00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاسراء من آية 41 ـ 69 من ( أول الجزء التاسع ـ ص 61 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء التاسع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الأَمْثَلُ في تفسير كتابِ اللهِ المُنزَل

طبعة جديدة منقّحة مع إضافات

تَأليف

العلاّمة الفقيه المفسّر آية الله العظمى

الشَيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي

المجَلّد التّاسع

[5]

الآيات

ولَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَـذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً(41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذَاً لاَّبْتَغَوْا إِلَىْ ذِى الْعَرْشِ سَبِيلا (42) سُبْحَـنَهُ وَتَعَـلَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً(43)تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوتُ السَّبْعُ وَالاَْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً(44)

التّفسير

كيف يفرّون من الحق؟

كان الحديث في الآيات السابقة يتعلّق بقضيتي التوحيد والشرك، لذا فإنَّ هَذهِ الآيات تتابع هذا الموضوع بوضوح وَقاطعية أكبر. ففي البداية تتحدث عن لجاجة بعض المشركين وعنادهم في قبال أدلة التوحيد فتقول: (وَلَقد صرَّفنا في هَذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إِلاَّ نفوراً).

«صرَّف» مُشتقّة مِن «تصريف» وَهي تعني التغيير والتحويل، وَكونها على وزن «تفعيل» يؤكّد معنى الكثرة. وَلأنَّ القرآن يستخدم تعابير متنوعة وَفنوناً كلامية مُختلفة مِن أجل تنبيه المشركين، إذ يستخدم الإِستدلال العقلي المنطقي

[6]

والفطري أو التهديد والترغيب، لذا فإنَّ كلمة «صرَّفنا» تناسب هذا التنوّع في هَذا المقام.

القرآن الكريم يريد أن يقول: إنّنا سلكنا مُختلف الطرق، وَفتحنا مُختلف الأبواب مِن أجل أن ننير قلوب هؤلاء العميان بضياء التوحيد، ولكن مجموعة مِن هَؤلاء وصل بهم التعصب والعناد واللجاجة إلى درجة أنَّ كل هَذِهِ الوسائل لم تؤثر في جذبهم إلى الحقيقة، بل إنّها زادت في ابتعادهم ونفورهم.

وَهُنا قد يطرح هَذا السؤال: إِذاً ما الفائدة مِن ذكر كلّ ذلك، إذا كانت النتائج. معكوسة؟

إِنَّ جواب هَذا السؤال واضح، إِذ أنَّ القرآن لم ينزل لفرد أو لمجموعة خاصّة، وَلكنَّه للمجتمع كافّة، وَطبيعي أن جميع الناس ليسوا على منوال المعاندين، إذ هُناك الكثير ممن يتبع طريق الحق إذا استبانت له أدلته مِن هَذا النوع مِن الأدلّة القرآنية، بالرغم من أنّها تؤدي بمجموعة أُخرى مِن فاقدي بصيرة القلب إِلى المزيد مِن العناد.

إضافة إِلى أنَّ وجود هؤلاء المعاندين مفيد للمجموعة الأُخرى التي تقبل الحق وتَنصاع إليه، إذ يستبيّن من ينصاع للحق طريقة مِن خلال النظر إِلى سلوك المعاندين إذ أنّ تقابل الظّلمة والنّور يوضح قيمة النور أكثر (الأشياء تعرفُ بأضدادها) كما أن تعلم الأخلاق والآداب يمكن أن يتمّ ـ أحياناً ـ بتوسط عديمي الأدب والخلق.

وهَذا في الواقع درسٌ مفيد في القضايا التربوية والتبليغية، إذ يُمكن أن نستفيد مِن هَذِهِ الآية ضرورة سلوك طرق مُختلفة وَوسائل مُتعدَّدة لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة، حيث أنَّ الإِقتصار على طريق واحد يُخالف التنوع الكبير في أذواق الناس وَمؤهلاتهم، وَبالتالي يُجافي الطريق الصحيح الذي ينبغي أن يُتَّبع.

[7]

دَليل التمانع:

الآية التي بعدها تشير إِلى واحد من أدلة التوحيد والذي يعرف بين العلماء والفلاسفة بعنوان «دليل التمانع» إذ الآية تقول للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهم: (قل لو كانَ مَعهُ آلهة كما يقولون إِذاً لا بتغوا إِلى ذي العرش سبيلا).

وَبالرغم مِن أنَّ جملة (إِذاً لابتغوا إِلى ذي العرش سبيلا) تفيد أنّهم لابدّ أن يجدوا طريقاً يؤدي بهم إِلى صاحب العرش، وَلكن طبيعة الكلام توضح بأنَّ الهدف هو العثور على سبيل للإنتصار عليه (على ذي العرش) خاصّة وأنَّ كلمة (ذي العرش) التي استخدمت بدلا مِن «الله» تُشير إِلى هَذا الموضوع وَتؤكّده. إذ تعني أنّهم أرادوا أن يكونوا مالكي العرش وحكومة عالم الوجود، لذلك فإنّهم سيحاولون منازلة ذي العرش.

وَمِن الطبيعي هُنا أنَّ كل صاحب قدرة يسعى لمدّ قدرته وتكميلها، لذا فإنَّ وجود عدّة آلهة يؤدي إِلى التنازع والتمانع فيما بينهم حول الحكم والسلطة في عالم الوجود.(1)

هُنا قد يقال: إن مِن الممكن تصوّر وجود عِدَّة آلهة يحكمون العالم من خلال التعاون والتنسيق فيما بينهم، لذلك فليس ثمّة مِن سبب للتنازع بينهم؟!

في الإجابة على هذا السؤال نقول: بصرف النظر عن أنَّ كل موجود يسعى نحو توسيع قدرته بشكل طبيعي، وَبصرف النظر أيضاً عن الآلهة التي يعتقد بها المشركون تحمل العديد من الصفات البشرية، والتي تعتبر أوضحها جميعاً هي الرغبة في السيطرة والحكم وتوسيع نطاق القدرة... بغض النظر عن كلِّ ذلك نقول: إِنَّ اللازمة الضرورية لِتعدُّد الوجود هي الإختلاف، وَحيثُ لا يوجد

____________________________

1 ـ بعض المفسّرين قال: إنّ هَذا الجزء مِن الآية يعني أنَّ هناك آلهة أُخرى تحاول أن تقرب نفسها إِلى الله. وَهَذا يعني أنَّ هَذِهِ الآلهة (الأصنام وَغيرها) الوهمية عِندما لا تستطيع أن تقرِّب نفسها لله فكيف تستطيع أن تقربكم أنتم؟ وَلكن سياق هَذِهِ الآية والآية التي بعدها لا يتواءمان مَع هَذا التّفسير.

[8]

اختلاف بين وجودين اطلاقاً، فلا معنى لوجود التعدُّد!! (دَقق جيداً).

وَنظير هَذا البحث وَرد في الآية (22) من سورة الأنبياء حيث قوله تعالى (لو كاَنَ فيهما آلهة إِلاّ الله لفسدتا). وَمَنعاً للإِلتباس ينبغي أن نقول: هناك اختلاف بين الدليلين بالرغم مِن التشابه بينهما:

الأوّل يدلّ على فساد العالم ونَظام الوجود بسبب تعدُّد الآلهة.

أمّا الثّاني فيتحدّث ـ بغض النظر عن النظم في عالم الوجود ـ عن حالة التنازع والتمانع التي سوف تقوم بين الآلهة المتعدّدة. (سوف نبحث هَذِهِ الأُمور مُفصلا أثناء تفسير الآية (22) مِن سورة الأنبياء).

وَبما أنَّ كلام المشركين وعباراتهم توحي بأنّهم نزلوا في أدراكهم لله عزَّوجل إِلى مستوى أن يكون طرفاً للنزاع، لذا فإِنَّ الآية تقول بعد ذلك مُباشرة: (سبحانهُ وتَعالى عمّا يقولون عُلواً كبيراً).

في الواقع إِنَّ هَذا التعبير القرآني القصير، يوضح ـ مِن خلال أربعة تعابير ـ علو الكبرياء الإِلهية ونزاهتها عن مِثل هَذِهِ التخيلات، إذ تقول:

1 ـ استخدام كلمة (سبحانه) بمعنى التنزيه للذات الإِلهية.

2 ـ ثمّ تعبير (وَتعالى عمّا يقولون).

3 ـ ثمّ استخدام (علواً) وَهي مفعول مطلق يفيد التأكيد.

4 ـ أخيراً، جاءت كلمة (كبيراً) للتأكيد مجدداً على معاني التنزيه والعلو.

وَبعد ذلك فإنَّ جملة (عمّا يقولون) لها معنى واسع حيثُ أنّها تنفي كل أشكال التهم الباطلة ولوازمها.

ثمّ لأجل إثبات عظمة الخالق وَأنَّه مُنزَّه عن خيالات واعتقادات وأوهام المشركين، تتحدث الآية التالية عن تسبيح كائنات الوجود لذاته المقدسة إذ تقول: (تسبح لهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فيهُنَّ). ثمّ تتطرق الآية إِلى أنَّ التسبيح لا يقتصر على ما هو موجود في السماوات والأرض، وإنّما ليسَ هُناك

[9]

موجود إِلاّ ويسبِّح وَيحمد الله، وَلكن لا تدركون تسبيحهم: (وإن مِن شيء إِلاّ يُسَبِّح بحمده وَلكن لا تفقهون تسبيحهم). وَمَعَ ذلك: (إنّهُ كانَ حليماً غفوراً). أي لا يُؤاخذكم وَلا يعاقبكم بسبب كفركم وَشرككم مُباشرة، وَلكن يمهلكم بالقدر الكافي، وَيفتح لكم أبواب التوبة ويَتركها مفتوحة لإتمام الحجة.

بتعبير آخر: إنّكم تملكون القدرة على إدراك تسبيح ذرات الوجود والكائنات جميعاً لله القادر المتعال، وتَدركون وجوده عزَّوجلّ، وَلكنّكم مَع ذلك تقصّرون، والله سبحانُه وَتعالى لا يُؤاخذكم مُباشرة على هذا التقصير، وَلا يجازيكم به فوراً وَلكن يعطيكم الفرصة الكافية لمعرفة التوحيد وَترك الشرك.

تسبيح الكائنات:

تذكر الآيات القرآنية المُختلفة تسبيح وَحمد جميع موجودات عالم الوجود لله تعالى، وإِنَّ أكثر الآيات صراحة بهذا الخصوص هي الآية التي نبحثها والتي تذكر لنا ـ بدون استثناء ـ أنَّ جميع الموجودات في العالم، الأرض والسماء، النجوم والفضاء، الأناس والحيوانات وأوراق الشجر، وَحتى الذرات الصغيرة، تشترك جميعاً في هَذا التسبيح والحمد العام.

يبيّن القرآن الكريم أنَّ عالم الوجود قطعة واحدة مِن التسبيح والحمد، وأنَّ كل موجود يؤدي هَذا التسبيح وَيقوم به بشكل معين وَيثني على الباري عزَّوجلّ، وأنَّ أزير هَذا التسبيح والحمد يملأ عالم الوجود المترامي الأطراف، ولكن الجهلاء لا يستطيعون سماع هَذا الأزيز، بعكس المستبصرين المتأملين والعلماء الذين أضاءَ الله قلوبهم وأرواحهم بنور الإِيمان، فإنَّ هَؤلاء يسمعون هَذا الصوت من جميع الجهات بشكل جيِّد.

هُناك كلام كثير بين العلماء والمفسّرين والفلاسفة حول تفسير حقيقة هَذا الحمد والتسبيح، فبعضهم اعتبر الحمد والتسبيح (حالا) والبعض الآخر (قولا)،

[10]

أمّا خلاصة أقوالهم فهي:

1 ـ البعض يعتقد أنَّ جميع ذرات الوجود في هَذا العالم لها نوع مِن الإدراك والشعور، سواء كانت هَذِهِ الموجودات عاقلة أو غير عاقلة. وَهِي تقوم بالتسبيح والحمد في نطاق عالمها الخاص، بالرغم مِن أنّنا لا نستطيع إِدراك ذلك أو الإِحساس بهَذا الحمد والتسبيح وَسماعه. آيات كثيرة تؤكّد هَذا المعنى مِنها الآية رَقم (74) مِن سورة البقرة واصفة الحجارة أو نوع مِنها: (وانَّ مِنها لما يهبط مِن خشية الله). ثمّ قوله تعالى في الآية (11) مِن سورة فصِّلت: (فقالَ لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين).

2 ـ الكثير يعتقد أنَّ هَذا التسبيح والحمد هو على شاكلة ما نسميه بـ «لسان الحال» وَهو حقيقي غيرمجازي إِلاَّ أنّهُ بلسان الحال وَليس بالقول. (تأمّل ذلك).

ولتوضيح ذلك تقول: قد يحدث أن نشاهد آثار عدم الإرتياح والألم، وَعدم النوم في وَجه أو عيني شخص ما وَنقول له: بالرغم مِن أنّك لم تتحدث عن شيء مِن هَذا القبيل، إِلاّ أن عينيك تقولان بأنّك لم تنم الليلة الماضية، وَوجهك يؤكّد بأنّك غير مرتاح ومتألم! وَقد يكون لسان الحال مِن الوضوح بدرجة بحيث أنَّهُ يُغطي على لسان القول لو حاول التستر عليها قولا.

وَهَذا هو المعنى الذي صرّح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) بقوله: «ما أضمر أحد شيئاً إِلاَّ ظهر في فلتات لسانُه وصفحات وَجهه»(1).

مِن جانب آخر هل يمكن التصديق بأنَّ لوحة فنية جميلة للغاية تدل على ذوق وَمهارة رسامها، لا تمدحُه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين أشعار أساطين الشعر والادب وتمجيدها لقرائحهم واذواقهم الرفيعة؟.. أو يمكن انكار أن بناءً عظيماً أو مصنعاً كبيراً أو عقولا الكترونية معقدة أو أمثالها، أنّها تمدح صانعها وَمُبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم 26.

[11]

لذا يجب التصديق والتسليم بأنَّ عالم الوجود العجيب ذا الأسرار المتعدِّدة والعظمة الكبيرة، والجزئيات العديدة المُحيِّرة، يقوم بتسبيح وَحمد الخالق عزَّوجلّ، وإِلاَّ فهل «التسبيح» سوى التنزيه عن جميع العيوب؟ فنظام عالم الوجود ناطق بأنَّ خالقهُ ليسَ فيه أي نقص أو عيب:

ثمّ هل «الحمد» سوى بيان الصفات الكمالية؟ فنظام الخلق والوجود كلّه يتحدث عن الصفات الكمالية للخالق وعلمه وَقدرته اللامتناهية وَحكمته الوسيعة.

خاصّة وأنَّ تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار وَخفايا هَذا العالم الواسع، توضح هَذا الحمد والتسبيح العام بصورة أجلى. فاليوم مثلا ألّف علماء النبات المؤلفات العديدة عن أوراق الأشجار، وَخلايا هَذِهِ الأوراق، وَالطبقات السبع الداخلة في تكوينها، والجهاز التنفسي لها، وَطريقة التغذية وَسائر الأُمور الأُخرى التي تتصل بَهذا العالم.

