وليس كذلك في الفرد المسنّ، أي أنّ الطفل ليس لديه شيء ليفقده، ولكن المسنّ يفقد رأس مال حياته بذلك. وعلى هذا فإنّ وضع الشيوخ المعمّرين يثير الشفقة والأسى عند مقارنته بوضع الأطفال.

وجاء في بعض الأحاديث أنّ أرذل العمر هو الذي يبلغ مئة عام وأكثر(1) وقد تعني هذه العبارة نوع الأشخاص، وإلاّ فهناك من يبلغ هذه الحالة وسنّهم أقل من

___________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، الصفحة 472.

[ 290  ]

مئة عام. كما أنّ هناك أشخاصاً تجاوزت أعمارهم مئة عام وهم بكامل وعيهم وذكائهم. وتندر مشاهدة من يصابون بهذه الحالة بين العلماء الذين شغلتهم المعارف والبحوث.

وما أولانا بدعاء الله تعالى أن يحفظنا من هذه الحالة! وما أجدرنا أن ننهي غرورنا وغفلتنا بمجرد الفكر بهذه العاقبة! علينا أن نفكّر ماذا كنّا وعلى ماذا أصبحنا وماذا سنكون؟

* * *

[ 291  ]

الآيات

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَـدِلُ فِى اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَـب مُّنِير(8) ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنَذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّـم لِّلْعَبِيدِ(10)

التّفسير

الجدال بالباطل مرّة أُخرى:

تتحدّث هذه الآيات أيضاً عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاوياً  لا أساس له، في البداية يقول القرآن المجيد: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير).

وعبارة (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأُولى إشارة إلى مجموعة من الناس، والثّانية إلى مجموعة أُخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين، في

[ 292  ]

وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1).

وعبارة (ليضلّ عن سبيله) تبيّن هدف هذه المجموعة، ألا وهو تضليل الآخرين، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة (يتّبع كلّ شيطان مريد) في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.

ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الإستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الربّانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماوية، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقاً لدراسات العلماء، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضاً.

ويحتمل بعض المفسّرين أنّ «الهدى» إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. «وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفاً».

ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمراً إذا استند إلى أحد الأدلّة: العقل، أو الكتاب، أو السنّة.

ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة، فيقول: (ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله) إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم إهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب، أي الإعراض عن الشيء وعدم الإهتمام به.

___________________________

1 ـ تفسير الميزان، والتّفسير الكبير للفخر الرازي، في تفسير الآيات موضع البحث.

[ 293  ]

ويمكن أن تكون عبارة «ليضلّ» هدف هذا الإعراض، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الإهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة: (له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق).

ونقول له: (ذلك بما قدّمت يداك) و (إنّ الله ليس بظلاّم للعبيد) لا يعاقب الله أحداً بلا ذنب، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب، فهو العدل المطلق سبحانه(1).

وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).

* * *

___________________________

1 ـ «ظلاّم» صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبداً لا كثيراً ولا قليلا، ويمكن أن يكون إستخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى ـ جلّ عن ذلك وعلا علوّاً كبيراً ـ مصداق ظلم كبير.

[ 294  ]

الآيات

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْف فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11) يَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَـلُ الْبَعِيدُ(12) يَدْعُوا لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ(13) إنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(14)

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر

تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين: الأتباع الضالّين، والقادة المضلّين. أمّا هذه الآيات، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة: (ومن الناس من يعبد الله على حرف) أي إن بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان، وإنّ إيمانه ضعيف جدّاً. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

[ 295  ]

وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصاً من نوره إلاّ قليلا، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاُخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.

ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص (فإن أصابه خير اطمأنّ به وإن أصابته فتنة إنقلب على وجهه)(1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام. إلاّ أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّاً، وإلاّ فلا.

وذكر «ابن عبّاس» ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية: «أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة مهاجرين من باديتهم، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً. وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته، رضي به واطمأنّ إليه، وإن أصابه وجع وولدت امرأته اُنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة، أتاه الشيطان وقال له: ما جاءتك هذه الشرور إلاّ بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه»(2).

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الإمتحان) ولم يطلق عليها كلمة

___________________________

1 ـ كلمة «انقلب» في جملة «انقلب على وجهه» تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماماً، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوماً.

2 ـ تفسير الفخر الرازي، المجلّد الثّالث والعشرون، ص13، وتفسير القرطبي، المجلّد السادس، ص4409.

[ 296  ]

الشرّ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّاً ولا سوءاً وإنّما هي وسيلة للإمتحان.

ويضيف القرآن المجيد في الختام ـ (خسر الدنيا والآخرة) و (ذلك هو الخسران المبين) مؤكّداً أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام، إلاّ أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!

وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين، لكن إذا إعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّةً من الإيمان، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية، فعبارة «يعبد الله» و «اطمأنّ به» و «انقلب على وجهه» تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا. أمّا إذا قُصِد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان، فلا يعارض ما قلناه، ويمكن قبوله.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك، خاصة بعد الإنحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله، فتقول: (يدعوا من دون الله ما لا يضرّه وما لا ينفعه) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والإبتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه، وبطلانه في إدبارها عنه. فلماذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير، ولا يخاف منها ضرر. فهي أشياء لا فائدة فيها، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل (ذلك هو الضلال البعيد). إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بُعداً حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلاّ رجاءً ضعيفاً جدّاً.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول: (يدعوا لمن ضرّه أقرب من نفعه)لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا، ويدفعهم

[ 297  ]

نحو الخرافات والجهل، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء: (إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم).

