00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الرعد من آية 16 ـ 29 من ( ص 366 ـ 411 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[366]

الآية

قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لاَِنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَبَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَلِقُ كُلِّ شَىْء وَهُوَ الْوَحِدُ الْقَهَّرُ (16)

التّفسير

لماذا عبادة الأصنام؟

كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله وإثبات وجوده، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات، حيث تخاطب ـ أوّلا ـ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تقول: (قل من ربّ السموات والأرض). ثمّ تأمر النّبي أن يجيب على السؤال قبل أن ينتظر جوابهم (قل الله) ثمّ إنّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة (قل أفاتّخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً).

لقد بيّن ـ أوّلا ـ عن طريق ربوبيته أنّه المدبّر والمالك لهذا العالم، ولكلّ خير

[367]

ونفع من جانبه، وقادر على دفع أي شرّ وضرّ، وهذا يعني أنّكم بقبولكم لربوبيته يجب أن تطلبوا كلّ شيء من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حلّ أيّة مشكلة لكم. ثمّ يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول: إنّ هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً فكيف يمكنها أن تنفعكم أو تضرّكم؟ وهم والحال هذه لا يحلّون أي عقدةً لكم حتّى لو قمتم بعبادتهم، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فماذا يُنتظر منهم؟

ثمّ يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الأفراد الموحّدين والمشركين، فيقول أوّلا: (قل هل يستوي الأعمى والبصير) فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانياً: (أم هل تستوي الظّلمات والنّور) كيف يمكن أن نساوي بين الظلام الذي يعتبر قاعدة الإنحراف والضلال، وبين النّور المرشد والباعث للحياة، وكيف يمكن أن نجعل الأصنام التي هي الظّلمات المحضة إلى جنب الله الذي هو النّور المطلق، وما المناسبة بين الإيمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح، وبين الشرك أصل الظلام؟!

ثمّ يُدلِل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) والحال ليس كذلك، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها، فهم يعلمون أنّ الله خالق كلّ شيء، وعالم الوجود مرتبط به، ولذلك تقول الآية: (قل الله خالق كلّ شيء وهو الواحد القهّار).

* * *

[368]

بحوث

1 ـ الخالقية والرّبوبية يتطلبّان العبادة

يمكن أن يستفاد من الآية أعلاه أنّ الخالق هو الربّ المدبّر، لأنّ الخلقة أمرٌ مستمر ودائمي، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم، بل إنّه تعالى يفيض بالوجود عليهم بإستمرار وكلّ شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدّسة، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلّها بيد الله، ولهذا السبب يكون هو النافع والضارّ. وغيره لا يملك شيء إلاّ منه، فهل يوجد أحدٌ غير الله أحقّ بالعبادة؟

2 ـ كيف يسأل ويجيب بنفسه؟

بالنظر إلى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال: كيف أمر الله نبيّه أن يسأل المشركين: من خلق السماوات والأرض؟ وبعدها بدون أن ينتظر منهم الجواب يأمر النّبي أن يجيب هو على السؤال ... وبدون فاصلة يوبّخ المشركين على عبادتهم الأصنام، أي طراز هذا في السؤال والجواب؟

ولكن مع الإلتفات إلى هذه النقطة يتّضح لنا الجواب وهو أنّه في بعض الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدّاً ولا يحتاج إلى الإنتظار. فمثلا نسأل أحداً: هل الوقت الآن ليل أم نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول: الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة، حيث أنّ الموضوع واضح جدّاً ولا يحتاج إلى الإنتظار للجواب، بالإضافة إلى أنّ المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم يقولوا أبداً أنّ الأصنام خالقة السّماء والأرض، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما أنّ الخالقية غير منفصلة عن الرّبوبية يمكن أن نُخاطب المشركين بهذا الحديث ونقول: أنتم الذين تقولون بأنّ الله خالق، يجب أن تعرفوا أنّ الربوبية لله كذلك،

[369]

ويختصّ بالعبادة أيضاً لذلك.

3 ـ العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان

يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظّلمات والنّور) إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ النظر يحتاج إلى شيئين: العين المبصرة، وشعاع الشمس، بحيث لو إنتفى واحد منهما فإنّ الرؤية لا تتحقّق، والآن يجب أن نفكّر: كيف حال الأفراد المحرومين من البصر والنّور؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا، فقلوبهم عُميٌ ومحيطهم مليءٌ بالكفر وعبادة الأصنام، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى العكس فالمؤمنون بنظرهم إلى الحقّ، وإستلهامهم من نور الوحي وإرشادات الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.

4 ـ هل أنّ خلق الله لكلّ شيء دليل على الجبر؟

إستدلّ جمعٌ من أتباع مدرسة الجبر أنّ جملة (الله خالق كلّ شيء) في الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتّى عمل الأفراد، فالله خالق أعمالنا ونحن غير مختارين.

يمكن أن نجيب على هذا القول بطريقين:

أوّلا: الجمل الأُخرى للآية تنفي هذا الكلام، لأنّها تلوم المشركين بشكل أكيد فإذا كانت أعمالنا غير إختيارية، فلماذا هذا التوبيخ؟! وإذا كانت إرادة الله أن نكون مشركين فلماذا يلومنا؟! ولماذا يسعى بالأدلّة العقليّة لتغيير مسيرتهم من الضلالة إلى الهداية؟ كلّ هذا دليل على أنّ الناس أحرار في إنتخاب طريقهم.

ثانياً: إنّ الخالقية بالذات من مختصّات الله تعالى. ولا يتنافى مع إختيارنا في الأفعال، لأنّ ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور، وحتّى الإختيار والحرية، كلّها

[370]

من عند الله، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكلّ شيء وحتّى أفعالنا) ومن جهة أُخرى نحن نفعل بإختيارنا، فهما في طول واحد وليس في عرض واُفق واحد، فهو الخالق لكلّ وسائل الأفعال، ونحن نستفيد منها في طريق الخير أو الشرّ.

فمثلا الذي يؤسّس معملا لتوليد الكهرباء أو لإنتاج أنابيب المياه، يصنعها ويضعها تحت تصرّفنا، فلا يمكن أن نستفيد من هذه الأشياء إلاّ بمساعدته، ولكن بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا، فيمكن أن نستفيد من الكهرباء لإمداد غرفة عمليات جراحية وإنقاذ مريض مشرف على الموت، أو نستخدمها في مجالس اللهو والفساد، ويمكن أن نروي بالماء عطش إنسان ونسقي ورداً جميلا، أو نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها.

* * *

[371]

الآية

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَة أَوْ مَتَع زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاَْرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الاَْمْثَالَ (17)

التّفسير

وصف دقيق لمنظر الحقّ والباطل:

يستند القرآن الكريم ـ الذي يعتبر كتاب هداية وتربية ـ في طريقته إلى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة إلى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّية الرائعة من حياة الناس، وهنا ـ أيضاً ـ لأجل أن يُجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك، الإيمان والكفر، الحقّ والباطل، يضرب مثلا واضحاً جدّاً لذلك ..

يقول أوّلا: (أنزل من السّماء ماءً) الماء عماد الحياة وأصل النمو والحركة،

[372]

(فسالت أودية بقدرها) تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف أمامها، وفي هذه الأثناء يظهر الزَّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم: (فاحتمل السيل زبداً رابياً).

«الرابي» من «الربو» بمعنى العالي أو الطافي، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.

وليس ظهور الزبد منحصراً بهطول الأمطار، بل (وممّا يوقدون عليه في النّار إبتغاء حلية أو متاع زبد مثله)(1) أي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها أو صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.

بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع، يستنتج القرآن الكريم (كذلك يضرب الله الحقّ والباطل) ثمّ يتطرّق إلى شرحه فيقول: (فأمّا الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).

فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاءً ويصير باطلا متلاشياً، وأمّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض أو ينفذ إلى الأعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش، وتروي الأشجار لتثمر، والأزهار لتتفتّح، وتمنح لكلّ شيء الحياة.

وفي آخر الآية ـ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال ـ يقول تعالى: (كذلك يضرب الله الأمثال).

* * *

_____________________________

1 ـ تشير هذه الآية إلى الأفران التي تستعمل لصهر الفلزات، فهذه الأفران تتميّز بوجود النّار من تحتها ومن فوقها يعني نارٌ تحت الفلز ونار فوقه، وهذه من أفضل أنواع الأفران حيث تحيط بها النّار من كلّ جانب.

[373]

بحوث

هذا المثال البليغ الذي عبّر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات منظّمة. وصوّر فيها الحقّ والباطل بأروع صورة، فيه حقائق مخفيّة كثيرة ونشير هنا إلى قسم منها:

1 ـ ما هي علائم معرفة الحق والباطل؟

يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل ـ إذا أشكل عليه الأمر ـ إلى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه:

ألف:ـ الحقّ مفيد ونافع دائماً، كالماء الصافي الذي هو أصل الحياة. أمّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآناً أو يسقي أشجاراً، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن أن يستفاد منه للزينة أو للإستعمالات الحياتية الأُخرى، وإذا إستخدمت لغرض فيكون إستخدامها رديئاً ولا يؤخذ بنظر الإعتبار .. كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.

باء:ـ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى، أمّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت، وكبير المعنى، وثقيل الوزن(1).

جيم ـ الحقّ يعتمد على ذاته دائماً، أمّا الباطل فيستمدّ إعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به، كما أنّ (الكذب يتلبّس بضياء الصدق) ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع إلى شعاعه الخاطف وإعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ، أمّا الحقّ فهو مستند إلى نفسه وإعتباره منه.