لذلك، فإنَّ كل ورقة توحد الله ليلا وَنهاراً، وَينتشر صوت تسبيحها في البساتين والغابات، وَفوق الجبال وَفي الوديان، إِلاَّ أنَّ الجهلاء لا يفقهون ذلك، وَيعتبرونها جامدة لا تنطق.

إِنَّ هَذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه تماماً، وَليست هُناك حاجة لأن نعتقد بوجود إِدراك وَشعور لكل ذرات الوجود، لأَنَّه لا يوجد دليل قاطع على ذلك، والآيات السابقة يحتمل أن يكون مقصودها التسبيح والحمد بلسان الحال.

الجواب على سؤال:

يبقى سؤال واحد، وَهو إِذا كان الغرض مِن الحمد والتسبيح هو تعبير نظام الكون عن نزاهة وَعظمة وَقدرة الخالق عزَّوجلّ، وتبيان الصفات السلبية

[12]

والثبوتية، فلماذا يقول القرآن: (لا تفقهون تسبيحهم) لأنّه إِذا كانَ البعض لا يفقه، فإنَّ العلماء يفقهون ويعلمون؟.

هُناك جوابان على هَذا السؤال هما:

الأوّل: إِنَّ الآية توجَّه خطابها إِلى الأكثرية الجاهلة مِن عموم الناس، خصوصاً إِلى المشركين، حيثُ أنَّ العلماء المؤمنين قِلَّة وَهم مستثنون مِن هَذا التعميم، وُفقاً لقاعدة ما مِن عام إِلاَّ وَفيه استثناء.

الثّاني: هو أنَّ ما نعلمهُ مِن أسرار وَخفايا العالم في مقابل ما لا نعلمُه كالقطرة في قبال البحر، وَكالذرة في قبال الجبل العظيم. وإِذا فكرنا بشكل صحيح  فلا نستطيع أن نسمّي الذي نعرفه بأنَّه (علم). إِنّنا في الواقع لا نستطيع أن نسمع تسبيح وَحمد هَذِهِ الموجودات الكونية مهما أوتينا مِن العلم، لأنَّ ما نسمعهُ هو كلمة واحدة فقط مِن هَذا الكتاب العظيم!!

وَعَلى هذا الأساس تستطيع الآية أن تخاطب العالم بأجمعه وَتقول لهم: إنّكم لا تفقهون تسبيح وَحَمد الموجودات بلسان حالها، أمّا الشيء الذي تفقهوه فهو لا يساوي شيئاً بالنسبة إِلى ما تجهلون.

3 ـ بعض المفسّرين يحتمل أنَّ الحمد والتسبيح هو تركيب من لسان: «الحال» و«القول». وبعبارة أُخرى: يعتقدون بأنَّهُ تسبيح تكويني وَتشريعي، لأنَّ أكثر البشر وَكل الملائكة يحمدون الله عَن إدراك وشعور; وكل ذرات الوجود تتحدَّث عن عظمة الخالق بلسان حالها. وَبالرغم مِن أنّ هَذين النوعين مِن الحمد والتسبيح مُختلفين، إِلاَّ أنّهما يشتركان في المفهوم الواسع لكلمتي الحمد والتسبيح.

وَلكن التّفسير الثّاني ـ حسب الظاهر ـ أكثر قبولا للنفس مِن التّفسيرين الآخرين.

[13]

جانب من روايات العترة الطاهرة:

هناك تعابير لطيفة في هَذا المجال وَردت في أحاديث الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أهل البيت(عليهم السلام)، منها:

* أحد أصحاب الإِمام الصادق(عليه السلام) يقول: سألت الإِمام عن تفسير قوله تعالى: (وإن مِن شىء إِلاَّ يسبِّح بحمده) فقال(عليه السلام): «كل شىء يسبّح بحمده وإنَّا لنرى أن ينقض الجدار وَهو تسبيحها»(1).

* وَعن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام) قال: «نهى رسول الله أن توسم البهائم في وجوهها، وأن تضرب وجوهها لأنّها تسبِّح بحمد ربِّها»(2).

* وَعن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «ما مِن طير يُصاد في بر وَلا بحر، وَلا شيء يُصاد مِن الوحش إِلاَّ بتضييعه التسبيح»(3).

* أمّا الإمام الباقر(عليه السلام)، فعندما سمع يوماً صوت عصفور، فقال لأبي حمزة الثمالي ـ وَكانَ مِن خاصّة أصحابه ـ : «يسبحن ربّهنّ عزَّوجلّ ويسألن قوت يومهن»(4).

* وفي حديث آخر نقرأ أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أتى إِلى عائشة، وقال لها: «اغسلي هَذين الثوبين» فقالت: يا رسول الله، لقد غسلتهما أمس، فقالَ(صلى الله عليه وآله وسلم): «أمّا علمت أنَّ الثوب يسبّح فإذا اتسخ انقطع عن تسبيحه»(5).

* في حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله(عليه السلام): «للدابة على صاحبها ستة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، وَلا يتخذ ظهرها مجلساً يتحدث عليها، وَيبدأ بعلفها إِذا نزل، وَلا يسمها في وجهها، وَلا يضربها فإنّها تسبح، ويعرض عليها الماء

____________________________

1 ـ نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة (168).

2 ـ نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة (168).

3 ـ المصدر السابق.

4 عن أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء (نقلا عن تفسير الميزان).

5 ـ المصدر السابق.

[14]

إِذا مرَّ بها»(1).

إِنَّ هَذِهِ المجموعة مِن الأحاديث والرّوايات والتي لبعضها معاني دَقيقة، تظهر أنَّ التسبيح العام للموجودات يشمل كل شيء بدون استثناء، وَكل هَذا يتطابق مَع ما ذكرناه في التّفسير الثّاني (أي إِن التسبيح هو تسبيح تكويني أو تسبيح بلسان الحال).

أمّا ما قرأناه في هَذهِ الأحاديث مِن أنَّ اللباس إِذا توسخَ ينقطع تسبيحهُ، فهو كناية عن أنَّ المخلوقات إِذا كانت محافظة على نظافتها الطبيعية فسوف تذكِّر الإنسان بخالقه، أمّا إِذا فقدت نظافتها الطبيعية فسوف لا تقوم بالتذكير.

* * *

____________________________

1 ـ عن «الكافي» طبقاً لما ذكره صاحب الميزان.

[15]

الآيات

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً(45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلى أَدْبَـرِهِمْ نُفُوراً(46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذَ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّـلِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُوراً(47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَْمْثَالَ فَضَلُّوا  فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا(48)

سبب النّزول

تحدَّث مجموعة مِن المفسّرين مِثل الطبرسي في «مجمع البيان» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» وآخرون، في شأن نزول هذهِ الآيات، فقالوا: إِنَّها نزلت في مجموعة مِن المشركين كانوا يؤذون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالليل إِذا تلا القرآن وَصَلى عِندَ الكعبة، وَكانوا يرمونه بالحجارة وَيمنعونه عن دعوة الناس إِلى الدين، فحالَ اللهُ سبحانُه بينُه وَبينهم حتى لا يؤذوه.

[16]

وقد احتمل الطبرسي أن يكون الله منع المشركين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن طريق إِلقاء الخوف والرعب في قلوبهم(1).

أمّا الرازي فيقول في ذلك: «إِنَّ هَذِهِ الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنَّهُ عليه الصلاة والسلام كان كلّما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وَعن يساره آخران مِن ولد قصي يصفقون وَيصفرون وَيخلطون عليه بالأشعار».

ثمّ أضاف: «وَروي عن ابن عباس، أنَّ أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وَغيرهم كانوا يجالسون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وَيستمعون إِلى حديثه، فقال النضر يوماً: ما أدري ما يقول محمّد غير أنّي أرى شفتيه تتحركان بشيء. وقال أبوسفيان: إِنّي لأرى بعض ما يقوله حقّاً، وَقال أبوجهل: هو مجنون. وَقالَ أبو لهب: هو كاهن. (!!!) وَقالَ حويطب بن عبد العزى: هو شاعر، فنزلت الآية أعلاه: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وَبين الذين...)(2).

التّفسير

المغرورون وَموانع المعرفة:

بعد الآيات السابقة قد يطرح الكثيرون هَذا السؤال: رغم وضوح قضية التوحيد بحيث أنَّ جميع مخلوقات العالم تشهد بذلك; فلماذا ـ اذن ـ لا يقبل المشركون هَذِهِ الحقيقة وَلا ينصاعون للآيات القرآنية بالرغم مِن سماعهم لها؟

الآيات التي نبحثها يمكن أن تكون جواباً على هذا السؤال، إِذ تقول الآية الأُولى فيها: (وإِذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يُؤمنون بالآخرةِ حجاباً مستوراً). وَهَذا الحجاب والساتر هو نفسهُ التعصُّب واللجاجة والغرور

____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد الثّالث، صفحة 418.

2 ـ التّفسير الكبير، المجلد 20، صفحة 220 ـ 221.

[17]

والجهل، حيث تقوم هَذِهِ الصفات بصد حقائق القرآن عن أفكارهم وعقولهم  وَلا تسمح لهم بدرك الحقائق الواضحة مِثل التوحيد والمعاد وَصدق الرّسول في دعوته وَغير ذلك.

وفيما يخص كلمة «مستور» هل أنّها صفة للحجاب، أو لشخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أو للحقائق القرآنية؟ فإنّ البحث عن ذلك سنشيرُ إِليه في البحوث. وسنتناول في البحوث ـ أيضاً ـ كيفية نسبة الحجاب للخالق جلِّ وعلا.

أمّا الآية التي بعدها فتقول: (وَجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وَقراً) أي أنّنا غطّينا قلوبهم باستار لكي لا يفهموا معناه، وجعلنا في آذانهم ثقلا، لذلك فإنّهم (إِذا ذكرت ربّك في القرآن وَحده وَلَّو على أدبارهم نفوراً).

حقّاً ما أعجب الهروب مِن الحق; الهرب مِن السعادةِ والنجاة، مِن النصر والفهم! إنَّ شبيه هَذا المعنى نجده ـ أيضاً ـ في الآية (50 ـ 51) مِن سورة المدثر: (كأنّهم حمرٌ مستنفرة فرَّت مِن قسورة) أي كالحمير الهاربة من الاسد.

ثمّ يضيف الله تبارك وَتعالى مرّة أُخرى: (نحنُ أعلم بما يستمعون به إِذ يستمعون إِليك) أي أنّ الله تعالى يعلم الغرض من استماعهم لكلامك وحضورهم في مجلسك و(إِذ هُم نجوى) يتشاورون ويتناجون (إِذ يقول الظالمون إن تتبعون إِلاَّ رجلا مسحوراً). إِذ ـ في الحقيقة ـ إِنّهم لا يأتون إِليك مِن أجل سماع كلامك بقلوبهم وأرواحهم، بل هدفهم هو التخريب، وَتَصيّد الأخطاء (بزعمهم وَدعواهم) حتى يحرفوا المؤمنين عن طريقهم إِذا استطاعوا. وَعادةً يكون مِثل هؤلاء الأشخاص وَبمثل نواياهم، قلوبهم موصدة، وَفي آذانهم وَقر، لذلك  لا يجالسون رجال الحق إِلاَّ لتحقيق أهداف شيطانية.

الآية الأخيرة خطاب للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبالرغم مِن أنَّ عبارة الآية قصيرة، إِلاَّ أنّها كانت قاضية بالنسبة لِهَذهِ المجموعة حيث قالت: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلا). وَالآية لا تعني أنَّ الطريق غير واضح والحق

[18]

خاف، بل على أبصارهم غشاوة، وَقلوبهم مغلقة دون الإِستجابة للحق، وَعقولهم معطَّلة عن الهدى بسبب الجهل والحقد والتعصب والعناد.

بحوث

1 ـ خلاصة عامّة للآيات

الآيات الآنفة ترسم لنا بدقة أحوال الضالين والموانع التي تحول دون معرفتهم للهدى، وَبشكل عام تقول الآيات: إِنَّ ثمّة ثلاثة موانع لمعرفة هَؤلاء للحق، بالرغم من سهولة رؤية طريق الحق، هَذِهِ الموانع هي:

أ ـ وجود الحجاب بينك وَبينهم، وَهَذا الحجاب في حقيقته إن هو إِلاَّ أحقادهم وحسدهم وَبُغضهم والعداوة التي يضمرونها نحوك، فَهذا الحجاب بمكوناته هو الذي يمنعهم مِن النظر إِلى شخصيتك الرسالية، أو أن يدركوا كلامك، حتى أنَّ الحسنات تتحول في نظرهم إِلَى سيئات.

ب ـ سيطرة الجهل والتقليد الأعمى على قلوبهم بحيث أنّهم غير مستعدين لسماع كلمة الحق مِن أي شخص كان.

ج ـ إِنَّ حواس المعرفة لدى هؤلاء، كالأذنِ ـ مثلا ـ تنفر مِن كلام الحق، وَتكون كأنّها صمّاء، أمّا الكلام الباطل فإنّهم يتذوقونه وَيفرحون به، وينفذ إِلى أعماقهم بسرعة، خاصَّة وأن التجربة أثبتت أنَّ الإِنسان إِذا لم يكن راغباً بشيء فسوف لا يسمعهُ بسهولة. أمّا إذا كان راغباً فيه، فإنَّهُ سيدركُه بسرعة، وَهَذا يدل على أنَّ الإحساسات الداخلية لها تأثيرها على الحواس الظاهرة، بل وَتَستطيع أن تطبعها بالشكل الذي تريدُه.

أمّا نتيجة هَذِهِ الموانع الثلاثة فهي:

أوّلا: الهروب مِن سماع الحق، خاص عندما يكون الحديث عن وَحدانية الخالق، لأنَّ هَذِهِ الوحدانية تتناقض مَع أصول اعتقادات المشركين.

[19]

ثانياً: اللجوء إِلى توجيهات خاطئة لِتبرير انحرافهم، حيثُ كانوا يصفون الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بتهم مُختلفة كالساحر والشاعر والمجنون. وَبِذلك تكون عاقبة كل أعداء الحق أنَّ أعمالهم الرذيلة تكون حجاباً لهم دون الحق والهدى.

وَهُنا ينبغي القول بأنَّ مَن يريد أن يسلك الصراط المستقيم وأن يأمن مِن الإنحراف يجب عليه أوّلا وَقبل كل شيء إِصلاح نفسه. يجب تطهير القلب مِن البغض والحسد والعناد، وَتطهير الروح مِن التكبر والغرور، وَبشكل عام تطهير النفس مِن جميع الصفات الرذيلة، لأنَّ القلب إذا تطهَّر مِن هَذِهِ الرذائل وأصبحَ نظيفاً نقيّاً، فسوف يدرك جميع الحقائق. لِهذا السبب نرى أنَّ الأميين وأصحاب القلوب النقية يدركون الحقائق أسرع مِن العالم الذي لم يقم بتهذيب نفسه.

