00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاسراء من أول السورة ـ آية 21 من ( ص 375 ـ 439 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثامن)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[375]

 

سُورَة الإِسراء

مكيّة

وعَدَدُ آيَاتِها مائة وَاحدى عشرة آية

[377]

 

«سورة الإِسراء»

قبل الدّخول في تفسير هَذِه السورة مِن المفيد الإِنتباه إلى النقاط الآتية:

أوّلاً: أسماء السّورة ومكان النّزول:

بالرّغم من أنَّ الإِسم المشهور لهَذه السورة هو «بني إِسرائيل» إِلاّ أنَّ لها أسماء أُخرى مثل «الإِسراء» و«سبحان»(1).

ومن الواضح أنَّ ثمّة علاقة تصل بين أي اسم مِن أسماء السورة وبين محتواها ومضمونها، فهي «بني إسرائيل» لأنّ هُناك قسماً مهمّاً في بداية السورة وَنهايتها يرتبط بالحديث عن بني إِسرائيل.

وإذا قلنا أنّها سورة «الإِسراء» فإنَّ ذلك يعود إلى الآية الأُولى فيها التي تتحدث عن إِسراء (ومعراج) النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

وأمّا تسميتها بـ «سبحان» فإِنَّ ذلك يعود إِلى الكلمة الأُولى في السورة المباركة.

ولكن الرّوايات التي تتحدّث عن فضيلة هَذِهِ السورة، تطلق عليها «بني إسرائيل» فقط. ولهذا السبب فإِنَّ معظم المفسّرين يقتصرون على هَذِا الإِسم، وقد

_____________________________

1 ـ تفسير الآلوسي، ج 15، ص 2.

[378]

اختاروه دون غيره.

وبالنسبة لمكان نزول السورة، فمن المشهور أنّ جميع آياتها مكّية، وممّا يؤيد ذلك أنَّ مضمون السورة ومفاهيمها يناسب بشكل كامل مضمون ومحتوى وسياق السور المكّية; هذا بالرغم من أنَّ المفسّرين يعتقد بأنَّ هناك مقطعاً من السورة قد نزل في المدينة، ولكن المشهور ما شاعَ بين المفسّرين من مكية تمام السورة.

ثانياً: فضيلة سورة الإِسراء:

وَردت في فضيلة سورة الإِسراء وأجرها أحاديث كثيرة عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)وَعن الإِمام الصادق(عليه السلام).

فعن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: «من قرأ سورة بني إِسرائيل في كل ليلة جمعة لم يمت حتى يدرك القائم ويكون من أصحابه».

وبالنسبة لثواب قراءة سور القرآن الكريم والرّوايات التي تتحدث عن فضائلها، ينبغي أن يلاحظ أنّ ملاك الأمر لا يتعلق بمجرّد القراءة وحسب، وإِنّما ـ كما قلنا مراراً ـ أنَّ التلاوة ينبغي أن تقترن بالتفكر في معانيها والتأمُّل في مفاهيمها، وينبغي أن يعقب ذلك جميعاً العمل بها، وتحويلها إِلى قواعد يسترشدها الإِنسان المسلم في سلوكه.

خصوصاً وإِنّنا نقرأ في واحدة من الرّوايات التي تتحدث عن فضيلة هَذِهِ السورة ما نصه: «فرق قلبه عند ذكر الوالدين». أي أنّ هناك أثر ترتَّب على القراءة، وقد تمثل هنا بموجة مِن الأحاسيس النّبيلة والحبّ والمودّة للوالدين.

إِذا، ألفاظ القرآن تملك ولا شك قيمة واحتراماً بحدّ ذاتها، إِلاّ أنَّ هذه الألفاظ هي مقدمة للوعي الفكري الصحيح، كما أنَّ الوعي الفكري الإِيماني الصحيح هو مقدمة للعمل الصالح.

[379]

ثالثاً: خطوط عامّة في محتوى السورة:

لقد أشرنا إِلى مكّية السورة وفق القول المشهور بين المفسّرين، لذا فإِنَّ محتوى السورة يُوافق خصوصيات السور المكّية، من قبيل تركيزها على قضية التوحيد والمعاد، ومواجهة إِشكاليات الشرك والظلم والإِنحراف.

وبالامكان فرز المحاور المهمّة الآتية التي يدور حولها مضمون السورة:

أوّلاً: الإِشارة إِلى أدلة النّبوة الخاتمة وبراهينها، وفي مقدمتها معجزة القرآن وقضية المعراج.

ثانياً: ثمّة بحوث في السورة ترتبط بقضية المعاد وما يرتبط به من حديث عن صحيفة الأعمال، وقضية الثواب والعقاب المترتب على نتيجة الجزاء.

ثالثاً: تتحدَّث السورة في بدايتها ونهايتها عن قسم من تاريخ بني إِسرائيل المليء بالأحداث.

رابعاً: تتعرض السورة إلى حرية الإِختيار لدى الإِنسان وأنَّ الإِنسان غير مجبر في أعماله، وبالتالي فإِنّ على الإِنسان أن يتحمل مسؤولية تلك الحرية من خلال تحمله لمسؤولية أعماله سواء كانت حسنة أو سيئة.

خامساً: تبحث السورة قضية الحساب والكتاب في هذه الدنيا، لكي يعي الإِنسان قضية الحساب والكتاب على أعماله وأقواله في اليوم الآخر.

سادساً: تشير إلى الحقوق في المستويات المختلفة، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الأقرباء، وبالأخص منهم الأم والأب!

سابعاً: تتعرض السورة إِلى حرمة «الإِسراف»، و«التبذير»، و«البخل»، و«قتل الأبناء»، و«الزنا»، و«أكل مال اليتيم»، و«البخس في المكيال»، و«التكبُّر»، و«إِراقة الدماء».

ثامناً: في السورة بحوث حول التوحيد ومعرفة اللّه تعالى

تاسعاً: تواجه السورة مواقف العناد المكابرة إزاء الحق، وأنّ الذنوب تتحوَّل

[380]

إِلى حجب تمنع الإِنسان من رؤية الحق.

عاشراً: تركز السورة على أفضلية الإِنسان على سائر الموجودات.

أحد عشر: تؤكّد السورة على تأثير القرآن الكريم في معالجة الأشكال المختلفة من الأمراض الأخلاقية والإِجتماعية.

ثاني عشر: تبحث السّورة في المعجزة القرآنية وعدم تمكن الخصوم وعجزهم عن مواجهة هذه المعجزة.

ثالث عشر: تحذّر السورة المؤمنين مِن وساوس الشيطان وإِغواءاته، وتنبههم إِلى المسالك التي ينفذ من خلالها إلى شخصية المؤمن.

رابع عشر: تتعرض السورة إِلى مجموعة مختلفة من القضايا والمفاهيم والتعاليم الأخلاقية.

خامس عشر: أخيراً تتعرض السورة إِلى مقاطع من قصص الأنبياء(عليهم السلام)ليتسنى للإِنسان استكناه الدروس والعبر من هذه القصص.

في كل الأحوال تعكس سورة الإِسراء في مضمونها ومحتواها العقائدي والأخلاقى والإِجتماعي لوحة متكاملة ومتناسقة لسمو وتكامل البشر في المجالات المختلفة.

والجميل في السورة أنّها تبدأ بـ «تسبيح اللّه» ـ جلَّ جلاله ـ وتنتهي بـ «الحمد والتكبير». والتسبيح هو تنزيه عن كل عيب ونقص، والحمد علامة على تحقق صفات الفضيلة وتمثُّلها في ذاته العُليا المقدَّسة، بينما التكبير هو رمز الشرف والعظمة.

* * *

[381]

الآية

سُبْحـنَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَْقْصا الَّذِى بـرَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايـتِنآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1)

التّفسير

* معراج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم):

الآية الأُولى في سورة الإِسراء تتحدَّث عن إِسراء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي سفره ليلا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إِلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف). وقد كان هذا السفر «الإِسراء» مقدمة لمعراجه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى السماء. وقد لوحظ في هذا السفر أنّه تمَّ في زمن قياسي حيث أنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة الى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة.

السّورة المباركة تبدأ بالقول: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى).

وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإِعجازي هو (لنريه من آياتنا).

ثمّ خُتمت الآية بالقول: (إِنَّهُ هو السميع البصير). وهذه إِشارة إِلى أنَّ اللّه

[382]

تبارك وتعالى لم يختر رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يصطفه لشرف الإِسراء والمعراج إِلاّ بعد أن اختبر استعداده(صلى الله عليه وآله وسلم) لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره لهُ في الإِسراء والمعراج.

واحتمل بعض المفسّرين في قوله تعالى: (إِنَّه هو السميع البصير) أن يكون تهديداً لمنكري هذا الإِعجاز، وأنَّ اللّه تباركَ وتعالى محيط بما يقولون وبما يفعلون، وبما يمكرون!

وَبالرغم مِن أنَّ هَذه الآية تنطوي على اختصار شديد، إِلاّ أنّها تكشف عن مواصفات هذا السفر الليلي «الإِسراء» الإِعجازي مِن خلال ما ترسمهُ لهُ مِن أفق عام يمكن تفصيله بالشكل الآتي:

أوّلاً: إِنَّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إِلى وقوع السفر ليلا، لأنَّ «الإِسراء» في لغة العرب يستخدم للدلالة على السفر الليلي، فيما يُطلق على السفر النهاري كلمة «سير».

ثانياً: بالرغم مِن أنَّ كلمة «ليلا» جاءت في الآية تأكيداً لكلمة «أسرى» إِلاّ أنّها تريد أن تبيّن أن سفر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد تمَّ في ليلة واحدة فقط على الرغم مِن أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدَّر بأكثر مِن مائة فرسخ، وبشروط مواصلات ذلك الزمان، كانَ إِنجاز هذا السفر يتطلب أيّاماً بل وأسابيع، لا أن يقع في ليلة واحدة فقط!

ثالثاً: إِذا كانَ مقام العبودية هو أسمى مقام يبلغه الإِنسان في حياته، فإِنَّ الآية قد كرَّمت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بإِطلاق وصف العبودية عليه، فقالت «عبده» للدلالة على مراقي الطاعة والعبودية التي قطعها الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لله تبارك وَتعالى حتى استحق شرف «الإِسراء» حيث لم يسجد جبين رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) لشيء سوى اللّه، ولم يطع(صلى الله عليه وآله وسلم) ما عداه، وقد بذل كل وسعه، وخطا كل خطوة في سبيل مرضاته

[383]

تعالى.

رابعاً: تفيد كلمة «عبد» في الآية، أنَّ سفر الإِسراء قد وقع في اليقظة، وأنَّ رسول اللّه سافر بجسمه وروحه معاً، وأنَّ الإِسراء لم يكن سفراً روحانياً معنوياً وحسب، لأنَّ الإِسراء إِذا كانَ بالروح ـ وحسب ـ فهو لا يعدو أن يكون رؤيا في المنام، أو أي وضع شبيه بهذه الحالة، ولكن كلمة «عبد» في الآية تدلَّل على أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قد سافر بجسمه وروحه، لأنَّ «عبد» معنى يُطلق على الروح والجسد معاً.

أمّا الأشخاص الذين لا يستطيعون هضم معجزة الإِسراء والمعراج، ولم تستطع عقولهم أن تتعامل مَع هذه المعجزة كما هي، فقد عمدوا إِلى توجيهها بعنوان الإِسراء الروحي في حين أنّه لو قال شخص لآخر: إِني نقلتك إِلى المكان الفلاني فإِنَّ المفهوم الصريح للمعنى لا يمكن تأويله باحتمال أنَّ هذا الأمر قد تمَّ في حالة النوم، أو أنّه تعبير عن حالة معنوية تمتزج بأبعاد مِن الوهم والتخيُّل.

خامساً: لقد كان مُبتدأ هذا السفر (الذي كان مقدمة للمعراج كما سنثبت ذلك في محلّه) هو المسجد الحرام في مكّة المكرمة، ومنتهاه المسجد الأقصى في القدس الشريف.

بالطبع هناك كلام كثير للمفسّرين عن المكان الدقيق الذي انطلق مِنهُ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وفيما إِذا كان هذا المكان بيت أحد اقربائه (باعتبار أنّ المسجد الحرام قد يطلق احياناً ومن باب التعظيم على مكّة المكرمة بأجمعها) أو أنَّهُ انطلق مِن جوار الكعبة، ولكن ظاهر الآية بلا شك يفيد أنَّ المنطلق في سفر الإِسراء كان مِن المسجد الحرام.

سادساً: لقد كان الهدف مِن هذا السفر الإِعجازي أنْ يشاهد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)آيات العظمة الإِلهية، وقد استمرَّ سفر الإِسراء إلى المعراج صعوداً في السماوات لتحقيق هذا الغرض، وهو أن تمتلىء روح رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر بدلائل العظمة

[384]

الرّبانية، وآيات اللّه في السماوات، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخماً إِضافياً يوظَّفهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) في هداية الناس إِلى ربّ السماوات والأرض!

وبذلك فإِنَّ سفر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلة الإِسراء والمعراج لم يكن ـ كما يتصوّر البعض ذلك ـ بهدف رؤية اللّه تبارك وتعالى ظناً منهم أنّه تعالى يشغل مكاناً في السماوات!!!

وبالرغم من أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) كان عارفاً بعظمة اللّه سبحانه، وكان عارفاً أيضاً بعظمة خلقه، ولكن «متى كان السماع كالرؤية؟!».

ونقرأ في سورة (النّجم) التي تلت سورة الإِسراء وتحدثت عن المعراج قوله تعالى: (لقد رأى مِن آيات ربّه الكبرى).

سابعاً: إِنَّ تعبير الآية (باركنا حوله) تفيد بأنَّه علاوة على قدسية المسجد الأقصى، فإِنَّ أطرافه أيضاً تمتاز بالبركة والأفضلية على ما سواها. ويمكن أن يكون مُراد الآية البركة الظاهرية المتمثلة بما تهبه هذه الأرض الخصبة الخضراء مِن مزايا العمران والأنهار والزراعة.

ويمكن أن تُحمل البركة على قواعد الفهم المعنوي فتشير حين ذاك إِلى ما تمثِّله هذه الأرض في طول التأريخ، مِن كونها مركزاً للنبوات الإِلهية، وَمُنطلقاً لنور التوحيد، وأرضاً خصبة للدعوة إِلى عبودية اللّه.

ثامناً: إِنَّ تعبير (إِنَّهُ هُو السميع البصير) إِشارة إِلى أنَّ إِكرام اللّه لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)بمعجزة الإِسراء والمعراج لم يكن أمراً عفوياً عابراً، بل هو بسبب استعدادات رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله، هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها اللّه ويحيط بها.

