[164]
الآيتان
وَجَآءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَـبُشْرَى هَـذَا غُلَـمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَـعَةً وَاللهُ عَلِيمُ بِمَا يَعْمَلُونَ(19) وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْس دَرَهِمَ مَعْدُودَة وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّهِدِينَ(20)
التّفسير
نحو أرض مصر:
قضى يوسف في ظلمة الجب الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرّةً، ولكنّه بإِيمانه بالله وسكينته المنبثقة عن الإِيمان شع في قلبه نور الأمل، وألهمه الله تعالى القوة والقدرة على تحمّل الوحدة الموحشة، وأن ينجح في هذا الإِمتحان.
ولكنّ ... الله أعلم كم يوماً قضى يوسف في هذه الحالة؟
قال بعض المفسّرين: قضى ثلاثة أيام، وقال آخرون: يومين.
وعلى كل حال تبلج النّور (وجاءت سيّارة)(1).
وانتخَبت منزلها على مقربة من الجُبّ، وطبيعي أنّ أوّل ما تفكر القافلة فيه ـ
_____________________________
1 ـ سمّيت القافلة «سيارة» لأنّها في سير وحركة دائمين.
[165]
في منزلها الجديد ـ هو تأمين الماء وسد حاجتها منه (فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه)(1).
فانتبه يوسف الى صوت وحركة من أعلى البئر، ثمّ رأى الحبل والدلو يسرعان الى النّزول، فانتهز الفرصة وانتفع من هذا العطاء الإِلهي وتعلق بالحبل بوثوق.
فأحسّ المأمور بالإِتيان بالماء أن الدلو قد ثقُلَ أكثر ممّا ينبغي، فلمّا سحبه بقوة الى الأعلى فوجىء نظره بغلام كأنّه فلقة قمر، فصرخ وقال: (يا بشرى هذا غلام).
وشيئاً فشيئاً سرى خبر يوسف بين جماعة من أهل القافلة، ولكن من أجل أن لا يذاع هذا الخبر وينتشر، ولكي يمكن بيع هذا الغلام الجميل في مصر، أخفوه (وأسرّوه بضاعة)(2).
وبالطبع هناك احتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة منها أن الذين عثروا على يوسف أسرّوه وأخفوا خبره، وقالوا: هذا متاع لأصحاب هذا الجبّ أودعوه عندنا لنبيعه في مصر.
ومنها أن أحد إِخوة يوسف كان بين الحين والحين يأتي الى الجبّ ليطلع على يوسف ويأتيه بالطعام وحين اطلع إِخوة يوسف على ما جرى أخفوا علاقتهم الأخوية بيوسف وقالوا: هذا غلامنا فرّ من أيدينا واختفى هنا، وهددوا يوسف بالموت إِذ كشف الستار عن الحقيقة.
ولكن التّفسير الأوّل يبدو أقرب للنظر.
وتقول الآية في نهايتها: (والله عليم بما كانوا يعملون) وبالرغم من اختلاف المفسّرين في من هم الذين شروا يوسف بثمن بخس، وقول بعضهم: هم إِخوة
_____________________________
1 ـ «الوارد» في الأصل من «الورود» وهو من يأتي بالماء، ثمّ توسع استعمال الكلمة وأطلقت على كل ورود ودخول.
2 ـ «البضاعة» في الأصل من مادة «بضع» على وزن «نذر» ومعناها: القطعة من اللحم، ثمّ توسعوا في المعنى وأطلقوا هذا اللفظ على القطعة المهمّة، من المال. والبضعة هي القطعة من الجسد، وحَسنَ البضع معناه: الإِنسان المكتنز لحمه، و«بِضْع» على وزن «حِزب» معناه العدد من ثلاثة الى عشرة (راجع المفردات للراغب).
[166]
يوسف، ولكن ظاهر الآيات هو من كان في القافلة، وقد تمّ البحث عن إِخوته في نهاية الآية التي سبقت هذه الآيات، وجميع الضمائر في الجُمَل (أرسلوا واردهم)و(أسروه بضاعة) تعود على من كان في القافلة.
هنا يبرز هذا السؤال وهو: لِمَ باعوا يوسف الذي كان يعدّ ـ على الأقل ـ غلاماً ذا قيمة بثمن قليل، أو كما عبّر عنه القرآن (وشروه بثمن بخس)...؟
ولكن هذا أمر مألوف فإنّ السُراق أو أُولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمّة دون أي تعب ونصب يبيعونها سريعاً لئلا يطلع الآخرون.
ومن الطبيعي أنّهم لا يستطيعون بهذه الفورية أن يبيعوه بسعر غال.