وتضيف الآية في الختام (لبئس المولى ولبئس العشير) فما أسوأه ناصراً ومعيناً، وما أسوأه مؤنساً ومعاشراً.

وهنا يثار سؤال، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟

في الجواب عن ذلك نقول: إنّ ذلك أمرٌ إعتيادي في المخاطبة، ففي مرحلة  لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أُخرى فيعدّونه مصدر الضرر. كأن نقول: لا تصادق فلاناً، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك. وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو: (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وإفتضاحك. وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها، ولكنّها تتضمّن ضرراً حتميّاً لأتباعها.

كما أنّ صيغة «أفعل التفضيل» في كلمة «أقرب» كما قلنا سابقاً: تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معيّنة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقداً لأيّة صفة، كأن نقول: ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير، إلاّ أنّ الصبر أفضل منها،).

وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان».

وإحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام، فالآية الأُولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام. فالمجموعة الأُولى لا تضرّ ولا تنفع، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة. أمّا المجموعة الثّانية «أئمّة الضلال» فإنّهم يضرّون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير

[ 298  ]

قليل فضرّهم كبير جدّاً، وعبارة (لبئس المولى ولبئس العشير) تؤكّد ذلك، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(1).

وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر، فتقول الآية: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار). فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكيرهم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة، وأنّ الله سبحانه يُثيب المؤمنين العاملين للصالحات، جنّات تجري من تحتها الأنهار، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء إستقامتهم على الحقّ وإستجابتهم له في الحياة الدنيا (إنّ الله يفعل ما يريد).

وثوابهم يسير عليه ـ جلّ وعلا ـ يُسْرَ عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.

وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلاّ بلسانهم، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة، وليس لهم عمل صالح، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة .. ومن جهة أُخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.

* * *

___________________________

1 ـ بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة «يدعو» بمعنى «يقول» إلاّ أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.

[ 299  ]

الآيات

مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِى الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَب إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كِيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَـهُ ءَايَـت بَيِّنَـت وَأَنَّ اللهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ(16) إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّـبِئِينَ وَالنَّصَـرَى وَالْـمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـمَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء شَهِيدٌ(17)

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين حول سبب نزول الآية الأُولى من هذه الآيات، أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أنّ الله لا ينصر محمّداً، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. فحذّرتهم هذه الآية ووبّختهم بشدّة.

وقال آخرون: إنّها نزلت في قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر، فنزلت هذه الآية(1) تلومهم

___________________________

1 ـ أبو الفتوح الرازي، وكذلك الفخر الرازي في تفسيرهما الآيات موضع البحث.

[ 300  ]

على عدم صبرهم.

التّفسير

البعث نهاية جميع الخلافات:

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن ضعفاء الإيمان، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة أُخرى عن هؤلاء فتقول: (من كان يظنّ أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السّماء ثمّ ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ). أي من يظنّ أنّ الله لا ينصر نبيّه في الدنيا والآخرة، وهو غارق في غضبه، فليعمل ما يشاء، وليشدّ هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلّق نفسه حتّى ينقطع نفسه ويبلغ حافّة الموت، فهل ينتهي غضبه؟!

لقد إختار هذا التّفسير عدد كبير من المفسّرين، أو ذكروه كإحتمال يستحقّ الإهتمام به(1).

الضمير في قوله سبحانه: (لن ينصره الله) بحسب هذا التّفسير يعود إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و «السّماء» تعني سقف المنزل (لأنّ كلّ شيء فوقنا يطلق عليه سماء). أمّا عبارة «ليقطع» فتعني قطع النفس والوصول إلى حافّة الموت.

واحتمل البعض إحتمالات أُخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها، ما عدا تفسيرين منها يستحقّان الإهتمام، وهما:

1 ـ إنّ السّماء يقصد بها السّماء الحقيقيّة، وبناءً على هذا الرأي: فإنّ الأشخاص الذين يظنّون أنّ الله لا ينصر نبيّه، ليذهبوا إلى السّماء وليشدّوا بها حبلا ويعلّقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتّى تنقطع أنفاسهم. (أو يقطعوا الحبل الذي تعلّقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل إنتهى غضبهم؟!

___________________________

1 ـ تراجع تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «الميزان» و «الفخر الرازي» و «أبو الفتوح الرازي» و «تفسير الصافي» و «القرطبي» في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.

[ 301  ]

2 ـ إنّ عود الضمير المذكور إلى هؤلاء الأشخاص (ليس إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) أي أنّ الذين يظنّون عدم نصر الله لهم، وأنّه يقطع رزقهم، عليهم أن يعملوا ما شاءوا، وليذهبوا إلى السّماء ويعلّقوا أنفسهم بحبل، ثمّ ليقطعوا هذا الحبل حتّى يقعوا على الأرض، فهل ينهي غضبهم؟

وجميع هذه التفاسير تركّز على ملاحظة نفسيّة تخصّ الأشخاص الحادّي المزاج. والضعيفي الإيمان الذين يصابون بالهلع ويرتكبون أعمالا جنونية كلّما بلغت اُمورهم طريقاً مسدوداً في الظاهر، فيضربون الأبواب والحيطان تارةً، وأُخرى يودّون أن تبتلعهم الأرض. وقد يصمّمون على الإنتحار لإخماد نيران غضبهم. في وقت لا تحلّ فيه هذه الأعمال الجنونية مشاكلهم، ولو تريّثوا قليلا، والتزموا بالصبر وسعة الصدر، ونهضوا بعد التوكّل على الله والإعتماد على النفس في مواجهة مشاكلهم، لأصبح حلّها مؤكّداً.