تاسعاً: إِنَّ كلمة «سبحان» إِشارة إِلى أنَّ سفر رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في الإِسراء والمعراج دليل آخر على تنزيه اللّه تبارك وتعالى من كل عيب ونقص.

عاشراً: كلمة «مِن» في قوله تعالى: (من آياتنا) إِشارة إِلى عظمة آيات اللّه

[385]

بحيث أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ على علو مقامه واستعداده الكبير ـ لم ير مِن هذه الآيات خلال سفره الإِعجازي سوى جزء معين مِنها.

المعراج:

مِن المعروف والمشهور بين علماء الإِسلام أنَّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عند ما كان في مكّة! أسرى بهِ اللّه تبارك وتعالى بقدرته مِن المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى، وَمِن هُناك صعد بهِ إِلى السماء «المعراج» ليرى آثار العظمة الرّبانية وآيات اللّه الكبرى في فضاء السماوات، ثمّ عادَ(صلى الله عليه وآله وسلم) في نفس الليلة إِلى مكّة المكرمة.

والمعروف المشهور أيضاً أنّ سفر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في الإِسراء والمعراج قد تمَّ بجسم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وروحه معاً.

ولكن العجيب ما يحاولهُ البعض مِن توجيه معراج الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعراج الروحي والذي هو حالة شبيهة بالنوم أو «المكاشفة الروحية» ولكن هذا التوجيه ـ كما أشرنا ـ لا ينسجم اطلاقاً معَ ظواهر الآيات، بل هو مخالف لها، إِذ يدل الظاهر على أنَّ القضية تمت بشكل جسمي حسي.

في كل الأحوال تبقى هُناك مجموعة أسئلة تثار حول قضية المعراج يمكن أن نلخصها بالشكل الآتي:

1 ـ كيفية المعراج مِن وجهة نظر القرآن والتأريخ والحديث.

2 ـ آراء علماء الإِسلام شيعة وسنة حول هذه القضية.

3 ـ الهدف مِن المعراج.

4 ـ إِمكانية المعراج مِن وجهة نظر العلوم المعاصرة.

بالرغم مِن أنّ الإِجابة المُفصَّلة على هذه الأسئلة هي خارج نطاق بحثنا التّفسيري، إِلاّ أننا سنعالج هذه النقاط باختصار يُناسب ذوق القاريء الكريم. إِن

[386]

شاء اللّه:

المعراج في القرآن والحديث:

في كتاب اللّه سورتان تتحدثان عن المعراج:

السورة الأُولى هي سورة «الإِسراء» التي نحنُ الآن بصددها، وقد أشارت إِلى القسم الأوّل مِن سفر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) (أي أشارت لإِسراءه(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى) وقد أُستتبع الإِسراء بالمعراج.

السورة الثّانية التي أشارت للمعراج هي سورة «النجم» التي تحدثت عنهُ في ستِ آيات هي: (ولقد رآه نزلة أُخرى عند سدرة المُنتهى عِندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغَ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربّه الكبرى).

هذه الآيات تفيد حسب أقوال المفسّرين أنَّ الإِسراء والمعراج تمّا في حالة اليقظة، وإِنّ قوله تعالى: (ما زاغَ البصر وما طغى) هو إِثبات آخر لصحة هذا القول.

في الكتب الإِسلامية المعروفة هُناك عدد كبير جدّاً مِن الأحاديث والرّوايات التي جاءت حول قضية المعراج، حتى أنَّ الكثير من علماء الإِسلام يذهب إِلى «تواتر» حديث المعراج أو اشتهاره، وعلى سبيل المثال نعرض للنماذج الآتية:

يقول الشيخ «الطوسي» في تفسير (التبيان) ما نصَّهُ: «إِنَّهُ عرج به في تلك الليلة إِلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة، وأراه اللّه مِن آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقيناً، وكان ذلك في يقظته(صلى الله عليه وآله وسلم)دون منامه»(1).

أمّا العلاّمة «الطبرسي» في تفسيره المعروف «مجمع البيان» فيقول: «وما

_____________________________

1 ـ تفسير «التبيان»، للشيخ الطوسي، المجلد السادس، ص 446.

[387]

قالهُ بعضهم أنَّ ذلك كانَ في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان، وقد وردت روايات كثيرة في قصّة المعراج، في عروج نبيّنا(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى السماء، ورواها كثير من الصحابة ... [إِذ أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم)] صلى المغرب في المسجد الحرام ثمّ أسري به في ليلته ثمّ رجع فصلى الصبح في المسجد الحرام. وقال الأكثرون وهو الظاهر مِن مذاهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم، أنَّ اللّه تعالى صعد بجسمه إِلى السماء حياً سليماً حتى رأى ما رأى مِن ملكوت السماوات بعينه، ولم يكن ذلك في المنام»(1).

أمّا العلاّمة «المجلسي» فيقول في (بحار الأنوار) ما نصه: «أعلم أنَّ عروجه(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى بيت المقدس ثمّ إِلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف، ممّا دَلَّت عليه الآيات والأخبار المتواترة مِن طرق الخاصّة والعامّة، وإِنكار أمثال ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ إِمّا مِن قلَّة التتبع في آثار الأئمّة الطاهرين أو مِن ضعف اليقين»(2).

ثمّ يردف العلاّمة المجلسي قائلا: «لو أردت استيفاء الأخبار الواردة في هذا الباب لصار مجلداً كبيراً»(3).

ومِن علماء السنة قام منصور علي ناصف الأزهري المعاصر بجمع أحاديث المعراج في كتابه المعروف باسم «التاج».

أمّا الفخر الرازي ـ المفسّر الإِسلامي المعروف ـ فيقول بعد ذكره لسلسلة مِن الإِستدلالات على إِمكان الوقوع العقلي للمعراج، ما يلي: «مِن وُجهة نظر الحديث تعتبر أحاديث المعراج من الرّوايات المشهورة في صحاح أهل السنّة، ومفاد هذه الأحاديث إِسراء الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مِن مكّة إِلى بيت المقدس، وعروجه مِن بيت

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد الثالث، ص 395.

2 ـ بحار الأنوار، الطبعة الحديثة المجلد 18، ص 289.

3 ـ المصدر السابق، ص 291.

[388]

المقدس إِلى السماء».

أمّا الشيخ عبد العزيز بن عبداللّه بن باز وهو مِن مُتعصبي علماء الوهابية والذي يشغل الآن منصب رئيس إِدارات البحوث العلمية والإِفتاء والدعوة والإِرشاد، فيقول في كتابه «التحذير مِن البدع»: «ليس مِن شك في أنَّ الإِسراء والمعراج هي مِن العلامات الكبيرة على صدق النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعلو مقامه ومنزلته» إِلى أن يقول: «نقلت أخبار متواترة عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّ اللّه تبارك وتعالى أخذ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وفتح لهُ أبواب السماء»(1).

وَلكن ينبغي أن نلاحظ هُنا أن مِن بين الرّوايات الواردة في قضية المعراج ثمّة أحاديث ضعيفة ومجعولة لا يمكن القبول بها مطلقاً.

لذلك نرى أن المفسّر الإِسلامي الكبير، الشيخ الطبرسي عَمدَ في ذيل تفسير هذه الآية مورد البحث إِلى تقسيم الأحاديث الواردة في المعراج إِلى أربع فئات هي:

1 ـ ما يُقطع بصحته لِتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته، ومثلهُ أنَّهُ أسري بهِ على الجملة.

2 ـ ما وردَ في ذلك ممّا تجوزه العقول ولا تأباه الأُصول، فنحنُ نجوزه ثمّ نقطع على أنَّ ذلك كان في يقظته دون منامه، ومثله ما شاهده مِن آيات ربّه في السماوات.

3 ـ ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الأصول إِلاّ أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول، نحو ما روي أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) رأى قوماً في الجنّة يتنعمون فيها، وقوماً في النّار يعذبون فيها، فهو يُحمل على أنَّهُ رأى صفتهم أو أسماءهم.

4 ـ ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إِلاّ على التعسف البعيد فالأولى أن لا

_____________________________

1 ـ التخذير مِن البدع، ص 7.

[389]

نقبله، نحو ما قيل مِن أنَّهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) كلَّم اللّه سبحانه جهرة، ورآه وقعد معه على سريره... ممّا يوجب ظاهره التشبيه واللّه سبحانه وتعالى يتقدَّس عن ذلك(1).

هناك أيضاً اختلافات بين المؤرخين المسلمين حول تاريخ وقوع المعراج، إِذ يقول البعض: أنّه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين مِن شهر رجب، والبعض يقول: إِنَّهُ عرجَ به(صلى الله عليه وآله وسلم) في (17) رمضان مِن السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال: إِنَّ المعراج وَقَع في أوائل البعثة.

ولكن في كل الأحوال، فإِنَّ الإِختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل الحادثة.

مِن المفيد أيضاً أن نذكر أنَّ عقيدة المعراج لا تقتصر على المسلمين، بل هُناك ما يُشابهها في الأديان الأخرى، بل إِنا نرى في المسيحية أكثر ممّا قيل في معراج النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِذ يقول أُولئك كما في الباب السّادس مِن إِنجيل «مرقس» والباب (24) مِن إِنجيل «لوقا» والباب (21) مِن إِنجيل (يوحنّا) أن عيسى بعد أن صُلب وقتل ودفن نهض مِن مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوماً قبل أن يعرج إِلى السماء ليبقى هناك في عروج دائم! ونستفيد مِن مؤدّى بعض الرّوايات أنّ بعض الإنبياء السابقين عُرِجَ بهم إِلى السماء أيضاً.

هل كان المعراج جسدياً أم روحياً؟

إِن ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإِسراء، وكذلك سورة النجم (كما فصلنا أعلاه) تدلل على وقوع المعراج في اليقظة، ويؤكّد هذا الأمر كبار علماء الإِسلام من الشيعة والسنة.

وتشهد التواريخ الإِسلامية أيضاً على صدق هذا الموضوع، ونقرأ في التأريخ

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، المجلد الثالث، ص 395.

[390]

أن المشركين أنكروا بشدّة قضية المعراج عندما تحدث بها الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخذوها عليه ذريعة للإِستهزاء به، ممّا يدل بوضوح على أن الرّسول لم يدّع الرؤية أو المكاشفة الروحية أبداً، وإِلاّ لما استتبع القضية كل هذا الضجيج.

أمّا ما ورد عن الحسن البصري أنّه (كان في المنام رؤيا رآها) أو عن عائشة أنّه: (واللّه ما فُقِدَ جسد رسول اللّه ولكن عرج بروحه)، فيبدو أنّ لذلك منظور سياسي، لإِخماد الضجّة التي أثيرت حول قضية المعراج.

هدف المعراج:

اتّضح لنا من خلال البحوث الماضية، أنّ هدف المعراج لم يكن تجوالا للرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في السماوات للقاء اللّه كما يعتقد السذج، وكما نقل بعض العلماء الغربيين ـ ومع الأسف ـ لجهلهم أو لمحاولتهم تحريف الإِسلام أمام الآخرين، ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد، ص 120)، (بلغ محمد في سفر معراجه إِلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم اللّه، ويفهم أنّ اللّه منهمك في تدوين حساب البشر! ومع أنّه كان يسمع صوت قلم اللّه إِلاّ أنّه لم يكن يراه! لأنّ أحداً لا يستطيع رؤية اللّه وإِن كان رسولا).

وهذا يُظهر أن القلم كان من النوع الخشبي! الذي يهتز ويولد أصواتاً عند حركته على الورق!! وأمثال هذه الخرافات والأوهام.

كلا. فالهدف كان مشاهدة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لأسرار العظمة الإِليهة في أرجاء عالم الوجود، لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته، وتتغذى بها روحه الكريمة وتحصل على نظرة وإِدراك جديدين لهداية البشرية وقيادتها.

ويتّضح هذا الهدف بشكل صريح في الآية الأُولى من سورة الإِسراء، والآية (18) من سورة النجم.

[391]

وهناك رواية أيضاً منقولة عن الإِمام الصادق(عليه السلام) في جوابه على سبب المعراج. أنّه قال(عليه السلام): «إِن اللّه لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزَّ وجلّ أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته، ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه»(1).

المعراج والعلوم العصرية:

كان بعض الفلاسفة القدماء يعتقد بنظرية «الأفلاك البطليموسية التسعة» والتي تكون على شكل طبقات البصل في إِحاطتها بالأرض، لذلك فقد أُنكر المعراج بمزاعم علمية تقوم على أساس الإِيمان بنظرية الهيئة البطليموسية والتي بموجبها يُلزَم خرق هذه الأفلاك ومِن ثمّ التئامها ليكون المعراج ممكناً(2).

ولكن مع انهيار قواعد نظرية الهيئة البطليموسية أصبحت شبهة خرق والتئام الأفلاك في خبر كان، وضمتها يد النسيان، ولكن التطوّر المعاصر في علم الأفلاك أدّى إلى إِثارة مجموعة مِن الشبهات العلمية التي تقف دون إِمكانية المعراج علمياً، وهذه الشبهات يمكن تلخيصها كما يلي:

أوّلاً: إِنّ أوّل ما تواجه الذي يريد أن يجتاز المحيط الفضائي للأرض إِلى عمق الفضاء هو وجوب الإِنفلات مِن قوة الجاذبية الأرضية، ويحتاج الإِنسان للتخلّص مِن الجاذبية إِلى وسائل إِستثنائية تكون معدَّل سرعتها على الأقل (40) ألف كيلومتر في الساعة.

ثانياً: المانع الآخر يتمثل في خلو الفضاء الخارجي مِن الهواء، الذي هو القوام في حياة الإِنسان.

ثالثاً: المانع الثّالث يتمثل بالحرارة الشديدة الحارقة (للشمس) والبرودة

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلد2، ص 200.

2 ـ بعض القدماء يعتقد بعدم إِمكان خرق هذه الأفلاك ثمّ التئامها.

[392]

القاتلة، وذلك بحسب موقع الإِنسان في الفضاء مِن الشمس.

رابعاً: هناك خطر الإِشعاعات الفضائية القاتلة كالأشعة الكونية والأشعة ما وراء البنفسجية وأشعة إِكس، إِذ مِن المعروف أنّ الجسم يحتاج إِلى كميات ضئيلة مِن هذه الإِشعاعات، وهي بهذا الحجم لا تشكّل ضرراً على جسم الإِنسان ووجود طبقة الغلاف الجوي يمنع من تسربها بكثرة إِلى الأرض.، ولكن خارج محيط الغلاف الجوّي تكثُر هذه الإِشعاعات إِلى درجة تكون قاتلة.

خامساً: هُناك مُشكلة فقدان الوزن التي يتعرض لها الإِنسان في الفضاء الخارجي، فمن الممكن للإِنسان أن يتعوَّد تدريجياً على الحياة في أجواء انعدام الوزن، إِلاّ أنَّ انتقاله مرّة واحدة إِلى الفضاء الخارجي ـ كما في المعراج ـ هو أمرٌ صعب للغاية، بل غير ممكن.