_____________________________

1 ـ يقول الإمام علي (عليه السلام) في وصفه أصحابه يوم الجمل «وقد أرعدوا وأبرقوا ومع هذين الأمرين الفشل، ولسنا نرعد حتّى نوقع ولا نسيل حتّى نمطر».

[374]

2 ـ ما هو الزّبد؟

«الزبد» بمعنى الرغوة التي تطفوا على السائل، والماء الصافي أقلّ رغوة، لأنّ الزبد يتكوّن بسبب إختلاط الأجسام الخارجية مع الماء، ومن هنا يتّضح أنّ الحقّ لو بقي على صفائه ونقائه لم يظهر فيه الخبث أبداً، ولكن لإمتزاجه بالمحيط الخارجي الملوّث فإنّه يكتسب منه شيئاً، فتختلط الحقيقة مع الخرافة، والحقّ بالباطل، والصافي بالخابط. فيظهر الزبد الباطل إلى جانب الحقّ.

وهذا هو الذي يؤكّده الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: «لو أنّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين، ولو أنّ الحقّ خلص من لبس الباطل إنقطعت عنه ألسن المعاندين».(1)

يقول بعض المفسّرين إنّ للآية أعلاه ثلاث أمثلة: «نزول آيات القرآن» تشبيهه بنزول قطرات المطر للخير، «قلوب الناس» شبيهة بالأرض والوديان وبقدر وسعها يستفاد منها، «وساوس الشيطان» شبيهة بالزبد الطافي على الماء، فهذا الزبد ليس من الماء، بل نشأ من إختلاط الماء بمواد الأرض الأُخرى، ولهذا السبب فوساوس النفس والشيطان ليست من التعاليم الإلهية، بل من تلوّث قلب الإنسان، وعلى أيّة حال فهذه الوساوس تزول عن قلوب المؤمنين ويبقى صفاء الوحي الموجب للهداية والإرشاد.

3 ـ الإستفادة تكون بقدر الإستعداد واللياقة!

يستفاد من هذه الآية ـ أيضاً ـ أنّ مبدأ الفيض الإلهي لا يقوم على البخل والحدود الممنوعة، كما أنّ السحاب يسقط أمطاره في كلّ مكان بدون قيد أو

_____________________________

1 ـ نهج البلاغة، الخطبة 50.

[375]

شرط، وتستفيد الأرض والوديان منها على قدر وسعها، فالأرض الصغيرة تستفيد أقلّ والأرض الواسعة تستفيد أكثر، وهكذا قلوب الناس في مقابل الفيض الإلهي.

4 ـ الباطل والأوضاع المضطربة

عندما يصل الماء إلى السهل أو الصحراء ويستقرّ فيها، تبدأ المواد المختلطة مع الماء بالترشّح ويذهب الزبد فيظهر الماء النقي مرّةً ثانية، وعلى هذا النحو فالباطل يبحث عن سوق مضطربة حتّى يستفيد منها، ولكن بعد إستقرار السوق وجلوس كلّ تاجر في مكانه المناسب وتحقّق الإلتزامات والضوابط في المجتمع، لا يجد الباطل له مكاناً فينسحب بسرعة!

5 ـ الباطل يتشكّل بأشكال مختلفة

إنّ واحدة من خصائص الباطل هي أنّه يغيّر لباسه من حين لآخر، حتّى إذا عرفوه بلباسه يستطيع أن يخفي وجهه بلباس آخر، وفي الآية أعلاه إشارة لطيفة لهذه المسألة، حيث تقول: لا يظهر الزبد في الماء فقط، بل يظهر حتّى في الأفران المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر، وبعبارة أُخرى فإنّ الحقّ والباطل موجودان في كلّ مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى هذا يجب أن لا نُخدع بتنوّع الوجوه وأن نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانباً.

6 ـ إرتباط البقاء بالنفع

تقول الآية: (وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) ليس الماء فقط يبقى ويذهب الزبد الطافي عليه، بل حتّى الفلزات تلك التي تستعمل للزينة أو للمتاع

[376]

يبقى الخالص منها ويذهب خبثه. وعلى هذا النحو فالناس والمدارس والمبادىء لهم حقّ الحياة على قدر منفعتهم، وإذا ما رأينا بقاء أصحاب المباديء الباطلة لفترة فانّ ذلك بسبب وجود ذلك المقدار من الحقّ الذي إختلط فيه، وبهذا المقدار له حقّ الحياة.

7 ـ كيف يطرد الحقّ الباطل؟

«الجفاء» بمعنى الإلقاء والإخراج، ولهذا نكتة لطيفة وهي أنّ الباطل يصل إلى درجة لا يمكن فيها أن يحفظ نفسه، وفي هذه اللحظة يُلقى خارج المجتمع، وهذه العملية تتمّ في حالة هيجان الحقّ، فعند غليان الحقّ يظهر الزبد ويطفو على سطح ماء القدر ويُقذف إلى الخارج، وهذا دليل على أنّ الحقّ يجب أن يكون في حالة هيجان وغليان دائماً حتّى يُبعد الباطل عنه.

8 ـ الباطل مدينٌ للحقّ ببقائه

كما قلنا في تفسير الآية، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد، ولا يمكن له أن يستمر، كما أنّه لولا وجود الحقّ فانّ الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك أشخاص صادقون لما وقع أحد تحت تأثير الأفراد الخونة ولما صدّق بمكرهم، فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحقّ.

9 ـ صراع الحقّ والباطل مستمر

المثال الذي ضربهُ لنا القرآن الكريم في تجسيم الحقّ والباطل ليس مثالا محدوداً في زمان ومكان معينين، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم المختلفة، وهذا يبيّن أنّ عمل الحقّ والباطل ليس مؤقتاً وآنياً. وجريان الماء

[377]

العذب والمالح مستمر إلى نفخ الصور، إلاّ إذا تحوّل المجتمع إلى مجتمع مثالي (كمجتمع عصر الظهور وقيام الإمام المهدي (عليه السلام)) فعنده ينتهي هذا الصراع، وينتصر الحقّ ويطوي بساط الباطل، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من تاريخها، وإلى أن نصل إلى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحقّ والباطل، ويجب أن نحدّد موقفنا في هذا الصراع.

10 ـ تزامن الحياة مع السعي والجهاد

المثال الرائع أعلاه يوضّح هذا الأساس لحياة الناس، وهو أنّ الحياة بدون جهاد غير ممكنة، والعزّة بدون سعي غير ممكنة أيضاً، لأنّه يقول: يجب أن يذهب الناس إلى المناجم لتهيئة مستلزمات حياتهم في المتاع والزينة (إبتغاء حلية أو متاع). وللحصول على هذين الشيئين يجب تنقية المواد الخام من الشوائب بواسطة نيران الأفران للحصول على الفلز الخالص الصالح للإستعمال، وهذا لا يتمّ إلاّ من خلال السعي والمجاهدة والعناء.

وهذه هي طبيعة الحياة حيث يوجد إلى جانب الورد الشوك، وإلى جانب النصر توجد المصاعب والمشكلات، وقالوا في القديم: (الكنوز في الخرائب وفوق كلّ كنز يوجد ثعبانٌ نائم)، فإنّ هذه الخربة والثعبان تمثّلان المشاكل والصعوبات للحصول على الموفّقية في الحياة.

ويؤكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي أنّ التوفيق لا يحصل إلاّ بتحمّل المصاعب والمحن، يقول جلّ وعلا في الآية (214) من سورة البقرة: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إنّ نصر الله قريب).

[378]

الأمثال في القرآن:

إنّ دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له أهميّة كبيرة غير قابلة للإنكار، ولهذا السبب لا يوجد أي علم يستغني عن ذكر المثال لإثبات وتوضيح الحقائق وتقريب معناها إلى الأذهان، وتارةً ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل المعاني الصعبة تنزل من السّماء إلى الأرض وتكون مفهومة للجميع، فيمكن أن يقال: إنّ المثال له دور مؤثّر في مختلف الأبحاث العلمية والتربوية والإجتماعية والأخلاقية وغيرها، ومن جملة تأثيراته:

1 ـ المثال يجعل المسائل محسوسة:

من المعلوم أنّ الإنسان يأنس بالمحسوسات أكثر، أمّا الحقائق العلمية المعقّدة فهي بعيدة المنال. والأمثال تقرّب هذه الفواصل وتجعل الحقائق المعنوية محسوسة، وإدراكها يسير ولذيذ.

2 ـ المثال يُقرّب المعنى:

تارةً يحتاج الإنسان لإثبات مسألة منطقية أو عقلية إلى أدلّة مختلفة، ومع كلّ هذه الأدلّة تبقى هناك نقاط مبهمة محيطة بها، ولكن عند ذكر مثال واضح منسّق مع الغاية يقرّب المعنى ويعزّز الأدلّة ويقلّل من كثرتها.

3 ـ المثال يعمّم المفاهيم

كثير من البحوث العلمية بشكلها الأصلي يفهمها الخواص فقط، ولا يستفيد منها عامّة الناس، ولكن عندما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم، ويستفيد منها الناس على إختلاف مستوياتهم العلمية، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر

[379]

والثقافة.

4 ـ المثال، يزيدُ في درجة التصديق:

مهما تكن الكليّات العقلية منطقية، فإنّها لا تخلق حالة اليقين الكافية في ذهن الإنسان، لأنّ الإنسان يبحث عن اليقين في المحسوسات، فالمثال يجعل من المسألة الذهنيّة واقعاً عينيّاً، ويوضّحها في العالم الخارجي، ولهذا السبب فإنّ له أثره في زيادة درجة تصديق المسائل وقبولها.