وأشارت الآية التالية إلى خلاصة الآيات السابقة، فقالت: (وكذلك أنزلناه آيات بيّنات).

لقد أوضحت الآيات السابقة أدلّة المعاد والبعث، كالمراحل التي يمرّ بها الجنين الإنساني ونموّ النباتات وإحياء الأرض بعد موتها، وأدلّة أُخرى على عدم نفع الأصنام وضرّها، وعرضت أعمال الذين يجعلون الدين وسيلة لبلوغ المنافع التافهة. ولكن هذه الأدلّة الواضحة والبراهين الدامغة لا تكفي لتقبّل الحقّ، بل لابدّ من إستعداد ذاتي لذلك. ولهذا يقول القرآن المجيد في نهاية الآية: (وأنّ الله يهدي من يريد).

وقد قلنا مراراً: إنّ إرادة الله ليست بلا حساب، فهو المدبّر الحكيم يهدي من يشاء بآياته البيّنات، خاصّةً اُولئك المجاهدين في سبيله، وهم يرجون هدايته

[ 302  ]

بكلّ مشاعرهم(1).

وأشارت آخر الآية هنا إلى ستّ فئات، إحداها مسلمة مؤمنة، وخمس منها غير مسلمة (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إنّ الله يفصل بينهم يوم القيامة). أليس يوم الفصل من أسماء يوم القيامة! حيث يفصل الله سبحانه وتعالى، فيه بين الحقّ والباطل، يوم تبلى فيه السرائر، وتنتهي فيه الخلافات. (إنّ الله على كلّ شيء شهيد).

* * *

بحوث

1 ـ إرتباط الآيات

ترتبط هذه الآية بالآيات التي سبقتها، حيث تناولت الآية التي قبلها الهداية الربّانية لمن كان قابلا للهداية، ولكن بما أنّ قلوب الناس ليست على نمط واحد، بسبب وجود التعقّب والعناد والتقليد الأعمى لا يسمح للقلوب بالإهتداء، لذا يبقى التحزّب والخلاف إلى يوم القيامة الذي يكشف فيه عن الأسرار ويتجلّى الحقّ للجميع.

مضافاً إلى أنّ الآيات السابقة تحدّثت عن ثلاث فئات: اُولاهما تجادل في الله وفي يوم البعث بغير دليل، وثانيها تضلّل الناس، وثالثها ضعاف الإيمان الذين يميلون كلّ مرّة إلى جهة. لذا فقد أشارت هذه الآية إلى نماذج من هذه الفئات التي تجابه المؤمنين.

ثمّ أنّ الآيات السابقة تضمنّت سؤالا هو: ما الهدف من المعاد؟ وقد بيّنت الآية ـ موضع البحث ـ أحد أهداف المعاد، وهو إنهاء الخلافات والعودة إلى الوحدة.

___________________________

1 ـ المبتدأ محذوف في قوله تعالى: (إنّ الله يهدي من يريد) وتقديره «الأمر أنّ الله يهدي من يريد»، ويحتمل أيضاً أنّ حرف (أن) بالفتح بمعنى (إن) بالكسر فلا محذوف في البين حينئذ.

[ 303  ]

2 ـ من هم المجوس؟

جاءت كلمة «المجوس» مرّة واحدة في هذه الآيات بجانب الأديان السماوية الاُخرى وفي مقابل المشركين، وهذا دليل على أنّ لهم ديناً ونبيّاً وكتاباً.

وتطلق كلمة «المجوس» اليوم على أتباع «زرادشت» أو أنّ أتباع زرادشت يشكّلون جزءاً مهمّاً منهم، وحياة «زرادشت» ليست واضحة تماماً، فقد قيل: إنّه ظهر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وقيل: في القرن السادس أو السابع(1).

وهذا الإختلاف بخمسة قرون أمر عجيب! يدلّ على الغموض الذي يحيط بتاريخ زرادشت. والمعروف أنّ له كتاباً اسمه «أفستا» تلف إبّان حملة الإسكندر المقدوني على بلاد فارس. ثمّ اُعيدت كتابته على عهد أحد ملوك الساسانيين(2).

وليس لدينا معلومات كافية عن عقيدة زرادشت، إلاّ ما اشتهر من إعتقاده بمبدأ الخير والشرّ والنور والظلام، فإله الخير والنور عنده «أهورا مزدا» وإله الشرّ والظلام «أهريمن» ويحترم فكرة العناصر الأربعة وخاصّة «النّار» حتّى اُعتبر أتباعه عبدة للنار. وأينما كانوا وجد معهم معبد للنار صغير أو كبير.

ويرى البعض أنّ كلمة «مجوس» مشتقّة من «مغ» التي كانت تطلق على قادة وروحانيي هذا الدين. كما أنّ كلمة «مؤبّد» التي تطلق حالياً على روحانيي هذا الدين، مشتقّة في الأصل من «مغود».

وروي أنّهم من أتباع أحد أنبياء الحقّ (إلاّ أنّهم إنحرفوا بعد توحيدهم الله، فأصبحوا على عقيدة يخالطها الشرك).