سادساً: المشكلة الأخيرة هي مُشكلة الزمان، حيثُ تؤكد علوم اليوم على أنَّهُ ليست هُناك وسيلة تسير أسرع مِن سرعة الضوء، والذي يريد أن يجول في سماوات الفضاء الخارجي يحتاج إِلى سرعة تكون أسرع مِن سرعة الضوء!

في مُواجهةِ هذه الأسئلة:

أوّلاً: في عصرنا الحاضر، وبعد أن أصبحت الرحلات الفضائية بالإِستفادة مِن معطيات العلوم أمراً عادياً، فإِنَّ خمساً مِن المشاكل الست الآنفة تنتفي، وتبقى ـ فقط ـ مشكلة الزمن. وهذه المشكلة تثار فقط عند الحديث عن المناطق الفضائية البعيدة جداً.

ثانياً: إِنَّ المعراج لم يكن حدثاً عادياً، بل أمرٌ إِعجازي خارق للعادة ثمّ بالقدرة الإِلهية. وكذلك الحال في كافة معجزات الأنبياء وهذا يعني عدم استحالة المعجزة عقلا، أمّا الأُمور الأُخرى فتتم بالإِستناد إِلى القدرات الإِلهية.

وإِذا كانَ الإِنسان قد استطاع باستثمار لمعطيات العلوم الحديثة أن يوفَّر

[393]

حلولا للمشكلات الآنفة الذكر، مثل مشكلة الجاذبية والأشعة وانعدام الوزن وما إِلى ذلك، حتى أصبح بمستطاعه السفر إِلى الفضاء الخارجي .. فألا يمكن لله ـ خالق الكون، صاحب القدرات المطلقة ـ أن يوفَّر وسيلة تتجاوز المشكلات المذكورة؟!

إِنّنا على يقين من أنَّ اللّه تبارك وتعالى وضع في مُتناول رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) مركباً مَناسباً صانهُ فيه عن كل المخاطر والأضرار في معراجه نحو السماوات، ولكن ما اسم هذا المركب هل هو «البُراق» أو «رفرف»؟ وعلى أي شكل وهيئة كان؟ كل هذه أُمور غامضة بالنسبة لنا، ولكنّها لا تتعارض مع يقيننا بما تمَّ، وإِذا أردنا أن نتجاوز كل هذه الأُمور فإِنَّ مشكلة السرعة التي بقيت ـ لوحدها ـ تحتاج إِلى حل، فإِنَّ آخر معطيات العلم المعاصر بدأت تتجاوز هذه المشكلة بعد أن وجدت لها حلولا مناسبة بالرغم ممّا يُؤكّده «إِنشتاين» في نظريته من أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة معروفة اليوم.

إِنّ علماء اليوم يُؤكدون أنَّ الأمواج الجاذبة لا تحتاج إِلى الزمن، وهي تنتقل في آن واحد من طرف من العالم إِلى الطرف الآخر منه وهناك احتمال مطروح بالنسبة للحركة المرتبطة بتوسّع الكون (مِن المعروف أنَّ الكون في حالة اتساع وأنّ النجوم والمنظومات السماوية تبتعد عن بعضها البعض بحركة سريعة) إِذ يلاحظ أنَّ الأفلاك والنجوم والمنظومات الفضائية تبتعد عن بعضها البعض وعن مركز الكون إِلى أطرافه، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء!

إِذن، بكلام مُختصر نقول: إِنَّ المشكلات الآنفة ليس فيها ما يحول عقلا دون وقوع المعراج، ودون التصديق به، والمعراج بذلك لا يعتبر مِن المحالات العقلية، بل بالإِمكان تذليل المشكلات المثارة حوله بتوظيف الوسائل والقدرات المناسبة.

وبذلك فالمعراج لا يعتبر أمراً غير ممكن لا مِن وجهة الأدلة العقلية، ولا مِن وجهة معطيات وموازين العلوم المعاصرة. وهو بالإِضافة إِلى ذلك أمرٌ إِعجازي

[394]

خارق للعادة. لذلك، إِذا قام الدليل النقلي السليم عليه فينبغي قبوله والإِيمان به(1).

وأخيراً .. هناك إِشارت أُخرى حول المعراج سنقف عليها أثناء الحديث عن سورة النجم إِن شاء اللّه.

* * *

_____________________________

1 ـ للمزيد مِن التفاصيل يمكن مُراجعة كتاب: «الكل يريد أن يعرف» والذي يبحث في قضية المعراج وشق القمر بالإِضافة إِلى قضايا أُخرى.

[395]

الآيات

وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتـبَ وَجَعَلْنـهُ هُدىً لِّبَنِى إِسْرآءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلا(2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً(3) وَقَضَيْنَآ إِلى بَنِى إِسْرَآءِيلَ فِى الْكِتـبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى  الأَْرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً(4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَـهُما بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُولى بَأس شَدِيد فَجَاسُوا خِلـلَ الدِّيَارَ وَكانَ وَعْداً مَّفْعُولا(5) ثمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنـكُم بِأَمْول وَبَنِينَ وَجَعَلْنـكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً(6) إِنْ أَحْسَنتُم أَحْسَنتُمْ لأَِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الأَْخِرَةِ لِيَسُؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيدَخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مرّة وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً(7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكـفِرِينَ حَصِيراً(8)

التّفسير

بعد أن أشارت الآية الأُولى في السورة إِلى معجزة إسراء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا مِن

[396]

المسجد الحرام إِلى المسجد الأقصى، كشفت آيات السورة الأُخرى، عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث، وأبانت إِستنكارهم لها، وعنادهم إِزاء الحق، في هذا الإِتجاه انعطفت الآية الأُولى ـ مِن الآيات مورد البحث ـ على قوم موسى، ليقول لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): إِنّ تأريخ النبوات واحد، وإِنَّ موقف المعاندين واحد أيضاً، وأنَّهُ ليس مِن الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك، وبين يديك الآن تأريخ بني إِسرائيل في موقفهم مِن موسى(عليه السلام).

تقول الآية أوّلاً: (وآتينا موسى الكتاب).

وصفة هذا الكتاب أنَّه: (وَجعلناه هُدىً لبني إِسرائيل) والكتاب الذي تعنيه الآية هنا هو «التوراة» الذي نزل على موسى(عليه السلام) هدىً لبني إِسرائيل.

ثمّ تشير الآية إلى الهدف مِن بعثة الأنبياء بما فيهم موسى(عليه السلام) فتقول: (ألاّتتخذوا مِن دوني وكيلا)(1).

إِنَّ التوحيد في العمل هو واحدٌ مِن معالم أصل التوحيد، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول: لا تتكىء على أحد سوى اللّه، وإِنَّ أي اعتماد على غيره دلالة على ضعف الإِيمان بأصل التوحيد. إِنَّ أسمى معاني التجلّي في هداية الكتب السماوية، هو إِشتعال نور التوحيد في القلوب والإِنقطاع عن الجميع والإِتصال باللّه تعالى.

ومن أجل أن تحرِّك الآية التالية عواطف بني إِسرائيل وتحفّزهم لشكر النعم الإِلهية عليهم، خصوصاً نعمة نزول الكتاب السماوي، فإِنّها تضع لهم نموذجاً للعبد الشكور فتقول: (ذرية مَن حملنا مع نوح)(2) ولا تنسوا: (إِنَّهُ كان عبداً شكوراً).

_____________________________

1 ـ من وجهة التركيب النحوي يقول بعض المفسّرين: إِنّ تقدير جملة (ألاّ تتخذوا من دوني وكيلا) هو: لئلا تتخذوا.. وبعضهم قال: «أن» زائدة، وجملة «قلنا لهم» تقديرها: «وقلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا».

2 ـ إِنّ جملة: (ذرية مَن حملنا مَع نوح) جملة ندائية وفي التقدير تكون: يا ذرية مَن حملنا مع نوح. أمّا ما احتمله البعض من أنّ «ذرية» هي بدل عن «وكيلا» أو مفعول ثان لـ «تتخذوا» فهو بعيد، ولا يتسق مع جملة (إنَّهُ كان عبداً شكوراً).

[397]

والآية تخاطب بني إِسرائيل بأنّهم أولاد مَن كانَ مع نوح، وعليهم أن يقتدوا ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم اللّه.

«شكور» صيغة مبالغة بمعنى «كثير الشكر»، وأمّا كون بني إِسرائيل ذرية مَن كانَ مع نوح، فإِنّ ذلك قد يعود إِلى أنَّ مَن في الأرض جميعاً، بعد طوفان نوح، ومنهم بنو إِسرائيل، هم كُلّهم مِن سلالة الأبناء الثلاثة لنوح، أي «سام» و«حام» و«يافث» كما ورد في كتب التاريخ، وممّا لا شك فيه أنَّ كل أنبياء اللّه شكورون، ولكنَّ الأحاديث تعطي ميزة خاصّة لنوح الذي كان دائم الشكر على كل نعمة ففي كل شربة ماء، أو وجبة غذاء، أو وصول نعمة أُخرى له فإنّه يذكر اللّه فوراً ويشكره على نعمائه.

وفي حديث عن الإِمام الباقر والصادق(عليهما السلام) نقرأ قولهما إِنَّ نوحاً كان يقرأ هذا الدعاء في كل صباح ومساء، «اللّهم إِنّي أشهدك أنَّ ما أصبح أو أمس بي مِن نعمة في دين أو دنيا فمنك، وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى، وبعد الرضا».

ثمّ أضاف الإِمام: «هكذا كان شكر نوح»(1).

بعد هذه الإِشارة تدخل الآيات إِلى تاريخ بني إِسرائيل المليء بالأحداث، فتقول: (وقضينا إِلى بني إِسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلُن علواً كبيراً).

كلمة «قضاء» لها عدّة معان، إِلاّ أنّها استخدمت هنا بمعنى «إِعلام» أمّا المقصود مِن «الأرض» في الآية ـ بقرينة الآيات الأُخرى هي ارض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

الآية التي تليها تفصل ما أجملته مِن إِشارة إِلى الإِفسادين الكبيرين لبني

_____________________________

1 ـ يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

[398]

إِسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنّها عقوبة الهية فتقول: (فإِذا جاءَ وعدُ أولاهما) وارتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد).

وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم: (فجاسوا خلال الديار).

وهذا الأمر لا مناصَّ منه: (وكان وعداً مفعولا).

ثمّ تشير بعد ذلك الى أنّ الإلطاف الإلهية ستعود لتشملكم، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم، فتقول: (ثمّ رددنا لكم الكرة عليكم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً)(1).

وهذه المنّة واللطف الإِلهي بكم على أمل أن تعودوا إِلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنّه: (إِن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإِن أسأتم فلها).

إِنّ الآية تعبِّر عن سُنَّة ثابتة، إذ أن محصلة ما يعمله الإِنسان مِن سوء أو خير تعود إِليه نفسه، فالإنسان عندما يلحق أذىً أو سوءاً بالآخرين، فهو في الواقع يلحقه بنفسه، وإِذا عمل للآخرين، فإِنّما فعل الخير لنفسه، أمّا بنو إِسرائيل، فهم مع الأسف لم توقظهم العقوبة الأُولى، ولا نبهتهم عودة النعم الإلهية مجدداً، بل تحركوا باتجاه الإِفساد الثّاني في الأرض وسلكوا طريق الظلم والجور والغرور والتكبّر.

تقول الآية في وصف المشهد الثّاني أنّه حين يحين الوعد الالهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء الى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم: (فإِذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم).

بل ويأخذون مِنكم حتى بيت المقدس: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوَّل

_____________________________

1 ـ «نفير» اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال، وقال بعض: هي من «نفر». وَ«نفر» في الأصل على وزن «عفو» تعني الإِرتحال والإِقبال على شيء. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شيء بأنّها في حالة «نفير».

[399]

مرَّة).

وهم لا يكتفون بذلك، بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمرّونها عن آخرها: (وليتِّبروا ما علوا تتبيراً) وفي هذه الحالة فإِنّ أبواب التوبة الإِلهية مفتوحة: (عسى ربّكم أن يرحمكم).

(وإِنّ عدتم عدنا) أي إِن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة، وإِن عدتم للإِفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإِذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم: (وجعلنا جهنَّم للكافرين حصيراً)(1).

* * *

ملاحظات

الأُولى: الإِفسادان التأريخيان لبني إِسرائيل:

تحدثت الآيات أعلاه عن فسادَين إجتماعيين كبيرين لبني إِسرائيل، يقود كل مِنهما إِلى الطغيان والعلو، وقد لاحظنا أنَّ اللّه سلَّط على بني إِسرائيل عقب كل فساد رجال أشدّاء شُجعاناً يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدَّه اللّه لهم.

وبالرغم من اتساع تاريخ بني إِسرائيل، وتنوّع الأحداث والمواقف فيه، إِلاّ أنَّ المفسّرين يختلفون في كل المرّات التي يتحدّث القرآن فيها عن حدث أو موقف مِن تاريخ بني إِسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرّض فيما يلي للنماذج الآتية:

أوّلاً: يستفاد من تاريخ بني إِسرائيل بأنَّ أول من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضارباً فيه لسبعين عاماً، إِلى

_____________________________

1 ـ «حصير» مُشتفة مِن «حصر» بمعنى الحبس، وكل شيء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير». ويقال للحصير العادية حصيراً لأنَّ خيوطها وموادها نسجت إِلى بعضها البعض.

[400]

أن نهض اليهود بعد ذلك لإِعماره وبنائه. أمّا الهجوم الثّاني الذي تعرّض له، فقد كانَ مِن قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إِسرائيل. وقد تمَّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إِليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و«أسييانوس» لأنَّ الأحداث الأُخرى في تاريخ بني إِسرائيل لم تفن جمعهم، ولم تذهب بملكهم وإِستقلالهم بالمرّة، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إِلى زمن «كورش» حيث اجتمع شملهم مجدداً وحررهم مِن أسر بابل وأعادهم إِلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس، إِلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم، وذهبت قوتهم وشوكتهم(1).

لقد استمر بنوإِسرائيل في مرحلة الشتات والتشرُّد إِلى أن أعانتهم القوى الدولية الإِستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم مِن جديد.

ثانياً: أمّا «الطبري» فينقل في تفسيره عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) أنَّ المراد في الفساد الأوّل هو قتل بني إِسرائيل لزكريا(عليه السلام) ومجموعة أُخرى مِن الأنبياء(عليهم السلام)، وأنَّ المقصود مِن الوعد الأول، هو الإِنتقام الإِلهي مِن بني إِسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأمّا المراد مِن الفساد الثّاني فهو الفوضى والإِضطراب الذي قامَ به «بنوإِسرائيل» بعد تحريرهم مِن بابلَ بمساعدة أحد ملوك فارس، وما قاموا به من فساد. أمّا الوعد الثّاني، فهو هجوم «أنطياخوس» ملك الروم عليهم.