5 ـ المثال يُخرس المعاندين:

كثيراً ما لا تنفع الأدلّة العقليّة والمنطقيّة لإسكات الشخص المعاند حيث يبقى مصرّاً على عناده ولكن عندما نصب الحديث في قالب المثال نوصد الطريق عليه بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لإختلاق الأعذار.

ولا بأس أن نطرح هنا بعض الأمثلة حتى نعرف مدى تأثيرها:

نقرأ في القرآن الكريم أنّ الله سبحانه وتعالى يردُ على الذين أشكلوا على ولادة السّيد المسيح (عليه السلام) كيف أنّه ولد من اُمّ بغير أب (إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب).(1)

لاحظوا جيداً، فنحن مهما حاولنا أن نقول للمعاندين: إنّ هذا العمل بالنسبة إلى قدرة الله المطلقة لا شيء، فمن الممكن أن يحتجّوا أيضاً، ولكن عندما نقول لهم هل تعتقدون أنّ آدم خلقه الله من تراب؟ فانّ الله الذي له هذه القدرة كيف لا يستطيع إيجاد شخص بدون أب؟!

_____________________________

1 ـ آل عمران، 59.

[380]

وبالنسبة إلى المنافقين الذين يقضون في ظلّ نفاقهم أيّاماً مريحة ظاهراً، فانّ القرآن الكريم يضرب مثالا رائعاً عن حالهم، فيشبهّهم بالمسافرين في الصحراء فيقول (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلّما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إنّ الله على كلّ شيء قدير).(1)

فهل يوجد أوضح من هذا الوصف للمنافق التائه في الطريق، ليستفيد من نفاقه وعمله كي يستمرّ في حياته؟

وعندما تقول للأفراد: إنّ الإنفاق يضاعفه لكم الله عدّة مرّات قد لا يستطيعون أن يفهموا هذا الحديث، ولكن يقول القرآن الكريم: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أبنتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبّة)(2)، وهذا المثال الواضح أقرب للإدراك.

وغالباً ما نقول: إنّ الرياء لا ينفع الإنسان، فقد يكون هذا الحديث ثقيلا على البعض، كيف يمكن لهذا العمل أن يكون غير مفيد، فبناء مستشفى أو مدرسة حتّى لو كان بقصد الرياء .. لماذا ليست له قيمة عند الله؟! ولكن يضرب الله مثالا رائعاً حيث يقول: (فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً).(3)

ولكي لا نبتعد كثيراً فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبحث في مجال الحقّ والباطل وتجسّم هذه المسألة بشكل دقيق، المقدّمات والنتائج، والصفات والخصوصيات والآثار، وتجعلها قابلة الفهم للجميع وتُسكت المعاندين، وأكثر

_____________________________

1 ـ البقرة، 20.

2 ـ البقرة، 261.

3 ـ البقرة، 264.

[381]

من ذلك تكفينا تعب البحوث المطوّلة.

وفي مناظرة للإمام الصادق (عليه السلام) مع أحد الزنادقة حول قوله تعالى: (كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب) قال: فما بال الغير؟

أجابه الإمام: «ويحك هي هي وهي غيرها!» قال: فمثّل لي ذلك شيئاً من أمر الدنيا! قال: «نعم، أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثمّ ردّها في ملبنها، فهي هي وهي غيرها»(1).

ولابدّ هنا من ملاحظة هذه اللفظة وهي أنّ المثال وما له من تأثير كبير ودور فعّال يجب أن يكون مطابقاً وموافقاً للمقصود، وإلاّ يكون ضالا ومنحرفاً.

ولهذا السبب يستفيد المنافقون من هذه الأمثلة المنحرفة ليضلّوا بها الناس البسطاء، فهم يستعينون بشعاع المثال ليصدق الناس أكاذبيهم، فيجب أن نحذر من هذه الأمثلة المنحرفة ونلاحظها بدقّة.

* * *

_____________________________

1 ـ الإحتجاج، ص354.

[382]

الآية

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِى الاَْرْضِ جَمِيعَاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَيهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)

التّفسير

الذين استجابوا لدعوة الحقّ:

بعد ما كشفت الآيات السابقة عن وجهي الحقّ والباطل من خلال مثال واضح وبليغ، أشارت هذه الآية إلى مصير الذين إستجابوا لربّهم والذين لم يستجيبوا لهذه الدعوة واتّجهوا صوب الباطل. تقول أوّلا: (للذين إستجابوا لربّهم الحسنى).

«الحسنى» في معناها الواسع تشمل كلّ خير وسعادة، بدءاً من الخصال الحسنة والفضائل الأخلاقية إلى الحياة الإجتماعية الطاهرة والنصر على الأعداء وجنّة الخلد.

ثمّ تضيف الآية (والذين لم يستجيبوا له لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً

[383]

ومثله معه لافتدوا به).

لا توجد صيغةً أوضح من هذه الآية في بيان شدّة عذابهم وعقابهم، يمتلك الإنسان كلّ ما في الأرض وضعفه أيضاً ويفتدي به للنجاة ولا يحصل النجاة. تشير هذه الجملة في الواقع إلى آخر أُمنية والتي لا يمكن أن يتصوّر أكثر منها، وهي أن يمتلك الإنسان كلّ ما في الأرض، ولكن شدّة العذاب للظالمين ومخالفي الحقّ تصل بهم إلى درجة أن يفتدوا بكلّ هذه الاُمنية أو بأكثر منها لنجاتهم. ولنفرض إنّها قُبِلَت منهم فتكون نجاتهم من العذاب فقط، ولكن الثواب العظيم يكون من نصيب الذين إستجابوا لدعوة الحقّ.

ومن هنا يتّضح أنّ العبارة (ومثله معه) ليس المقصود منها أن يكون لهم ضعف ما في الأرض، بل أنّهم مهما ملكوا أكثر من ذلك فانّهم مستعدّون للتنازل عنه مقابل نجاتهم من العذاب. ودليله واضح، لأنّ الإنسان يطلب كلّ شيء لمنفعته، ولكن عندما يجد نفسه غارقاً في العذاب فما فائدة تملكه للدنيا كلّها؟

وعلى أثر هذا الشقاء (عدم قبول ما في الأرض مقابل نجاتهم) يشير القرآن الكريم إلى شقاء آخر (أُولئك لهم سوء الحساب).

فما هو المقصود من سوء الحساب؟

للمفسّرين آراء مختلفة حيث يعتقد البعض أنّه الحساب الدقيق بدون أي عفو أو مسامحة، فسوء الحساب ليس بمفهوم الظلم، لأنّ الله سبحانه وتعالى هو العدل المطلق، ويؤيّد هذا المعنى الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لرجل: «يافلان مالك ولأخيك؟» قال: جعلت فداك كان لي عليه حقّ فأستقصيت منه حقّي إلى آخره، وعنده سماع الإمام لهذا الجواب غضب وجلس ثمّ قال: «كأنّك إذا استقصيت حقّك لم تسيء إليه! أرأيت ما حكى الله عزّوجلّ (ويخافون سوء الحساب) أتراهم يخافون الله أن يجور عليهم؟! لا والله ما خافوا إلاّ الإستقصاء

[384]

فسمّاه الله عزّوجلّ سوء الحساب، فمن إستقصى فقد أساءه»(1).

وقال البعض: المقصود من سوء الحساب، أنّه يلازم حسابهم التوبيخ والملامة وغيرها، فبالإضافة إلى خوفهم من العذاب يؤلمهم التوبيخ.

ويقول البعض الآخر: المقصود هو الجزاء الذي يسوؤهم، كما نقول: إنّ فلان حسابه نقي، أو لآخر: حسابه مظلم، وهذا يعني نتيجة حسابهم جيدة أو سيّئة، أو تقول: (ضع حسابه في يده) يعني حاسبه طبقاً لعمله.

هذه التفاسير الثلاثة غير متضادّة فيما بينها، ويمكن أن يستفاد منها في تفسير الآية، وهذا يعني أنّ هؤلاء الأفراد يحاسبون حساباً دقيقاً، وأثناء حسابهم يُوبّخون ويُلامون ومن ثمّ يستقصى منهم.

وفي نهاية الآية إشارة إلى الجزاء الثّالث أو النتيجة النهائية لجزائهم (ومأواهم جهنّم وبئس المهاد).

«المهاد» جمع مهد، بمعنى التهيؤ، ويستفاد منها معنى السرير الذي يستخدم لراحة الإنسان، هذا السرير يهيّأ للإستراحة، وقد ذكر القرآن الكريم هذه الكلمة للإشارة إلى أنّ هؤلاء الطغاة بدلا من أن يستريحوا في مهادهم يجب أن يحرقوا بلهيب النار.

* * *

بحث

يستفاد من الآيات القرآنية أنّ الناس في يوم القيامة ينقسمون إلى مجموعتين، فمجموعة يحاسبهم الله بيسر وسهولة وبغير تدقيق (فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً).(2)

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلّد الثّاني، صفحة 288.

2 ـ الإنشقاق، 8.

[385]

وعلى العكس من ذلك هناك مجموعة يحاسبون بشدّة حتّى الذرّة والمثقال من الأعمال يحاسبون عليه، كما حدث لبعض البلاد التي كان أهلها من العاصين، (فحاسبناها حساباً شديداً وعذّبناها عذاباً نكراً).(1)

إنّ هذا الحساب الشديد هو نتيجة لما كان يقوم به هؤلاء في حياتهم من إستقصاء الآخرين حتّى الدينار الأخير، وإذا ما حدث خطأ من أحد فإنّهم يعاقبون بأشدّ ما يمكن، ولم يسامحوا أحداً حتّى أبناءهم وإخوانهم وأصدقائهم، وبما أنّ الآخرة إنعكاس لحياة الدنيا فإنّ الله سبحانه وتعالى يحاسبهم حساباً شديداً على أي عمل عملوه بدون أدنى سماح، وعلى العكس فهناك أشخاص سهلون ومسامحون ومن أهل العفو، خصوصاً في مقابل أصدقائهم وأقربائهم وذوي الحقوق عليهم أو الضعفاء، ويغضّون النظر عنهم وعن كثير من زلاّتهم الشخصيّة، وفي مقابل ذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى يشملهم بعفوه ورحمته الواسعة ويحاسبهم حساباً يسيراً.