2 ـ لماذا تُنسب الحجب للخالق؟

الآيات تنسب الحجب إِلى الخالق، حيثُ قوله تعالى: (وَجَعَلْنا على قلوبهم أكنّةً أن يفقهوه وَفي آذانهم وَقراً). كذلك هُناك آيات قرآنية أُخرى بنفس المضمون. وَهَذِهِ التعابير قد يستشم منها رائحة «الجبر» في حين أنّها لم تكن سوى صدى لأعمالهم. وَلكن هَذِهِ الحجب ـ في الواقع ـ هي بسبب الذنوب والصفات الرّذيلة لنفس الإنسان، وإن هي إلاَّ آثار الأعمال. وَنسبة هَذِهِ الأُمور إِلَى الخالق يعود إِلى أنَّهُ سبحانه وَتعالى هو الذي خلق خواص الأُمور، فإنّ تلك الأعمال الرّذيلة والصفات القبيحة لها هَذِهِ الخواص. وَقد تحدَّثنا عن هَذِهِ الفكرة في البحوث السابقة مستفيدين مِن الشواهد القرآنية الكثيرة.

3 ـ ما معنى الحجاب المستور؟!

هُناك آراء كثيرة للمفسّرين حول الحجاب المستور، مِنها:

أ ـ (مستور) صفة للحجاب، وَنستفيد مِن ظاهر التعبير القرآني أنَّ هذا

[20]

الحجاب مَخفي عن الأنظار. وَفي الواقع إِنَّ حجاب الحقد والعداوة والحسد لا يمكن رؤيته بالعين، لأنّها في نفس الوقت تضع حجاباً سميكاً بين الإِنسان والشخص الذي يقوم بحسده والحقد عليه.

ب ـ البعض الآخر فسَّر (مستور) بمعنى «الساتر» (لأنّ اسم المفعول قد يأتي بمعنى الفاعل كما فسَّر بعض المفسّرين كلمة «مسحور» في هَذِهِ الآيات بمعنى الساحر)(1).

ج ـ القسم الثّالث مِن المفسّرين اعتبر (مستور) وَصفاً مجازياً، أي أنّه لا يعني أنَّ الحجاب مستور، بل إِنَّ الحقائق الموجودة خلف هَذا الحجاب هي المستورة (مِثل شخصية الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)) وَصدق دعوته وَعظمة أحاديثه).

وَعِندَ التدقيق في هَذِهِ التفاسير الثّلاثة يظهر أنَّ التّفسير الأوّل يتلائم أكثر مَع ظاهر الآية.

وَفِي بعض الرّوايات نقرأ أنَّ أعداء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يأتونه وَهو مَع أصحابه يتلو القرآن، إِلاَّ أنّهم لم يكونوا يرونه، وكأن عظمة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) تمنعهم من رؤيته ومعرفته، وَبذلك يكون بعيداً عن أذاهم.

4 ـ «أكنّة» و «وَقر» ماذا يعنيان؟

(أكنّة) جمع «كنان» وَهي على وَزن «لسان» وَفي الأصل تعني أي غطاء يمكن أن يستر شيئاً ما، أمّا «كِن» على وزن «جِن» فتعني الوعاء الذي يمكن أن نحفظ في داخله شيئاً ما. أمّا جمع «كن» فهو «أكنان» وَقد توسع هَذا المعنى لِيشمل أي شيء يؤدي إِلى التستُّر، كالأستار والبيت والأجسام التي يتستر الإنسان خلفها.

____________________________

1 ـ نقل عن الأخفش، أنَّ اسم المفعول قد يأتي في بعض الأحيان بمعنى اسم الفاعل مِثل ميمون بمعنى يامن، وَمشئوم بمعنى شائم.

[21]

أمّا «وَقَر» على وزن «جَبَر» فتعني ثُقل السمع، و «وِقر» على وَزن «رِزق» تعني الحمل الثقيل.

5 ـ تفسير جملة (مايستمعون به)

في معنى هَذِهِ الجملة ذُكِرَ تفسيرين:

الأوّل: الذي يذهب إِليه العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان، والرازي في التّفسير الكبير، إذ قالا بأنّها تعني «غرض الإستماع» يعني نحنُ نعلم الغرض مِن استماعهم لك، فهو ليس لسماع الحق، بل للإستهزاء وإلصاق التهم وَتضليل الآخرين.

أمّا الثّاني: (كما ذهب إِليه العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان) فقد اعتبرها «وسيلة الإِستماع» بمعنى نحنُ نعلم بأي مسمع وأذن يستمعون إليك، وَنعلم ما في قلوبهم وَنعلم نجواهم. (ويظهر أنَّ التّفسير الأوّل أقرب).

6 ـ لماذا اتهموا النّبي بأنَّهُ مسحور؟

إنّ اتّهام النّبي العظيم(صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل المشركين بأنّه (مسحور) لأَنَّهُم أرادوا رَميه بالجنون، وأنَّ السحرة أثروا على عقله وفكره بحيث أصيب في حواسه، وأخذ يُظهر ما يظهر ـ العياذ بالله!!

بعض المفسّرين احتملوا أن تكون كلمة (مسحور) بمعنى الساحر (لأَنَّه ـ كما أشرنا قبلا ـ فإنَّ اسم المفعول قد يأتي في بعض الأحيان بمعنى اسم الفاعل) وَبِهذا الأسلوب أرادوا إِعطاء صِفة السحر لكلام الرّسول حتى يحولوا دون تأثيره في النفوس والقلوب. وَهَذا الإِتهام بحدِّ ذاته يعتبر اعترافاً ضمنياً على مدى تأثير دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقواله على الناس.

[22]

7 ـ تخوّف المشركين مِن نداء التوحيد

في الآيات السابقة عرفنا كيف أنَّ المشركين كانوا يتخوفون مِن نداء التوحيد وَكانوا يفرون مِنهُ، لأنَّ أساس حياتهم قائم على الشرك وَعبادة الأصنام، وَكل النظم التي كانت تحكم مجتمعاتهم كانت تقوم على أساس قواعد الشرك وأُصوله.

إِذن، فالتوحيد لا ينسف عقائدهم المذهبية وَحسب، بل يهدم نظامهم الإِجتماعي والإِقتصادي والسياسي والثقافي الذي يقوم على أساس الشرك.

فالحكومة مثلا ستكون بيد المستضعفين، وَستسقط حكومة المستكبرين، وَسينتهي التقسيم الطبقي، والإِستغلال وغيرها من الظواهر السلبية التي تعتبر بأجمعها نتائج للأنظمة الكافرة. لذا فإنَّ زعماء الشرك كانوا يحاولون ـ بقوة ـ ألاَّ يصل صوت التوحيد إِلى آذان الآخرين، وَلكنّهم ـ كما تُشير الآيات  القرآنية ـ كانوا يظلمون المستضعفين وَكانوا يظلمون أنفسهم أيضاً، لأنّ أي ظالم وَمنحرف إِنّما يحفر قبره بيده.

والطّريف أن القرآن يقول: إِنَّ هؤلاء المشركين، ولأجل تبرير فجورهم واستمرار كفرهم كانوا يسألون دوماً عن موعد يوم القيامة متى تقوم: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسئل أيان يوم القيامة)(1) وَهَذِهِ إِشارة إِلى تهربهم من تحمَّل المسؤولية.

* * *

____________________________

1 ـ سورة القيامة، الآيتان 5، 6.

[23]

الآيات

وَقَالُوا أَءَذِا كُنَّا عِظَـماً وَرُفـتاً أَءِنَّا لَـمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً(49) قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً(50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً(51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا(52)

التّفسير

حتمية البعثْ وَيوم الحساب

الآيات السابقة تحدَّثت عن التوحيد وَحاربت الشرك، أمّا الآيات التي نبحثها الآن فتتحدّث عن المعاد والذي يعتبر مكملا للتوحيد.

لقد قُلنا سابقاً: إِنَّ أهم العقائد الإِسلامية تتمثل في الاعتقاد بالمبدأ والمعاد، والإِعتقاد بهَذين الأصلين يربيّان الإِنسان عملياً وأخلاقياً، وَيصدّانه عن الذنوب وَيدعوانه لأداء مسؤولياته وَيرشدَانه إِلى طريق التكامل.

الآيات التي نحنُ بصددها أجابت على ثلاثة أسئلة ـ أو شكوك ـ يُثيرها

[24]

مُنكرو المعاد، ففي البداية تحكي الآيات على لسان المنكرين استفهامهم: (قالوا ءِإِذا كنّا عظاماً وَرُفاً ءَإِنَّا لمبعوثون خلقاً جديداً)(1). يقول هؤلاء: هل يُمكن أن تجتمع هَذِهِ العظام المتلاشية الداثرة المتناثرة في كل مكان؟ وهل يمكن أن تُعَاد لها الحياة مرّة أُخرى؟!. ثمّ أين هَذِهِ العظام النخرة المتناثرة في كل حدب وَصوب مِن هَذا الإِنسان الحي القوي العاقل؟

إِنَّ التعبير القرآني في هذه الآية الكريمة يدلل على أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ يبيّن في دعوته (المعاد الجسماني) بعد موت الإِنسان، إِذ لو كانَ الكلام عن معاد الروح فقط، لم يكن ثمّةَ سبب لإِيراد مِثل هَذِهِ الإِشكالات مِن قبل المعارضيين والمنكرين.

القرآن في إجابته على هؤلاء يبيّن أنَّ قضية بعث عظام الإِنسان سهلة وممكنة، بل وأكثر من ذلك، فحتى لو كنتم حجارة أو حديداً: (قل كونوا حجارة أو حديداً) وحتى لو كنتم أشدّ من الحجر والحديد وأبعد منهما من الحياة: (أو خلقاً ممّا يكبر في صدوركم) فإنَّ البعث سيكون مصيركم.

مِن الواضح أنَّ العظام بعد أن تندثر وَتتلاشى تتحول إِلى تُراب، والتراب فيه دائماً آثار الحياة، إِذ النباتات تنمو في التربة، والأحياء تنمو في التراب، وأصل خلقه الإنسان هي من التراب، وَهذَا كلام مُختصر على أنَّ التراب هو أساس الحياة.

أمّا الحجارة أو الحديد أو ما هو أكبر مِنهما تحدّى بِهِ القرآن مُنكرِى المعاد، فإنَّ كل هَذِهِ أُمور بينها وَبين الحياة بونٌ شاسع، إذ لا يمكن للنبات مثلا أن ينبت في الحديد أو الضحور أمّا القرآن فيبيّن أن لا فرق عِند الخالق جلَّ وَعلا، مِن أي مادة كنتم، إذ أنّ عودتكم إِلى الحياة بعد الموت تبقى ممكنة، بل وَهي المصير الذي لابدَّ وأن تنتهون إِليه.

____________________________

1 ـ «رُفات» على وزن «كُرات» وهو معنى يطلق على كلِّ شيء قديم وَمُتلاش.

[25]

إِنَّ الأحجار تتلاشى وَتتحول إِلى تراب، وأصل الحياة ينبع مِن هَذا التراب. الحديد هو الآخر يتلاشى وَيتفاعل مَع باقي الموجودات على الكرة الأرضية ليدخل في أصل مادتها وَفي تركيبها الترابي الذي هو أيضاً أصل الحياة الذي تنبع مِن داخله وَمِن مادته الموجودات الحيَّة. وَهكذا تحتوي جميع موجودات الكرة الأرضية بما فيها الإِنسان، في بنائها وَتركيبها على خليط مِن الفلزات واللافلزات. وَهَذا التحوُّل والتغيُّر في حركة الموجودات، دَليل على أنَّ جميع مخلوقات عالم الوجود لها قابلية التحوُّل إِلى موجود حَيّ باختلاف واحد يقع في الدرجة والمرحلة، إِذ بعضها يكون في مرتبة أقرب إِلى الحياة مِثل التراب، بينما بعضها الآخر يكون في مرتبة أبعد مِثل الحجارة والحديد.

السؤال التشكيكي الآخر الذي يُثيره مُنكرو المعاد هو: إِذا سلَّمنا بأنَّ هَذِهِ العظام المُندثرة المتلاشية يُمكن أن تَعود إِلى الحياة، فمن يستطيع أن يقوم بهَذا الأمر; وَمَن الذي لهُ قدرة القيام بهَذِهِ العملية المعقَّدة للغاية؟

هَذا السؤال تصوغه الآية بالقول على لسان المنكرين: (فسيقولون مَن يُعيدنا) القرآن يجيب على هَذا السؤال حيث يقول: (قل الذي فطركم أوَّل مَرَّة). إذا كانَ شككم في (القابلية) فقد كنتم تراباً في أوّل الأمر، فما المانع أن تصيرون تراباً، ثمّ يعيدكم مَرَّةً أُخرى إِلى الحياة مِن نفس التراب؟!

وإِذا كان شككم في (الفاعلية) فإنَّ الخالق الذي خلقكم في البداية مِن تراب يستطيع مرّة أُخرى أن يكرِّر هَذا العمل لأنَّ: «حكم الأمثال فيما يجوز وَفيما لا يجوز سواء».

بعد الإنتهاء مِن الشك الأوّل والثّاني الذي يطلقهُ المنكرون للمعاد، تنتقل الآيات إِلى الشك الثّالث الذي تصوغُهُ على لسانهم بِهَذا السؤال: (فسينغضون إِليك رؤوسهم وَيقولون مَتى هو).

«سينغضون» مشتقّة مِن مادة «إنغاض» بمعنى مدّ الرأس نحو الطرف المقابل

[26]

بسبب التعجُّب.

ما يقصده هؤلاء مِن سؤالهم ـ في الواقع ـ هو قولهم: لو اعترفنا بقدرة الخالق على إعادة بعث الإِنسان مِن التراب مِن جديد، فإنَّ هذا يبقى مجرّد وَعد لا ندري مَتى يتحقق، إِذا كانَ سيحصل هَذا في آلاف أو ملايين السنين القادمة فما تأثيره في يومنا هَذا ... إِنَّ المهم أن نتحدَّث عن الحاضر لا عن المستقبل!!

ويجيب القرآن بقوله: (قل عسى أن يكون قريباً) إِن يوم المعاد ـ طبعاً ـ قريب، لأنَّ عمر العالم والحياة على الأرض، مهما طالت، فإنّها في قبال الحياة الأبدية تعتبر لا شيء، إذ هي مجرّد لحظات سريعة وَعابرة وسرعان ما تنتهي.

إضافة إِلى ذلك، فإِنَّ القيامة إِذا كانت في تصوراتنا المحدودة بعيدة فإنَّ مقدمة القيامة والتي هي الموت، تعتبر قريبة منّا جميعاً، لأنَّ الموت هو القيامة الصغرى (إذا ماتَ الإِنسان قامت قيامته)، صحيح أنَّ الموت لا يمثل القيامة الكبرى، وَلكنَّه علامة عليها ومذكّر بها.

كما إنَّ استخدام كلمة «عسى» في الآية الشريفة هو إشارة إِلى أنَّ لا أحد يعرف ـ وَبدقة ـ متى تقوم القيامة؟ حتى شخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وَهَذا الأمر هو مِن أسرار الكون والخليفة التي لا يعلمها سوى الله تبارك و تعالى.

في الآية التي بعدها إشارة إِلى بعض خصوصيات القيامة في قوله تعالى: (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) أي إن بعثكم يكون يوم يدعوكم من القبور فتمتثلون لأمره طوعاً أوكرهاً، والآية ـ بالطبع ـ تتحدث عن خصوصية يوم القيامة لا عن موعد القيامة.