وبالرغم مِن انطباق بعض جوانب هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل، إِلاّ أنَّ راوي الحديث الذي يعتمد عليه «الطبري» غير ثقة، بالإِضافة إِلى عدم تطابق تاريخ «زكريا» و«يحيى» مع تاريخ «نبوخذ نصر» و«أسييانوس أو أنطياخوس» إِذا يلاحظ أن «نبوخذ نصر» عاصر «أرميا» أو «دانيال» النّبي كما يرى بعض

_____________________________

1 ـ يراجع تفسير الميزان، ج 13، ص 44 فما فوق.

[401]

المؤرخين، وقيامه قد تمَّ في حدود (600) سنة قبل زمان يحيى(عليه السلام)، لذلك كيف يقال: إِنَّ قيام نبوخذ نصر كان للإِنتقام مِن دمِ يحيى(عليه السلام)؟!

ثالثاً: وقال آخرون: إِنَّ بيت المقدس شيِّد في زمن داود وسليمان(عليهما السلام)، وقد هدمه «نبوخذ نصر» وهذا هو المقصود من إِشارة القرآن إِلى الوعد الأوّل. أمّا المرّة الثّانية، فقد بُني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك «طيطوس» الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن «طيطوس» يطابق «طرطوز» الذي ذكر في التّفسير السابق) وقد بقي على خرابه إِلى عصر الخليفة الثّاني عندما فتح المسلمون فلسطين(1). والملاحظ في هذا التّفسير أنّه لا يفترق كثيراً عمّا ورد في مضمون التفسرَيْن أعلاه.

رابعاً: في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأُخرى التي تتشابه في مضمون آرائها مع هذه التفاسير، نلاحظ أنَّ هناك تفسيراً آخر يورده «سيد قطب» في تفسيره «في ظلال القرآن» يختلف فيه مع كل ما ورد، حيث يرى أن الحادثتين لم تقعا في الماضي، بل تتعلقان في المستقبل، فيقول: «فأمّا إِذا عاد بنو إِسرائيل إِلى الإِفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية (وإِن عدتم عدنا) ثمّ يقول: «ولقد عادوا إِلى الإِفساد فسلَّط اللّه عليهم المسلمين فأخرجوهم مِن الجزيرة كُلّها. ثمّ عادوا إِلى الإِفساد وسلَّط اللّه عليهم عباداً آخرين، حتى كانَ العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر» ولقد عادوا اليوم إِلى الإِفساد في صورة «إِسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطنَّ اللّه عليهم مَن يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد اللّه القاطع، وفاقاً لسنته التي لا تتخلف ... وإِن غداً لناظره قريب!)(2).

ولكن الإِعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التّفسير، هو أنَّ أيّاً مِنهما لم

_____________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج 7، ص 209.

2 ـ سيد قطب، في ظلال القرآن،ج 4، ص 2214 الطبعة العاشرة.

[402]

ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إِلى بيت المقدس حتى يخرِّبوه؟ خامساً: الإِحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإِفسادَيْن الكبيريْن لبني إِسرائيل، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثّانية، حيثُ يقول هؤلاء: إِن قيام الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم «إِسرائيل» في قلب العالم الإِسلامي مثَّل الإِفساد والطغيان والعلو الأوّل لهم، وبذلك فإِنَّ وعي البلاد الإِسلامية لخطر هؤلاء الشعوب الإِسلامية في ذلك الوقت إِلى التوحدّ و تطهير بيت المقدس وقسماً آخر من مدن وقرى فلسطين، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل.

أمّا المقصود مِن الإِفساد الثّاني حسب هذا التّفسير، فهو احتلال اليهود مجدداً للمسجد الأقصى بعد أن حشدت «إِسرائيل» قواها واستعانت بالقوى الدولية الإِستعمارية في شن هجومها الغادر (عام 1967).

وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثّاني على بني إِسرائيل، ليخلّصوا المسجد الأقصى مِن دَنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإِسلامية. وهذا ما وُعِدَ بهِ المسلمون مِن فتح ونصر آت بلا ريب(1).

بالطبع هُناك تفاسير وآراء أُخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها، ولكن ينبغي أن يلاحظ أنَّ في حال اعتماد التفسّريْن الرّابع والخامس، ينبغي أن نحمل الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة العربية، وذلك إِذا جاءَ الفعل بعد حرف من حروف الشرط.

ولكن يُستفاد مِن ظاهر قوله تعالى: (ثمّ رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً) إِنَّ الإِفساد الأوّل على الأقل ـ والإِنتقام الإِلهي مِن بني إِسرائيل كان قد وقع في الماضي.

_____________________________

1 ـ يلاحظ هذا الرأي العدد (12) السنة (12) مِن مجلة «عقيدة ا لإِسلام» وقد كتب البحث في عددين إِبراهيم الأنصاري.

[403]

وإِذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك، فينبغي أن نلتفت إِلى أنّ قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) تفيد في أنَّ الرجال الذين سيؤدبون «بني إِسرائيل» على فسادهم وعلوّهم وطغيانهم، هم رجال مؤمنون، شجعان حتى استحقوا لقب العبودية. وممّا يؤكّد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير، هو كلمة «وبعثنا» و«لنا».

ولكنّا مع ذلك، لا نستطيع الإِدّعاء أن كلمة «بعث» تستخدم فقط في مورد خطاب الأنبياء والمؤمنين، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضاً، ففي قصّة هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم: (فبعث اللّه غراباً يبحث في الأرض)(1).

وكذلك الحال في كلمة «عباد» أو «عبد» فهي تطلق في بعض الأحيان على الأفراد غير الصالحين مِن المذنبين وغيرهم، كما في الآية (58) مِن الفرقان في قوله تعالى: (وكفى به بذنوب عباده خبيراً) والآية (27) مِن سورة الشورى، حيث يقول تعالى: (ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض) وفي خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (118) مِن سورة المائدة قوله تعالى: (إِن تعذبهم فإِنهم عبادك).

ولكنّا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ـ وإِن لم تَقُم قرينة خلاف ذلك ـ أنَّ العباد الذين بعثهم اللّه للإِنتقام مِن بني إِسرائيل هم مِن العباد المؤمنين الصالحين.

وخلاصة البحث: إِنَّ هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إِسرائيل، وكيف أنَّ اللّه تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا، وبقي عليهم جزاء الآخرة وحسابها، والدرس الذي نستفيدهُ والإِنسانية جمعاء هو أنَّ اللّه تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ مِن دروس التاريخ وأحوال الأُمم الماضية.

_____________________________

1 ـ المائدة، 31.

[404]

الثّانية: تحمّل الإِنسان لتبعات أعماله:

الآيات الآنفة تشير إِلى قاعدة مهمّة، وهي أنَّ أعمال الإِنسان سواء كانت حسنة أم قبيحة فإِنَّ مردودها يعود إِليه. صحيح أنَّ الآيات تتحدَّث عن بني إِسرائيل، ولكن القاعدة مِن الشمول والعموم بحيث تشمل كافة البشر على مر التاريخ(1).

إِنَّ الحياة والتاريخ يعكسان لنا الكثير من تلك النماذج التي أسست أعمالا وسنناً سيئة، وسنّت قوانين ظالمة ومُبتدعة، ولكنّها في النهاية، كانت ضحية ما سنَّت وابتدعت وأسست، وكانت نهايتها ونهاية مَن يلوذ بها الوقوع في نفس الحفرة التي حفرتها للآخرين، وبذلك نالت جزاءها بما اقترفت أيديها. إِنَّ خصوصية هذا الأمر تتّضح أكثر بالنسبة لأعمال الفساد وعلى الأخص العلو والإِستكبار، فإِنّ الإِنسان لابدَّ وأن يذوق في هذه الدنيا جزاء ما اقترف مِن أسباب العلو والإِستكبار والإِفساد.

ولهذا السبب بالذات رأينا أنّ بني إِسرائيل لاقوا جزاءهم السريع في الدنيا، من دون أن يعني ذلك انتفاء العقاب الأخروي إِذ عاشوا طويلا واقع الشتات والتشرُّدْ، وذاقوا الكثير من السوء والمصائب. إِنّنا اليوم نعيش مظاهر من فساد بني إِسرائيل وعلوهم وطغيانهم، فهم قد اغتصبوا أرض الآخرين وطردوهم مِنها، وأذاقوا أهلها ألوان القتل والبطش والإِرهاب، وروعوا الأبناء وسبوا النساء، بل لم يحترموا حتى بيوت اللّه في بيت المقدس!

إِنَّ هؤلاء يتعاملون مع العالم بدون رعاية أي شكل مِن أشكال القانون أو

_____________________________

1 ـ نقرأ في الآية: (إِن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإِن أسأتم فلها) بينما كان ينبغي أن يكون التعبير «عليها» لأنَّ الإِساءة لا تكون في فائدة ونفع الإِنسان بل هي في ضرره! إِنَّ السبب في ذلك يعود إِلى ضرورات التنسيق بين قسمي الجملة، أو قد يكون ذلك بسبب أنّ اللام هنا استخدمت بمعنى التخصيص لا بمعنى النفع والضرر. بعض المفسّرين احتمل أيضاً أن تكون اللام بمعنى «إِلى».

[405]

الضوابط والمعايير الدولية، فإِذا قامَ ـ مثلا ـ فدائي فلسطيني بإِطلاق رصاصة عليهم، فإِنّهم بدلا عنها يقومون بقصف وتخريب المخيمات السكنية للاجئين، ومدارس الأطفال، والمستشفيات. وهم في مقابل خسارتهم لقتيل واحد، يقومون بحصد المئات من الأنفس البريئة ويفجّرون عدداً كبيراً مِن البيوت.

إِنَّ هؤلاء يتجاهرون بعدم التزامهم، بل بعدائهم لكل قرارات المنظمات الدولية، والكل يعرف أنّ جرأتهم في مُواجهة العالم إِنّما كانت وما زالت مستمدة مِن دعم القوى الإِستعمارية الدولية لهم ـ وفي الطليعة منها أمريكا ـ من دون أن يعني دعم هذه القوى لهم تبريراً لما يمتازون هم بهِ مِن خصائص إِنحرافية ذاتية في الفكر والأخلاق، واستعداد قَبْلي للعلو والطغيان والفساد.

إِنّهم بعلوّهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله: (عباداً لنا أولي بأس شديد) حيث ينالون جزاءهم، وهو وعد الهي قاطع في قرآنه الكريم.

الثّالثة: تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإِسلامي:

في روايات عدّة نرى انطباق الآيات أعلاه على بعض أحداث التاريخ الإِسلامي حيث يشير بعضها إِلى أنَّ الفساد الأوّل والثّاني هو قتل الإِمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، والعدوان على جنازة الإِمام الحسن(عليه السلام). وبعضها تشير إِلى أنَّ المقصود مِن قوله تعالى: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد) هو الإِشارة إِلى الإِمام المهدي(عليه السلام) وأصحابه.

وفي روايات أُخرى نقرأ أنَّ المقصود، هو نهضة مجموعة مِن المسلمين قبل ظهور الإِمام المهدي(عليه السلام)(1).

_____________________________

1 ـ يلاحظ نور الثقلين، ج 3، ص 138.

[406]

مَن الواضح أنَّ هذه الأحاديث لا تفسّر الآيات تفسيراً لفظياً، لأنَّ الآيات تتحدث بصراحة عن بني إِسرائيل، ولكنّها تتحدث عن التشابه بين نهج هؤلاء (بني إِسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإِسلامي. وهكذا ننتهي إِلى نتيجة مؤدّاها أنّ الآيات وإِن تحدّثت عن خصوصيات بني إِسرائيل، إِلاّ أنّها تتسع في مفهومها لترتفع إِلى مستوى القاعدة الكلية، والسنَّة المستمرّة في تأريخ البشرية بما يطويه من حياة شعوب وأُمم.

* * *

[407]

الآيات

إِنَّ هـذَا الْقُرءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّـلِحـتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً(9) وَأَنَّ الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِالأَْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(10) وَيَدْعُ الإِْنَسـنُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِْنَسـنُ عَجُولا(11) وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنآ ءَايَةَ الَّيلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَّبِّكُم وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْء فَصَّلْنـهُ تَفْصِيلا(12)

التّفسير

أقصر الطرق للهداية والسعادة:

الآيات السابقة تحدثَّت عن بني إِسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلفوا عن برنامج الهداية الإِلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا، والباقي مدخرٌ ليوم القيامة.

وفي هذا المقطع مِن الآيات، إِنتقل الحديث إِلى القرآن الكريم، الكتاب

[408]

السماوي للمسلمين، وآخر حلقة في الكتب السماوية، فقال تعالى أوّلاً: (إِنّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم).

«أقوم» صيغة تفضيل مُشتقة من «قيام» حيث يكون الإِنسان فيها على أحسن حالاته حينما يريد أن يشرع بعمل ما، لذلك فإِنَّ «القيام» كناية عن أفضل الصيغ التي يُنجز فيها الإِنسان الأعمال التي يُباشرها، أو يستعد لِمَباشرتها.

«الإِستقامة» مُشتقّة أيضاً مِن مادة «قيِّم» وهي بمعنى الإِعتدال والإِستواء والثبات.

وبما أنّ «أقوم» هي «أفعل تفضيل» بمعنى الأكثر ثباتاً واستقامةً واعتدالا، فإِنَّ معنى الآية أعلاه، هو أنَّ القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الإِستقامة والثبات والهداية وبهذا فإنّ الطريق القويم.

من وجهة نظر العقائد والأفكار، يتمثل بالعقائد الواضحة، القابلة للهضم والإِدراك والفهم، والتي تكون أساساً للعمل; وتعبئة الطاقات الإِنسانية باتجاه الإِعمار والبناء. العقيدة الأقوم هي العقيدة الخالية مِن الخرافات والأوهام، وَهي التي تُوائم بين الإِنسان وعالم الوجود والطبيعة مِن حوله.

العقيدة الأقوم مِن هذه الزاوية، هي التي توافق بين الإِعتقاد والعمل، والظاهر والباطن، الفكر والمنهج، وتدفع الإِنسان والجميع نحو اللّه.

أمّا الأقوم مِن وجهة نظر القوانين الإِجتماعية والإِقتصادية والعسكرية والسياسية، التي تسود المجتمع; فهي تلك التي تربّي في المجتمع الإِنساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل والإِتساق.