وجاء في رواية أنّ مشركي مكّة طالبوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخذ الجزية من أتباع زرادشت مقابل السماح لهم بإلتزام ما يعتقدون به، فبيّن لهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لا يأخذ الجزية إلاّ من أهل الكتاب، فقالوا: كيف هذا وقد أخذت الجزية من مجوس

___________________________

1 ـ أعلام القرآن ص55.

2 ـ تفسير الميزان المجلّد الرّابع عشر صفحة 392.

[ 304  ]

منطقة «هجر»؟! أجاب (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب أحرقوه»(1).

وجاء في حديث آخر عن «الأصبغ» بن نباتة» أنّ علياً قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث «المنافق المعروف)، فقال:  يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ الجزية من المجوس ولم ينزل عليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبيّ؟ فقال(عليه السلام): «بلى يا أشعث قد أنزل اللّه عليهم كتاباً وبعث إليهم نبيّاً».الحديث(2).

وفي حديث عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب يعني المجوس»(3).

و «المجوس» جمع مفرده «مجوسي».

3 ـ من هم الصابئة؟

يستفاد من الآية السابقة، ولا سيّما من ذكر الصابئة بين اليهود والنصارى، أنّ الصابئة أصحاب دين سماوي. وقيل: إنّهم أتباع يحيى بن زكريا (عليه السلام) الذي يسمّيه المسيحيون «يحيى المعمدان» وقيل: إنّ الصابئة مزجوا بين العقيدتين اليهودية والنصرانية، فعقيدتهم وسط بين اُولئك وهؤلاء.

يهتمّ الصابئة بالماء كثيراً، ولهذا ترى معظمهم يعيشون على ضفاف الأنهر الكبيرة، وذكر أنّهم يقدّسون بعض النجوم، ولهذا اتّهموا بعبادة النجوم. رغم أنّ الآية السابقة لم تضعهم في صفّ المشركين (إيضاحاً لذلك يراجع التّفسير الأمثل في تفسير الآية 62 من سورة البقرة).

___________________________

1 ـ وسائل الشيعة المجلّد الحادي عشر ـ أبواب جهاد العدو ـ الباب49 صفحة96.

2 ـ وسائل الشّيعة، المجلد الحادي عشر، ص 98، أبواب جهاد العدو الباب 49، الحديث 7.

3 ـ المصدر السابق.

[ 305  ]

3 ـ مجموعة المنحرفين عن التوحيد

أشارت الآيات السابقة إلى خمس فئات منحرفة، يحتمل أن يكون ترتيبها هنا بحسب درجة إنحرافها عن أصل التوحيد، فاليهود أقل إنحرافاً من الآخرين بشأن التوحيد، والصابئة وسط بين اليهود والنصارى، ويليهم النصارى لقولهم بالتثليث أي تأليههم عيسى واُمّه مريم(عليهما السلام) أيضاً، وبذلك إزداد إنحرافهم. أمّا المجوس فهم في مرحلة رابعة لتقسيمهم العالم قسمين: الخير والشرّ، وقولهم بوجود مبدأين منذ الخليقة. أمّا المشركون وعبدة الأصنام فهم في آخر مرحلة، لإنحرافهم عن التوحيد أكثر من الآخرين.

* * *

[ 306  ]

الآية

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَـوَتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِم إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(18)

التّفسير

الوجود كلّه يسجد لله:

بما أنّ الحديث في الآيات السابقة كان عن المبدأ والمعاد، فإنّ الآية ـ موضع البحث ـ بطرحها مسألة التوحيد، قد أكملت دائرة المبدأ والمعاد، وتخاطب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول (ألم تر أنّ الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدّواب) و (كثير من الناس وكثير حقّ عليه العذاب) ثمّ تضيف وهؤلاء ليست لهم قيمة عند الله تعالى، ومن كان كذلك فهو مهان: (ومن يُهن الله فما له من مكرم).

أي إنّ من يهينه الله لا يكرمه أحد، وليست له سعادة ولا أجر، حقّاً (إنّ الله يفعل ما يشاء) فهو يكرم المؤمنين به، ويذلّ المنكرين له.

* * *

[ 307  ]

بحثان

1 ـ في كيفية السجود العام!

جاء في القرآن المجيد ذكر «السجود العامّ» لجميع المخلوقات في العالم، وكذا «التسبيح» و «الحمد» و «الصلاة»، وأكّد القرآن الكريم على أنّ هذه العبادات الأربع، لا تختص بالبشر وحدهم، بل يشاركهم فيها حتّى الموجودات التي تبدو عديمة الشعور. وعلى الرغم من أنّنا بحثنا في ختام الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء عن حمد الموجودات وتسبيحها بحثاً مسهباً، وتناولنا سجود المخلوقات العامّ لله في تفسير الآية الخامسة عشرة من سورة الرعد، نجد الإشارة إلى هذا الحمد والتسبيح الكوني العامّ ضرورية.

إنّ للموجودات مع ملاحظة ما ورد في الآية ـ موضع البحث ـ شكلين من السجود «سجود تكويني» و «سجود تشريعي».

فالسجود التكويني هو الخضوع والتسليم لإرادة الله ونواميس الخلق والنظام المسيطر على هذا العالم دون قيد أو شرط، وهو يشمل ذرّات المخلوقات كلّها، حتّى أنّه يشمل خلايا أدمغة الفراعنة والمنكرين العنودين وذرّات أجسامهم فالجميع يسجدون لله تعالى تكويناً.