في ذلك اليوم ستظنون أنّكم لبتثم قليلا في عالم ما بعد الموت (البرزخ) وَهو قوله تعالى: (وَتظنون إِن لبثتم إِلاَّ قليلا) إِنَّ هذا الإِحساس سيطغى على الإِنسان في يوم القيامة، وَهو يظن أنَّهُ لم يلبث في عالم البرزخ إِلاَّ قليلا، بالرغم مِن طول الفترة التي قضاها هُناك، وَهَذِهِ إشارة إِلى أنَّ حياة البرزخ لا تعتبر في مدتها شيئاً

[27]

في قبال عالم الخلود الاُخروي.

بعض المفسّرين يحتمل أنَّ الغرض مِن الآية هو الإشارة إِلى حياةِ الإِنسان في الدنيا، والمعنى أنَّ الإِنسان سيدرك في يوم القيامة أنَّ الحياة الدنيوية لم تكن إِلاَّ وَقفة، أو يوم، بل وَساعات قصار سريعة الزوال في مقابل الحياة الآخر الأبدية.

* * *

[28]

الآيات

وَقُلْ لِّعِبَادِى يَقُولُوا الَّتِي هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَـنَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَـن كَانَ لِلاِْنْسَانَ عَدُوَّاً مُّبِيناً(53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا(54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى السَّمَـوتِ وَالاَْرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض وَءَاتَيْنَا دَاوُد زَبُوراً(55) قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا(56) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً(57)

التّفسير

التعامل المنطقي مَع المعارضيين:

الآيات السابقة عرضت لقضية المبدأ والمعاد، أمّا الآيات التي نحنُ بصددها فهي توضح أسلوب المحادثة والإِستدلال مَع المعارضين وَخصوصاً المشركين،

[29]

لأنَّهُ مهما كانَ المذهب عالي المستوى، والمنطق قوياً، فإنَّ ذلك لا تأثير له ما دامَ لا يتزامن مَع أُسلوب صحيح للبحث والمجادلة مُرفقاً بالمحبّة بدلا مِن الخشونة. لذا فإنَّ أوّل آية مِن هَذِهِ المجموعة تقول: (وَقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن). الأحسن مِن حيثُ المحتوى وَالبيان، والأحسن مِن حيث التلازم بين الدليل وَمكارم الأخلاق والأساليب الإنسانية، وَلكن لماذا يستعمل هَذا الأُسلوب مَع المعارضين؟

الجواب: إِذا ترك الناس القول الأحسن واتبعوا الخشونة في الكلام والمجادلة فـ (إِنَّ الشيطان ينزغ بينهم) ويثير بينهم الفتنة والفساد، فلا تنسوا: (إِنَّ الشيطانَ كانَ للإِنسان عدوّاً مبيناً).

أمّا مَن هم (العباد) المقصودون في هَذِهِ الآية؟

في صدد الجواب هُناك رأيان مُختلفان بين المفسّرين، وَكل رأي مدعم بالقرائن التي تؤيدهُ; هَذان الرأيان هما:

أوّلا: المقصود مِن (عبادي) هُم عبيده المشركون، إِذ بالرغم مِن أنّهم سلكوا طريقاً خاطئاً، إِلاَّ أنّ الله تبارك وَتَعالى يناديهم (عبادي) وَذلكَ مِن أجل إِثارة عواطفهم الإِنسانية، وَيدعوهم إِلى (القول الأحسن) ويعني هُنا كلمة التوحيد وَترك الشرك وَمراقبة أنفسهم مِن وسواس الشيطان، وهكذا يكون الهدف مِن هَذِهِ الآيات ـ بعد ذكر أدلة التوحيد والمعاد ـ هو النفوذ إِلى قلوب المشركين حتى يستيقظ ذوي الإِستعداد مِنهم.

الآيات التي تلي هَذِهِ الآية ـ كما سيأتي ـ تُناسب هَذا المعنى، وَكون هَذِهِ السورة مكّية يرجح هَذا الرأي، إِذ لم يكن الجهاد قد فرضَ بعد وَكانت الدعوة بالمنطق والأُسلوب الحسن فقط هي المأمور بها.

ثانياً: كلمة (عبادي) خطاب للمؤمنين، حيث تعلّمهم الآية أُسلوب النقاش مَع الأعداء، فقد يحدث في بعضِ الأحيان أن يتعامل المؤمنون الجُدد بخشونة مَع

[30]

معارضي عقيدتهم وَيقولون لهم بأنّهم مِن أهل النّار والعذاب، وأنّهم ضالون، وَيعتبرون أنفسهم مِن الناجين، قد يكون هَذا الموقف سبباً في أن يقف المعارضون موقفاً سلبياً إِزاء دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم).

اِضافة لذلك، فإنّ الإتهامات التي يطلقها المشركون ضدَّ شخص رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وَيتهمونه فيها بالسحر والجنون والكهانة والشعر، قد تكون سبباً في أن يفقد المؤمنون السيطرة على أنفسهم وَيبدأوا بالتشاجر مَع المشركين وَيستخدموا الألفاظ الخشنة ضدَّهم... القرآن يمنع المؤمنين مِن هَذا العمل وَيدعوهم إِلى التزام اللين والتلطَّف بالكلام واختيار أفضل الكلمات في أُسلوب التخاطب، حتى يأمنوا مِن إِفساد الشيطان.

كلمة (بينهم) وُفقاً لهذا الرأي توضح أنَّ الشيطان يحاول زرع الفساد بين المؤمنين وَمَن يخالفهم; أو أنَّهُ يحاول النفوذ إِلى قلوب المؤمنين لإِفسادها «ينزغ» مُشتقة مِن «نزغ» وتعني الدخول إِلى عمل بنيّة الافساد.

بملاحظة مجموع هَذِهِ القرائن يتبيّن لنا أنَّ التّفسير الثّاني ينطبق مَع ظاهر الآية الكريمة أكثر مِن التّفسير الأوّل، لأنَّ كلمة (عبادي) في القرآن تستخدم عادة لمخاطبة المؤمنين، إِضافة إِلى أن سبب نزول الآية يُؤيد هَذا المعنى وَيدعم هَذا التّفسير، إِذ ينقل بعض المفسّرين أنَّ المشركين كانوا يُؤذون أصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة وَيضيِّقون عليهم، وَفي أثناء ذلك كان بعضهم يَأتي إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذنَهُ وَيلح عليه في مُواجهة المشركين بالمثل (على الأقل الرد عليهم بالفاظ شديدة تناسب ألفاظ المشركين) والبعض يطلب الإِذن بالجهاد، وَلكن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كانَ يبيّن لهم بأنّه لم يُؤذَن له بعد القيام بهَذِهِ الأعمال. وَفي هَذِهِ الأثناء نزلت الآيات أعلاه تؤكّد بأنْ التكليف مازال يتمثل في استمرار الدعوة بالكلام، والمجادلة باللطف وبالتي هي أحسن(1).

____________________________

1 ـ إِلَى هَذا الرأي يذهب الشّيخ الطبرسي في مجمع البيان، والقرطبي في تفسيره. يُراجح تفسيرهما للآية الكريمة.

[31]

الآية التي بعدها تضيف: (ربّكم أعلمُ بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبّكم). بناءً على الرأيين السابقين في تفسير مَن المخاطَب في تعبير (عبادي) فإنَّ هَذِهِ الآيه أيضاً ـ وَتبعاً لما سبق ـ تَحتَمِلُ تفسيرين هما:

الأوّل: أيّها المشركون; إنَّ ربّكم ذو رحمة واسعة، وذو عقاب اليم، وَسيشملكم مُنهما ما يلائم أعمالكم، وَلكن الأفضل أن تتوسلوا برحمته الواسعة وَتحذروا عذابه.

الثّاني: لا تظنوا أيّها المؤمنون بأنّكم وحدكم الناجون، وأن غيركم سيكون مصيره النّار، فالله أعلم بأعمالكم وَنواياكم، وَلو أراد عزَّوجلّ لأخذكم بذنوبكم، وَلو شاء لشملكم برحمته، ففكروا قليلا في أنفسكم وَليكن حكمكم على أنفسكم والآخرين بالانصاف.

وفي آخر الآية مُواساة للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان يتأذى وَيتألم مِن عدم إيمان المشركين، إذ يقول تعالى: (وَما أرسلناك عليهم وَكيلا). إِنَّ  مسؤوليتك  ـ يا رسول الله ـ هي الإِبلاغ الواضح، والدعوة الحثيثة نحو الحق، فإذ آمنوا فهو الأفضل، أمّا إن لم يُؤمنوا فسوف لن يصيبك ضرر، لأنك أنجزت مسؤوليتك وَقمت بواجبك.

وَبالرغم مِن أنَّ المخاطب في الآية هو الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاَّ أنَّ مِن غير المستبعد أن يكون هدف الخطاب جميع المؤمنين. وَهَذا دليل آخر على التّفسير الثّاني للمعنى مِن خطاب (عبادي)، إذ يقول القرآن للمؤمنين: إِنَّ مسؤوليتكم هي الدعوة سواء آمنوا أم لم يؤمنوا. لذا لا داعي لعدم ارتياحكم الذي قد يُؤدي بكم إِلى اتباع الخشونة مَع غير المؤمنين، والخروج بالتالي عن طريق التي هي أحسن، ممّا يؤدي إِلى نزغ الشيطان.

الآية التّالية ذهبت أكثر مِن الآية السابقة في التعبير عن إحاطه الله تبارك وَتعالى وَعلمه بأعمال ونيّات عباده، فقالت: (وَربّك أعلمُ بمن في السماوات

[32]

والأرض). ثمّ أضافت: (وَلقد فضلنا بعض النّبيين على بعض وآتينا داوُد زبوراً).

هذا التعبير القرآني جواب على أحد أسئلة المشركين وَشكوكهم، حيثُ كانوا يقولون ـ بأُسلوب استهزائي ـ: لماذا انتخب الله للنّبوة محمّد اليتيم، ثمّ ما الذي حصل حتى أصبح هَذا اليتيم ليس نبيّاً وَحسب، وإنّما خاتم الأنبياء؟

القرآن يقول لهؤلاء: لا تعجبوا مِن ذلك، لأنَّ الله عليم بقيمة كل إنسان، وَهو سبحانُه وَتعالى ينتخب أنبياءه مِن بين عامّة الناس، وَيفضل بعضهم على بعض، إِذ جعل أحَدهم (خليل الله) والآخر (كليم الله) والثّالث (روح الله)، أمّا نبيّنا فقد أنتخبُه بعنوان (حبيب الله). وباختصار: لقد فضل الله بعض النّبيين على بعض لموازين يعلمها هو وَتختص بها حكمتُه جلَّ وَعلا.

أمّا لماذا اختار تبارك وَتعالى (داود) مِن بين جميع الأنبياء، وَذكر (الزبور) مِن دون الكتب السماوية الأُخرى؟... قد يكون السبب مايلي:

أوّلا: يختص زبور داوُد(عليه السلام) مِن بين جميع كُتب الأنبياء بأنَّ جميعهُ على شكل مُناجاة وَدعاء، وَذكرهُ هُنا يتلائم أكثر مَعَ موقع هَذِهِ الآيات وَحديثها عن القول الحسن والكلام الجميل.

ثانياً: في زبور داوُد إخبار عن حكومة الصالحين الذين هُم ظاهراً أناس فقراء وَيتامى. وَهَذا الإِخبار يتناسب مَع دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين الذين يكونوا عادة في زمرةِ الفقراء، وَهو رَد على إشكال المشركين وأسئلتهم وشكوكهم(1).

ثالثاً: بالرّغم مِن أنَّ داوُد(عليه السلام) كان له حكم عظيم وَدولة كبيرة وَملك واسع، إِلاَّ

____________________________

1 ـ في كتاب مزاميز داوُد (الزّبور) والذي بين أيدينا الآن، نقرأ في الزبور (27): «لأنَّ الشريرين سوف ينقطعون، أمّا المتوكلون على الله فسيرثون الأرض، وَبعد مدّة سوف لا يكون هُناك شريرين، أمّا الحكماء والصالحون فسيرثون الأرض». وَفي المُزمور في الجملة (22) و (29) نقرأ تعابير مُشابهة. وَهَذا ينطبق مع ما جاءَ في القرآن الكريم في الآية (105) مِن سورة الأنبياء: (وَلَقد كتبنا في الزبور من بعدِ الذكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون).

[33]

أنَّ الله سبحانه لم يجعل هَذِهِ الأُمور سبباً لإِفتخاره، بل اعتبر كتاب الزّبور فخره، حتى يدرك المشركون أنَّ عظمة الإنسان، ليسَ لها علاقة بالمال وَالثروة وَوجود الحكومة والسلطة، كما أنّ اليتم والفقر ليس مدعاةً للذل أو دليلا على الحقارة.

رابعاً: بعض اليهود قالوا: لا يمكن نزول كتاب سماوي آخر بعدَ موسى(عليه السلام)، والقرآن يقول لهم: إنّنا أعطينا داوُد زبوراً، فلماذا تتعجبون مِن نزول القرآن؟ (بالطبع كتاب داوُد كان كتاباً للأخلاق وَليسَ للأحكام، وَلكِنَّهُ نَزَلَ من الله سبحانه وَتَعالى بعدالتّوراة).

في كل الأحوال، ليسَ هُناك مِن مانع أن تكون النقاط الأربع أعلاه سبباً لإنتخاب داوُد وَزبوره مِن بين جميع الأنبياء، وَجميع الكتب السماوية.

الآية التي تليها تستمر في اتجاه الآيات السابقة، إِذ تقول للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب المشركين بقوله تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم مِن دونه فلا يملكون كشف الضرّ عنكم وَلا تحويلا).

إِنَّ هَذِهِ الآية ـ في الحقيقة، كما في آيات أُخرى كثيرة ـ تبطل مَنطق المشركين وَتضرب، صميم عقيدتهم مِن هَذا الطريق، وَهو أنَّ عبادة الآلهة مِن دون الله، إمّا بسبب جلب المنفعة أو دَفع الضرر، في حين أنَّ الآلهة التي يعبدونها لَيس لها القدرة على حل مُشكلة معينة أو حتى تحريكها; أي نقل المشكلة مِن مستوى معين إِلى مستوى أقل.

لذا فإنَّ ذكر جملة (وَلا تحويلا) بعد قوله (فلا يملكون كشف الضرّ) إشارة إِلى أنّ هؤلاء ليست لهم القدرة للتأثير الكامل في حل المشاكل بشكل نهائي، وَلا القدرة للتأثير الناقص في تغيير هَذِهِ المشاكل وَحلَّها بشكل جزئي.

«زعمتم» مأخوذة مِن «زعم» وَهي عادة ما تعني المعنى الناقص، لذا نُقل عن ابن عباس أنَّهُ متى ما جاءت كلمة (زعم) في القرآن فإنّها تعني الكذب والعقائد الباطلة.

[34]

أمّا الراغب الأصفهاني في كتاب المفردات فيقول: «الزعم حكاية قول يكون مظنَّة للكذب». لذا فإنَّ هَذِهِ الكلمة وَردت مذمومة في جميع الموارد التي ذكرت في القرآن الكريم.