والأقوم مِن وجهة النظر العبادية والأخلاقية، هو كل ما يجعل الإِنسان في المركز الوسط بين الإِفراط والتفريط، ويجعلهُ في موقع الإِعتدال بين الإِسراف والبخل، بين الإِستضعاف والإِستكبار.

وأخيراً فإِنَّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة، هو كل ما

[409]

يدفعها إِلى إِقامة العدل، والدعوة إِلى إِشاعة الإِنصاف، ومواجهة الظلم والظالمين.

نعم، إِنَّ القرآن هو الطريق الأقوم في كل تلك المستويات الآنفة الذكر، وهو الأسلوب الأقوم في كل جوانب الحياة والوجود، وعلى كافة القضايا والصُعد.

ولكنّا هنا نقف مع نقطة حساسة، وهي إِذا كانَ القرآن هو الأقوم; أي «أفعل تفضيل» فمعنى ذلك تفوقه في ميزات العدل وصفات الهداية والإِستقامة ليس على سائر المذاهب والعقائد الوضعية وحسب، وإِنّما على سائر الأديان والشرائع السابقة عليه أيضاً.

وإِزاء المفهوم الذي تطرحهُ هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إِلى إِثارة الحديث على النحو الآتي.

أوّلاً: إِذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى، فلا شك أنَّ كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها، ولكن وفق قانون التكامل الذي وِصلت البشرية بُمقتضاه إِلى أقصى حالات رشدها وتكاملها، في زمن الرسالة الإِسلامية الخاتمة والنّبوة الخاتمة، فإِنَّ القرآن الكريم يعبِّر تبعاً لذلك عن أرقى وأقوم مضامين الهداية والإِستقامة الإِعتدال.

ثانياً: أمّا إِذا كانَ طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية، فمن الطبيعي جدّاً أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إِلينا مِن اللّه ذي العلم المطلق، هو الأقوم والأظهر عليها، لأنَّ العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم المحدود للبشر.

ثالثاً: أشرنا في غير مكان إِلى أن «أفعل تفضيل» لا يدلُّ دائماً على أنَّ الموضوع لابدّ وأن يكون طرفاً للمقايسة، كما في قوله تعالى: (أفمن يهدي إِلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إِلاّ أن يُهدى)(1).

_____________________________

1 ـ يونس، 35.

[410]

وعلى هامش هذه النقطة ينبغي أنْ لا يفوتنا أن تعبير «أقوم» في الآية الآنفة يشير الى أنَّ الإِسلام هو آخر أديان السماء، وأنَّ النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر الأنبياء.

وكيفية ذلك، هو أنَّ أقوم بوصفها أفعل تفضيل، تمثل أعلى درجات التفضيل، ولأنَّ الآية لا تذكر الطرف الآخر في المقايسة والذي يكون القرآن أقوم بالنسبة إِليه; وطالما أنَّ حذف المتعلق يدل على العموم كما يقول الأصوليون، فينتج أنَّ الإِسلام آخر الأديان، وأنَّ محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الرسل، لأنَّهُ ليسَ بعد صيغة تفضيل «أقوم» من درجة في التفضيل.

بعد ذلك تشير الآيات إِلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إِلى فئتين، فالأُولى يكون حالها كما يقول تعالى: (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً كبيراً).

أمّا الفئة الثّانية فيكون مصيرها تبعاً لموقفها كما يقول تعالى: (وَأنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذاباً أليماً).

وإِذا كان استخدم «بشارة» واضح هُنا بالنسبة للمؤمنين، فهو بالنسبة لغيرهم مِن غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والإِستهزاء، أو أنَّهُ بشارة للمؤمنين أيضاً تخبرهم عن حال غير المؤمنين(1).

ضمناً الآية تشير باختصار بليغ إِلى جزاء المؤمنين وثوابهم فتقول: (أنّ لهم أجراً كبيراً) أمّا غير المؤمنين فإِنّ لهم بنفس صورة الإِيجاز القرآني البليغ (عذاباً أليماً) وهذا الإِختصار البليغ يطوي في كلا مجالَيْه صوراً تفصيلية مِن الثواب والعقاب.

أمّا لماذا اقتصرت الآية في غير المؤمنين على صفة عدم إِيمانهم بالآخرة

_____________________________

1 ـ في نهاية الآية (138) مِن سورة النساء قلنا: إِنَّ «بشارة» مُشتقّة أصلا مِن «البشرة» بمعنى الوجه. والملاحظ أنَّ صحيفة الوجه وبشرته كالمرآة تعكس كل خبر إِذا كان ساراً أو سيئاً بشكل إِيحاءات معينة.

[411]

دون غيرها مِن الصفات والأعمال. في الواقع يمكن أن يكون ذلك بسبب أنَّ الإِيمان بالآخرة هو صمام أمان يضبط الإِنسان عن ارتكاب المعاصي والذنوب. ثمّ إِنَّ إِنكار القيامة يعتبر إِنكاراً لوجود اللّه تعالى، وإِلاّ كيف يستقيم للإِنسان أن يؤمن باللّه العادل الحكيم ولا يؤمن بوجود آخرة يُحاسب فيها الإِنسان على أعماله وينال حسابه العادل!؟

ثمّ إِنّ حديث الآية هو عن العقاب والثواب وهو يتناسب مع الحديث عن الإِيمان باليوم الآخر.

الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إِلى احدى العلل المهمّة لعدم الإِيمان وتقول بأنّ عجلة الإِنسان وتسرعه وعدم اطلاعه على الأُمور وإِحاطته بها تسوقه إِلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه، وبين دعائه بالشر وطلبه له!

تقول الآية: (ويدعُ الإِنسانُ بالشر دعائه بالخير).

لماذا؟: (وكان الإِنسان عجولا).

إِنَّ كلمة «دعا» هُنا تنطوي على معنى واسع يشمل كل طلب ورغبة للإِنسان، سواء أعلن عنها بلسانه وكلامه، أو سعى إِليها بعمله وجهده وسلوكه.

إِنَّ استعجال الإِنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لِنفسه، تقوده إِلى النظرة السطحية للأُمور بحيثُ أنَّهُ لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة المعمّقة ممّا يفوّت عليه تشخيص خيره الحقيقي ومنفعته الواقعية، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المُضطرب يَضيع عليه وجه الحقيقة، ويتغيَّر مضمونها بنظره، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة.

وهكذا ينتهي الإِنسان ـ نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة ـ إِلى أن يطلب من اللّه الشر، تماماً كما يطلب مِنُه الخير، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة، كسعيه وراء الأعمال الحسنة. وهذا الإِضطراب

[412]

وفقدان الموازين هي أسوأ بلاء يصاب به الإِنسان ويحول بينهُ وبين السعادة الحقيقية.

ما أكثر الناس الذين يضعون أنفسهم ـ بسبب من عجلتهم واندفاعاتهم المضطربة ـ على حافة الخطر ومشارف الضلال، وهم يظنون أنّهم يسيرون نحو الأمن والإستقرار والهداية. إِنَّ مثل هؤلاء كمن هو غارق بالسوء والقبائح وهو يفتخر بما هو فيه!!

إِنّ نتيجة العجلة والتسرُّع والإِندفاع الأهوج لن تكون أحسن مِن هذه العاقبة.

مِن هنا يتّضح ـ كما أشرنا سابقاً ـ أنَّ معنى «دعا» لا يقتصر لا على الرغبات التي يظهرها الإِنسان على لسانه، ولا على تلك الرغبات التي يسعى لتحقيقها بسلوكه وبما يبذل لها مِن جهد; وإِنّما المعنى يشمل محصلة الإِثنين معاً. وأمّا ما ذهب إِليه بعض المفسّرين من حصر المعنى في أحدهما فليس ثمّة دليل عليه.

أمّا ما يظهر من بعض الرّوايات مِن اقتصار المعنى على الدعاء اللفظي، فإِنَّ ذلك مِن قبيل بيان المصداق لا كل المفهوم من قبيل الرّواية التي يقول فيها الإِمام الصادق(عليه السلام): «وأعرف طريق نجاتك وهلاكك، كي لا تدعو اللّه بشيء عسى فيه هلاكك، وأنت تظن أنّ فيه نجاتك، قال اللّه تعالى: (ويدع الإِنسان بالشر دعائه بالخير وكانَ الإِنسان عجولا).

مِن هنا يتبيّن أنّ أفضل طريق لوصول الإِنسان إِلى الخير والسعادة، هو أن يكون الفرد في كل خطوة وموقف على غاية قصوى من الدقّة والحيطة والحذر، وأن يتجنب الإِندفاع والعجلة والتسرُّع، ويدرس الموقف مِن جميع جوانبه، ويجانب الأحكام المتعجِّلة الممزوجة بالهوى والعاطفة، وأن يستعين باللّه العزيز ويستمده القوة والعون.

الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب، لتجعل مِن هذا الشاهد مثالا على معرفة اللّه والتمعُّن بآياته، والمثال أيضاً يُفيد معنى

[413]

التأمُّل والهدوء ويدعو إِلى محاذرة التعجُّل والتسرُّع.

الآية تقول أوّلاً: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) ثمّ: (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبصرة). وَلنا في ذلك هدفان: الأوّل: (لتبتغوا فضلا مِن ربّكم) حيثُ تنطلقون نهاراً في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإِلهية، وتنعمون ليلا بالراحة والهدوء والإِستقرار. والهدف الثّاني فهو: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) لكي لا تبقى شبهة لأحد (وكل شيء فصّلناه تفصيلا).

بين المفسّرين كلام كثير حول المقصود مِن «آية الليل» و«آية النهار» وفيما إِذا كانَ ذلك كناية عن نفس الليل و النهار، أم أنَّ المقصود مِن «آية الليل» القمر، ومن «آية النهار» الشمس(1).

ولكن التدقيق في الآية يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل، خصوصاً وأنَّ المقصود مِن قوله تعالى: (وَجعلنا الليل والنهار آيتين) هو أنّ كل واحد مِنهما علامة على إِثبات وجود اللّه، أمّا محو آية الليل فهو تمزيق ظلمة الليل وحجب الظلمة فيه بواسطة نور النهار، الذي يكشف ما كان مستوراً بظلمة الليل.

وإِذا كانت آيات أُخرى في القرآن [آية (5) مِن سورة يونس] تفيد أنّ الغاية من خلق الشمس والقمر هو تنظيم الحساب إِلى سنين وأشهر، فليس ثمّة تنافي بين الآيتين، إِذ مِن الممكن أن تنتظم حياة الإِنسان وحسابهُ على أساس الليل والنهار، وعلى أساس الشمس والقمر مِن دون أي تناف بين الإِثنين.

في نهج البلاغة نقرأ للإِمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، قوله: «وجعل شمسها آية مُبصره لنهارها، وقمرها آية ممحوه مِن ليلها، وأجراهما في مَناقل مجراهما، وقدّر سيرهما في مدارج درجهما، ليميز بين الليل والنهار بهما، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما»(2).

_____________________________

1 ـ في الحالة الأُولى تكون الإِضافة «إِضافية بيانية» أما في الثّالثة فتكون الإِضافة «إِضافة إِختصاصية».

2 ـ نهج البلاغة، خطبة الأشباح، رقم (91).

[414]

إِنّ كلام الإِمام هنا لا يُنافي التّفسير الأوّل، لأنَّ حساب السنين يمكن أن يكون على أساس الأيّام والليالي، كما يمكن أن يتم ذلك على أساس الشمس والقمر.

* * *

بحوث

أوّلاً: هل الإِنسان عجول ذاتاً؟

إِنَّ الإِنسان لا يوصف في القرآن بوصف «العجول» وَحسب، وإِنّما هناك أوصاف أُخرى أطلقها على الإِنسان مثل «ظلوم» و«جهول» و«كفور» و«هلوع» و«مغرور».

ولكن السؤال هنا، هو أنَّ هذه الأوصاف تتعارض مع التعليمات القرآنية التي تتحدّث عن الفطرة النظيفة الطاهرة للإِنسان، فكيف إِذن نوائم بين الحالتين؟

بعبارة أُخرى: إِنّ الإِنسان مِن وجهة نظر الإِسلام هو أفضل الموجودات وأكرمها حتى أنّه استحق مقام الخلافة عن اللّه، في الأرض، وهو مُعَلِّم الملائكة وأفضل منها، فكيف ـ إِذن ـ يتسق هذا الطرح مع الأوصاف السيئة الآنفة التي نقرؤها عن الإِنسان في القرآن؟

إِنَّ الإِجابة على هذا السؤال يمكن أن نختصرها بجملة واحدة، وهي أنَّ شخصية الإِنسان هي كما تقوم آنفاً من السمو والرفعة، ولكن بشرط أن تتم تربيته وتكون رعايته مِن قبل القادة الرّبانيين، وإِلاّ ففي غير هذه الصورة، فسيتسافل نحو أسوأ الأحوال، ويغرق في الهوى والشهوات، ويخسر القابليات العظيمة الموجودة فيه بالقوة لتظهر بدلا عنها الجوانب السلبية.

لذلك إِذا تحقق الشرط السابق (تربية الإِنسان على يد القادة الإِلهيين) فإِنَّ الجوانب الإِيجابية في الإِنسان هي التي تظهر، وهي التي تطبعه بطابعها وبعكس

[415]

ذلك تظهر الصفات السلبية، لذلك نقرأ في الآيات 19 ـ 24 مِن سورة المعارج قوله تعالى: (إِنّ الإِنسان خُلق هلوعاً إِذا مسَّهُ الشر جزوعاً وإِذا مسَّهُ الخير منوعاً إِلاّ المصلين الذين همُ على صلاتهم دائمون). ويمكن للقاريء أن يعود إِلى تفسير الآية (12) مِن سورة يونس لأجل المزيد مِن التفاصيل حول الموضوع.

ثانياً: أضرار العجلة

إنَّ تعلق الإِنسان واندفاعه نحو موضوع معين، والتفكير السطحي المحدود، والهوى والإِضطراب، وحسن الظن أكثر من الحد الطبيعي إِزاء أمر ما، كُلّها عوامل للعجلة في الأعمال. ثمّ إِنَّ الإقتصار على بحث المقدمات بشكل سطحي سريع ومرتجل لا يكفي في التوصل إِلى حقيقة الأمر، وعادة تؤدي العجلة والتسرع في الأعمال إِلى الخسران والندامة!

وقد قرأنا في الآيات أعلاه أنَّ عجلة الإِنسان تقوده إِلى أن يطلب الشر لِنفسه ويسعى إِليه، بنفس الحالة والسرعة التي يطلب فيها الخير ويسعى إِليه!

إِنّنا لا نستطيع أن نحصي ما أصاب الإِنسان على طول التاريخ جرّاء استعجاله وتسرّعه، وفي التجربة الحياتية الخاصّة لأي واحد مِنّا ثمّة ما يكفي لنتعلَّم دروس العجلة والتسرُّع مِن خلال النتائج المرّة التي جنيناها.