وحسبما يقوله عدد من الباحثين، فإنّ ذرّات العالم كلّها لها نوع من الإدراك والشعور، ولذا يسبّحون الله ويحمدونه ويسجدون له ويصلّون له بلسانهم الخاص (شرحنا ذلك في تفسير الآية الرّابعة والأربعين من سورة الإسراء) وإذا رفضنا هذا النوع من الإدراك والشعور، فلا مجال لإنكار تسليم الكائنات جميعاً للقوانين الحاكمة على نظام الوجود كلّه.

أمّا «السجود التشريعي» فهو غاية الخضوع من العقلاء المدركين العارفين لله سبحانه. وهنا يثار سؤال، وهو أنّه إذا كان السجود العامّ يشمل المخلوقات وجميع البشر، فلماذا خصّصته الآية المذكورة أعلاه ببعض البشر لا كلّهم؟

[ 308  ]

لو دقّقنا في مفهوم السجود في هذه الآية لرأيناه يجمع بين المفهومين التشريعي والتكويني، فتتيسّر الإجابة عن هذا السؤال، لأنّ سجود الشمس والقمر والنجوم والجبال والأشجار والأحياء تكويني، وسجود البشر تشريعي يؤدّيه ناس ويأباه آخرون، فصدق فيهم القول: (كثير حقّ عليه العذاب). وإستخدام لفظ واحد بمفهوم شامل عامّ مع الإحتفاظ بمصاديقه لا يضرّه شيئاً، حتّى عند الذين لا يجيزون إستخدام كلمة واحدة لعدّة معان. فكيف بنا ونحن نجيز إستعمال كلمة واحدة في معان عديدة؟

2 ـ هل سجود الملائكة تشريعي؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ عبارة (يسجد له من في السموات) تضمّ الملائكة، وسجودهم تشريعي، لأنّهم عقلاء ذوو أحاسيس وعلم وإرادة، أي أنّ سجودهم عبادة وخضوع على وفق إرادتهم ووعيهم، بدلالة ما قاله القرآن الكريم عنهم:  (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)(1).

أجوبة عن إستفسارات

1 ـ لماذا جاءت عبارة (كثير من الناس) بعد (ومن في الأرض) التي تضمّ البشر كلّهم؟

يمكن القول أنّ هذه العبارة إيضاح لعبارة (من في الأرض) أي أنّ أهل الأرض فئتان: الأُولى مؤمنة خاضعة لله، والاُخرى كافرة متمرّدة عنيدة.

وقال بعض المفسّرين: إنّ تعبير (من في الأرض) بصيغة العامّة إشارة إلى السجود التكويني، الذي يشترك فيه جميع الناس بما فيهم الكفرة، حيث تشارك

___________________________

1 ـ التحريم، 6.

[ 309  ]

أجزاء أبدانهم في هذا السجود، وإنّ عبارة (كثير من الناس و...) إشارة إلى السجود التشريعي الذي يختلف فيه الناس. كما يحتمل أنّ عبارة (من في الأرض)إشارة إلى الملائكة الساكنين في الأرض كعبارة (من في السّماء) التي تشير إلى الملائكة الساكنين في السّماء، في وقت تتحدّث فيه العبارة التي تليها عن البشر الساكنين في الأرض.

2 ـ لماذا تحدّثت هذه الآية عن أهل السّماء والأرض، وليس عن السّماء والأرض ذاتهما!

في الجواب نقول: السموات داخلة في كلمة «النجوم»، مثلما يقصد «بالجبال» التي تشكّل جزءاً مهمّاً من الكرة الأرضية، الأرض ذاتها.

3 ـ وأخيراً: لماذا قال سبحانه وتعالى: (ألم تر)، أي: ألم تشاهد بعينيك، رغم أنّ السجود العام من قبل المخلوقات لله تعالى لا يمكن رؤيته؟

ومع ملاحظة أنّ كلمة «رؤية» في العربية تعني أحياناً العلم، يتّضح الجواب. وإضافةً إلى ذلك نعبّر أحياناً عن الواضحات جدّاً بكلمة الرؤية، فنقول: ألم تر فلاناً حسوداً بخيلا؟ أو: ألم تر فلاناً عالماً وعادلا؟ (رغم أنّ هذه الصفات ليست حسّية) وإنّما نقصد بذلك تأكيد الإدراك والعلم بهذه الصفات.

* * *

[ 310  ]

الآيات

هَـذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّار يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ(19)يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20) وَلَهُم مَّقَـمِعُ مِنْ حَدِيد(21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَب وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسَهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَطِ الْحَمِيدِ(24)

سبب النّزول

ذكر عدد من المفسّرين من الشيعة والسنّة روايات في سبب نزول أوّل آية من الآيات السالفة الذكر نلخّصها بتركيز: «نزل إلى ساحة الحرب يوم معركة بدر ثلاثة من المسلمين هم (علي (عليه السلام) وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطّلب)،

[ 311  ]

فقتلوا بحسب ترتيبهم «الوليد بن عتبة» و «عتبة بن ربيعة» و «شيبة بن ربيعة» فنزلت هذه الآية لتبيّن مصير الذين اشتركوا في هذه المبارزة.

كما روي أنّ أبا ذر أقسم بأنّ هذه الآية نزلت بحقّ هؤلاء الرجال(1)، إلاّ أنّنا نكرّر قولنا ثانيةً بأنّ سبب النّزول الخاصّ بشخص أو جماعة معيّنة لا يمنع أن يكون مضمون الآية عامّاً يشمل الجميع.