و«البخس» في الأصل معناه تقليل قيمة الشيء ظلماً، ولذلك فإنّ القرآن يقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)(1).
ثمّ إنّ هناك اختلافاً آخر بين المفسّرين في الثمن الذي بيع به يوسف، وكيف قُسّم بينهم؟ فقال البعض: عشرون درهماً، وقالت طائفة: اثنان وعشرون، ومع ملاحظة أنّ الباعة كانوا عشرين يتّضح سهم كل منهم، وكم هو زهيد! ... وتقول الآية: (وكانوا فيه من الزاهدين).
وفي الحقيقة إِنّ هذه الجملة في حكم بيان العلة للجملة المتقدمة، وهي إِشارة الى أنّهم باعوا يوسف بثمن بخس، لأنّهم لم يرغبوا في هذه المعاملة ولم يعتنوا بها.
وهذا البيع البخس إِمّا لأنّ أهل القافلة اشتروا يوسف بثمن بخس، والإِنسان إِذا اشترى شيئاً رخيصاً باعه رخيصاً عادةً، أو إِنّهم كانوا يخافون أن يفتضح سرّهم ويجدون من يدّعيه، أو من جهة أنّهم لم يجدوا في يوسف أثراً للغلام الذي يباع ويُشترى، بل وجدوا فيه آثار الحرّية واضحة في وجهه، ومن هنا فلا البائعون كانوا راغبين ببيعه ولا المشترون كانوا راغبين بشرائه.
* * *
_____________________________
1 ـ هود، 85.
[167]
الآيتان
وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاَْرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَيَعْلَمُونَ(21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ءَاتَيْنَـهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُْمحْسِنِينَ(22)
التّفسير
في قصر عزيز مصر:
إنتهت حكاية يوسف مع إِخوته الذين ألقوه في غيابة الجبّ وبيّناها تفصيلا، بدأ فصل جديد من حياة هذا الغلام الحدث في مصر ... فقد جيء بيوسف الى مصر وعرض للبيع، ولما كان تحفة نفيسة فقد صار من نصيب «عزيز مصر» الذي كان وزيراً لفرعون أو رئيساً لوزرائه، لأنّه كان يستطيع أن يدفع قيمة أعلى لغلام ممتاز من جميع الجهات، والآن لنَر ما الذي حدث له في بيت عزيز مصر.
يقول القرآن الكريم في شأن يوسف: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته
[168]
أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً)(1) فلا ينبغي أن تنظري اليه كما ينظرالى العبيد.
يستفاد من سياق الآية أنّ عزيز مصر لم يرزق ولداً وكان في غاية الشوق للولد، وحين وقعت عيناه على هذا الصبيّ الجميل والسعيد تعلّق قلبه به ليكون مكان ولده.
ثمّ يضيف القرآن الكريم (وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض).
هذا «التمكين» في الأرض إِمّا أن يكون لمجيىء يوسف الى مصر، وخاصّة أن خطواته، في محيط مصر مقدّمة لما سيكون عليه من الإِقتدار والمكانة القصوى، وإِمّا أنّه لا قياس، بين هذه الحياة في مصر «العزيز» وبين تلك الحياة في غيابة الجبّ والوحدة والوحشة. فأين تلك الشدّة من هذه النعمة والرفاه!
ويضيف القرآن أيضاً (ولنعلمه من تأويل الأحاديث).
المراد من «تأويل الأحاديث» ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله، أو المراد منه الوحي لأنّ يوسف مع عبوره من المضائق الصعبة والشدائد القاسية ونجاحه في الإِختبارات الإِلهية في قصر عزيز مصر، نال الجدارة بحمل الرسالة والوحي. ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب كما يبدو للنظر.
ثمّ يختتم القرآن هذه الآية بالقول: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
إِنّ واحدة من مظاهر قدرة الله العجيبة وهيمنته على الأُمور كلها أن يدع ـ في كثير من الموارد ـ أسباب موفقيه الإِنسان ونجاحه بيد أعدائه كما حدث في مسألة يوسف(عليه السلام)، فلو لا خطة إِخوته لم يصل الى الجبّ أبداً، ولو لم يصل الى الجبّ لما وصل الى مصر، ولو لم يصل الى مصر لما ذهب الى السجن ولما كان
_____________________________
1 ـ «المثوى» من مادة (ثوى) ومعناه المقام، ولكن معناه هنا الموقعية والمنزلة والمقام كذلك.
[169]
هناك أثر من رؤيا فرعون التي أصبح يوسف بسببها عزيزَ مصر!
ففي الحقيقة إِن الله أجلس يوسف على عرش الإِقتدار بواسطة إِخوته الذين تصوروا أنّهم سيقضون عليه في تركهم إِيّاه في غيابة الجُبِّ.
لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد، الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة ... فمن جهة كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة أُخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق النخاسين وبيع المماليك والعبيد ... ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك!
أجلْ، لقد تعلم الكثير من هذه الأشياء في هذا المحيط المفعم بالضوضاء، وكان قلبه يفيض همّاً لأنّ الظروف لم تتهيأ له بعدُ. فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها، يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين).
كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «شدّ» وتعني فتل العقدة باستحكام ... وهي هنا إِشارة الى الإِستحكام الجسماني والروحاني.
قال بعضهم: إِنّ هذه الكلمة جمع لا مفرد لها ... ولكن البعض الآخر قال: إِنّها جمع (شدّ) على وزن (سدّ) ولكن معناها الجمعي غير قابل للإِنكار على كل حال!
المراد من «الحكم» و«العلم» الواردين في الآية المتقدمة التي تقول: (ولمّا بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً ...) إِمّا أن يكون مقام النبوّة كما ذهب الى ذلك بعض المفسّرين، وإِمّا أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والإِشتباه. والمراد من العلم الإِطلاع الذي لا يقترن معه الجهل، ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما
[170]
الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه، وجميع هذه الصفات مجتمعة في كلمة «المحسنين».
قال بعض المفسّرين: هناك ثلاثة احتمالات لمعنى كلمتي (الحكم والعلم) الواردتين في الآية، وهي:
1 ـ إِنّ الحكم إِشارة الى مقام النبوة (لأنّ النّبي حاكم على الحق) والعلم إِشارة الى علم الدين.
2 ـ إِن الحكم يعني ضبط النفس إِزاء الهوى والميول النفسيّة، وهو هنا إِشارة الى الحكمة العملية. والعلم إِشارة الى العلم النظري ... وتقديم الحكم على العلم هنا لأنّ الإِنسان إِذا لم يهذب نفسه ويبنيها بناءً صحيحاً لا يصل الى العلم الصحيح.
3 ـ إِنّ الحكم معناه أن يبلغ الإِنسان مقام «النفس المطمئنة» ويتسلّط على نفسه بحيث يستطيع أن يتملك زمام النفس الأمّارة ووسوستها ... والمراد من العلم هو الأنوار القدسيّة وأشعة الفيض الإِلهي الذي تنزل من عالم الملكوت على قلب الإِنسان الطاهر(1).
* * *
ملاحظات
1 ـ ما هو اسم «عزيز» مصر؟
ممّا يستجلب النظر في الآيات المتقدمة أن اسم عزيز مصر لم يذكر فيها، إِنّما ورد التعبير عنه بـ(الذي اشتراه).
لكن من هو هذا العزيز؟! لم تذكره الآية، كما سنرى في الآيات المقبلة أن عنوانه لم يصرّح به إِلاّ بالتدريج، فمثلا نقرأ في الآية (25) هذا النصّ (وألفيا
_____________________________
1 ـ راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 18، ص 111.
[171]
سيدّها لدى الباب).
وحين نتجاوز هذه الآيات ونصل الى الآية (30) نواجه التعبير عن زوجته بـ «امرأة العزيز».
وهذا البيان التدريجي إِمّا لأنّ القرآن يتحدث ـ حسب طريقته ـ بالمقدار اللازم، وهذا دليل من أدلة الفصاحة والبلاغة، أو لأنّه ـ كما هو ملاحظ هذا اليوم في «نصوص الآداب» أيضاً ـ حين يبدأ بالقصّة ـ يبدأ بها من نقطة غامضة ليتحرك الإِحساس في الباحث، وليلفت نظره نحو القصّة.
2 ـ يوسف (عليه السلام) وتعبير الأحلام
الملاحظة الأُخرى التي تثير السؤال في الآيات المتقدمة، هي: ما علاقة الإِطلاع على تفسير الأحلام وتأويل الأحاديث بمجيىء يوسف الى قصر عزيز مصر الذي أشير إِليه بلام الغاية في جملة (ولنعلّمه)؟!
لكن مع الإِلتفات الى أنّ هذه النقطة يمكن أن تكون جواباً للسؤال الآنف الذكر، وهي أن كثيراً من المواهب العلمية يهبها الله قبال التقوى من الذنوب ومقاومة الاهواء والميول النفسيّة، أو بتعبير آخر: إِنّ هذه المواهب التي هي ثمرة البصيرة القلبية الثاقبة، هي جائزة إِلهية يهبها الله لمثل هؤلاء الأشخاص.