إِنَّ «التثبت» و«التأني» هي الصفات التي تقابل العجلة، ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّما أهلك الناس العجلة، ولو أنَّ الناس تثبتوا لم يهلك أحد»(1).

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قوله(عليه السلام): «مع التثبت تكون السلامة، ومع العجلة تكون الندامة»(2).

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 129.

2 ـ المصدر السابق.

[416]

وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «إِنَّ الأناة مِن اللّه والعجلة مِن الشيطان»(1).

طبعاً هناك باب في الرّوايات الإِسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير» ففي حديث عن رسول اللّه نقرأ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنّ اللّه يحب مِن الخير ما يعجل»(2).

إِنَّ الرّوايات في هذا المجال كثيرة، والمقصود مِنها هي السرعة في مقابل الإِهمال والتأخير غير الموَّجَّه، والإِتكاء إِلى الأعذار والتسويف باليوم وغداً، التي غالباً ما تؤدي إِلى ظهور المشاكل في الأعمال، وشاهد هذا الكلام هو الحديث الوارد عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «مَن همَّ بشيء مِن الخير فليعجله فإِنَّ كل شيء فيه تأخير فإِنَّ للشيطان فيه نظرة»(3).

لذلك نقول: نعم للجدية والسرعة في الأعمال، ولكن لا .. للعجلة والتسرُّع.

وبعبارة أُخرى: إِنَّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل، والتصميم على التنفيذ، لذلك نقرأ في الرّوايات «سارعوا في عمل الخير» أي بعد أن يثبت أن هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.

ثالثاً: دور العدد والحساب في حياة الإِنسان:

كل عالم الوجود يدور حول محور العدد والحساب، ولا نظام في هذا العالم بدون حساب، وطبيعي أنَّ الإِنسان الذي هو جزء مِن هذه المجموعة لا يستطيع العيش مِن دون حساب وكتاب.

لهذا السبب تعتبر الآيات القرآنية وجود الشمس والقمر أو الليل والنهار

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، ج 1، ص 129

(1) و (2) أصول الكافي، ج 1، كتاب الإِيمان والكفر، باب تعجيل فعل الخير.

3 ـ المصدر السابق.

[417]

واحدة مِن نعم اللّه تعالى، لأنّها الأساس في تنظيم الحساب في حياة الإِنسان. إِنَّ شيوع الفوضى وفقدان الحياة للإِتساق والنظم يؤدي إِلى دمار الحياة وفنائها. والظريف أنَّ الآية تتحدّث عن فائدتين لنعمة الليل والنهار: الأُولى: ابتغاء فضل اللّه والتي تعني التكُّسب والعمل المفيد المثمر. والثّانية: معرفة عدد السنين والحساب.

وقد يكون الهدف مِن ذكر الإِثنين إلى جنب بعضهما البعض يعود إِلى أنَّ (إِبتغاء فضل اللّه) لا يتم بدون الإِستفادة مِن (الحساب والكتاب) وقد لا يكون هذا المعنى واضحاً في العصور الماضية، أمّا في عصرنا فهو واضح كالشمس.

إِنَّ عالمنا اليوم، هو عالم الأرقام والأعداد والإِحصاء; فإِلى جانب كل مُؤسسة ومنظمة إِقتصادية أو إِجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو عملية أو ثقافية، ثمّة مؤسسة إِحصائية.

وَهكذا نستفيد من الإِشارة القرآنية أنّ القرآن لا يبلى بالزمان، بل كُلّما مرَّ عليه الزمان تجددت معانيه وتجلّت آفاقه(1).

* * *

_____________________________

1 ـ لنا كلام مفصّل حول الموضوع أثناء الحديث عن الآية (5) مِن سورة يونس.

[418]

الآيات

وَكُلَّ إِنسـن أَلْزَمْنـهُ طَـئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَومَ الْقِيـمَةِ كِتَـباً يَلْقـَهُ مَنْشُوراً(13) اقْرَأْ كِتـبَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَومَ عَلَيْكَ حَسِيباً(14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّما يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا(15)

التّفسير

أربعة أُصول إِسلامية مهمّة:

لقد تحدَّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعادِ والحساب، لذلك فإِنَّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدَّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إِنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيثُ يقول تعالى: (وكلَّ إِنسان ألزمناهُ طائرهُ في عنقه).

«الطائر» يعني الطير. ولكن الكلمة هنا تشير إِلى معنى آخر كانَ سائداً ومعروفاً بين العرب; إِذ كانوا يتفألون بواسطة الطير; وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلا إِذا تحرَّك الطير مِن الجهة اليمنى، فَهُم

[419]

يعتبرون ذلك فألا حسناً وَجميلا. أمّا إِذا تحرَّك الطير مِن اليُسرى فإِنَّ ذلك في عُرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيء، أو ما يعرف بلغتهم بالتطّير، من هنا فإنّ هذه الكلمة غالباً ما كانت تعني الفأل السيء في حين أنَّ كلمة التفؤل (عكس التطيُّر) كانت تُشير إِلى الفأل الجميل الحسن.

وفي الآيات القرآنية وَرد مراراً أنَّ «التطيُّر» هو بمعنى الفأل السيء حيثُ يقول تعالى في الآية (131) مِن سورة الأعراف: (وإِن تُصبهم سيئةً يَطَيّروا بموسى وَمَن معهُ) وفي الآية (47) مِن سورة النمل نقرأُ أيضاً: (قالوا طيِّرنا بك وبمن معك) والآية تحكي خطاب المشركين مِن قوم صالح(عليه السلام) لنبيّهم.

بالطبع عِندما نقرأ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية نراها تنهى عن «التطيُّر» وتجعل «التوكل على اللّه» طريقاً وأُسلوباً لمواجهة هذه العادة.

وفي كلِّ الأحوال فإِنَّ كلمة «طائر» في الآية التي نبحثها، تشير إِلى هذا المعنى بالذات، أو أنّها على الأقل تُشير إِلى مسألة «الحظ وحسن الطالع» التي تقترب في أُفق واحد مع قضية التفؤل الحَسَنِ والسيء، إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يبيّن أنَّ التفؤل الحسن والسيء أو الحظ النحس والجميل، إِنّما هي أعمالكم لا غير، والتي ترجع عهدتها إِليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها.

إِنَّ تعبير الآية الكريمة، بكلمتي «ألزمناه» و«في عنقه» تدُلان بشكل قاطع على أنَّ أعمال الإِنسان والنتائج الحاصلة عن هذه الأعمال لا تنفصل عنه في الدنيا ولا في الآخرة، وهُو بالتالي، وفي كل الأحوال عليه أن يكون مسؤولا عنها، إذ أنّ الملاك هو العمل دون غيره.

بعض المفسّرين ذكروا في إِطلاق معنى كلمة «طائر» على الأعمال الإِنسانية أنّها تعني أنَّ الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة للإِنسان كالطير الذي يطير مِن بين جنباته، لذلك شبهوها (أي الأعمال) بالطائر.

وفي كل الأحوال، اختلفَ المفسّرون في معنى كلمة (طائر) في هذه الآية،

[420]

وقد أوردوا في ذلك مجموعة احتمالات مِنها أنَّ «الطائر» بمعنى «حصيلة ما يجنيه الإِنسان من أعماله الحسنة والسيئة»، أو أنَّ الطائر بمعنى «الدليل والعلامة»، وبعضهم قال: إِن معناه «صحيفة أعمال الإِنسان» بينما ذهب البعض الآخر إِلى أنَّ معنى «الطائر» هو «اليُمن والشؤم».

ولكن الملاحظ في هذه التّفسيرات جميعاً، أنَّ بعضها يرجع إِلى نفس التّفسير الذي ذكرناه في البداية; كما أن بعضها الآخر بعيد عن معنى الآية.

يقول القرآن بعد ذلك: (وَنخرج لُه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً). ومِن الوضح أنَّ المقصود مِن «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير. وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تُثَّبت فيها الأعمال، ولكنّها هنا (في الدنيا) مخفيةٌ عنّا ومكتومة، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.

إنَّ التعبير القرآني في كلمتي «نخرج» و«منشوراً» يشير إِلى هذا المعنى، إِذ نخرج وننشر ما كان مخفياً ومكتوماً.

وبالنسبة الصحيفة الأعمال وحقيقتها وما يتعلق بها، فسيأتي البحث عنها في نهاية هذه الآيات.

في هذه اللحظة يُقال للإِنسان: (اقرأ كتابك، وكفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)يعني أنَّ المسألة ـ مسألة المصير ـ بدرجة مِن الوضوح والعلنية والإِنكشاف، بحيثُ أن كل من يرى صحيفة الأعمال هذه سيحكم فيها على الفور ـ مهما كانَ مجرماً ـ لماذا؟ لأنَّ صحيفة الأعمال هذه ـ كما سيأتي ـ هي مجموعة مِن آثار الأعمال أو هي نفس الأعمال، وبالتالي فلا مجال لانكارها فإِذا سمعت ـ أنا ـ صوتي مِن شريط مُسجَّل، أو رأيتُ صورتي وهي تضبط قيامي ببعض الأعمال الحسنة أو السيئة; فهل أستطيع أن أنكر ذلك؟ كذلك صحيفة الأعمال في يومِ القيامة; بل هي أكثر حيوتة ودقة مِن الصورة والصوت!

الآية التي بعدها تُّوضح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب

[421]

والجزاء على الأعمال، وهذه الأحكام هي:

1 ـ أوّلاً تُقرِّر أنَّ (من اهتدى فإِنما يهتدي لنفسه) حيث تعود النتيجة عليه.

2 ـ ثمّ تُقَّرِّر أيضاً أنَّ (وَمَن ضلَّ فإِنما يضل عليها).

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة مِن هذه السورة في قوله تعالى: (إِن أحسنتم أحسنتم لأنفسكُم وإِن أسأتُم فَلها).

3 ـ ثمّ تنتقل الآية لتقول: (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى).

«الوزر» بمعنى الحمل الثقيل. وأيضاً تأتي بمعنى المسؤولية، لأنَّ المسؤولية ـ أيضاً ـ حمل معنوي ثقيل على عاتق الإِنسان، فإِذا قيل للوزير وزيراً، فإِنّما هو لتحمله المسؤولية الثقيلة على عاتقه مِن قبل الناس أو الأمير و الحاكم.

طبعاً هذا القانون الكُلّي الذي تُقرِّره آية (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى) لا يتنافى مع ما جاء في الآية (25) مِن سورة النحل التي تقول: (ليحملوا أوزارهم كاملةً يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلّونَهُمْ بغير علم ألا ساء ما يزرون) لأنَّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضاً، أو يُعتبرون بحكم الفاعلين له، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملونَ أوزارهم وذنوبهم، وبتعبير آخر: فإِنَّ «السبب» هنا هو في حكم «الفاعل» أو «المُباشر».

كذلك مرَّت علينا روايات مُتعدِّدة حول مسألة السُنَّة السيئة والسنَّة الحسنة، والتي كانَ مؤدّاها يعني أنَّ مَن سنَّ سنةً سيئة أو حسنة فإِنَّهُ سيكون لهُ أجرٌ مِن نصيب العاملين بها، وهو شريكهم في جزائها وعواقبها، وهذا الأمر هو الآخر لا يتنافى مع قاعدة (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى) لأنَّ المؤسس للسُنّة، يعتبر في الحقيقة أحد اجزاء العلة التامّه للعمل، وهو بالتالي شريك في العمل والجزاء.

4 ـ الحكم الرّابع يتمثل في قوله تعالى: (وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولا)يقوم ببيان التكليف وإِلقاء الحجة.

هناك نقاش بين المفسّرين حول نوع العذاب المقصود هنا، وهل هو نوع من

[422]

أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة، أم المقصود بهِ هو عذاب «الإِستيصال» الذي يعني العذاب الشامل المُدمِّر كطوفان نوح مثلا؟

إنَّ ظاهر الآية الكريمة يدل على الإِطلاق، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.

وهناك نقاشٌ آخر ـ أيضاً ـ بين المفسّرين حول قاعدة (وما كُنّا معذبين حتى نبعث رسولا) وهل أنَّ الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط; أو أنَّهُ يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في الأصول والفروع؟

في الواقع، إِذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يُفيد الإِطلاق، فينبغي القول أنّها تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين. ومفهوم هذا الكلام أنَّهُ حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع «العقل المستقل» بحسنها وقُبحها مثل حُسن العدل و قُبح الظلم، فإِنَّه ما لم يأت الأنبياء، ويؤيدون حكم العقل بحكم النقل، فإِنَّ اللّه تبارك وتعالى لا يُجازي أحداً بالعذاب. للطفه ورحمته بالعباد.

ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الإِحتمال، لأنَّهُ يصطدم مع قاعدة أنَّ المستقلات العقلية لا تحتاج إِلى بيان الشرع، وحكم العقل في إِتمام الحجة في هذه الموارد يُعتبر كافياً ومجزياً، لذلك فلا طريق أمامنا إِلاّ أن نستثني المستقلات العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.

وإِذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو «عذاب الإِستيصال» وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أنّ اللّه سبحانهُ وتعالى لرحمته ولطفه بالعباد لا يُهلك الظالمين والمنحرفين إِلاّ بعدَ أن يبعث الأنبياء، وتستبين جميع طرق السعادة والهداية; حتى تُطابق حجّة الشرع حجة العقل المستقل، وتتم الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمَّل ذلك).

* * *

[423]

بحوث

1 ـ التفؤل والتطيُّر

التفؤل والتطيُّر كانا موجودين بين جميع الأمم ولا يزالان كذلك. ويظهر أنَّ مصدرهما هو عدم القدرة على اكتشاف الحقائق، والغفلة عن علل الحوادث. وعلى أية حال، ليست هناك آثار طبيعية فعلية لِهذين الأمرين، ولكن لهما آثاراً نفسية; إِذ (التفاؤل) يبعثُ على الأمل بينما «التطيُّر» يُؤدي إِلى اليأس والعجز.

ولأنَّ الإِسلام يُؤكّد دائماً على الأُمور الإِيجابية، ويدفعها مُشجعاً إِيّاها، لذا فإِنَّهُ لم ينه عن (التفاؤل) ولكنَّهُ أدان وبشدَّة «التطيُّر» حتى أنَّهُ في بعض الرّوايات اعتبر ذلك من الشرك، إِذ جاء الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «الطيرة شرك» وقد بحثنا هذا الموضوع بشكل مفصَّل في نهاية الآية (131) مِن سورة الأعراف(1).

الظريف في الأمر أنَّ الإِسلام يقوم دائماً بتوجيه مثل هذه الأُمور الوهمية ويحاول توظيفها في مجراها الصحيح والبنّاء، حتى يمكن الإِستفادة مِنها.