وهذا درس كبير لكلّ الناس وخصوصاً أُولئك الذين يتصدّرون الأُمور.

* * *

_____________________________

1 ـ الطلاق، 8.

[386]

الآيات

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الاَْلْبَبِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وَأَزْوَجِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ وَالْمَلَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب (23) سَلَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

التّفسير

الأبواب الثّمانية للجنّة وصفات اُولي الألباب:

تتحدّث هذه الآيات عن سيرة اُولي الألباب وصفاتهم الحسنة، وفيها تكميل

[387]

للبحث السابق.

في الآية الأُولى من هذه المجموعة إستفهام إنكاري: (أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى).

وهذا وصف رائع، فهو لم يقل: أفمن يعلم أنّ هذا القرآن على الحقّ كمن لا يعلم؟ بل قال: كمن هو أعمى؟ وهذه إشارة لطيفة إلى أنّه من المحال أن لا يعلم أحد بهذه الحقيقة إلاّ أن يكون أعمى القلب، فكيف يمكن لإنسان يمتلك عيناً سليمة ولا يرى نور الشمس، وهذا القرآن كالشمس. ولذلك يجيء في نهاية الآية قوله تعالى: (إنّما يتذكّر اُولو الألباب).

«الألباب» جمع لبّ بمعنى جوهر الشيء، ويقابل اُولي الألباب اُولو الجهل والعمى.

إنّ هذه الآية ـ وكما يذهب إليه بعض المفسّرين ـ تحثّ الناس على طلب العلم ومحاربة الجهل، لأنّها تعدّ الفرد الفاقد للعلم كمن هو أعمى. ثمّ بيّن سيرة اُولي الألباب من خلال ذكر صفاتهم الحميدة، وأوّل ما أشار القرآن إليه وفاؤهم بالعهد وعدم نقضهم له (والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق).

إنّ «عهد الله» له معنى واسع، ويشمل العهود الفطرية التي عاهدوا بها ربّهم كالفطرة على التوحيد وحبّ الحقّ والعدالة، والمواثيق العقليّة التي يدركها الإنسان من خلال التفكير والتعقّل لعالم الوجود، والمبدأ والمعاد، وتشمل كذلك العهود الشرعيّة، وهي ما عاهدوا الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه من الطاعة للأوامر الإلهيّة وترك المعاصي والذنوب.

وتشمل هذه المجموعة كذلك الوفاء بالعهد بين الأفراد، لأنّ الله سبحانه وتعالى أوصى بها، بل تدخل ضمن الوفاء الشرعي والميثاق العقلي.

الصفة الثّانية من صفات أُولي الألباب هي (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل).

[388]

لا نجد صيغةً أوسع من هذه في هذا المجال، فالإنسان له صلات وروابط كثيرة، صلته مع ربّه، ومع الأنبياء والقادة، وروابطه مع الأصدقاء والجيران والأقرباء ومع كلّ الناس، والآية تأمر أن تُحترم هذه الصلات، وتنهى عن أي عمل يؤدّي إلى قطع هذه الصلات والروابط.

والإنسان في الحقيقة ليس منزوياً أو منفكّاً من عالم الوجود، بل تحكم كلّ وجوده الصلات والروابط، ومن جملة هذه الصلات:

1 ـ صلته بالله سبحانه وتعالى، والتي إذا ما قطعها الإنسان تؤدّي إلى هلاكه كما في إنطفاء نور المصباح في حالة قطع التيار الكهربائي عنه، وعلى هذا فإنّ هذه الصلة التكوينيّة بين الإنسان وربّه يجب أن تتبعها صلة بأوامره وأحكامه من حيث الطاعة والعبودية.

2 ـ صلته بالأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) على أساس أنّهم قادة للبشرية وقطعها يؤدّي بالإنسان إلى الضلال والإنحراف.

3 ـ صلته بالمجتمع كافّة وخصوصاً بذوي الحقوق عليه أمثال الأب والاُمّ والأقرباء.

4 ـ صلته بنفسه، من حيث أنّه مأمور بحفظها وإصلاحها وتكاملها.

إنّ إقامة أي صلة من هذه الصلات، هي في الواقع مصداق للآية (يصلون ما أمر الله به أن يوصل) وقطعها قطع لما أمر الله به أن يوصل، لأنّ الله سبحانه وتعالى أمر بأن توصل ولا تقطع.

وبالإضافة إلى ما قلناه، فهناك أحاديث واردة بخصوص هذه الآية يتّضح منها أنّ المراد القرابة مرّة، ومرّة الإمامة أو آل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومرّة أُخرى كلّ المؤمنين! فقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية قال: «قرابتك» وعنه أيضاً (عليه السلام) قال: «نزلت في رحم آل محمّد وقد يكون في قرابتك»(1) ومن الطريف

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج2، صفحة 494.

[389]

أنّه (عليه السلام) يقول في نهاية الحديث: «فلا تكونن ممّن يقول للشيء أنّه في شيء واحد» وهذه الجملة إشارة واضحة إلى المعاني الواسعة للقرآن الكريم.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث ثالث يقول: «هو صلة الإمام في كلّ سنة (أي بالمال) بما قلّ أو أكثر، ثمّ قال: وما اُريد بذلك إلاّ تزكيتكم»(1).

الصفة الثّالثة والرّابعة من سيرة اُولي الألباب هي قوله تعالى: (ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب).

لمعرفة الفرق بين «الخشية» و «الخوف» المتقاربان في المعنى يقول البعض: «الخشية» هي حالة الخوف مع إحترام الطرف المقابل ومع العلم واليقين، ولذلك عدّها القرآن الكريم من خصوصيات العلماء حيث يقول: (إنّما يخشى الله من عباده العلماء).

ولكن بالنظر إلى إستخدام القرآن الكريم لكلمة الخشية مرّات كثيرة يتّضح لنا أنّها تأتي بمعنى الخوف وتستعمل معها بشكل مترادف.

هنا يُطرح هذا السؤال: إذا كان الخوف من الخالق هو نفس الخوف من حسابه، فما هو الفرق بين (يخشون ربّهم) و (يخافون سوء الحساب

الجواب: إنّ الخوف من الله سبحانه وتعالى ليس ملزماً دائماً أن يكون خوفاً من حسابه وعقابه، بل إنّ العظمة الإلهيّة والإحساس بالعبوديّة له توجد حالة من الخوف في قلوب المؤمنين (بغضّ النظر عن الجزاء والعقاب)، والآية (28) من سورة فاطر قد تشير إلى هذا المعنى.

وهناك سؤال آخر يتعلّق بسوء الحساب، وهو: هل من الصحيح أنّ هناك ظلم في محاسبة الأفراد؟

وقد تقدّم الجواب على هذا السؤال قبل عدّة آيات من هذه الآية وقلنا أنّ المراد هو التدقيق الشديد في الحساب من دون عفو أو تسامح وذكرنا أيضاً

_____________________________

1 ـ المصدر السابق، صفحة 495.

[390]

حديثاً في هذا الصدد.

الصّفة الخامسة من صفات اُولي الألباب الإستقامة في مقابل جميع المشاكل التي يواجهها الإنسان في مسيرة الطاعة وترك المعصية، وجهاد الأعداء ومحاربة الظلم والفساد(1)، والصبر في مرضاة الخالق، ولذلك يقول تعالى: (والذين صبروا إبتغاء وجه ربّهم) لقد أشرنا مراراً إلى مفهوم الإستقامة التي هي المعنى الواسع للصبر.

أمّا معنى العبارة (وجه ربّهم) فقد تشير إلى أحد معنيين:

أوّلا: كلمة الوجه في هذه الموارد تعني العظمة، كما نقول للرأي الصائب والمهمّ «هذا وجه الرأي» بإعتبار أنّ الوجه يمثّل الشكل الظاهر والمهمّ للشيء، كما في وجه الإنسان الذي يعتبر أهمّ جزء من جسده، وفيه يقع السمع والبصر والنطق.

ثانياً: الوجه هنا بمعنى رضا الخالق، فهم يصبرون على المحن والمشاكل لجلب مرضاة الله، فإستعمال الوجه بهذا المعنى بسبب أنّ الإنسان عندما يريد أن يجلب رضا شخص يمعن النظر في وجهه (وعلى ذلك فهو يستعمل للكناية عن الشيء). وعلى أيّة حال فإنّ هذه الجملة تبيّن أنّ كلّ صبر وعمل خير تكون له قيمة عندما يصبح لوجه الله، وأيّ عمل آخر يقع تحت تأثير الرياء والغرور لا قيمة له مطلقاً.

يقول بعض المفسّرين: إنّ الإنسان يصبر مرّةً لكي يقول عنه الناس: إنّ هذا كثير الإستقامة. وأُخرى لخشيته أن يقولوا عنه أنّه قليل الصبر، أو يصبر حتّى لا يشمت به الأعداء، أو يعلم أن لا فائدة من الجزع .. كلّ هذه الأُمور والنيّات لا تدخل ضمن الكمال الإنساني إلاّ إذا كانت خالصة لوجه الله. فهو يصبر ويستقيم لأنّه يعلم أنّ أيّ فاجعة أو مصيبة لها حكمة ودليل، ولا يقول ما يسخط الربّ،

_____________________________

1 ـ ليس الصبر على الطاعة والمعصية والمصيبة فقط بل الصبر على النعم كذلك حتّى لا يصيب الإنسان الغرور.