التّفسير

خصمان متقابلان!

أشارت الآية السابقة إلى المؤمنين وطوائف مختلفة من الكفّار، وحدّدتهم بستّ فئات. أمّا هنا فتقول: (هذان خصمان اختصموا في ربّهم)(2) أي أنّ الخصام بين مجموعتين، هما: طوائف الكفّار الخمس من جهة، والمؤمنون الحقيقيّون من جهة أُخرى. وإذا تفحّصنا الأمر وجدنا أساس الخلاف بين الأديان في ذات الله تعالى وصفاته، وهو يمتدّ إلى الخلاف في النبوّة والمعاد. لهذا لا ضرورة إلى القول بأنّ الناس مختلفين في دين الله. إذ أنّ أساس الخلاف وجذوره يعود إلى الخلاف في توحيده تعالى فقط. فجميع الأديان قد حرّفت، والباطل منها قد إختلط بنوع من الشرك، وبدت دلائله في جميع إعتقادات أصحاب هذه الأديان.

ثمّ تبيّن الآية أربعة أنواع من عقاب الكافرين المنكرين لله تعالى بوعي منهم، والعقاب الأوّل حول لباسهم، فتقول الآية: (فالذين كفروا قطّعت لهم ثياب من نار)ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى لباسهم الذي اُعدّ لهم من قطع من نار، أو كناية عن إحاطة نار جهنّم بهم من كلّ جانب.

___________________________

1 ـ ذكر ذلك الطبرسي في «مجمع البيان» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» والألوسي في «روح المعاني» والسيوطي في «أسباب النّزول» والقرطبي في تفسيره.

2 ـ كلمة «خصمان» مثنّى أمّا فعلها «اختصموا» فجاء بصيغة جمع، والسبب يكمن في أنّ هذين ليسا شخصين، بل فئتين، إضافة إلى كون الفئتين ليس في صفّين وإنّما في صفوف مختلفة، وتنهض كلّ مجموعة لمبارزة الآخرين.

[ 312  ]

ثمّ (يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم)(1) أي يصبّ على رؤوسهم سائل حارق هو حميم النّار، وهذا الماء الحارق الفوّار ينفذ إلى داخل أبدانهم ليذيب باطنها وظاهرها (يصهر ما في بطونهم والجلود)(2).

وثالث نوع من العقاب هو (ولهم مقامع من حديد)(3) أي اُعدّت لهم أسواط من الحديد المحرق.

والرابع: (كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ اُعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق) أي كلّما أرادوا الخروج من جهنّم والخلاص من آلامها وهمومها اُعيدوا إليها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق.

وأوضحت الآيات التالية وضع المؤمنين الصالحين، مستخدمة اُسلوب المقارنة، لتكشف بها عن وضع هاتين المجموعتين، وهنا تستعرض هذه الآيات خمسة أنواع من المكافئات للمؤمنين: (إنّ الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنّات تجري من تحتها الأنهار).

فخلافاً للمجموعة الأُولى الذين يتقلّبون في نار جهنّم، نجد أنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتّعون بنعيم رياض الجنّة على ضفاف الأنهر وهذه هي المكافأة الأُولى، وأمّا لباسهم وزينتهم فتقول الآية: و (يحلّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير)(4).

وهاتان مكافئتان يمنّ الله بهما كذلك على عباده العالمين في الجنّة، يهبهم أفخر الملابس التي حرموا منها في الدنيا، ويجملّهم بزينة الأساور التي منعوا عنها في الحياة الأُولى، لأنّها كانت تؤدّي إلى إصابتهم بالغرور والغفلة، وتكون سبباً لحرمان الآخرين وفقرهم. أمّا في الجنّة فينتهي هذا المنع ويباح للمؤمنين لباس

___________________________

1 ـ الحميم: الماء الحارق.

2 ـ «يصهر» مشتقّة من «صهر» على وزن «قهر» وتعني تذويب الشحم. أمّا «الصِهر» على وزن «فكر» فتعني النسيب.

3 ـ «المقامع» جمع «مقمع» على وزن «منبر» وتعني السوط أو العمود الحديدي يضرب به المذنب عقاباً له.

4 ـ «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع لكلمة «سوار» على وزن «كتاب» وتعني المعضد.

[ 313  ]

الحرير والحلي وغيرها. وبالطبع ستكون للحياة الاُخروية مفاهيم أسمى ممّا نفكّر به في هذه الدنيا الدنيّة، لأنّ مبادىء الحياة ومدلولها يختلفان في الدنيا عمّا هي في الآخرة (فتأمّلوا جيداً).

وأخيراً الهبة الرّابعة والخامسة التي يهبها الله للمؤمنين الصالحين ذات سمة روحانية (وهدوا إلى الطيب من القول) حديث ينمي الروح. وألفاظ تثير حيوية الإنسان، وكلمات ملؤها النقاء والصفاء التي تبلغ بالروح درجة الكمال وتملأ القلب بهجةً وسروراً، (وهدوا إلى صراط الحميد)(1) هكذا يهدون إلى طريق الله الحميد، الجدير بالثناء، طريق معرفة الله والتقرّب المعنوي والروحي إليه، سبيل العشق والعرفان.

حقّاً إنّ الله يهدي المؤمنين إلى هذا الطريق الذي ينتهي إلى أعلى درجات اللذّة الروحيّة.