فمثلا ممّا هو شائع بين الناس أنَّ الزوجة الفلانية قَدمُها خير، بينما الأُخرى قدمها في بيت زوجها شرٌ ونحس، وكذلك شائع أن الزوجة الفلانية ومُنذ أن دخلت بيت زوجها حصل كذا وكذا (خيراً أم شراً) بينما واقع الحال إِنَّ هذه الأُمور خُرافية وهمية، لكن الإِسلام أعطى بعضها ـ من خلال توجيهه ـ شكلا بناءاً ومضموناً تربوياً، فعن الإِمام الصادق(عليه السلام) نقرأ: «مِن شؤم المرأة غلاء مهرها وشدّة مؤنتها»(2). وفي حديث آخر عن رسول الهدى(صلى الله عليه وآله وسلم) نقرأ: «أمّا الدار فشؤمها ضيقها وخُبث جيرانها»(3).

_____________________________

1 ـ يُراجع التّفسير «الأمثل» عند تفسير قوله تعالى: (فإِذا جاءتُهُم الحسنة قالوا لنا هذه، وإِن تصيبهم سيئةٌ يَطيَّروا بموسى ومن معهُ، ألا إِنّما طائرُهُم عند اللّه، ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون)، (الأعراف 131).

2 ـ راجع وسائل الشيعة، ج 3، ص 104.

3 ـ راجع سفينة البحار، ج1 ، ص 680.

[424]

لاحظوا بدقة كيف يستخدم الإِسلام نفس الألفاظ التي كان الناس يستخدمونها في مفاهيم خرافية ووهمية; يوظفها في مفاهيم واقعية وبأُسلوب تربوي بنّاء; ولاحظوا أيضاً، كيف أنَّ الأفكار التي كانت تنتهي إِلى طريق مغلق، جاءَ الإِسلام ووجهها نحو طريق الهداية والإِصلاح.

أخيراً وقبل أن ننتقل إِلى الملاحظة الثّانية نختم حديثنا بكلام لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) يُطابق ما قلناه آنفاً؟ إِذا روي عنهُ(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «اللهمُّ لا خير إِلاّ خيرك، ولا طير إِلاّ طيرك ولا ربَّ غيرك».

2 ـ صحيفة أعمال الإِنسان العجيبة:

لقد تحدَّثت آيات قرآنية وروايات عديدة عن صحيفة أعمال الإِنسان. وكلَّ هذه الآيات والرّوايات تؤكِّد على أنَّ جميع الأعمال وجزئياتها وتفصيلاتها تكون مُدوَّنة في صحيفة الأعمال، وفي يوم البعث والقيامة، يستلم الإِنسان صحيفة عمله بيمينه إِذا كان مُحسناً ويتناولها بشماله إِذا كان مسيئاً. ففي الآية (19) مِن سورة الحاقة نقرأ! (فأما مَن أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه) وفي الآية (25) مِن نفس السورة نقرأ قوله تعالى حكاية عن الإِنسان الخاسر: (وأمّا مَن أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه). وفي الآية (49) مِن سورة الكهف نقرأ قوله تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مُشفقين ممّا فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاّ أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربّك أحداً).

وفي حديث عن الإِمام الصادق(عليه السلام)، يتعلق بالآية ـ مورد البحث ـ (اقرأ كتابك ...) قال: «يذكر العبد جميع ما عمل، وما كتب عليه، حتى كأنّهُ فعلهُ تلك الساعة، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إِلاّ

[425]

أحصاها»(1).

وهنا يُطرح هذا السؤال; عن ماهية هذه الصحيفة وكيفيتها؟

ممّا لا شك فيه أنّها ليست مِن جنس الكتب والورق والصحف العادية، لذا فإِنَّ بعض المفسّرين قالوا بأنّ صحيفة الأعمال ليست سوى «روح الإِنسان» والتي تكون جميع الأعمال مُثبتة فيها(2) لأنّ أي عمل نعملهُ سيكون لهُ أثرٌ في روحنا شئنا أم أبينا.

وقد تكون صحيفة الأعمال، هي أعضاء جسمنا وجلودنا، والأعظم مِن ذلك هو أنَّ الصحيفة قد تكون مُتضَمّنة في الأرض والهواء والفضاء الذي يحيطنا والذي نعيش فيه، لأنَّ هذه المفردات هي وعاء أعمالنا، فترتسم الأعمال في أفق الأرض الهواء والوجود الذي حولنا، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته أعمالنا أو آثارها وعلى الأقل.

وإِذا كانت هذه الآثار غير محسوسة اليوم، ولا يمكن دركها في الحياة الدنيا هذه، إِلاّ أنَّ ذلك ـ بدون شك ـ لا يعني عدم وجودها; فعندما نرزق بصراً جديداً آخر (في يوم القيامة) فسوف يكون بإِمكاننا أن نرى جميع هذه الأُمور، ونقرؤها.

على أنَّ استخدام الآية الكريمة لِتعبير (اقرأ) ينبغي أن لا يُغيِّر من تفكيرنا شيئاً إِزاء ما ذهبنا إِليه آنفاً، لأنَّ كلمة «اقرأ» تتضمّن مفهوماً واسعاً، وتدخل الرؤيا بمفهومها الواسع هذا، فنحن مثلا وفي تعابيرنا العادية التي نستخدمها يومياً نقول: قرأتُ في عيني فلان ما الذي يُريد أن يفعلهُ، أو أنّنا عرفنا مِن نظرتنا إِلى فلان، بقية القصّة، وعرفنا بقية العمل الذي يريد أن يفعله. كما أنّنا في عالم اليوم أخذنا نستخدم كلمة «اقرأ» بخصوص الأشعة التي تؤخذ للمرضى، هذا بالرغم مِن أنَّ الأشعة، هي صورة تخضع للمشاهدة لا للقراءة، وهذا المِثال والأمثلة التي سبقته

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 144.

2 ـ يراجع تفسير الصافي في شأن تفسير هذه الآية.

[426]

تؤكد ما ذهبنا إِليه أنَّ المشاهدة تدخل في إِطار المعنى الواسع للقراءة.

وقد تقدم في الآيات السابقة أنَّ تفصيلات صحيفة الأعمال هذه، لا يمكن إِنكارها بأي وجه، لأنَّ الآثار الحقيقية الموضوعية (أي الخارجية) والتكوينية للعمل تشبه كثيراً الصوت المسجَّل للإِنسان، أو الصورة المأخوذة له، أو بصمات أصابعة، وأيّاً مِن هذه الآثار لا يجد الإِنسان إِلى نكرانها سبيلا!

3 ـ البريء لا يؤخذ بجريرة المذنب:

في منطق العقل وتوجيهات الأنبياء(عليهم السلام) لا يمكن مُعاقبة البريء بسبب جريمة المذنب، وهذا تماماً عكس ما هو شائع بين عامّة الناس مِن خلال المثل الذي يقول (يحرق الأخضر واليابس معاً)، وكمثل على ذلك، نرى أنَّ في كل المدن والمناطق التي كانت في حدود نبوة النّبي لوط(عليه السلام)، لم تكن هناك سوى عائلة مؤمنة واحدة، ولكن عندما نزل العذاب على قوم لوط(عليه السلام) أنجى اللّه تلك العائلة، وكتب لها سبيل الخلاص مِن العذاب العام، وهكذا لم تؤخذ هذه العائلة المؤمنة البريئة بجريرة القوم المذنبين.

وتتحدث الآية، مِن مجموع الآيات التي نحن بصددها، بصراحة عن هذه القاعدة، فتقول: (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى). وإِذا صادَف أن وجدنا مِن بين الأحاديث غير المعتبرة، أموراً تعارض هذا القانون الإِسلامي العام. فيجب ترك تلك الأحاديث أو توجيهها.

وفي هذا الإِتجاه، أمامنا رواية تقول: إِنَّ الشخص الميت يتعذَّب ببكاء الحىّ، (وهنا يُحتمل، ومِن باب توجيه الحديث، أن يكون الغرض مِن العذاب، هو ليس العذاب الإِلهي، بل الأذى الذي يصيب الميت من ذلك عندما تطَّلع روحه على جزع الأهل والأقرباء).

ويتّضح هنا ـ أيضاً ـ مصير عقيدة الأشخاص الذين يقولون: إِنَّ أبناء الكفّار

[427]

يُحشرون مع آبائهم في نار جهنَّم لبطلانه إِسلامياً ولمنافاته لقاعدة (ولا تزرُ وازرةٌ وزر أُخرى)، وإِنَّ الذرية لا تؤاخذ بجريرة الآباء، وهي بالتالي لا تُعاقب بسبب ذنوب الأب والأم. ولهذا السبب بالذات، فقد قلنا بأنَّ الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) ليست لهم مِن جريرة غيرهم عليهم شيء، وأنّهم بمنأى عن الذنب وأنّ أبواب السعادة أمامهم مفتوحة، إِذا أرادوا هم ذلك، بالرغم مِن اعترافنا بصعوبة تربيتهم!

4 ـ قاعدة «أصل البراءة» وآية! ما كُنّا معذبين:

في علم الأصول، وفي بحث «البراءة» إِستدلوا بقوله تعالى: (وما كُنّا معذبين حتى ...) على أن فهم الآية يُوَضِّح أنَّ المسائل التي لا يمكن للعقل إِدراكها أو القطع بها، لا يُعاقب عليها الإِنسان حتى يبعث اللّه الرسل والأنبياء ليبيّنوا الأحكام والتكاليف والوظائف. وهذا بحد ذاته دليل على عدم العقاب في الأُمور التي لم تُقم الحجة عليها; وقاعدة «أصل البراءة» لا تعني شيئاً غير هذا; أي لا عقاب بدون حجة مِن العقل أو النقل.

أمّا قول البعض: إِنَّ مفاد «العذاب» في الآية أعلاه، هو «عذاب الإِستئصال» مِثل طوفان نوح، فلا دليل على ذلك، بل ـ كما قلنا ـ إِنَّ اطلاق الآية ينفي ذلك، وهي تشمل بالتالي كلَّ عذاب وعقاب.

* * *

[428]

الآيتان

وَإِذَا أَرَدْنآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنـها تَدْمِيراً(16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوح وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً(17)

التّفسير

مراحل العقاب الإِلهي:

إِنَّ موضوع البحث في هذه الآيات يُكمِّل ما كُنّا بصددِ بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة أُخرى، إِذ تقول الآية الكريمة: (وإِذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مُترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)(1). إِنَّ الآيات التي كُنّا قبل قليل بصدد بحثها، كانت تتحدَّث عن أنَّ العقاب الإِلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو أُمّة، مِن دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف مِن قبل الرسل والأنبياء(عليهم السلام)، والآية التي نحنُ بصددها الآن، تتحدث عن نفس هذا الأصل، ولكن بطريقة أُخرى.

صحيح أنَّ المفسّرين وضعوا إِحتمالات متعددة لتفسير هذه الآية، إِلاّ أنّنا

_____________________________

1 ـ بالرغم مِن أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع، ولكنّها هُنا تعني إِعطاء الأمر بالعذاب.

[429]

نعتقد بأنَّه لا يوجد سوى تفسيرٌ واحد واضحٌ لهذه الآية، يمكن تبيانه من مؤدّى ظاهرها، وهذا التّفسير هو: إِنَّ اللّه لا يُعاقب أو يؤاخذ أحداً بالعذاب، قبل أن يتمَّ الحجّة عليه، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه، ففي البدايه يضع اللّه تعليماته وأوامره أمام الناس، فإِذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إِذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية، فسيحيق بهم العذاب، ويؤدي إِلى هلاكهم.

وإِذا تأملنا الآية، ودققنا النظر فيها بشكل صحيح، فسنرى أنَّ هناك أربع مراحل لهذا البرنامج الرباني، هي:

1 ـ مرحلة الأوامر والنواهي.

2 ـ مرحلة الفسق والمخالفة.

3 ـ مرحلة استحقاق المجازاة.

4 ـ مرحلة الهلاك.

والملاحظ هنا، أنَّ المراحل الأربع هذه، معطوفة على بعضها البعض بواسطة «فاء» التفريع.

هنا يُطرح هذا السؤال: لماذا كان المأمورون في الآية الكريمة هم المترفين دون غيرهم؟(1).

في الإِجابة على السؤال المثار، لابدَّ مِن الإِشارة إِلى ملاحظة تعتبر مهمّة في توضيح المعنى، وهي أنَّ المترفين هم وجهاء القوم، ورؤساء المجتمع ـ طبعاً هذه القاعدة تخص المجتمعات المريضة ـ والآخرون تبع لهم.

إِضافة إِلى ذلك، فإِنَّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إِشارة مهمّة، هي أنَّ أغلب المفاسد الإِجتماعية تنبع مِن المترفين، أصحاب الأموال، البعيدين عن

_____________________________

1 ـ مُترفون، مِن مادة رفاه، وتعني المتنعمين وذوي الأموال الكثيرة الناسين لله تعالى.

[430]

اللّه تعالى، والذين يعيشون حياةً مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد، وهم بذلك لا يفقهون شيئاً عن تلك المفردات التي تتحدث عن الأخلاق والإِنسانية والإِصلاح. ولهذا السبب بالذات، وبحكم موقعهم، كان المترفون دائماً في الصفوف الأُولى، في مُواجهة دعوات الأنبياء والرسل، وكانوا يعتبرون دعوات الأنبياء ـ القائمة على أساس العدل وحماية المستضعفين ـ ضدّهم.

لهذه الأسباب ذكر هؤلاء بالخصوص لأنّهم أساس الفساد. على أية حال، هذه الآية بمثابة تحذير لكل المؤمنين كي ينتبهوا، ولا يسلموا زمام أُمورهم وحكوماتهم بيد المترفين والأغنياء الغارقين بالشهوات، وألاّ يتبعونهم، لأنَّ هؤلاء يجرون مجتمعهم نحو الهلاك.

الآية التي بعدها تشير إِلى نماذج بهذا الخصوص، على أنّها أصلٌ عام، وقاعدة سارية، إِذ تقول: (وكم أهلكنا من القرون مِن بعد نوح) وفقاً لهذه القاعدة والسنّة، ثمّ تضيف بعد ذلك: (وكفى بربّك بذنوب عباده خبيراً بصيراً) أي إِنَّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لربِّ العالمين.

«قرون» جمع «قرن» وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد، ثمّ أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد.

أمّا بصدد عدد سنين القرن الواحد، فهناك آراء مختلفة، فقسم أعتبر القرن (40) سنة، وآخرون قالوا: ثمانين، والبعض الثالث، قال: إِنَّ القرن مائة عام، أخيراً فقد اعتبر البعض أنَّ القرن هو مائة وعشرون عاماً. وفي كلَّ الأحوال لابدَّ مِن الإِشارة هنا إِلى أن الحكم في هذه القضية يخضع لطبيعة الإِتفاق العرفي الذي ينعقد حولها. ومِن هُنا فقد اتفق في عصرنا الراهن على أنَّ كل مائة سنة تعتبر قرناً

[431]

واحداً(1).