أمّا كلمة (كشف) ففي الأصل تعني إِبعاد الستار أو اللباس أو ما شابهُه عن شي معين. وإِذا استخدمت في تعبير (كشف الضر) فتعني إِبعاد الحزن والغم والمرض; والسبب في ذلك أنّ هَذِهِ الأُمور تعتبر كالستار التي يغطي وَجه الإِنسان وَجسمه، إِذ تغطي الوجه الحقيقي الذي هو عبارة عن السلامة والراحة والهدوء، لذلك فإنَّ إِزالة هذا الغم والحزن يعتبر (كشفاً للضر).

مِن الضروري أيضاً الإِلتفات هُنا إِلى ملاحظة مهمّة هي أنَّ استخدام تعبير «الذين» في هَذِهِ الآية لا يشمل جميع المعبودات التي يشركها الإِنسان مَع الله (كالأصنام وَغيرها) بل يشمل الملائكة والمسيح وَأمثالهم، لأنَّ (الذين) في اللغة العربية هي اسم إشارة يستخدم عادة للعاقل.

بعد ذلك تؤكّد الآية التالية على ما ذكرناه في الآية السابقة، فتقول: هل تعلمون لماذا لا يستطيع الذين تدعونهم مِن دون الله أن يحلّوا مشاكلكم، أو أن يجيبوا لكم طلباتكم بدون إِذن الله سبحانه وَتعالى؟

الآية تجيب على ذلك بأنَّ هؤلاء أنفسهم يذهبون إِلى بيت الله، وَيلجأون للتقرب مِن الذات الإِلهية المقدَّسة لقضاء حوائجهم وَحل مشاكلهم وَتحقيق ما يريدونه: (أُولئك الذين يدعون يبتغون إِلى ربّهم الوسيلة... أيّهم أقرب ... وَيرجون رحمته ... وَيخافون عذابه ...إِنّ عذاب ربّك كان محذوراً).

في تفسير قوله تعالى (أيّهم أقرب) لمفسري القرآن العظيم آراء مُختلفة في ذلك، نحاول استعراضها فيما يلي:

ذهب بعض كبار مفسري الإِسلام إِلى: أنّ التعبير القرآني يُشير إِلى أنّ أولياء الله يذهبون إِلى الملائكة والأنبياء (الذين يعبدهم المشركون من دون الله)، أيّهم

[35]

أقرب إِلى الله فيقربون إِليه أكثر. وَهؤلاء لا يملكون شيئاً مِن عِندهم، بل كل ما يملكونه هو مِن الله، وَكلما يرتفعون في المقام تزداد طاعتهم وَعبوديتهم(1).

البعضُ الآخر مِن المفسّرين يعتقد بأنّ مفهوم التعبير القرآني هو أنّهم يحاولون التسابق في التقرُّب مِن الخالق، ففي طريق طاعة الله والتقرب مِن ذاته المقدَّسة اشترك هؤلاء في مسابقة معنوية، حيثُ يحاول كل واحد مِنهم أن يتقدم على الآخر في الميدان.

والآية ـ بعد ذلك ـ تقول: الذين يتصفون بهذه الصفات هل يُمكن عبادتهم مِن دون الله، وَهل هُم مستقلون(2)؟

أمّا التّفسير الذي يقول: إِنّهم يسلكون أي وسيلة تقربهم مِن الله، فاحتمالُه بعيد جدّاً، لأنَّ ضمير (هُم) في «أيّهم» والذي يُستخدم لجمع المذكر، لا يتلائم مَع هذا المعنى، بل كان يجب أن يكون «أيّها» ليستقيم الرأي و بالإضافة إِلى ذلك فإنَّ جملة (أيّهم أقرب) تقع على شكل مُبتدأ وَخبر، في حين أنَّها وفقاً لهَذا المعنى يجب أن تكون على شكل مفعول أو بدلا عن المفعول.

ماهي الوسيلة؟

هَذِهِ الكلمة استخدمت في موضعين في القرآن الكريم، الموضع الأوّل في هَذِهِ الآية، والآخر في الآية (35) مِن سورة المائدة في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وابتغوا إِليه الوسيلة وَجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون). وَقد قُلنا هُناك: إِنَّ (الوسيلة) تعني (التقرب) أو الشيء الذي يبعث على التقرُّب (أو النتيجة التي يمكن الحصول عليها مِن التقرُّب).

____________________________

1 ـ وُفقاً لهذا التّفسير تكون «أيّهم» بدل من ضمير «يبتغون»، أو مبتدأ لخبر محذوف، وَفي التقدير تكون الآية: (أيّهم أقرب) أيّهم أكثر دعاءً وابتغاءً للوسيلة.

2 ـ في هَذِهِ الحالة «أيّهم» مِن حيث التركيب النحوي يمكن أن تكون ـ فقط ـ بدلا مِن ضمير (يبتغون).

[36]

على هذا الأساس فإنَّ هُناك مفهوماً واسعاً جدّاً لكلمة (الوسيلة) يشمل كل عمل جميل ولائق، وتدخل في مفهومها كل صفة بارزة أُخرى، لأنَّ كل هَذِهِ الأُمور تكون سبباً في التقرب مِن الله.

ونقرأ في الكلمات الحكيمة للامام علي(عليه السلام) في الخطبة (110) مِن  نهج البلاغة قوله(عليه السلام): «إِنَّ أفضلَ ما توسلَ بِهِ المتوسلون إِلى الله سبحانه وتعالى، الإِيمان بِهِ وَبِرَسُولِهِ، والجهادُ في سبيله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وَصومُ شهرِ رمضان، وَحج البيت واعتمارُه، وَصلة الرحم، وصدقة السّر، وصدقة العلانية، وَصنائعُ المعروف فإنّها تقي مصارع الهوان»(1).

شفاعة الأنبياء والصالحين والمقرّبين التي تكون مقبولة في حضرة الله تبارك وَتعالى، كما تصرح بذلك الآيات القرآنية، تعتبر أيضاً مِن وسائل التقرُّب.

وَينبغي هُنا عدم التباس الأُمور، إِذ أنَّ التوسُّل بالمقربين مِن الله تعالى لا يعني أنَّ الإِنسان يريد شيئاً مِن النّبي أو الإِمام بشكل مستقل، أو أنّهم يقومون بحل مشاكله بشكل مستقل عن الله، بل الهدف هو أن يضع الإنسان نفسه في خطّهم وَيطبق برامجهم، ثمّ يطلب مِن الله بحقهم، حتى يعطي الله إِذن الشفاعة لهم. (لمزيد مِن التفاصيل يُراجع التّفسير الأمثل، الآية (53: من سورة المائدة).

* * *

____________________________

1 ـ ملخص مِن الخطبة (110) مِن نهج البلاغة. وَقد شرحنا هَذِهِ الخطبة في تفسيرنا هذا، ذيل الآية (13) من سورة المائدة.

[37]

الآيات

وَإِن مِّن قَرْيَة إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيـمَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَبِ مَسْطُوراً(58) وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَـتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاَْوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَـتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً(59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءيَا الَّتي أَرَيْنَـكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَـناً كَبِيراً(60)

التّفسير

بعد أنَّ تحدثت الآيات السابقة مَع المشركين في قضايا التوحيد والمعاد، تبدأ أوّل آية من هَذِهِ الآيات بكلام على شكل نصيحة لِتوعيتهم، حيثُ تُجسّم هَذِهِ الآية النهائية الفانية لِهَذِهِ الدنيا أمام عقولهم حتى يعرفوا أنَّ هَذِهِ الدنيا دار زوال وأنَّ البقاء الأبدي في مكان آخر، لذلك ما عليهم إِلاَّ تهيئة أنفسهم لمواجهة نتائج أعمالهم، حيثُ تقول الآية: (وإن من قرية إِلاَّ نحنُ مهلكوها قبل يوم

[38]

القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً).

فالطغاة والظالمون نبيدهم بواسطة العذاب، أمّا الآخرون فيهلكون بالموت أو الحوادث الطبيعية.

وأخيراً، فإنَّ هَذِهِ الدنيا زائلة والكل يسلك طريق الفناء (كانَ ذلك في الكتاب مسطوراً). والكتاب هُنا هو نفس اللوح المحفوظ وَهو العلم اللامتناهي للخالق جلا وَعلا، وَمجموعة القوانين الإِلهية التي لا يمكن التخلُّف عنها في عالم الوجود هذا.

وَنظراً لِهَذا القانون الحتمي الذي لا يمكن تغييره يجب على المشركين والظالمين والمنحرفين ـ من الآن ـ أن يحاسبوا أنفسهم لأنّهم حتى لو بقوا أحياءً حتى نهاية هَذِهِ الدنيا، فإنَّ عاقبتهم ستكون الفناء ثمّ الحساب والجزاء.

وَهُنا قد يقول المشركون: نحنُ لا مانع لدينا مِن الإِيمان وَلكن بشرط أن يقوم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بجميع المعجزات التي نقترحها عليه، أي أن يستسلم لحججنا. القرآن يجيب أمثال هؤلاء بقوله تعالى: (وَما منعنا أن نرسل بالآيات إِلاَّ أن كَذَّبَ بها الأوّلون).

الآية تشير إِلى أنَّ الله تبارك أرسل معجزات كثيرة وَكافية لدلالة على صدق الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، أمّا ما تقترحونه مِن معجزات فهي غيرمقبولة، لأنّكم بعد وقوعها وَمشاهدتها سوف لا تؤمنون، بدليل أنَّ الأمم السابقة والتي كانت أوضاعها وَحالاتها مماثلة لأوضاعكم وَحالاتكم، اقترحت نفس الإِقتراحات ثمّ لم تؤمن بعد ذلك.

تشير الآية بعد ذلك إِلى نموذج واضح لِهَذَه الحالة فتقول: (وآتينا ثمود الناقة مُبصرةً) لقد طلبَ قوم صالح الناقة فاخرجها الله لهم مِن الجبل، وأجيبت بذلك المعجزة التي طلبوها، وَقد كانت معجزة واضحة وَموضِّحة!

وَلكن بالرغم مِن كل ذلك (فظلموا بها).

[39]

وَعادة فإنَّه ليس مِن مُقتضيات البرنامج الإِلهي أن يستجيب لأي معجزة يقترحها إنسان، أو أن ينصاع إِلى تنفيذها الرّسول، وَلكن الهدف هو: (وَما نرسل بالآيات إِلاَّ تخويفاً). إِنَّ أنبياء الله ليسوا أفراداً خارقي العادة حتى يجلسوا وَينفذوا أيَّ اقتراح يُقترح عليهم وإنّما مسؤوليتهم إبلاغ دعوة الله والتعليم والتربية وإقامة الحكومة العادلة، إِلاَّ أنّهم يظهرون المعجزات مِن أجل إثبات علاقتهم بالخالق جلاَّ وَعلا، وَبالقدر الذي يُناسب هَذا الإِثبات ليسَ أكثر.

ثمّ يواسي الله تبارك وَتعالى نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل عناد المشركين وإلحاحهم بالباطل، إذ يبيّن لهُ أن ليس هَذا بالشيء الجديد: (وإذ قلنا لك إنَّ ربّك أحاط بالناس). ففي قبال دعوة الأنبياء(عليهم السلام) هناك دائماً مجموعة مؤمنة نظيفة القلب نقية السريرة، صافية الفطرة، في مقابل مجموعة أُخرى معاندة مُكابرة لجوجة تتحجج وَتجد لِنفسها المعاذير في معاداة الدعوات وإيذاء الأنبياء. وَهكذا يتشابه الحال بين الأمس واليوم.

ثمّ يضيف تعالى: (وَما جعلنا الرؤيا التي أريناك إِلاَّ فتنة للناس) وامتحاناً لهم، وكذلك الشجرة الملعونة هي أيضاً امتحان وفتنة للناس: (والشجرة الملعونة في القرآن).

فيما يخص المقصود مِن (الرؤيا) و (الشجرة الملعونة) فسنبحث ذلك في مجموعة الملاحظات التي ستأتي بعد قليل إن شاء الله.

وَفي الختام يأتي قوله تعالى: (وَنخوفهم فما يزيدهم إِلاَّ طغياناً كبيراً). لماذا؟ لأنَّهُ ما دام قلب الإِنسان غير مستعد لقبول الحق والتسليم له، فإنَّ الكلام ليسَ لا يؤثر فيه وحسب، بل إنَّ لهُ آثاراً معكوسة، حيثُ يزيد في ضلال هؤلاء وَعِنادهم بسبب تعصبهم وَمقاومتهم السلبية وانغلاق نفوسهم عن الحق. (تأمَّل ذلك).

* * *

[40]

بحوث

1 ـ رؤيا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والشّجرة الملعونة

كَثُرَ الكلام بين المفسّرين عن المقصود بالرؤيا ونجمل هَذِهِ الأقوال بما يلي:

أ: بعض المفسّرين قالوا: إنَّ هَذِهِ الرؤيا لا تعني رؤيا المنام، بل تعني المشاهدة الحيَّة الحقيقية للعين، وَيعتبرونها (أي الرؤيا) إِشارة إِلى قصّة المعراج التي وَرد ذكرها في بداية هَذِهِ السورة.

فالقرآن وَوفقاً لهذا التّفسير يقول: إِنَّ حادثة المعراج هي بمثابة اختبار للناس، لأنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ما إن شرعَ بذكر قصّة المعراج والإخبار عنها، حتى ارتفعت أصوات الناس، بآراء مُختلفة حولها، فالأعداء استهزؤا بها، وَضعيفوا الإِيمان نظروا إِليها بشيء مِن التردُّد والشك، أمّا المؤمنون الحقيقيون فقد صدّقوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أخبر، واعتقدوا بالمعراج بشكل كامل، لأنَّ مِثل هَذِهِ الأُمور تُعتبر بسيطة في مقابل القدرة المطلقة للخالق جلاّ وَعلا.

الملاحظة الوحيدة التي يمكن دَرجها على هذا التّفسير، هي أنَّ الرؤيا عادةً ما تطلق على رؤيا المنام، لا الرؤيا في اليقظة.

ب: نقل عن ابن عباس، أنَّ المقصود بالرؤيا، هي الرؤيا التي رآها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في السنّة السّادسة مِن الهجرة المباركة (أي عام الحديبية) في المدينة، وَبشرّ بها الناس أنّهم سينتصرون على قريش قريباً وَسيدخلون المسجد الحرام آمنين.

ومن المعلوم أنَّ هَذِهِ الرؤيا لم تتحقق في تلك السنة، بل تحققت بعد سنتين أي في عام فتح مكّة. وهذا المقدار مِن التأخير جعل أصحاب الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)يقعون في بوتقة الإختبار، إِذ أصيب ضعيفو الإِيمان بالشك والريبة مِن رؤيا الرّسول وَقوله، في حين أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بيّن لهم ـ بصراحة ـ بأنّني لم أقل لكم

[41]

بأنّنا سنذهب إِلى مكّة هذا العام، بل في المستقبل القريب. (وَهذا ما حصل بالفعل).

الإعتراض الذي يمكن أن يرد على هذا التّفسير، هو أنَّ سورة بني إسرائيل مِن السور المكّية، بينما حادثة الحديبية وَقعت في العام السّادس للهجرة المباركة!!