ونقرأ في حديث رواه علي بن إبراهيم (المفسّر المعروف) في تفسيره، أنّ القصد من «الطيب من القول» التوحيد والإخلاص ويعني «الصراط الحميد» الولاية والإقرار بولاية القادة الربانيّين (وبالطبع هذا أحد البراهين الواضحة للآية).

كما يستنتج من التعابير المختلفة الواردة في الآيات السابقة وفي سبب نزولها أنّ هناك عذاباً عسيراً صعباً ينتظر مجموعة خاصّة من الكفّار الذين يعاندون الله ويحاولون تضليل الآخرين. إنّهم أفراد من قادة الكفر كالذين تقدّموا في معركة بدر لمبارزة علي (عليه السلام) وحمزة بن عبدالمطّلب وعبيدة بن الحارث.

* * *

___________________________

1 ـ كلمة «الحميد» تعني المحمود، وتطلق على من يستحقّ الثناء، وهنا يقصد بها الله تعالى، وعلى هذا فإنّ «الصراط الحميد» يعني السبيل إلى مقام مقرّب من الله تعالى. كما قال البعض بأنّ «الحميد» وصف للصراط يشبه الإضافة البيانيّة، وعلى هذا يكون المعنى: إنّ هؤلاء يُرشدون إلى سبيل جدير بالثناء كلّه. (الآلوسي في روح البيان)، إلاّ أنّ المعنى الأوّل يبدو أصحّ.

[ 314  ]

الآية

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَـهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَـكِفُ فِيهِ والْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادِ بِظُلْم نُّذِقْهُ مِنْ عَذَاب أَلِيم(25)

التّفسير

الذين يصدّون عن بيت الله الحرام!

تحدّثت الآيات السابقة عن عامّة الكفّار، وهذه الآية تشير إلى مجموعة خاصة منهم باءت بمخالفات وذنوب عظيمة، ذات علاقة بالمسجد الحرام ومراسم الحجّ العظيم.

تبدأ هذه الآية بـ (إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل الله) وكذلك يصدّون ويمنعون المؤمنين عن مركز التوحيد العظيم: (والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد) أي سواءً المقيمون فيه والذين يقصدونه من مكان بعيد. (ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) أي كلّ من أراد الإنحراف في هذه الأرض المقدّسة عن الحقّ ومارس الظلم والجور أذقناه عذاباً أليماً.

وهذه الفئة من الكفّار ترتكب ثلاث جرائم كبيرة، إضافةً إلى إنكارها الحقّ،

[ 315  ]

وجرائمها هي:

1 ـ صدّ الناس عن سبيل الله والإيمان به والطاعة له.

2 ـ صدّهم عن حجّ بيت الله الحرام، وتوهم أنّ لهم إمتيازاً عن الآخرين.

3 ـ ممارستهم للظلم وإرتكابهم الإثم في هذه الأرض المقدّسة، والله يعاقب هؤلاء بعذاب أليم.

* * *

ملاحظات

1 ـ جاء «كفر» هؤلاء في هذه الآية بصيغة الفعل الماضي، وجاء «الصدّ» عن سبيل الله بصيغة الفعل المضارع، إشارةً إلى كونهم كفّاراً من قبل. وإلى أنّ تضليلهم الناس هو عملهم الدائم. وبتعبير آخر: تشير العبارة الأُولى إلى إعتقادهم الباطل، وهو أمر ثابت، بينما تشير العبارة الثّانية إلى عملهم الدائم وهو الصدّ عن سبيل الله.

2 ـ يقصد بالصدّ عن سبيل الله كلّ عمل يحول دون إيمان الناس ودون قيامهم بالأعمال الصالحة، وهذا المفهوم الواسع يشمل البرامج الإعلامية والعملية التي تتوخّى التضليل عن السبيل السوي والأعمال الصالحة.

3 ـ إنّ جميع الناس في هذا المكان العبادي سواء.

وقد وردت لعبارة (سواء العاكب فيه والباد) عند المفسّرين معان مختلفة، فذهب بعضهم أنّ المراد هو أنّ الناس سواسية في هذا المكان الذي يوحّد فيه الله، وليس لأحد الحقّ أن يُعرقل حجّ الناس وعبادتهم بجوار بيت الله الحرام.

وأعطى آخرون لهذه العبارة معنى أوسع، وهو أنّ الناس ليسوا سواسية فقط في أداء الشعائر وإنّما هم كذلك في الإستفادة من الأرض والبيوت المحيطة بالكعبة لإستراحتهم وسائر حاجاتهم الاُخرى، لهذا حرّم بعض الفقهاء بيع وشراء

[ 316  ]

وإيجار البيوت في مكّة المكرمة، ويتّخذون الآية السابقة دليلا على ما يرون.

كما ذكرت الأحاديث الإسلامية عدم جواز الحيلولة دون سكنى حجّاج بيت الله الحرام في منازل مكّة، حتّى حرّمه قوم، ورآه آخرون مكروهاً.

جاء في رسالة بعث بها الإمام علي (عليه السلام) إلى قثم بن العبّاس والي مكّة آنذاك: «وأمر أهل مكّة أن لا يأخذوا من ساكن أجراً، فإنّ الله سبحانه يقول: (سواء العاكف فيه والباد) فالعاكف المقيم به، والبادي الذي يحجّ إليه من غير أهله»(1).

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية: «كانت مكّة ليست على شيء منها باب، وكان أوّل من علّق على بابه المصراعين، معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئاً من الدور ومنازلها».