نقرأ في حالات ابن سيرين مفسر الأحلام المشهور أنّه كان رجلا بزازاً وكان جميلا للغاية فعشقته امرأة وتعلق قلبها به، واستدرجته الى بيتها بأساليب وحيل خاصّة، ثمّ غلّقت الأبواب عليه (لينال منها الحرام) لكنه لم يستسلم لهوى تلك المرأة وأخذ ينصحها ويذكر مفاسد هذا الذنب العظيم، ولكن نار الهوى كانت متأججة في قلبها بحيث لم يطفئها ماء الموعظة، ففكر ابن سيرين في الخلاص من قبضتها، فلوّث جَسده بما كان في بيتها من أقذار تنفّر الرائي، فلما رأته المرأة نفرت منه وأخرجته من البيت.
[172]
يقال أنّ ابن سيرين أصبح ذكيّاً بعد هذه الحادثة ورزق موهبة عظيمة في تفسير الأحلام، وذكروا قصصاً عجيبة عنه في الكتب التي تتناول تفسير الأحلام تدل على عمق اطلاعه في هذا المجال!
فعلى هذا يمكن أن يكون يوسف(عليه السلام) قد نال هذه الموهبة الخاصّة (العلم بتأويل الأحاديث) لتسلّطه على نفسه قبال إِثارة امرأة العزيز لهوى النفس!
ثمّ بعد هذا كله فإنّ قصور الملوك في ذلك الزمان كانت مراكز لمفسري الأحلام، وإِنّ شاباً ـ ذكياً كيوسف ـ كان يستطيع أن يستفيد من تجارب الآخرين، وأن يكون له استعداد روحي لإِفاضة العلم الإِلهي في هذا المجال!
وعلى كل حال فإنّه ليس مستبعداً أن يهب الله سبحانه لعباده المخلصين المنتصرين في ميادين «جهاد النفس للهوى والشّهوات» مواهب من المعارف والعلوم التي لا تقاس بأيّ معيار مادي، ويمكن أن يكون الحديث المعروف «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء» إِشارة الى هذه الحقيقة.
هذا العلم ليس ممّا يقرأ عند الأستاذ، ولا يعطى لأيّ كان وبدون حساب ... بل هو جائزة من الجوائز التي تمنح للمتسابقين في ميادين جهاد النفس!
3 ـ المراد من قوله تعالى: (ولمّا بلغ أشدّه)
قلنا إِن (أشدّ) معناه الإِستحكام الجسماني والروحاني، وبلوغ الرشد معناه الوصول الى هذه المرحلة، ولكن هذا العنوان قد عبّر عنه القرآن الكريم في مراحل مختلفة من عمر الإِنسان.
فتارة أطلقه على سنّ البلوغ كقوله تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إِلاّ بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدّه)(1).
وتارةً يرد هذا المعنى في وصول الإِنسان الى أربعين سنة، كقوله تعالى:
_____________________________
1 ـ سورة الإِسراء، الآية 34.
[173]
(حتى إِذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)(1).
وتارةً يراد به ما قبل مرحلة الشيخوخة والكبر، كقوله تعالى: (ثمّ يخرجكم طفلا ثمّ لتبلغوا أشدّكم ثمّ لتكونوا شيوخاً)(2).
ولعل هذا التفاوت في التعبيرات آت من طيّ الإِنسان مراحل مختلفة لإِستحكام الروح والجسم، ولا شكّ أن الوصول الى سنّ البلوغ واحد من هذه المراحل.
وبلوغ الأربعين الذي يكون توأماً للنضج الفكري والعقلي مرحلة ثانية، كما أن المرحلة الثّالثة تكون قبل أن يسير الإِنسان نحو قوس النّزول ويبلغ الضعف والوهن!
وعلى كل حال فإنّ المقصود في الآية ـ محل البحث ـ هو مرحلة البلوغ الجسمي والروحي الذي ظهر في يوسف بداية شبابه، يقول الفخر الرازي في تفسيره في هذا الصدد: «مدة دور القمر ثمانية وعشرون يوماً وكسرٌ، فإِذا جعلت هذه الدورة أربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة أيام، فلا جرمَ رتبوا أحوال الأبدان على الأسابيع، فالإِنسان إِذا وُلد كان ضعيف الخلقة نحيف التركيب الى أن يتم له سبع سنين، ثمّ إِذا دخل في السبعة الثانية حصل فيه آثار الفهم والذكاء والقوّة، ثمّ لا يزال في الترقي إلى أن يتمّ له أربع عشرة سنة، فإذا دخل في السنة الخامسة عشرة دخل في الأسبوع الثّالث وهناك يكمل العقل ويبلغ الى حد التكليف وتتحرك فيه الشهودة، ثمّ لا يزال يرتقي على هذه الحالة الى أن يتم السنةَ الحاديةَ والعشرين وهناك يتم الأسبوع الثّالث، ويدخل في السنة الثّانية والعشرين وهذا الأسبوع آخر أسبوع النشوء والنماء، فإِذا تمّت السنة الثّامنة والعشرون فقد تمّت مدّة النشوء والنماء وينتقل الإِنسان منه الى زمان الوقوف،
_____________________________
1 ـ سورة الأحقاف، الآية 15.