ج: مجموعة مِن المفسّرين الشيعة والسنة، نقلوا أنَّ هَذِهِ الرؤيا إِشارة للحادثة المعروفة والتي رأى فيها النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام أن عدداً مِن القرود تصعد منبره وَتنزل مِنهُ (تنزو على منبره(صلى الله عليه وآله وسلم))، وَقد حزَن(صلى الله عليه وآله وسلم) كثيراً لِهَذا الأمر بحيث  لم ير ضاحكاً مِن بعدها إِلاَّ قليلا (وَقد تمَّ تفسير هَذِهِ القرود التي تنزو على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببني أمية الذين جلسوا مكان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الواحد تلو الآخر، يُقلِّد بعضهم بعضاً، وَكانوا ممسوخي الشخصية، وَقد جلبوا الفساد للحكومة الإِسلامية، وَخلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)).

ونقل هذِهِ الرّواية (الفخر الرازي) في التّفسير الكبير، و(القرطبي) في تفسيره الجامع و (الطبرسي) في مجمع البيان، وَغيرهم.

ويقول الفيض الكاشاني في تفسير الصافي، بأنَّ هَذِهِ الرّواية مِن الرّوايات المعروفة في أوساط العامّة والخاصّة.

ثمة إشارة نلاحظ فيها، إِنَّ التفاسير الثلاثة هَذِهِ في «الرؤيا» مِن الممكن أن تشترك جميعاً في تفسير الآية، وَلكن التّفسير الثّاني كما أشرنا ـ لا ينطبق مَع مكّية السورة. وَبالنسبة للمقصود مِن الشجرة الملعونة فقد واجهتنا أيضاً مجموعة مِن التفاسير التي يمكن أن نجمل القول بها في الآراء الآتية:

أ: الشجرة الملعونة التي وَرد ذكرها في القرآن هي (شجرة الزقوم) وَهي الشّجرة التي تنمو في الجحيم طبقاً للآية (64) مِن سورة الصافات في قوله تعالى (إنّها شجرة تخرج في أصل الجحيم) ولهذه الشجرة طعمٌ مج وَمؤذ، وَثمارها طعام

[42]

للمذنبين طبقاً اللآيات 43 ـ 46 مِن سورة الدخان (إنّ شجرة الزقوم، طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون، كغلي الحميم) وَطعامها ليس كطعام الدنيا بل يشبه المعدن المذاب بالحرارة والذي يغلي في الأحشاء. وَسيرد تفسيرها بشكل كامل في تفسير الآيات من سورة الدخان إن شاء الله.

إنَّ شجرة الزقوم ـ بدون شك ـ لا تشبه أشجار الدنيا أبداً، وَلِهذا السبب فإنّها تنمو في النار، وَطبيعي أنّنا لا ندرك هَذِهِ الأُمور المتعلقة بالعالم الآخر إِلاَّ على شكل أشباح وتصورات ذهنية.

لقد استهزأ المشركون بهَذِهِ التعابير والأوصاف القرآنية بسبب مِن جهلهم وَعدم معرفتهم وَعِنادهم، فأبوجهل ـ مثلا ـ كانَ يقول: إِنَّ محمّداً يهددكم بنار تحرق الأحجار، ثمّ يقولُ بعد ذلك بأنَّ في النار أشجاراً تنمو!

وَيُنقل عن أبي جهل ـ أيضاً ـ أنَّهُ كان يُهيىء التمر والسمن وَيأكل مِنهُ ثمّ يقول لأصحابه: كلوا مِن هَذا فإنَّه الزقوم. (نقلا عن روح المعاني في تفسير الآية).

لِهَذا السبب فإنّ القرآن يعتبر الشجرة الملعونة في الآيات التي نبحثها، وَسيلة لإختبار الناس، إذ كانَ المشركون يستهزئون بها، بينما استيقنها المؤمنون الحقيقيون الذين كانوا يؤمنون بها.

ويمكن أن يطرح على هذا التّفسير السؤال الآتي: إنَّ شجرة الزقوم لم تطرح في القرآن بعنوان الشجرة المعلونة؟

في الإجابة على ذلك نقول: يمكن أن يكون المقصود هو اللعن آكليها. بالإِضافة إِلى ذلك إِنَّهُ ما من شيء بعد رَحمة الله سوى اللعن، وَطبيعي جداً أنَّ مِثل هَذه الشجرة بعيدة جدّاً عن رحمة الله.

ب: الشجرة الملعونة، هم اليهود البغاة، إذ أنّهم يشبهون الشجرة ذات الفروع والأوراق الكثيرة، وَلكنّهم مطرودون مِن مقام الرحمة الإِلهية.

ج: جاء في الكثير مِن تفاسير الشيعة والسنة أنَّ الشجرة الملعونة هُم بنو

[43]

أمية.

ينقل الفخر الرازي في تفسيره رواية في هَذا المجال عن ابن عباس الذي أدرك الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) واشتهر في التاريخ الإِسلامي بكونه مُفسراً للقرآن الكريم.

هَذا التّفسير يتلاءم مِن جهة مَع الرّواية التي ذكرناها أعلاه بخصوص رؤيا الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أيضاً يتلاءم مَع الحديث المنقول عن عائشة والتي إلتفتت فيه إِلى مروان وَقالت لهُ: «لعن اللهُ أباكَ وَأنت في صلبه، فأنت بعض مَن لعنهُ الله»(1).

وَلكن مرّة أُخرى يُطرح هَذا السؤال: في أي مكان مِن القرآن تمَّ لعن بني أمية باعتبارهم الشجرة الخبيثة؟

في الجواب نقول: لقد تمَّ ذلك في الآية (26) مِن سورة إبراهيم عِندَ الحديث عن الشجرة الخبيثة (وَمثلُ كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت مِن فوقِ الأرض ما لها مِن قرار). وَذلك للمفهوم الواسع للشجرة الخبيثة، وَلما وَرد من روايات في تفسيرها بأنَّ المقصود مِنها هم بنو أميّة، ثمّ إنَّ (الخبيثة) تقترن مِن حيث المعنى  بـ (الملعونة)(2).

وَجدير بالذكر هُنا، أنَّ الكثير مِن هَذِهِ التّفاسير أو كُلّها لا تتعارض فيما بينها، وَمِن الممكن أن تكون (الشجرة الملعونة) في القرآن إِشارة إِلى أي مجموعة مُنافقة وَخبيثة وَمطرودة مِن رحمة الله تعالى وَمقام الربوبية، خصوصاً تلك المجاميع مِثل بني أمية واليهود قساة القلب، والمعاندين وَكل الذين يسيرون على خُطاهم. وَشجرة الزقوم في القيامة تمثل الأشجار الخبيثة في العالم الآخر، وَكل هَذِهِ الأشجار الخبيثة (المجاميع المعنية) هي لاختبار وَتمحيص المؤمنين الصادقين في الحياة الدنيا.

إِنَّ اليهود الذين سيطروا اليوم ـ زوراً وغصباً ـ على المقدسات الإِسلامية

____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلد السّادس، ص 3902; وَتفسير الفخر الرازي، المجلد 20، ص 237.

2 ـ يراجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثاني، ص 538.

[44]

والذين يشعلون نار الفتنة والحرب في كل زاوية مِن زوايا العالم، وَيفتعلون العديد من الجرائم والمظالم بحق الشعوب، إضافة إِلى المنافقين الذين يتعاملون معهم تعاملا سياسياً وَغير سياسي، وكذلك كل المتسلطين الذين يسيرون على خُطى بني أمية في البلاد الإِسلامية، وَيقفون ضدَّ الإِسلام، وَيُبعدون المخلصين والمؤمنين مِن حركه المجتمع، وَيقومون بتسليط المجرمين والخبثاء على رقاب الناس، وَيقتلون أهل الحق والمجاهدين، وَيفتحون المجال لبقايا الجاهلية في استلام الأُمور والتحكُّم بالمقدرات... إِنَّ هؤلاء جميعاً هُم فروع وأغصان وأوراق هَذِهِ الشجرة الخبيثة المعلونة، وَهم علامات اختبار وَمواقع امتحان للمؤمنين ولعامّة الناس في هَذِهِ الحياة الدنيا.

2 ـ أعذار مُنكري الإعجاز

إِنَّ بعض الجهلة والغافلين في عصرنا الحاضر، يقولون: إِنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لم تكن لديه مِن معجزة سوى القرآن الكريم، ويقدمون مُختلف الحجج مِن أجل إِثبات أقوالهم وَدعاواهم، وَممّا يحتجون به قوله تعالى: (وَما منعنا أن نرسل بالآيات إِلاَّ أن كذَّب بها الأولون) حيثُ يعتبرونها دليلا على أنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأتِ بمعجزة، بخلاف باقي الأنبياء السابقين.

وَلكن العجيب في أمر هؤلاء أنّهم التزموا بأوَّل الآية وَتركوا آخرها، حيثُ تقول نهاية الآية (وَما نرسل بالآيات إِلاَّ تخويفاً) هذا التعبير القرآني يوضح أنَّ المعجزات تقع على نوعين:

القسم الأوَّل: المعجزات التي لها ضرورة لإِثبات صدق دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وَتشوق المؤمنين، وتخوّف المنكرين للنّبوة.

القسم الثّاني: المعجزات التي لها جانب اقتراحي، أي إنّها تصدر من اقتراحات المعاندين وَتنطلق مِن أمزجة ذوي الأعذار، وَفي تأريخ الأنبياء

[45]

نماذج عديدة لِهَذِهِ المعجزات، التي وقع بعضها فعلا، إِلاَّ أنَّ المنكرين والذين سبق لهم اقتراح هَذِهِ المعجزات كشرط لإِيمانهم، بقوا على إنكارهم وَلم يؤمنوا بعد وقوع المعجزة، لذلك أصيبوا بالبلاء والعذاب الإِلهي. (لأنَّه وَقعت المعجزة المُقترحة وَلم يُؤمن بها مَن اقترحها وَطلبها فإِنَّه سيستحق العقاب الإِلهي السريع).

بناءً على ذلك، فما نشاهده في الآية أعلاه والتي تخص الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هي نفي للنوع الثّاني مِن المعجزات، وَلَيس للنوع الأوّل، الذي يعتبر ملازماً للنّبوة وَضرورياً لها.

صحيح أنَّ القرآن يعتبر لوحده معجزة خالدة، ويمكنه لوحده اثبات دعوى الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) (إذا لم تكن معه معجزة أُخرى)، ولكن ـ بدون شك ـ فإنَّ القرآن يعتبر معجزة معنوية، وَهو أفضل شاهد بالنسبة لأهل الفكر، وَلكن لا يُمكن إِنكار أهمية أن تكون مَع هَذِهِ المعجزة، معجزات مادية محسوسة بالنسبة للأفراد العاديين وَعموم الناس، خاصّة وأن القرآن يتحدث مراراً عن مِثلِ هَذِهِ المعجزات التي وَقعت للانبياء السابقين، وَهَذَا الحديث يعتبر ـ بحدِّ ذاته ـ سبباً في أن يطالب الناس رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بتقديم المعجزات التي تقع على منوال معجزات الأنبياء السابقين، خصوصاً وأنَّ الناس كانوا يقولون لرسول الإِسلام: كيف تدعي بأنّك أفضل الأنبياء وَخاتمهم وَلا تستطيع أن تقدَّم لنا أصغر معجزة مِن  معجزاتهم. (!!!)؟

إِنَّ أفضل جواب لهذا التساؤل هو مجيء رسول الاسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) بنماذج مِن معجزات الأنبياء السابقين، والتواريخ الإِسلامية المتواترة تؤكّد بأنَّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)قد جاءَ بمثل هَذِهِ المعجزات.

ففي القرآن تواجهنا نماذج لِهَذِهِ المعجزات، مِثل التنبؤ بحوادث مُختلفة، أو نصرة الملائكة لجيش الإسلام على الأعداء، وَأُمور خارقة أُخرى لا سيما ما كان يقع في الحروب الإِسلامية.

[46]

3 ـ ما العلاقة بين المنكرين سابقاً والمنكرين لاحقاً؟

قد يطرح أحياناً هَذا السؤال حيثُ يبيّن القرآن ـ في الآيات أعلاه ـ أنَّ السابقين اقترحوا معجزات معيّنة ثمّ لم يؤمنوا بعد وقوعها، بل استمروا في تكذيبهم وإنكارهم وَعِنادهم، لذا فقد أصبح هَذا سبباً لعدم إِجابة مقترحاتكم.

والسؤال هُنا: هل أنَّ تكذيب السابقين يكون سبباً لحرمان الأجيال اللاحقة، أي كيف يُؤخذ هؤلاء بجريرة أُولئك؟

الجواب على هذا السؤال واضح مِن خلال ما ذكرناه أعلاه، حيثُ يسود هَذا التعبير وَيروج في أوساطنا، إِذ نقول ـ مثلا ـ لأحدهم: لا نستطيع أن نسلِّم بحججك، فإذا سأل الطرف الآخر: لماذا؟ فإنّنا نقول له: إِنَّ هُناك سوابق كثيرة لِهَذا العمل، فهناك مَن قدَّم اقتراحات إِلاَّ أنّهم لم يستسلموا للحق لما جاءهم، لذا فإنَّ وَضعكم وَظروفكم تشابه أُولئك. إِضافة لذلك، فإنّكم توافقون أُولئك الأقوام على أساليبهم، بل وَتدعمونها، وأثبتم عملياً أنّكم لا ترغبون في البحث عن الحق والحقيقة، بل إنّ هدفكم هو مجرّد العناد والتحجج والبقاء في طور المعاذير، ثمّ تتبعون ذلك كلّه بالعناد والمكابرة والإِنكار، لذا فإِنَّ الرضوخ إِلى مُقترحاتكم وإِجابتها لا معنى له.

فهؤلاء القوم ـ مثلا ـ عِندما أخبرهم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّ أهل النّار يأكلون مِن شجرة تسمّى (زقوم) وَتخرج في أصل الجحيم وَلها أوصاف معينة، بدأوا بالسخرية والإِستهزاء ـ كما ذكرنا سابقاً ـ فالبعض مِنهم كان يقول: إِنَّ الزقوم هو التمر والسمن، وَبعض كان يقول: كيف تنمو الأشجار في الجحيم المستعر مِن الحجارة؟ في حين أن المعنى واضح وَلا يحتاج إِلى مِثل هَذِهِ المكابرة والعناد، إِذ أنَّ الشجرة المقصودة لا تشبه أشجار هَذِهِ الدنيا.

* * *

[47]

الآيات

وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُوا لاَِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً(61) قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَـذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيمَةِ لاََحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلا(62)قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَآءً مَّوْفُوراً(63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاَْمْوَلِ وَالاَْوْلَـدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـنُ إِلاَّ غُرُوراً(64) إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـنٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا(65)

التّفسير

مكر إِبليس:

هَذِهِ الآيات تُشير إِلَى قضية امتناع إِبليس عن إطاعة أمر الله في السجود لآدم(عليه السلام)، والعاقبة السيئة التي انتهى إِليها.