[391]

فهذا الصبر هو المعني بقوله تعالى: (إبتغاء وجه الله).

الصفة السّادسة من صفاتهم هي (وأقاموا الصلاة). رغم أنّ إقامة الصلاة هي مصداق للوفاء بعهد الله وكذلك المصداق البارز لحفظ ما أمر الله به أن يوصل، ومصداق للصبر والإستقامة، ولكن هناك بعض مصاديق تلك المفاهيم الكلّية أكثر أهميّة في مصير الإنسان، فهذه الجملة والجمل التي ما بعدها تشير إلى ذلك.

أي شيء أهمّ من هذا؟! إنّ الإنسان يجدّد عهده وصلته بالله سبحانه وتعالى صباحاً ومساءاً، ويتفكّر بعظمة الخالق ويدعوه، ويُطهّر نفسه من الذنوب، ويرتبط بالحقّ المطلق، نعم .. فإنّ الصلاة لها كلّ هذه الآثار والبركات.

ثمّ يبيّن الصفة السّابعة لدعاة الحقّ حيث يقول تعالى: (وأنفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية).

وهذه الآية ليست الوحيدة التي تشير إلى مسألة الإنفاق أو الزكاة بعد ذكر الصلاة، فكثير من الآيات تشير إلى هذا الترادف، فواحدة تُحكم الصلة بين العبد وربّه والثّانية بين العباد.

والجملة (ممّا رزقناهم) تشمل كلّ العطايا من الأموال والعلوم والقوّة والجاه، والإنفاق كذلك يشمل جميع هذه الأبعاد. والعبارة (سرّاً وعلانية) إشارة أُخرى إلى هذه الحقيقة وهي أنّ إنفاقهم يتمّ بشكل مدروس، فتارةً يكون سرّاً ويترتّب عليه أثر كبير، وذلك في الحالات التي توجب أن يحفظ فيها ماء الوجه للطرف الآخر أو تصون الطرف المنفق من الرياء، ومرّةً يكون الإنفاق العلني أكثر تأثيراً وذلك في الحالات التي تدعو الآخرين لكي يتأسّوا بهذا العمل الخيّر ويقتدوا به، فيكون سبباً لكثير من أعمال الخير.

ومن هنا يتّضح أنّ القرآن الكريم يدّقق في أعمال الخير بشكل كبير، ليس فقط في أصل العمل، بل حتّى في كيفيّة تنفيذه.

الصفة الثّامنة والأخيرة هي قوله تعالى: (ويدرئون بالحسنة السيّئة).

[392]

ومعنى هذه العبارة أنّهم لم يكتفوا بالتوبة والإستغفار فقط عند إرتكابهم الذنوب، بل يدفعونها كذلك بالحسنات على مقدار تلك الذنوب، حتّى يطهّروا أنفسهم والمجتمع بماء الحسنات.

«يدرئون» مضارع «درأ» على وزن «زرع» بمعنى دفع.

ويحتمل في تفسير الآية أنّهم لا يقابلون السيء بالسيء، بل يسعون من خلال إحسانهم للمسيئين أن يجعلوهم يعيدون النظر في مواقفهم، كما نقرأ في الآية (34)من سورة فصلت قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم).

وفي نفس الوقت ليس هناك مانع من أنّ الآية تشير إلى هذين المعنيين، كما أشارت إليها الأحاديث الإسلامية. ففي الحديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لمعاذ بن جبل: «إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها»(1).

وعن الإمام علي (عليه السلام) قال «عاتب أخاك بالإحسان إليه واردُد شرّه بالإنعام عليه»(2).

ولابدّ هنا من الإلتفات إلى هذه النقطة، وهي أنّ هذه الأحكام أخلاقية تخصّ الحالات التي يحصل فيها تأثير على الآخرين، وهناك قوانين وأحكام جزائية واردة في التشريع الإسلامي لمعاقبة المسيئين.

وبعد ما ذكر القرآن الكريم الصفات الثمانية لاُولي الألباب، أشار في نهاية الآية إلى عاقبة أمرهم حيث يقول تعالى: (أُولئك لهم عقبى الدار)(3).

الآية الاُخرى توضّح هذه العاقبة (جنّات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرّياتهم).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان ذيل الآية أعلاه.

2 ـ الكلمات القصار في نهج البلاغة، الكلمة 158.

3 ـ «العقبى» بمعنى العاقبة أو نهاية العمل خيراً كان أو شرّاً، ولكن بالنظر إلى قرينة الحال في الآية أعلاه تشير إلى العاقبة الحسنة.

[393]

والشيء الذي يكمل هذه النعم الكبيرة واللامتناهية (والملائكة يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) فهذه السلامة جاءت بعد ما صبرتم على الشدائد وتحمّلتم المسؤوليات الجسام والمصائب، ولكم هنا كامل الطمأنينة والأمان، فلا حرب ولا نزاع، وكلّ شيء يبتسم لكم، والراحة الخالية من المتاعب ـ هنا ـ معدّة لكم.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا ذكر الصبر فقط؟

جملة (سلام عليكم بما صبرتم) تشير إلى مسألة الصبر فقط، في الوقت الذي نرى فيه الآيات السابقة أشارت إلى ثمانية صفات لاُولي الألباب، فما هو السرّ في ذلك؟

للإجابة على هذا الإستفهام نورد ما جاء عن الإمام علي (عليه السلام) في حديث قيّم وذي مغزى كبير، حيث قال: «إنّ الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه».

في الحقيقة إنّ كلّ الأفعال الحيّة والصفات الحميدة للأفراد والمجتمعات تستند إلى الصبر والإستقامة، وبدونها لا يمكن أن نحصل على أي شيء من هذه الصفات، لأنّ في مسيرة عمل الخير عقبات وموانع لا يمكن أن ننتصر عليها إلاّ بالإستقامة، فلا الوفاء بالعهد يمكن تنفيذه بدون الصبر والإستقامة ولا الصلات الإلهيّة، ولا الخوف من الله، ولا إقامة الصلاة ولا الإنفاق يمكن بلوغها بغير الصبر والإستقامة.

[394]

2 ـ أبواب الجنّة

يستفاد من آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة أنّ للجنّة عدّة أبواب، ولكن هذا التعدّد للأبواب ليس لكثرة الداخلين إلى الجنّة فيضيق عليهم الباب الواحد، وليس كذلك للتفاوت الطبقي حتّى تدخل كلّ مجموعة من باب، ولا لبعد المسافة أو قربها، ولا لجمال الأبواب وكثرتها، فأبواب الجنّة ليست كأبواب القصور والبساتين في الدنيا، بل تعدّدت هذه الأبواب بسبب الأعمال المختلفة للأفراد. ولذا نقرأ في بعض الأخبار أنّ للأبواب أسماء مختلفة، فهناك باب يسمّى باب المجاهدين، والمجاهدون يدخلون بسلاحهم من ذلك الباب إلى الجنّة، والملائكة تحييهم(1)!

وروي عن الإمام الباقر (عليه السلام) «واعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب، عرض كلّ باب مسيرة أربعين سنة»(2).

ومن الظريف أنّ القرآن الكريم يذكر لجهنّم سبعة أبواب (لها سبعة أبواب)(3) وطبقاً للرّوايات فإنّ للجنّة ثمانية أبواب، وهذه إشارة واضحة إلى أنّ طرق الوصول إلى السعادة وجنّة الخلد أكثر من طرق الوصول إلى الشقاء والجحيم. ورحمة الله سبقت غضبه «يامن سبقت رحمته غضبه».

ومن ألطف ما في الأمر أنّ الآيات السابقة أشارت إلى ثمان صفات من صفات أُولي الألباب، وكلّ واحدة منها ـ في الواقع ـ هي باب من أبواب الجنّة وطريق للوصول إلى السعادة الأبدية.

_____________________________

1 ـ منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، المجلّد الثّالث، ص995.

2 ـ الخصال للصدوق، الباب الثاني.

3 ـ الحجر، 44.

[395]

3 ـ يلحق بأهل الجنّة أقرباؤهم

الآية أعلاه وآيات أُخرى من القرآن الكريم تصرّح أنّ من بين أهل الجنّة آباؤهم وأزواجهم وأبناؤهم الصالحون، وهذا إنّما هو لإتمام النعمة عليهم، وكي لا يشعروا بفراق أحبّائهم، وبما أنّ تلك الدار متكاملة وكلّ شيء يتجدّد فيها، فإنّ أصحابها يدخلون فيها بوجوه جديدة وأكثر محبّة وإلفة. المحبّة التي تضاعف من نعم الجنّة لهم.

لا شكّ أنّ الآية أعلاه أشارت إلى الآباء والأزواج والأبناء، ولكن في الواقع كلّ الأقرباء سيجتمعون هناك، لأنّه من غير الممكن وجود الأبناء والآباء بدون إخوانهم وأخواتهم .. وحتّى جميع أقربائهم، فالأب الصالح يلحق به أبناؤه وإخوته، وعلى هذا الأساس يكون حضور الأقرباء معهم بشكل طبيعي.

4 ـ ما هي جنّات عدن؟

«العدن» الإستقرار، وهنا جاءت الكلمة بمعنى الخلود، ومنه المعدن لمستقرّ العناصر الفلزية. ويستفاد من مختلف آيات القرآن أنّ الجنّة دار خلود لأهلها، ولكن ـ كما قلنا في ذيل الآية (72) من سورة التوبة ـ جنّات عدن هي محلّ خاص في الجنّة، ولها صفات ومنازل عالية، ولا يدخلها إلاّ ثلاثة: الأنبياء والصدّيقون والشهداء(1).