وذكرت أحاديث أنّ لحجّاج بيت الله الحقّ في إستخدام البيوت المحيطة بالكعبة، ويرتبط هذا الحكم بشكل كبير ببحثنا المقبل، وهو: هل يقصد بالمسجد الحرام في هذه الآية المسجد ذاته أو يشمل مكّة كلّها؟

فإذا سلّمنا بالرأي الأوّل فإنّ الآية السابقة لا تشمل منازل مكّة، وعلى فرض شمولها فإنّ قضيّة حرمة بيع وشراء وإيجار منازل مكّة بالنسبة للحجّاج تكون مطروحة للبحث، إلاّ أنّ هذه القضيّة ليست مؤكّدة في المصادر الفقهيّة والأحاديث والتفاسير، فإنّ الحكم بحرمتها أمر صعب. وما أجدر أهل مكّة بأن يقدّموا جميع التسهيلات الممكنة لحجّاج بيت الله الحرام! وألاّ يضعوا لأنفسهم إمتيازات على الحجّاج حتّى بالنسبة لمنازلهم، ويبدو أنّ الأحاديث التي وردت في نهج البلاغة وغيره تشير إلى هذه المسألة.

والقول بالتحريم لا يحظى بتأييد واسع من فقهاء الشيعة والسنّة (للإطّلاع أوسع بهذا الصدد يراجع المجلّد العشرين من جواهر الكلام الصفحة الثامنة

___________________________

1 ـ نهج البلاغة، الرسالة السابعة والستّين.

[ 317  ]

والأربعين وما بعدها في أحكام منى).

ولا يحقّ لأحد بإعتبار كونه حامي حرم الله ـ أو أيّة صفة أُخرى ـ مضايقة حجّاج بيت الله، أو اتّخاذ الحجّ والبيت قاعدة لإعلامه وتنفيذ مآربه.

4 ـ ما الذي تعنيه هذه الآية بالمسجد الحرام؟

قال بعض: تعني الكعبة وجميع أجزاء المسجد الحرام. وقال غيره: تشير إلى جميع أنحاء مكّة، بدلالة الآية الأُولى من سورة الإسراء التي تخصّ معراج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومضمون هذه الآية أنّ بداية المعراج كانت من المسجد الحرام، في الوقت الذي ذكر المؤرخّون أنّ المعراج بدأ من منزل خديجة أو شعب أبي طالب أو من منزل أم هانىء، وعلى هذا فإنّ المقصود من المسجد الحرام مكّة كلّها(1).

ولكن بداية معراج النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست بالتأكيد من خارج المسجد الحرام، ويحتمل أن تكون من المسجد ذاته، فلا دليل لدينا للإعراض عن ظاهر الآية، وعليه فهذه الآية تقصد المسجد الحرام ذاته.

وإذا توصّلنا من مطالعة الأحاديث السابقة إلى أنّها تستدلّ بهذه الآية على مساواة الناس في منازل مكّة، لأنّ ذلك الحكم إستحبابي، فلا مانع من توسعة موضوعه على ما يناسبه (فتأمّلوا جيداً).

5 ـ ماذا تعني عبارة (إلحاد بظلم)؟

تعني كلمة «الإلحاد» في اللغة الإنحراف عن حدّ الإعتدال، ولهذا أطلقت على الحفرة المجاورة للقبر التي تقع خارج حدّ الوسط كلمة «لحد».

وعلى هذا فإنّ عبارة (إلحاد بظلم) تعني الخارجين عن حدّ الإعتدال بممارسة الظلم، فيرتكبون المخالفات في تلك الأرض المقدّسة، وقد حصر البعض

___________________________

1 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، الصفحة 335.

[ 318  ]

مفهوم الظلم هنا بالشرك، وقال آخرون: إنّه يعني إباحة المحرّمات، وقال غيرهم: إنّ الظلم هنا ذو مدلول واسع يشمل كلّ ذنب وعمل حرام، فيدخل فيه حتّى السبّ للأدنى منه، وقالوا: إنّ إرتكاب أي ذنب في هذه الأرض المقدّسة له عقاب أشدّ.

وجاء في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) جواباً على سؤال لأحد أصحابه حول هذه الآية: «كلّ ظلم يظلم الرجل نفسه بمكّة من سرقة أو ظلم أحد أو شيء من الظلم فإنّي أراه إلحاداً، ولذلك كان ينهى أن يسكن الحرم»(1).

وقد رويت أحاديث أُخرى تتضمّن هذا المعنى، وتنسجم مع ظاهر الآية. وعلى هذا يرى بعض الفقهاء ـ بالنسبة لمن يرتكب الذنب في الحرم  المكّي ـ وجوب التعزير أو عقاب آخر إضافة إلى الحدّ الذي نصّ عليه الشارع، ويستدلّون على ذلك بعبارة (نذقه من عذاب أليم)(2).

ويتّضح بذلك أنّ حصر هذه الآية بالنهي عن الإحتكار، أو عدم الدخول إلى منطقة الحرم دون إحرام، لم تكن غايتهم إلاّ بيان مصداق واضح لهذه الآية فقط، وإلاّ فلا دليل لدينا على حصر مفهوم هذه الآية ذات الدلالات الواسعة.

* * *

___________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلّد الثّالث، صفحة 482 تفسير الآية.

2 ـ كنز العرفان، المجلّد الأوّل، صفحة 335.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21401247

  • التاريخ : 19/04/2024 - 05:54

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net