إنّ طرح هَذِهِ القضية بعد ما ذُكِرَ عن المشركين المعاندين هو إشارة ـ في

[48]

الواقع ـ إِلى أنَّ الشيطان يعتبر نموذجاً كاملا للإِستكبار والكفر والعصيان. ثمّ انظروا إِلى أين وَصلت عاقبته، لذا فإِنَّ مَن يتبعهُ سيصير إِلى نفس العاقبة.

إضافة إِلى ذلك، فإنَّ إصرار الضالين عميان القلوب على مخالفة الحق،  لا يعتبر مدعاةً للعجب والدهشة، لأنَّ الشيطان استطاع ـ وفقاً لما يُستفاد مِن هَذِهِ الآيات ـ أن يغويهم بواسطة عدَّة طرق، وَفي الواقع حقق فيهم قولته (لأغوينهم أجمعين إِلاَّ عبادك مِنهم المخلصين).

الآية تقول: (وإذ قُلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إِلاَّ إِبليس). لقد قُلنا سابقاً في نهاية الآيات الخاصّة بخلق آدم(عليه السلام): إِنَّ هَذِهِ السجدة التي أمر الله تعالى بها هي في الحقيقة نوع مِن الخضوع والتواضع بسبب عظمة خلق آدم(عليه السلام) وَتميزه عن سائر الموجودات، أو هي سجود للخالق جلّ وعلا في قبال خلقه لهَذا المخلوق المتميز.

وقلنا هُناك أيضاً: إِنَّ إِبليس وَبرغم ذكره هُنا ـ استثناءاًـ مَع الملائكة، إِلاَّ أنَّهُ ـ بشهادة القرآن ـ لم يكن مِن الملائكة، بل كانَ مخلوقاً مادياً ومِن الجن، وَقد أصبحَ في صف الملائكة بسبب عبادته لله.

على كل حال، فقد سيطر الكبر والغرور على إِبليس وتحكّمت الأنانية في عقله، ظناً مِنهُ بأنَّ التراب والطين اللذان يعتبران مصدراً لكل الخيرات وَمنبعاً للحياة أقل شأناً وأهمية عن النّار، لذا اعترض على الخالق جلَّ وَعلا وَقال: (قالَ ءَأَسْجد لمن خلقت طيناً).

وَلكنَّهُ عِندما طُرِدَ ـ إِلى الأبد ـ مِن حضرة الساحة الإِلهية بسبب استكباره وَطغيانه في مقابل أمر الله له، قال: (قالَ أرأيتك هذا الذي كرّمت علي لئن اخرتن إِلى يومِ القيامة لأحتنكنَّ ذرّيته إِلاَّ قليلا).(1)

____________________________

1 ـ ذهب المفسّرين إلى إِنَّ حرف الكاف في كلمة (أرأيتك) زائد، أو هو حرف للخطاب وَقد جاء للتأكيد، وَجملة (أرأيتك) بمعنى (أخبرني) جوابها محذوف وَتقديرها (أخبرني عن هَذا الذي كرمته عليّ، لم كرمته عليّ وَقد خلقتني مِن نار؟). وَلكن هُناك احتمال آخر، وَهو أنَّ (أرأيت) هي في نفس معناها الأصلي وَلا يوجد محذوف في الجملة، وَبشكل عام تعطي هذا المعنى: هل لاحظت هذا الموجود الذي فضلته عليّ، فإذا أبقيتني على قيد الحياة سترى بأنّي سأضل أكثر أبنائه. (إحتمال الثّاني أوفق في تركيب الآية وَمعناها).

[49]

«أحتنكن» مشتقّة مِن «احتناك» وَهي تعني قطع جذور شيء ما، لذا فعندما يأكل الجراد المزروعات تقول العرب: احتنكَ الجراد الزرع، لذا فإنَّ هذا القول يشير إِلى أن إِبليس سيحرف كل بني آدم عن طريق الله وَطاعته، إِلاَّ القليل مِنهم. وَيحتمل أن تكون كلمة (احتنكن) مُشتقة مِن (حنك) وَهي المنطقة التي تحت البلعوم، فعندما يوضع الحبل في رقبة الحيوان تقول العرب (احتنك الدابة)، وَفي الواقع، فإنَّ الشيطان يريد أن يقول بأنَّهُ سيضع حبل الوسوسة في أعناق الناس وَيجرهم إِلى طريق الغواية والضلال.

وهكذا كان، فقد أعطي الشيطان إمكانية البقاء والفعالية حتى يتحقق الإختبار للجميع، وَيكون وجوده سبباً لتمحيص واختبار المؤمنين الحقيقيين لأنّ الإنسان يشتدّ عزمه عِندما تهاجمهُ الحوادث وَيقوى عوده في مُواجهة الأعداء، لذلك قالت الآية: (قال اذهب فمن تبعك مِنهم فإنَّ جهنَّم جزاؤكم جزاءاً موفوراً). وبهذه الوسيلة للإِختبار ينكشف الفاشل مِن الناجح في الإِمتحان الإِلهي الكبير.

ثمّ ذكرت الآيات بعد ذلك ـ بأُسلوب جميل ـ الطرق التي ينفذ مِنها الشيطان والأساليب التي يستخدمها في الوسوسة والإغواء فقالت:

(واستفزز من إستطعت مِنهم بصوتك...)

(واجلب عليهم بخيلك ورجلك...)

(وَشاركهم في الأموال والأولاد...)

(وَعدهم...)

ثمّ يجيء التحذير الإِلهي: (وَما يعدهم الشيطان إِلاَّ غروراً...).

[50]

ثمّ اعلم أيّها الشيطان: (إِن عبادي لَيس لك عليهم سلطان...) (وَكفى بربّك وكيلا).

* * *

بحوث

1 ـ في معاني الكلمات

«إِستفزز» مُشتقة مِن «استفزاز» وَهي تعني الإِثارة; الإِثارة السريعة والعادية، وَلكنَّ الكلمة في الأصل تعني قطع شيء ما، فالعرب تقول «تفزَّز الثوب» إِذا تقطّع أو انفصلت منهُ قطعة.

واستعمال هَذِهِ الكلمة هنا للدلالة على تحريك الشخص وآثارته لينقطع عن الحق يتوجه نحو الباطل.

«اجلب» مأخوذ مِن «إِجلاب» وَفي الأصل مِن «جلبة» وَهي تعني الصرخة الشديدة، والإجلاب تعني الطرد مَع الأصوات والصرخات. وأمّا النهي عن «الجلب» الوارد في الرّوايات فهو إمّا أن يعني أنَّ الذي يذهب إِلى المزارع لجمع الزكاة يجب عليه أن لا يصيح وَيصرخ بحيث يُخيف الأحياء، أو أنَّهُ يعني أنَّ على المتسابقين عِند سباق الخيل أن لا يصرخوا في وجوه الخيل الأُخرى لتكون لهم الأسبقية.

«خيل» لها معنيان، فهي تعني «الخيول» وأيضاً تعني (الخيالة)، أمّا في هَذِهِ الآية فقد وردت للتدليل على المعنى الثّاني.

أمّا «رَجِل» فهي تعني معكوس (الخيالة) أي (جيش الرجّالة والمشاة) وَبهذا يتكون جيش الشيطان مِن (الخيالة والرجّالة) من جنسه أو من غير جنسه، وَهـذا يعني أنَّ البعض يتأثر بسرعة بغواية الشيطانَ وَيصبح مِن أعوانه وَمساعديه

[51]

فهؤلاء كالخيّالة. أمّا البعض الآخر فيتأثر ببطء وَعلى مهل كالمشاة والرجّالة(1)!

2 ـ وَسائل الشيطان المختلفة في الوسوسة والإِغواء

بالرغم مِن أنَّ المخاطب في الآيات أعلاه هو الشيطان، وأنَّ الله جلَّ جلاله يتوعده وَيقول له: افعل كل ما تريده في سبيل غواية الناس، واستخدم كل طرقك في ذلك، إِلاَّ أنَّ هَذا الوعيد ـ في الواقع ـ هو تهديد وَتنبيه لنا نحنُ بني الإِنسان حتى نعرف الطرق التي ينفذ مِنها الشيطان والوسائل التي يستخدمها في وساوسه وإغوائه.

الطريف في الأمر أنَّ الآيات القرآنية أعلاه تشير إِلى أربعة طرق وأساليب مهمّة وأساسية مِن أساليب الشيطان، وَتقول للإِنسان: عليك بمُراقبة نفسك مِن خلال الجوانب الأربعة هَذهِ:

أ: البرامج التبليغية التي تجد دلالتها في التعبير القرآني (واستفزر مَن استطعت مِنهم بصوتك) حيث اعتبر بعض المفسّرين أنّها تعني ـ فقط ـ أنغام الموسيقي الشهوانية المثيرة، والأغاني المبتذلة، ولكن هَذا المعنى يتسع حتى يشمل جميع البرامج الدعائية التي تقود للإِنحراف والتي تستخدم ـ عادة ـ الأجهزة الصوتية وَالسمعية.

لهذا فإنَّ أوّل برامج الشيطان هو الإِستفادة مِن هذِهِ الأجهزة. هَذِه القضية تتوضح في زماننا هَذا أكثر، لأنَّ عالمنا اليوم هُوَ عالم الأمواج الراديوية، وَعالم الدعاية والتبليغ الواسع، سواء كان على الصعيد السمعي أو البصري. حيثُ أنَّ الشياطين وأحزابهم في الشرق والغرب يعتمدون على هَذِه الأجهزة وَيخصصون قسماً كبيراً مِن ميزانيتهم للصرف في هَذا الطريق حتى يستعمروا عبيدالله، وَيُحرفوهم عن طريق الحق والإِستقلال، وَيزيغوا بهم عن طريق الهداية والإِيمان

____________________________

1 ـ في معاني المفردات تُراجع مفردات الراغب، وَمجمع البيان.

[52]

والتقوى، وَيجعلون مِنهم عبيداً تابعين لا حول لهم وَلا قوة.

ب : الإِستفادة مِن القوة العسكرية: وَهـذا لا يخص زماننا حيثُ أنَّ الشياطين يستخدمون القوّة العسكرية لأجل الحصول على مَناطق للنفوذ. إِنَّ الأداة العسكرية تعتبر أداةً خطرة لكل الظالمين والمستكبرين في العالم. فهؤلاء وَفي لحظة واحدة يصرخون في قواتهم العسكرية وَيرسلونها إِلى المناطق التي تحاول الحصول على حريتها واستقلالها وتسعى إِلى الإعتماد بقوات على قدراتها الخاصّة.

وَفي عصرنا الحاضر نرى أنّهم نظَّموا ما يسمونه بقوات (التدخل السريع) والذي هو نفس مفهوم (الإجلاب) القرآني، وَهذا يعني أنّهم جعلوا جزءاً مِن قواتهم العسكرية على شكل قوات خاصّة كي يستطيعوا إِرسالها في أسرع وقت إِلى أي منطقة مِن مَناطق العالم تتعرض فيها مصالحهم غير المشروعة للخطر، لكي يقضوا بواسطة هَذِهِ القوات على أي حركة تطالب بالحق وتنادي بالإِستقلال.

وَقبل أن تصل القوات السريعة الخاصّة هَذِهِ، يكون هؤلاء قد هيأوا الأرضية بواسطة جواسيسهم الماهرين، والذين هُم في الواقع كناية عن جيش المشاة (الرجّالة).

إِنَّ هؤلاء في مخططاتهم هَذِهِ قد غفلوا عن أنَّ الله سبحانُه وَتعالى قد وَعَدَ أولياءه الحقيقيين ـ في نفس هَذِهِ الآيات ـ بأنَّ الشيطان وَجيشه لا يستطيع أن يسيطر عليهم.

ج: البرامج الإِقتصادية ذات الظاهر الإِنساني: مِن أساليب الشيطان الأُخرى المؤثرة في النفوذ والغواية، هي المشاركة في الأموال والأنفس، وَهُنا نرى أيضاً: أنّ بعض المفسّرين يخصص هَذِهِ المشاركة بـ (الربا). أمّا المشاركة في الأولاد فيحصر معناها بـ «الأولاد غير الشرعين»(1).

____________________________

1 ـ وَردت روايات مُتعدِّدة في أنَّ مشاركة الشيطان في الأولاد تعني الأبناء غير الشرعيين، أو المنعقدة نطفتهم مِن مال حرام، أو انعقاد النطفة في لحظة غفلة الوالدين عن الخالق، وَلكن ـ كما قلنا مرّات ـ إِنَّ هَذِهِ التفاسير تبيّن جانباً مِن المصداق الواضح وَهي ليست دليلا على حصر المعنى. (راجع تفسير نور الثقلين، المجلد الثّالث، صفحة 184).

[53]

في حين أنَّ هاتين الكلمتين لهما معاني أوسع، إِذ تشمل جميع الأموال المستحصلة عن طريق الحرام، والأبناء غير الشرعيين وغيرهم. فمثلا في زماننا الحاضر نشاهد أنَّ الشياطين المستكبرين يقترحون دائماً استثمار وتأسيس الشركات، وإيجاد مُختلف المصانع والمصالح الإِقتصادية في الدول الضعيفة، وَتحت غطاء هَذِهِ الشركات تتم مُختلف أشكال النشاطات الخطرة والضارَّة بالبلد المستضعف، حيث يرسل الشياطين جواسيسهم تحت عنوان خبراء فنيين أو مستشارين اقتصاديين أو مهندسين تقنيين، وَيقوم هؤلاء جميعاً بامتصاص خيرات البلد الذين هم فيه بأبرع الحيل وأظرفها، وَيقفون حائلا بين البلد وَبين تحقيقه لإستقلاله الإِقتصادي على بُنية اقتصادية تحتية حقيقية.

وَعن طريق تأسيس المدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والمراكز السياحية، فإنّهم يشاركون هذه الدول الضعيفة في أبنائها حيثُ يحاولون أن يستميلوا هؤلاء نحوهم، وأحياناً عن طريق توفير (المنح الدراسية) لشباب، فإنّهم يقومون (بجلبهم) نحو ثقافتهم وَيشاركونهم في أفكارهم، وَما يترتب على ذلك مِن فساد العقيدة.

ومن الأساليب الرائجة والمخربة لهؤلاء الشياطين إيجاد مراكز الفساد تحت غطاء الفنادق العالمية وإيجاد المناطق الترفيهية ودور السينما والافلام المبتذلة وأمثال ذلك، حيث لا تكون هذه الوسائل أدوات لترويج الفحشاء وزيادة أولاد الزنا فحسب، بل تؤدي إِلى إنحراف جيل الشباب وتميّعهم و تغرّبهم، وتصنع منهم أشخاصاً فاقدين للإرادة. وكلما أمعنا النظر في دسائسهم و مكرهم تكشفت لنا الأخطار الكبيرة الكامنة في هذه الوساوس الشيطانية.

د: برامج التخريب النفسي: مِن البرامج الأُخرى التي يتبعها الشياطين،

[54]

الإِستفادة مِن الوعود والأُمنيات الكاذبة التي يطلقونها بمختلف الحيل، فهؤلاء الشياطين يعدّون مجموعة ماهرة وَمتمكنة مِن علماء النفس لغواية الناس البسطاء مِنهم والأذكياء، كلا بما يناسب وَضعه، ففي بعض الأحيان يصورون لهم حالهم بأنّهم سيصبحون قريباً مِن الدول المتمدنة والكبيرة، أو أنَّ شبابهم لا مثيل له، وَيستطيع الشباب في بلدانهم أن يصل مِن خلال إتباعه برامجهم إِلى أوج العظمة، وَهكذا في بلدانهم يغرقوهم في هذه الخيالات الواهية التي تتلخّص في جملة (وعدهم).