5 ـ التطهير من آثار الذنوب

ممّا لا شكّ فيه أنّ الحسنات والسيئات لها أثر متقابل في النفس ونحن نرى في حياتنا اليوميّة كثيراً من النماذج بخصوص هذا الموضوع، فمرّةً يتحمّل الإنسان مشاق سنين كثيرة ويسعى للحصول على الثروة، ولكن يفقدها بعمل

_____________________________

1 ـ للتوضيح أكثر راجع ما ذكر ذيل الآية (72) من سورة التوبة.

[396]

بسيط ناتج عن اللامبالاة، أو ليس هذا إحباطاً للحسنات المادية. ومرّةً أُخرى على العكس حيث يرتكب الإنسان كثيراً من الأخطاء في حياته ويتحمّل الخسارة الكبيرة، ولكن يسترجعها من خلال عمل شجاع ومحسوب.

والآية (ويدرئون بالحسنة السيّئة) إشارة إلى هذا الموضوع، لأنّ الإنسان غير معصوم، وهو معرّض للخطأ والمعصية، فعليه أن يفكّر بإصلاح ما فسد، فأعمال الخير لا تمحو الآثار الإجتماعية للذنوب، بل كذلك تمحو من قلبه الظلمة وتعيده إلى النّور والصفاء الفطري. وهذه الحالة تسمّى في القرآن الكريم بـ«التكفير» (كما تقدّم في ذيل الآية 217 من تفسير سورة البقرة إشارات كثيرة في هذا المجال).

ولكن كما قلنا ـ في تفسير الآية أعلاه ـ يمكن أن تكون إشارة إلى الفضيلة الأخلاقية لاُولي الألباب، وذلك أنّهم لا يواجهون السيّئة بالسيّئة، بل العكس يقابلون الإنتقام بالإحسان والسيّئة بالحسنة.

* * *

[397]

الآيتان

وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ أُوْلئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا فِي الاَْخِرَةِ إِلاَّ مَتَعٌ(26)

التّفسير

المفسدون في الأرض!

بعد ما ذكرت الآيات السابقة صفات اُولي الألباب ودعاة الحقّ، أشارت هذه الآيات إلى قسم من الصفات الأصليّة للمفسدين الذين فقدوا حظّهم من العلم والمعرفة حيث يقول جلّ وعلا: (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أُولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار).

في الحقيقة يتلخّص فساد عقيدتهم في الجمل الثلاث الآتية:

[398]

1 ـ نقض العهود الإلهيّة: وتشمل المواثيق الفطرية والعقليّة والتشريعيّة.

2 ـ قطع الصلات: وتشمل الصلة مع الله والرسل والناس ومع أنفسهم.

3 ـ الإفساد في الأرض: وهو نتيجة حتمية لنقض العهود وقطع الصلات.

أو ليس المفسد هو الذي ينقض عهد الله ويقطع الصلات؟!

فهذا السعي من قبل هذه المجموعة من الأفراد بهدف الوصول إلى الأغراض المادّية، وعوضاً أن تصل بهم هذه الجهود المبذولة إلى الأهداف النّبيلة تُبعدهم عنها، لأنّ اللعن هو عبارة عن الإبتعاد من رحمة الله(1).

ومن الظريف أنّ الدار هنا وفي الآية السابقة جاءت بصيغة مطلقة، وهذه إشارة إلى أنّ الدار الحقيقيّة هي الدار الآخرة، وأي دار ما عداها فانية وزائلة.

قوله تعالى: (الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) وهذه إشارة لاُولئك الذين يسعون للحصول على دخل أكثر فهم يفسدون في الأرض وينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل لكي يزيدوا من دخلهم المادّي، وهم غافلون عن هذه الحقيقة وهي أنّ الرزق ـ في زيادته ونقصه ـ بيد الله سبحانه وتعالى.

وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن تكون هذه الجملة جواباً على سؤال مقدّر، وهو: كيف أنّ الله سبحانه وتعالى يرزق كلّ هؤلاء الناس الصالح منهم والطالح من فيض كرمه.

والآية تجيب على هذا السؤال وتقول: (الله يبسط الرزق لمن يشاء) ومع ذلك فهو متاع قليل وزائل، وما ينبغي السعي إليه هو الآخرة والسعادة الأبديّة.

وعلى أيّة حال فإنّ المشيئة الإلهيّة في مجال الرزق هي أنّ الله سبحانه وتعالى لا يبسط الرزق لأحد بدون الإستفادة من الأسباب الطبيعيّة له «أبى الله أن يجري الأُمور إلاّ بأسبابها».

_____________________________

1 ـ يقول الراغب في مفرداته: اللعن بمعنى الطرد مع الغضب، واللعن في الآخرة تشير إلى العقوبة وفي الدنيا الإبتعاد من رحمة الله، وإذا كان من قبل الناس فمعناه دعاء السوء.

[399]

ثمّ تضيف الآية (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ متاع).

وقد ذكر «متاع» بصيغة النكرة لبيان تفاهة الدنيا بالمقارنة مع الآخرة.

* * *

بحثان

1 ـ من هو المفسد في الأرض؟

الفساد يقابله الإصلاح، ويطلق على كلّ عمل تخريبي، ويقول الراغب في مفرداته: «الفساد خروج الشيء عن الإعتدال قليلا كان أو كثيراً، ويضادّه الصلاح، ويستعمل ذلك في النفس والبدن والأشياء الخارجة عن الإستقامة» وعلى ذلك فكلّ عمل فيه نقص، وكلّ إفراط وتفريط في المسائل الفردية والإجتماعية هو مصداق للفساد!

وفي كثير من موارد القرآن الكريم ذكر الفساد في مقابل الإصلاح (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)(1)، وقوله تعالى: (والله يعلم المفسد من المصلح)،(2) وقوله تعالى: (واصلح ولا تتبّع سبيل المفسدين)(3).

كما ذكر الإيمان والعمل الصالح في مقابل الفساد، وحيث يقول جلّ وعلا (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض).(4)

ومن جانب آخر ذكر الفساد، مع كلمة «في الأرض» في كثير من آيات القرآن الكريم نحو عشرين آية ونيّف، وهي توضّح الجوانب الإجتماعية للمسألة.

_____________________________

1 ـ الشعراء، 152.

2 ـ البقرة، 220.

3 ـ الأعراف، 142.

4 ـ سورة ص، 28.

[400]

ومن جانب ثالث ذكر الفساد والإفساد مع ذنوب أُخرى، ويحتمل أن يكون مصداقاً لها، وبعض هذه الذنوب كبيرة وبعضها الآخر أصغر فمثلا قوله تعالى: (إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً)،(1) وقوله تعالى (وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث و(2)النسل)، وقوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض)،(3) وقوله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً).(4)

ومرّةً يعتبر فرعون من المفسدين، وأثناء توبته عند غرقه في النيل يقول: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).(5)

وقد إستعمل «الفساد في الأرض» تعبيراً عن السرقة كما في قصّة يوسف (عليه السلام)(تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنّا سارقين).(6)

ومرّة أُخرى كناية عن قلّة البيع، كما في قصّة شعيب حيث نقرأ قوله تعالى: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين).(7)

وأخيراً إستخدم القرآن الكريم الفساد في التعبير عن إضطراب النظام الكوني (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا).(8)

نستفيد من مجموع هذه الآيات أنّ الفساد ـ بشكل عامّ ـ أو الفساد في الأرض، له معنىً واسع جدّاً، بحيث يشمل أكبر الجرائم مثل جرائم فرعون وسائر

_____________________________

1 ـ المائدة، 33.

2 ـ البقرة، 205.

3 ـ البقرة، 27.

4 ـ القصص، 83.

5 ـ يونس، 91.

6 ـ يوسف، 73.

7 ـ هود، 85.

8 ـ الأنبياء، 22.

[401]

الطواغيت، كما يشمل الأعمال الأقل إجراماً منها مثل بخس الناس أشياءهم، ويشمل كذلك أي خروج عن حالة الإعتدال كما أشرنا إليه سابقاً. وبالنظر إلى أنّ العقوبة يجب أن تكون مطابقة للجريمة يتّضح لنا أنّ كلّ مجموعة من هؤلاء المفسدين لها عقوبة معيّنة وجزاء خاص.

ونرى في الآية (33) من سورة المائدة التي ذكرت «الفساد في الأرض مع محاربة الله ورسوله» أنّ هناك أربع عقوبات ويجب على الحاكم الشرعي أن يختار العقوبة المناسبة على مقدار الجريمة (القتل ـ الصلب ـ قطع الأيدي والأرجل ـ النفي) كما بيّن فقهاؤنا في كتبهم شروط وحدود المفسد في الأرض وعقوباته(1).

ولأجل أن نجتثّ هذه المفاسد، يجب أن نستخدم الوسائل الكافية في كلّ مرحلة من مراحلها، ففي المرحلة الأُولى نستخدم اُسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن طريق النصائح والتذكير، ولكن إذا ما إستوجب الأمر نستعمل الشدّة حتّى لو أدّى ذلك إلى القتال.

وبالإضافة إلى ما أشرنا إليه، فإنّ الجملة (ويفسدون في الأرض) ترشدنا إلى هذه الحقيقة في حياة المجتمع الإنساني، وهي أنّ الفساد الإجتماعي لا يبقى في مكان معيّن ولا يمكن حصره في منطقة معيّنة، بل ينتشر بين أوساط المجتمع وفي كافّة بقاع الأرض ويسري من مجموعة إلى أُخرى.