أمّا لماذا أكدت الآية على القرون مِن بعد نوح(عليه السلام) فقد يكون ذلك بسبب أنَّ الحياة قبل نوح(عليه السلام) كانت حياة بسيطة، والإِختلافات التي تقسِّم المجتمعات إِلى مُترف ومستضعف، كانت بسيطة وضئيلة، لذلك فالعذاب الإِلهي لم يشملهم بكثرة.

أمّا عن سبب ذكر كلمتي «خبير» و«بصير» معاً، فإنّ ذلك يعود إِلى المعنى المراد، إِذ «الخبير» تعني العلم والإِحاطة بالنية والعقيدة; أمّا «بصير» فدلالة على رؤية الأعمال. لذلك فإِنَّ اللّه تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات، ويحيط بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحداً، ولا أن يضيع حق أحد في ظل حكومتها.

* * *

_____________________________

1 ـ في نهاية الآية (13) مِن سورة يونس أشرنا إِلى هذا الموضوع.

[432]

الآيات

مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلـهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً(18) وَمَنْ أَرادَ الأَْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً(19) كُلا نُّمِدُّ هـؤُلآَءِ وَهـؤُلآَءِ مَنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً(20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض وَلَلأَْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجـت وَأكْبَرُ تَفْضِيلا(21)

التّفسير

طلاب الدنيا والآخرة:

لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر اللّه تعالى، وكيفية هلاكهم، لذا فإِنَّ هذه الآيات ـ التي نحنُ بصددها الآن ـ تشير إِلى سبب التمرُّد على شريعة اللّه، والعصيان لأوامره، وهذا السبب هو حب الدُنيا، إِذ يقول تعالى: (مَن كانَ يريّد العاجلة عجّلنا لُه فيها ما نشاءُ لمن نريد ثمّ جعلنا لهُ جهنَّم يصلها مذموماً مدحوراً).

[433]

«العاجلة» تعني النعم الزائلة; أو الدنيا الزائلة.

والظريف في الآية، أنّها لا تقول: إِنَّ مَن يسعى وراء الدنيا، ويجعلها كلَّ همه، يحصل على كلِّ ما يريد، بل هي قيدَّت ذلك بشرطين هما:

أوّلاً: سيحصل على جزء ممّا يريده; وأنَّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن، أي (ما نشاء).

والشرط الثّاني الذي يقيِّد رغبة الساعي إِلى الدنيا، فهو: إِنَّ جميع الأشخاص ـ رغم سعيهم الدنيوي ـ لا يحصلون على هذا المقدار، وإِنما قسمٌ مِنهم سيحصل على جزء مِن متاع الدنيا. وهذا معنى قوله: (لمن نريد).

وبناءاً على ذلك، فلا كلَّ طُلاّب الدنيا يحصلون عليها، ولا أُولئك الذين يحصلون على شيء مِنها، يحصلون على ما يريدون. ومسير الحياة اليومية يوضح لنا هـذين الشرطين، إِذ ما أكثر الذين يكدون ليلا ونهاراً ولكنّهم لا يحصلون على شيء.

وما أكثر الذين لهم أُمنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة، ولكن لا يحصلون إلاّ على القليل منها.

وفي هذا تحذيرٌ الدنيا إنّكم إِذا تصورتم بأنّكم ستصلون إِلى أهدافكم عن طريق بيع الآخرة بالدنيا، فهذا خطاء وأشتباه كبير، حيث أنّكم في بعض الأحيان قد لا تُحققون أي هدف، وفي أحيان أُخرى قد تُحققون بعض أهدافكم.

وعادةً ما تكون للإِنسان آمال كبيرة ومُتعدِّدة، لا يمكن إِشباعها في هذه الدُنيا المادية المحدودة، فلو أعطيت الدنيا كُلّها إِلى شخص واحد، فقد لا يقتنع بها!

أمّا الأشخاص الذين يكدّونَ ولا يصلون إِلى شيء، فلذلك أسباب مُختلفة، إِذ قد يكون هُناك أمل في إِنقاذهم، واللّه بذلك يحبهم وييسر سُبل الهداية لهم. أو يكون السبب أنّهم إِذا وصلوا إِلى مرحلة ما من أهدافهم ورغباتهم، فسيطغون ويؤذون خلق اللّه، ويضيقون عليهم الخناق.

[434]

«يصلى» مُشتقة مِن «صَلى» وهي تعني إِشعال النّار، وأيضاً تعني الحرق بالنّار، والمقصود مِنها هُنا هو المعنى الثاني.

والجدير بالإِنتباه هنا، أنَّ عاقبة هذه المجموعة مِن الناس، والتي هي نار جهنَّم، قد تمَّ تأكيدها في الآية، بكلمتي (مذموماً) و (مدحوراً) إِذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم، بينما الثّاني يعني الإِبتعاد عن رحمة الخالق، وفي الحقيقة إِنَّ نار جهنَّم تمثل العقاب الجسدي لهم، أمّا «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح، لأنَّ المعاد هوَ للروح وللجسد، والجزاء والعقاب يكون للإِثنين معاً.

بعد ذلك تنتقل الآيات إِلى توضيح وضع المجموعة الثّانية ومصيرها، وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميِّز ـ يتوضح الموضوع أكثر إِذ يقول تعالى: (ومَن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن، فأولئك كان سعيهم مشكوراً).

بناءاً على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إِلى السعادة الأبدية، هي:

أوّلاً: إِرادة الإِنسان: وهي الإِرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية، ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة، والأهداف المادية; فالإِرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإِنسان حرّاً طليقاً غير مرتبط بالدنيا.

ثانياً: هذه الإِرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإِنسان، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإِنساني، وتدفعهُ للحركة، وببذل كل ما يستطيع مِن السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة، بأنَّ كلمة «سعيها» قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أنَّ على الإِنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع مِن السعي في سبيل الآخرة).

ثالثاً: إِنَّ كل ما سبق مِن حديث عن الإِرادة في النقطتين السابقتين، ينبغي أن يقترن بالإِيمان; الإِيمان الثابت القوي. لأنَّ أي تصميم وجهد، إِذا أريد لهُ أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة، ومصدر هذه الأهداف هو الإِيمان باللّه لا غير.

صحيح أنَّ السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إِيمان، حيث

[435]

أنَّ مفهوم الإِيمان داخل ضمنهُ، ولكن يجب عدم الإِكتفاء بهذا المقدار مِن الدلالة الإِلتزامية للإِيمان، بل وينبغي التوسع في شرطِ الإِيمان، بحكم أنَّ (الإِيمان) يعتبر أمراً أساسياً، وركناً مهمّاً في هذا الطريق.

والملاحظ هنا، أنَّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول: (جعلنا لهُ جهنَّم) بينما عندما تنتقل إِلى طُلاّب الآخرة وعشّاقها ومريدها، فهي تخاطبهم بالقول: (فأُولئكَ كانَ سعيهم مشكوراً). إِنَّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل مِن استخدام أي تعبير آخر، مثل (جزاءهم الجنّة) لأنَّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمَّ، لذا فإِنَّ شكر اللّه لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره.

وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكوراً» في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف»(1). أو بمعنى «قبول العمل»(2)، إِلاّ أنَّهُ مِن الواضح أن كلمة «مشكوراً» لها معنى أوسع مِن هذه المعاني جميعاً.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر، ظاناً أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلابها فقط، وأنَّ طلاّب الآخرة وأهلها محرومون مِنها، لذلك فإِنَّ الآية التي بعدها تقف أمام هذا اللبس، وتمنع هذا الظن، عندما تقول: (كلا نمدّ هؤلاء مِن عطاء ربّك) لتضيف بعدها بقليل: (وما كان عطاء ربك محظوراً).

نمدُّ هنا مِن «الإِمداد» بمعنى الزيادة.

الآية التي بعدها تشير إِلى أصل مهم في هذا الخصوص و تقول: كما أن السعي في هذه الدنيا متفاوت، وتتفاوت معه الأجور; فكذلك الأمر في الآخرة: ولكن التفاوت الدنيوي محدود، لأنَّ الدنيا هي نفسها محدودة، وأمّا الآخرة ـ ولكونها

_____________________________

1 ـ يُراجع في هذا الشأن تفسير القرطبي، ج 6، ص 3852.

2 ـ راجع تفسير الصافي عند الحديث عن هذه الآية.

[436]

غير محدودة ـ فإن تفاوتها غير محدود، إِذ يقول تعالى: (أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا).

قد يقول قائل هنا; إِننا نرى في هذه الدنيا أفراداً يحصلون على أرباح كثيرة بدون أي سعي أو جهد.

الجواب: إِنّ وجود هؤلاء يعبِّر عن حالات إِستثنائية لا يمكن إِعتبارها قاعدة في مقابل الأصل الكلي، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإِنسان وتوفيقه. وبذلك فإِنَّ هذه الإِستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي.

وأخيراً، وقبل أن ننتقل إِلى الملاحظات، ينبغي أن نُنَّبه إِلى أنَّ السعي وبذل الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو الكيفية العالية أكثر أثراً من السعي الكثير والكيفية الدانية.

* * *

بحوث

أوّلاً: هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟

في الواقع إِنّنا نرى في كثير مِن الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإِمكاناتها المادية، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيراً (سورة البقرة آية 180). وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنّها فضل اللّه (وابتغوا مِن فضل اللّه)(1). وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعاً)(2). وفي آيات كثيرة أُخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخّرة لنا (سخر لكم).

وإِذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإِمكانات المادية وتؤكد عليها،

_____________________________

1 ـ الجمعة، 10.

2 ـ البقرة، 29.

[437]

وتجعلها في سياق واحد، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة مِنها.

ولكن، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية، فإِنَّ القرآن الكريم استخدم تعابير أُخرى تحقّرها وتحطّ مِنها بقوة، إِذ نقرأ في سورة النساء، آية (94)، قوله تعالى: (تبتغون عرض الحياة الدنيا) وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى: (وما الحياة الدنيا إِلاّ متاع الغرور)(1). وفي سورة العنكبوت آية (64)، نقرأ (وما هذه الحياة الدنيا إِلاّ لهو ولعب) أمّا في الآية (37) مِن سورة النّور، فإِنا نلتقي مع قوله تعالى: (رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر اللّه).

هذه المعاني المزدوجة إِزاء النعم والمواهب المادية، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والرّوايات الإِسلامية، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين علي(عليه السلام)هي «مسجدُ أحباء اللّه، ومصلى ملائكة اللّه، ومهبط وحي اللّه، ومتجر أولياء اللّه»(2).

وفي جانب آخر، نرى أنَّ الأحاديث والرّوايات الإِسلامية تعتبر الدنيا دار الغفلة والغرور، وما شابه ذلك.

والسؤال هنا: هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والرّوايات فيما بينها؟

في الواقع، عندما تلام الدنيا، فإِنَّ اللوم ينصب على أُولئك الناس الذين لا هدف لهم ولاهمّ سواها. مِن هنا نقرأ في الآية (29) مِن سورة النجم قوله تعالى: (ولم يرد إِلاّ الحيوة الدنيا). وبعبارة أُخرى، فإِنَّ الذم الذي يَرد للدنيا يقصد به الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في سبيل الوصول إِلى أهدافهم المادية، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (38) مِن سورة التوبة: (أرضيتم بالحياة الدنيا مِن الآخرة).

ثمّ إِنَّ الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول، إِذ أنَّ قوله تعالى: (مَن كان

_____________________________

1 ـ الحديد، 20.

2 ـ نهج البلاغة، باب الكلمات القصار، جملة رقم 131.

[438]

يريد العاجلة ...) هو خطاب لأُولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة، ويقفون عندها.

وعادةً فإِن استخدام تعابير «المزرعة» أو «المتجر» وما شاكلهما في تشبيه الحياة الدنيا ووصفها، يعتبر دليلا حياً على هذا الموضوع.

وخلاصة القول: إِنَّهُ إِذا تمت الإِستفادة مِن مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر مِن النعم الإِلهية; ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود، وتمت الإِستفادة في سعادة الإِنسان الأخروية وتكامله المعنوي، فإِنَّ ذلك يعتبر أمراً جيداً، وتمتدح معه الدنيا. أمَّا إِذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإِنسانية، عندها سَيُصاب الإِنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

وما أجمل وصف الإِمام علي(عليه السلام) للدنيا حينما يقول: «مَن أَبصر بها بصرته، ومَن أَبصر إِليها أعمته»(1). وفي أنَّ الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة، هو نفس الفرق الذي نستفيده، بين «إِليها» و«بها»، إِذ تعني الأُولى أنَّ الدنيا هدف، بينما تعني الثّاني أنّها مجرد وسيلة!

ثانياً: دور السعي في تحقيق المكاسب:

هذه ليست المرّة الأُولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب، وبعكسه يُحذَّر الأشخاص العاطلين والكُسالى بأنَّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد، والتظاهر بالإِيمان، بل الطريق يتمثل بالسعي وبذل الجهود.

وهذه الحقيقة واضحٌ مفادها في الكثير مِن الآيات القرآنية. ففي سورة

_____________________________

1 ـ يراجع نهج البلاغة، الخطبة رقم (82).

[439]

المدثر. آية (38) نقرأ (كلّ نفس بما كسبت رهينة) وآيةٌ أُخرى تقول: (وأن ليس للإِنسان إِلاّ ما سعى) . وفي آيات كثيرة أُخرى، يأتي العمل الصالح بعد ذكر الإِيمان حتى لا يتوهم أحدٌ ويظن بأنَّهُ يستطيع الوصول إِلى مرحلة ما بدون سعي وجهد، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد; فكيف إِذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!؟

ثالثاً: الإِمدادات الإِلهية:

«نمدّ» مشتقّة مِن كلمة «إِمداد» وهي تعني إِيصال المعونة، يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات» أن: كلمة «إِمداد» غالباً ما تُستعمل في المساعدات المفيدة والمؤثِّرة. أما كلمة «مدَّ» فإِنها تستعمل في الأشياء المكروهة وغير المقبولة.

على أيةِ حال، نقرأ في الآيات التي نبحثها، أنَّ اللّه سبحانه وتعالى يضع جزءاً من نعمه في خدمة الجميع، إِذ يستفيد مِنها المحسنون والمسيئون، وهذه النعم غالباً ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه.

بتعبير آخر: هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإِلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21336717

  • التاريخ : 29/03/2024 - 00:17

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net