في أحيان أُخرى يسلك الشياطين طريقاً معكوسة، إِذ يصوّرون للبلد بأنَّهُ  لا يستطيع مُطلقاً مُواجهة القوى الكبرى، وأنّهم مُتأخرون عن هَذِهِ القوى بمائة عام أو أكثر، وَبهذا الأسلوب تُزرع المبررات النفسية لإِستمرار التخلف وعدم انطلاق جهود البلد الضعيف نحو العمل والبناء الحقيقي.

بالطبع هَذهِ القصّة لها بدايات بعيدة، وَطرق نفوذ الشيطان فيها لا تنحصر بواحد أو اثنتين.

وَلكنَّ (عباد الله) الحقيقيين والمخلصين، وَبالإِتكاء على الوعد القرآني القاطع بالنصر، والذي تضمنتُه هَذِهِ الآيات، سيقومون بمحاربة الشياطين  وَلا يسمحون بالتردد يساور أنفسهم، وَهم يعلمون ـ برغم الأصوات الكثيرة للشياطين ـ أنّهم سينتصرون، وإنّهم بصبرهم وَصمودهم وبإيمانهم وَتوكلهم على الله سوف يُفشِلون الخطط الشيطانية، وَذلك قوله تعالى: (وَكَفى بربّك وَكيلا).

3 ـ أمّا لماذا خلق الله الشيطان؟ فقد بحثنا ذلك في الآية (39) مِن سورة البقرة. وَفيما يخص وَساوس الشيطان وَأشكالها وَلبوساتها، وَمعنى الشيطان في القرآن، فقد بحثنا كل ذلك في ذيل الآية (13) من سورة الأعراف. والآية (39) من سورة البقرة من هذا التّفسير.

* * *

[55]

الآيات

رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً(66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّيكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الاِْنْسَانُ كَفُوراً(67) أَفَأَمِنتُمْ أن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا(68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً(69)

التّفسير

لماذا الكفران مَع كلِّ هَذِهِ النعم؟

هَذِهِ الآيات تابعت البحوث السابقة في مجال التوحيد ومحاربة الشرك، وَدخلت في البحث مِن خلال طريقين مُختلفين، هما: طريق الإِستدلال والبرهان، وَطريق الوجدان وَمخاطبة الإِنسان مِن الداخل.

ففي البداية تشير الآية إِلى التوحيد الإِستدلالي فتقول: (ربّكم الذي يزجي

[56]

لكم الفلك في البحر).

طبعاً هُناك أنظمة لأجل حركة الفلك في البحار، فمن جانب ينبغي وجود الماء بشكل يصلح لمسير السفن، ومن جانب آخر لابدّ من توفر بعض الأشياء التي تكون أخف مِن الماء كي يمكن لها أن تطفو على سطحه، وإذا كانت أثقل فيمكن صناعتها بشكل بحيث تكون أخف مِن الماء وَتستطيع أن تتحمَّل وزن الأحمال الثقيلة والأعداد الكثيرة مِن البشر. ومِن جانب ثالث يلزم وجود القوّة المحرَّكة والَّتي كانَ الهواء يُمثلها في السابق، حيث كان البحّارة يستفيدون مِن حركة التيارات الهوائية فوق المحيطات والبحار لتحديد أوقات وَسرعة واتجاه السفن، واليوم يستفاد مِن طاقة البخار وأشكال الطاقة الأُخرى في حركة السفن.

مِن جانب آخر ينبغي وجود أُسلوب لتحديد الطرق، وَهَذا الأُسلوب كانَ سابقاً يعتمد على الشمس والنجوم في السماء، أمّا اليوم فإنَّ السفن تستفيد مِن البوصلات والخرائط والإحداثيات الدقيقة. على أي حال، إِذا لم تتوافر هَذهِ الشروط الأربعة ولم يكن ثمّة تنسيق بينها فإنَّ حركة السفن تصبح أمراً مستحيلا، ولا يكون الإِنسان قادراً على الإِستفادة مِن هَذِهِ الوسيلة المهمّة.

تعلمون ـ طبعاً ـ بأَنَّ السفن تعتبر أضخم وسيلة لحمل الإِنسان، واليوم فإِنَّ هُناك مِن السفن العملاقة ما يكون بعضها بمساحة مدينة صغيرة.

ثمّ يضيف تعالى: (لِتبتغوا مِن فضله). حتى تساعدكم في أسفاركم وَنقل أموالكم وَتجارتكم وتعينكم في كل ما يخص أُمور دنياكم ودينكم. أمّا لماذا؟ فلأَنَّ الله تبارك وَتعالى (إِنَّه كان بكم رَحيماً).

مِن هَذا التوحيد الإِستدلالي والذي يعكس جانباً صغيراً مِن نظام الخلق، وَعلم وَقدرة وَحكمة الخالق جلَّ وَعلا، تنتقل الآية إِلى أُسلوب الإِستدلال الفطري فتقول: لا تنسوا (وإذا مسكم الضرّ في البحر ضلَّ مَن تدعون إلاّ إيّاه).

أن يضل أي شيء مِن دون الله، لأنَّ ضرر البحر إِذا وقع، كالطوفان وَغيره

[57]

يذهب بكل الجواجز وأستار التقليد والتعصَّب اللاصقة على صفاء الفطرة الإِنسانية، لينكشف نور الفطرة الذي هو نور التوحيد والإِيمان والعبودية لله دون غيره.

نعم في هَذِهِ اللحظات، في لحظات الضرّ ينقطع الإِنسان عن جميع المعبودات التصورية والوهمية والخيالية التي سبق وأن أعطاها قوّة بسبب أوهامه، وَتمحى مِن ذهنه فاعليتها ووجودها وتتلاشى وتذوب تماماً كما يذوب الجليد في شمس الصيف ولا يبقى حين ذاك سوى نور الأنوار...  نور الله جلَّ جلاله.

إِنَّ الآية تعبِّر عن قانون عام، عرفهُ كلّ مَن جرَّب ذلك، حيثُ تؤدي المشاكل والصعوبات الحادة التي يمرّ بها الإِنسان ـ ويصل السكين العظم ـ إِلى الغاء كل الأسباب الظاهرية التي كان يتعلق بها الإِنسان، وتَنعدم فاعلية العلل المادية التي كان يتشبث بها، وتنقطع كل الأسباب، إِلاّ السبب الذي يصل الإِنسان بمصدر العلم والقدرة المطلقتين، والذي هو ـ لوحده سبحانه وتعالى ـ قادر على حال أعقد المشكلات ... لَيسَ مهمّاً هُنا ما الذي نسمّي فيه هَذهِ الحالة، وإنّما المهم أنّ نعلم أن قلب الإِنسان فِي هَذِهِ الحالة ينفتح على الامل بالخلاص، وتغمر القلب بنور خاص لطيف. وَهِذِهِ المنعطفات هي واحدة مِن أقرب الطرق إِلى الله، إِنّها طريق ينبع مِن داخل الروح وَمِن سويداء القلب.(1)

ثمّ تضيف الآية: (فلما نجاكم إِلى البرّ أعرضتم وَكان الإِنسان كَفوراً).

مرّةً أُخرى تُغطي حجب الغرور والغفلة والتعصب هَذا النور الإِلهي، وَيغطي غبار العصيان والذنوب وَملاهي الحياة المادية فطرة الإِنسان ووجدانه.

ولكن هل تظنون أنَّ الله لا يستطيع أن ينزل بكم عقابه الشديد وأنتم على

____________________________

1 ـ طالع الشّرح الكامل للتوحيد الفطري في كتاب (خالق العالم)، ولا حظهُ أيضاً في نهاية الآية (14) مِن سورة النحل حيث أشرنا إِلى هَذِهِ المسألة.

[58]

اليابسة وفي قلب الحصاري والبراري؟

لذلك تقول الآية (أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر) ثمّ أضافت: (أو يرسل عليكم حاصباً ثمّ لا تجدوا لكم وَكيلا)، حيث تغشيكم عاصفة محمّلة بالحصي والحجارة و تدفنكم تحتها ولا تجدون من ينقذكم منها (وفي ذلك من العذاب ما هو أشدّ من الغرق في البحر).

إِنَّ المتجولين في الصحاري وأهل البوادي يدركون أكثر مِن غيرهم رهبة هَذا التهديد الرّباني والوعيد القرآني، إِذ يعرفون كيف تؤدي ثورة الكثبان الرملية في الصحراء إِلى دَفع الرمال والأحجار إِلى غير مواقعها لِتشكِّل تلالا تدفن في ثناياها وبطونها قوافل الجمال وَمَن عليها.

بعد ذلك تضيف الآية مذكِّرة أمثال هؤلاء بأنّكم هل تظنون أنّ هذه هي المرّة الأخيرة التي تحتاجون فيها إِلى السفر في البحر: (أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أُخرى فيرسل عليكم قاصفاً مِن الريح فيغرقكم بما كفرتم ثمّ لا تجدوا لكم علينا بِهِ تبيعاً)، أي لا أحد حينئذ يطالب بدمكم و يثأر لكم منّا.

* * *

بحوث

1 ـ الشّخصية المتقلّبة

إِنَّ الكثير مِن الناس لا يذكرون الله إِلاَّ عِندَ بروز المشاكل. وَينسونه في الرخاء، إِنَّ نسيان الله في حياة هؤلاء هو القاعدة والأصل، أي أنّه صار طبيعة، ثانية لهؤلاء، لذا فإنَّ ذكر الله بالنسبة لهؤلاء والإِلتفات إِلى وَقائع الحياة الحقَّة تعتبر حالة إستثنائية في وجودهم، تحتاج في حضورها إِلى عوامل إضافية، فما دامت هَذِهِ العوامل الإِضافية موجودة فهم يذكرون الله، أمّا إِذا زالت فسوف يرجعون إِلى طبيعتهم المنحرفة وَينسون الله.

[59]

والخلاصة، أنّنا لا نجد من الناس بصورة عامّة مَن لا يلجأ إِلى الله وَلا يخضع له عِندما تضغطه المشاكل الحادَّة والصعبة، وَلكن ينبغي أن نعرف أن الوعي وذكر الله تعالى في مثل هذه الظروف في مثل هذه والذي نستطيع أن نصفهُ بالوعي الإِجباري، هو وعي عديم الفائدة.

إِنَّ المؤمنين والمسلمين الحقيقيين، يذكرون الله في الراحةِ والبلاء والسلامة والمرض والفقر والغنى، في السجن وعلى كرسى الحكم، وَفي أي وَضع كان. إِنَّ تغيير الأوضاع وَتبدُّل الحالات لا يغيِّر هؤلاء. إِنَّ أرواحهم كبيرة بحيث تستوعب كل هَذِهِ الأُمور، مَثلهم في ذلك علي بن أبي طالب(عليه السلام)، حيثُ كانت عبادته وَزهده وَمُتابعته لأُمور الفقراء لا تختلف عِندَ وجوده في السلطة، أو عندما كان جليس بيته.

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) ـ يقول في وَصف المتقين: «نَزَلت أنفسهم مِنهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء»(1).

وخلاصة القول: إِنَّ الإِيمان والإِرتباط بالله وَعبادته والتوسل بهِ والتوبة إِليه والتسليم له سبحانه وَتعالى، كل هَذِهِ الأُمور تكون مهمّة وَثمينة وَذات أثر عِندما تكون دائمية وَثابتة، أمّا الإِيمان الموسمي والتوبة والعبادات الموسمية، والتي تفرضها حالات خاصّة يمرّ بها الإنسان وَيبغي مِن خلالها جلب بعض المنافع له، فليسَ لها أثر وَلا قيمة. والآيات القرآنية توبخ أمثال هؤلاء الأشخاص دائماً.

2 ـ لا يمكن الهروب مِن حكومة الله

البعض يتوجه إِلى الله (مِثل عبدة الأصنام في الجاهلية) عِندما يكون في وَسط البحر أو عِندما يكون على هاوية السقوط والخطر أو في حالِ مرض

____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة رقم 193.

[60]

شديد، في حين أنّنا إِذا فكَّرنا بشكل صحيح نرى أنَّ الإِنسان معرض للخطر والضرر في كل الأزمنة والحالات والأوقات، فالبحر والبر والصحراء والمرض والهاوية وَغيرها، هي في الواقع مُتساوية الخطورة. إِنَّ هزة أرضية واحدة يمكنها أن تدمِّر بيتنا الآمن الهاديء، وإِنَّ تخثراً بسيطاً في الدم يمكنُه أن يغلق مسير الدم في الشريان الأبهر فيؤثر على القلب أو على الدماغ فتحدث السكتة القلبية أو الدماغية، وَبعد ثانية واحدة يكون الموت هو المصير المحتوم. مَع وجود كل هَذِهِ الأُمور نعلم أنّ الغفلة عن الله تعالى كم هي مجانبة للصواب!!

قد يقوم هُنا أنصار نظرية تعليل الإِيمان ـ والدين بشكل عام ـ على أساس الخوف، بتبرير هَذِهِ الحالة بقولهم: طالما أنَّ الخوف في الإِنسان غريزي وَفطري، فإِنَّ خوفه مِن العوامل الطبيعية يجعل الإِنسان يتوجه نحو الخالق. وَمثل هَذِهِ الحالات والأوضاع التي تحدثت عنها الآيات تدعم هَذا التصوّر وَتعضده.

الآيات القرآنية أجابت على هَذِهِ الأوهام، إِذ أبانت أنَّ القرآن لم يجعل ـ أبداً ـ معرفة الخالق قائمة على هَذِهِ الأُمور، بل إِنَّ الأساس هو قراءة في نظام الكون والوجود ومعرفة الله تعالى مِن خلال هَذا الخلق. وَحتى في الآيات أعلاه نرى أنّها ذكرت أوّلا الإِيمان الإِستدلالي قبل ذكر التوحيد والإِيمان الفطري، وَفي الواقع فإنّها تعتبر هَذِهِ الحوادث بمثابة تذكير بالخالق لا مِن أجل معرفته، إِذ أن معرفته لطلاب الحق تتوضح مِن خلال أسلوب الإِستدلال وَعن طريق الفطرة.

ثالثاً: معاني الكلمات

«يزجي» مأخوذة مِن «إِزجاء» وَهي تعني تحريك شيء ما بشكل مستمر.

«حاصب» تعني الهواء الذي يحرّك معهُ الأحجار الصغيرة ثمّ تضرب الواحدة بعد الأُخرى مكاناً معيناً، وَهي مُشتقّة أصلا مِن (حصباء) التي تعني الأحجار

[61]

الصغيرة (الحصى).

«قاصف» بمعنى المحطّم، وَهي هُنا تشير إِلى العاصفة الشديدة التي تقلع كل شيء مِن مكانه.

«تبيع» بمعنى تابع، وَهي تشير هُنا إِلى الشخص الذي ينهض للمطالبة بالدم، وَثمن الدم والثأر وَيستمر في ذلك.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21330308

  • التاريخ : 28/03/2024 - 09:01

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net