ويستفاد من الآيات القرآنية أنّ واحدةً من أهداف بعثة الأنبياء هو إنهاء حالة الفساد في الأرض (في معناه الواسع) كما نقرأ في سورة هود الآية (88) قول النّبي شعيب (عليه السلام) (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت).

_____________________________

1 ـ ونحن أشرنا إليه بشكل مفصّل في ذيل الآية (33) من سورة المائدة.

[402]

2 ـ الرزق بيد الله سبحانه وتعالى ولكن ...!

لا نستفيد من الآية أعلاه فقط أنّ الرزق في زيادته ونقصانه بيد الله، بل نستفيد من آيات اُخر أنّ الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء وينقصه لمن يشاء، ولكن ليس كما يعتقده بعض الجهلاء من عدم الكسب والجلوس في زاوية البيت حتّى يبعث الله لهم الرزق، إن هؤلاء الأفراد ـ الذين يُعتبر تفكيرهم السلبي ذريعة لمن يقول بأنّ الدين أفيون الشعوب ـ قد غفلوا عن نقطتين أساسيتين هما:

أوّلا: إنّ الإرادة والمشيئة الإلهيّة التي أشارت إليها الآيات القرآنية ليست مسألة إعتباطية وغير محسوبة، بل ـ وكما قلنا سابقاً ـ إنّ المشيئة الإلهيّة غير منفصلة عن حكمته جلّ وعلا وتدخل فيها الإستعدادات والتوفيقات.

ثانياً: إنّ هذه المسألة لا تعني نفي الأسباب، لأنّ عالم الأسباب هو عالم الوجود، وهذه العوالم وجدت بإرادة الله وهي غير منفصلة عن المشيئة التشريعيّة.

وبعبارة أُخرى: إنّ إرادة الله في مجال بسط الرزق نقصه مشروطة بشرائط تتحكّم في حياة الناس، فالسعي والإخلاص والإيثار، وبعكس ذلك الكسل والبخل وسوء النيّة، لها دور فعّال وكبير، ولهذا السبب نرى القرآن الكريم يشير مراراً إلى أنّ الإنسان رهين بسعيه وإرادته وعمله، وما يستفيده من حياته إنّما هو بمقدار هذا السعي والإجتهاد (ليس للإنسان إلاّ ما سعى).

ولهذا فإنّ هناك باباً في السعي لتحصيل الرزق يذكره المحدّثون في موسوعاتهم الحديثة «كوسائل الشيعة» في باب التجارة، ويوردون أحاديث كثيرة في هذا المجال، كما أنّ هناك أبواباً أُخرى تذمّ البطالة والكسل، ومن جملتها الحديث المرويّ عن الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: «إنّ الأشياء لمّا إزدوجت إزدوج الكسل والعجز فنتجا بينهما الفقر»(1).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) «لا تكسلوا في طلب معايشكم فإنّ آباءنا كانوا

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، المجلّد 12، صفحة 37.

[403]

يركضون فيها ويطلبونها»(1).

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «إنّي لأبغض الرجل أن يكون كسلاناً عن أمر دنياه، ومن كسل عن أمر دنياه فهو عن أمر آخرته أكسل»(2).

وعن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) «إنّ الله تعالى ليبغض العبد النوّام، إنّ الله ليبغض العبد الفارغ»(3).

* * *

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 37 و 38.

2 ـ وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 38.

3 ـ وسائل الشيعة المجلّد 12 صفحة 37 و 38.

[404]

الآيات

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب(29)

التّفسير

ألا بذكر الله تطمنّ القلوب:

في سورة الرعد ـ كما أشرنا سابقاً ـ بحوث كثيرة حول التوحيد والمعاد والنبوّة، فالآية الأُولى من هذه المجموعة تبحث مرّةً أُخرى في دعوة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وتبيّن واحداً من أعذار المشركين المعاندين حيث يقول تعالى: (ويقول الذين كفروا لولا اُنزل عليه آية من ربّه).

جملة «يقول» فعل مضارع للدلالة على أنّ هذا العذر كان يجري على ألسنتهم كثيراً، رغم ما يرونه من معجزات الرّسول (فعلى كلّ نبي أن يظهر المعجزة كدليل على صدقه) ومع ذلك كانوا يحتجّون عليه ولا يؤمنون بالمعاجز

[405]

السابقة، ويطلبون منه معاجز جديدة تلائم أفكارهم.

وبعبارة أُخرى إنّ هؤلاء وجميع المنكرين لدعوة الحقّ كانوا دائماً يطلبون «المعاجز الإقتراحية»، ويتوقّعون من النّبي أن يجلس في زاوية الدار ويُظهر لكلّ واحد منهم المعجزة التي يقترحها، فإن لم تعجبهم لم يؤمنوا بها!.

في الوقت الذي نرى فيه أنّ الوظيفة الرئيسيّة للأنبياء هي التبليغ والإرشاد والإنذار وهداية الناس، وأمّا المعجزة فهي أمرٌ إستثنائي وتكون بأمر من الله لا من الرّسول، ولكن نحن نقرأ في كثير من الآيات القرآنية أنّ هذه المجموعة المعاندة لا تأخذ هذه الحقيقة بنظر الإعتبار، وكانت تؤذي الأنبياء دائماً بهذه الطلبات. ويجيبهم القرآن الكريم حيث يقول: (قل إنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب).

وهذه إشارة إلى أنّ العيب ليس من ناحية الإعجاز، لأنّ الأنبياء قد أظهروا كثيراً من المعاجز، ولكن النقص من داخل أنفسهم. وهو العناد والتعصّب والجهل والذنوب التي تصدّ عن الإيمان.

ولأجل ذلك يجب أن ترجعوا إلى الله وتنيبوا إليه وترفعوا عن عيونكم وأفكاركم ستار الجهل والغرور كي يتّضح لكم نور الحقّ المبين.

تُشير الآية الثانية بشكل رائع إلى تفسير (من أناب) حيث يقول تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله). ثمّ يذكر القاعدة العامّة والأصل الثابت حيث يقول تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).

وتبحث الآية الأخيرة مصير الذين آمنوا حيث تقول: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب).

كثير من المفسّرين قالوا: إنّ كلمة «طوبى» مؤنّث «أطيب»، وبما أنّ المتعلّق محذوف فإنّ للكلمة مفهوماً واسعاً وغير محدود، ونتيجة طوبى لهم هو أن تكون لهم أفضل الأشياء: أفضل الحياة والمعيشة، وأفضل النعم والراحة، وأفضل

[406]

الألطاف الإلهيّة، وكلّ ذلك نتيجة الإيمان والعمل الصالح لاُولئك الراسخين في عقيدتهم والمخلصين في عملهم.

وما ذكره جمع من المفسّرين في معنى هذه الكلمة وأوصلها صاحب مجمع البيان إلى عشرة معاني، فانّها في الحقيقة تصبّ كلّها في هذا المعنى الواسع والشامل الذي ذكرناه.

ونقرأ في روايات متعدّدة أنّ «طوبى» شجرة أصلها في بيت النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام علي (عليه السلام) في الجنّة، وتنتشر أغصانها على رؤوس جميع المؤمنين وعلى دورهم، ولعلّ هذا تجسيماً لقيادتهم وإمامتهم والصلات القويّة التي تربط بين هولاء القادة وأصحابهم، وتكون ثمرتها كلّ هذه النعم المختلفة.

(وإذا ما رأينا أنّ طوبى جاءت مؤنثّة لأطيب الذي هو مذكّر، فإنّ ذلك بسبب أنّها صفة للحياة والمعيشة أو النعمة وكلّ هذه مؤنثة).

* * *

بحوث

1 ـ كيف يطمئن القلب بذكر الله؟

إنّ الإضطراب والقلق من أكبر المصاعب في حياة الناس، والنتائج الحاصلة منهما في حياة الفرد والمجتمع واضحة للعيان، والإطمئنان واحد من أهمّ إهتمامات البشر، وإذا حاولنا أن نجمع سعي وجهاد الإنسانية على طول التأريخ في بحثهم للحصول على الإطمئنان بالطرق الصحيحة غير الصحيحة، فسوف تتكوّن لدينا كتب كثيرة ومختلفة تعرض تلك الجهود.

يقول بعض العلماء: عند ظهور بعض الأمراض المُعدية ـ كالطاعون ـ فإنّ من بين العشرة الأفراد الذين يموتون بسبب المرض ـ ظاهراً ـ أكثرهم يموت بسبب القلق والخوف، وعدّة قليلة منهم تموت بسبب المرض حقيقة. وبشكل

[407]

عام «الإطمئنان» و «الإضطراب» لهما دور مهمّ في سلامة ومرض الفرد والمجتمع وسعادة وشقاء الإنسانية، وهذه مسألة لا يمكن التغافل عنها، ولهذا السبب أُلّفت كتب كثيرة في موضوع القلق وطرق التخلّص منه، وكيفيّة الحصول على الراحة، والتاريخ الإنساني مليء بالمواقف مؤسفة لتحصيل الراحة، وكيف أنّ الإنسان يتشبّث بكلّ وسيلة غير مشروعة كأنواع الإعتياد على المواد المخدّرة لنيل الإطمئنان النفسي.

ولكن القرآن الكريم يبيّن أقصر الطرق من خلال جملة قصيرة ولكنّها كبيرة المعنى حيث يقول: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)!

ولتوضيح هذا المعنى ومعرفة عوامل القلق والإضطراب لابدّ من ملاحظة ما يلي:

أوّلا: يحدث الإضطراب مرّةً بسبب ما يجول في فكر الإنسان عن المستقبل المظلم، فيحتمل زوال النعمة، أو الأسر على يد الأعداء، أو الضعف والمرض، فكلّ هذه تؤلم الإنسان، لكن الإيمان بالله القادر المتعال الرحمن الرحيم، الله الذي تكفّل برحمة عباده .. هذا الإيمان يستطيع أن يمحو آثار القلق والإضطراب ويمنحه الإطمئنان في مقابل هذه الأحداث ويؤكّد له أنّك لست وحيداً، بل لك ربّ قادر رحيم.

ثانياً: ومرّةً يشغل فكر الإنسان ماضيه الأسود فيمسي قلقاً بسبب الذنوب التي إرتكبها وبسبب التقصير والزلاّت، ولكن بالنظر إلى أنّ الله غفّار الذنوب وقابل التوبة وغفور رحيم، فإنّ هذه الصفات تمنح الإنسان الثقة وتجعله أكثر إطمئناناً وتقول له: إعتذر إلى الله من سوالف أعمالك السيّئة واتّجه إليه بالنيّة الصادقة.

ثالثاً: ضعف الإنسان في مقابل العوامل الطبيعيّة، أو مقابل كثرة الأعداء يؤكّد في نفسه حالة القلق وأنّه كيف يمكن مواجهة هؤلاء القوم في ساحة الجهاد أو في

[408]

الميادين الأُخرى؟

ولكنّه إذا تذكّر الله، وإستند إلى قدرته ورحمته .. هذه القدرة المطلقة التي لا يمكن أن تقف أمامها أيّة قدرة أُخرى، سوف يطمئنّ قلبه، ويقول في نفسه: نعم إنّني لست وحيداً، بل في ظلّ القدرة الإلهيّة المطلقة!

فالمواقف البطولية للمجاهدين في ساحات القتال، في الماضي أو الحاضر، وشجاعتهم النادرة حتّى في المنازلة الفردية لهم، كلّها تبيّن حالة الإطمئنان التي تنشأ في ظلّ الإيمان.

نحن نشاهد أو نسمع أنّ أحد الضبّاط المؤمنين فقد بصره مثلا أو أصابته جراحات كثيرة بعد قتال شديد مع أعداء الإسلام ولكن عندما يتحدّث كأنّه لم يكن به شيء، وهذه نتيجة الإستقرار والطمأنينة في ظلّ الإيمان بالله.

رابعاً: ومن جانب آخر يمكن أن يكون أصل المشقّة هي التي تؤذي الإنسان، كالإحساس بتفاهة الحياة أو اللاهدفية في الحياة، ولكن المؤمن بالله الذي يعتقد أنّ الهدف من الحياة هو السير نحو التكامل المعنوي والمادّي، ويرى أنّ كلّ الحوادث تصبّ في هذا الإطار، سوف لا يحسّ باللاهدفيّة ولا يضطرب في المسيرة.

خامساً: ومن العوامل الأُخرى أنّ الإنسان مرّةً يتحمّل كثيراً من المتاعب للوصول إلى الهدف، ولكن لا يرى من يُقيّم أعماله ويشكر له هذا السعي، وهذه العملية تؤلمه كثيراً فيعيش حالة من الإضطراب والقلق، وأمّا إذا علم أنّ هناك من يعلم بهذا السعي ويشكره عليه ويثيبه، فليس للإضطراب والقلق هنا محل من الإعراب.

سادساً: سوء الظنّ عامل آخر من عوامل الإضطراب والذي يصبّ كثيراً من الناس في حياتهم ويبعث فيهم الألم والهمّ، ولكنّ الإيمان بالله ولُطفه المطلق وحُسن الظنّ به التي هي من وظائف الفرد المؤمن سوف تزيل عنه حالة العذاب

[409]

والقلق وتحلّ محلّها حالة الإطمئنان والإستقرار.

سابعاً: الهوى وحبّ الدنيا من أهمّ عوامل القلق والإضطراب، وقد تصل الحالة في عدم الحصول على لون خاص في الملبس، أو أي شيء آخر من مظاهر الحياة البرّاقة أن يعيش الإنسان حالة من القلق قد تستمر أيّاماً وشهوراً.

ولكن الإيمان بالله وإلتزام المؤمن بالزهد والإقتصاد وعدم الإستئسار في مخالب الحياة المادية ومظاهرها البرّاقة ينهي حالة الإضطراب هذه، وكما قال الإمام علي (عليه السلام): «دُنياكم هذه أهون عندي من ورقة في فمّ جرادة تقضمها» فمن كانت له مثل هذه الرؤية كيف يمكن أن تحدث عنده حالة الخوف والقلق نتيجة لعدم الحصول على شيء من وسائل الحياة الماديّة أو فقدانها؟!

ثامناً: من العوامل المهمّة الأُخرى الخوف من الموت، وبما أنّ الموت لا يحصل فقط في السنّ المتأخّرة، بل في كافّة السنين وخصوصاً أثناء المرض والحروب، والعوامل الأُخرى فالقلق يستوعب كافّة الأفراد. ولكن إذا إعتقدنا أنّ الموت يعني الفناء ونهاية كلّ شيء (كما يعتقده المادّيون) فإنّ الإضطراب والقلق في محلّه، ولابدّ أن يخاف الإنسان من هذا الموت الذي يُنهي عنده كلّ الآمال والأماني والطموحات. ولكن الإيمان بالله يمنحنا الثقة بأنّ الموت هو باب لحياة أوسع وأفضل من هذه الحياة، وبرزخ يمرّ منه الإنسان إلى دار فضاؤها رحب، فلا معنى للقلق حينئذ، بل إنّ مثل هذا الموت ـ إذا ما كان في سبيل الله يكون محبوباً ومطلوباً.

إنّ عوامل الإضطراب لا تنحصر بهذه العوامل، فهناك عوامل كثيرة أُخرى، ولكن كلّ مصادرها تعود إلى ما ذكرناه أعلاه.

وعندما رأينا أنّ كلّ هذه العوامل تذوب وتضمحلّ في مقابل الإيمان بالله سوف نصدّق أنّه (ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب)(1).

_____________________________

1 ـ للإستفادة أكثر راجع كتاب (طرق التغلّب على الإضطراب والقلق).

[410]

2 ـ الطمأنينة والخوف من الله

طرح بعض المفسّرين هنا هذا السؤال، وخلاصته: نحن قرأنا في الآية أعلاه (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ومن جانب آخر فإنّ الآية 2 من سورة الأنفال تقول: (إنّما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) فهل إنّ هاتين الآيتين متناقضتين؟

الجواب: إنّ الطمأنينة المحمودة هي ما كانت في مقابل العوامل المادية التي تقلق الإنسان ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ ولكن المؤمنين لابدّ وأن يكونوا قلقين في مقابل مسؤولياتهم، وبعبارة أُخرى: إنّ المؤمنين لا يشكون من الإضطراب المدمّر الذي يشكّل غالبية أشكال القلق والإضطرابات، ولكن القلق البنّاء الذي يحسّ به الإنسان تجاه مسؤولياته أمام الله فهو المطلوب ولابدّ منه، وهذا هو الخوف من الله(1).

3 ـ ما هو ذكر الله، وكيف يتمّ؟

«الذكر» كما يقول الراغب في مفرداته: حفظ المعاني والعلوم، ويُستعمل الحفظ للبدء به، بينما الذكر للإستمرار فيه، ويأتي في معنى آخر هو ذكر الشيء باللسان أو القلب، لذلك قالوا: إنّ الذكر نوعين «ذكر القلب» و «ذكر اللسان» وكلّ واحد منها على نوعين: بعد النسيان أو بدونه.

وعلى أيّة حال ليس المقصود من الذكر ـ في الآية أعلاه ـ هو ذكره باللسان فقط فنقوم بتسبيحه وتهليله وتكبيره، بل المقصود هو التوجّه القلبي له وإدراك علمه وبأنّه الحاضر والناظر، وهذا التوجّه هو مبدأ الحركة والعمل والجهاد والسعي نحو الخير، وهو سدّ منيع عن الذنوب، فهذا هو الذكر الذي له كلّ هذه الآثار والبركات كما أشارت إليه عدّة من الرّوايات .

_____________________________

1 ـ وقد أشرنا إلى هذه المسألة من تفسير الأمثل ذيل الآية (2) من سورة الأنفال.

[411]

فمن وصايا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للإمام علي (عليه السلام) يقول له: «ياعلي، ثلاث لا تطيقها هذه الأُمّة: المواساة للأخ في ماله، وإنصاف الناس من نفسه، وذكر الله على كلّ حال، وليس هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر، ولكن إذا ورد على ما يحرم عليه خاف الله عزّوجلّ عنده وتركه»(1).

وقال الإمام علي (عليه السلام): «الذكر ذكران: ذكر الله عزّوجلّ عند المصيبة، وأفضل من ذلك ذكر الله عندما حرّم الله عليك فيكون حاجزاً»(2).

ولهذا السبب إعتبرت بعض الرّوايات الذكر وقاية ووسيلة دفاعية، كما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاطب أصحابه يوماً فقال لهم: اتّخذوا جُنناً، فقالوا يارسول الله أمن عدو وقد أظلنا؟ قال: لا، ولكن من النار، قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر»(3).

وإذا ما رأينا أنّ بعض الرّوايات تتحدّث عن «ذكر الله» أنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فذلك لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكّر الناس بالله تعالى، وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) قال: «بمحمّد تطمئن القلوب وهو ذكر الله وحجابه».

* * *

_____________________________

1 ـ سفينة البحار، المجلّد الأوّل، صفحة 484.

2 ـ المصدر السّابق.

3 ـ المصدر السّابق.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21338158

  • التاريخ : 29/03/2024 - 09:16

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net