2 ـ سورة غافر، 67.
[174]
وهو الزمان الذي يبلغ الإِنسان فيه أشدّه، وبتمام هذا الأسبوع الخامس ـ يحصل للإِنسان خمسة وثلاثون سنة ثمّ إنّ هذه المراتب مختلفة في الزيادة والنقصان، فهذا الاسبوع الخامس الذي هو أسبوع الشدّة والكمال يبتدىء من السنة التّاسعة والعشرين الى الثّالثة والثّلاثين، وقد يمتّد الى الخامسة والثّلاثين، فهذا هو الطريق المعقول في هذا الباب، والله أعلم بحقائق الأشياء»(1).
التقسيم المتقدّم وإِن كان مقبولاَ الى حدٍّ ما ... لكنّه يبدو غير دقيق، لأنّ مرحلة البلوغ أوّلا ليست في انتهاء العقد الثاني، وكذلك فإن التكامل الجسماني ـ طبقاً لما يقول علماء اليوم ـ هو 25 سنة ... والبلوغ الفكري الكامل أربعون سنةً طبقاً لبعض الرّوايات ، وبعد هذا كله فإنّ ما ورد آنفاً لا يصحّ أن يكون قانوناً عامّاً ليصدق على جميع الأشخاص.
4 ـ وآخر ما ينبغي الإِلتفات إِليه هنا هو أن القرآن بعد أن يتحدث عن إِتيان يوسف الحكم والعلم يعقب بالقول: (وكذلك نجزي المحسنين) ومعنى ذلك أن مواهب الله ـ حتى للأنبياء ـ ليست اعتباطاً، وكل ينال بمقدار إِحسانه ويغرف من بحر الله وفيضه اللامحدود كما نال يوسف سهماً وافراً من ذلك بصبره واستقامته أمام كل تلك المشاكل.
* * *
_____________________________
1 ـ تفسير الفخر الرازي، ج 18، ص 111.
[175]
الآيتان
وَرَوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاَْبْوَبَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّلِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَّءَا بُرْهَنَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ (24)
التّفسير
العشق الملتهب:
لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب، بل أسر قلب امرأة العزيز كذلك وأصبح متيّماً بجماله!.
وامتدّت مخالب العشق إلى أعماق قلبها، وبمرور الزمن كان هذا العشق يتجذّر يوماً بعد يوم ويزداد إشتعالا ... لكنّ يوسف هذا الشابّ الطاهر التقي، لم يفكّر بغير الله، ولم يتعلّق قلبه بغير عشق الله سبحانه.
وهناك اُمور أُخرى زادت من عشق امرأة العزيز ليوسف .. فمن جهة لم تُرزق الولَد، ومن جهة أُخرى إنغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ ... ومن جهة
[176]
ثالثة عدم إبتلائها بأيّ نوع من البلاء كما هي حال المتنعّمين، وعدم الرقابة الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة .. كلّ ذلك ترك امرأة العزيز ـ الفارغة من الإيمان والتقوى ـ تهوي في وساوسها الشيطانية إلى الحضيض، بحيث أفضت ليوسف أخيراً عمّا في قلبها وراودته عن نفسه.
واتّبعت جميع الأساليب والطرق للوصول إلى هدفها، وسعت لكي تلقي في قلبه أثراً من هواها وترغيبها وطلبها، كما يقول عن ذلك القرآن الكريم: (وراودته التي هو في بيتها).
وجملة «راودته» مأخوذة من مادّة «المراودة» وأصلها البحث عن المرتع والمرعى، وما ورد في المثل المعروف «الرائد لا يكذب أهله» إشارة إلى هذا المعنى، كما يطلق «المرود» على وزن (منبر) على قلم الكحل الذي تكحل به العين، ثمّ توسّعوا في هذا اللفظ فاُطلق على كلّ ما يُطلب بالمداراة والملاءمة.
وهذا التعبير يشير إلى أنّ امرأة العزيز طلبت من يوسف أن ينال منها بطريق المسالمة والمساومة ـ كما يصطلح عليه ـ وبدون أي تهديد، وأبدت محبّتها القصوى له بمنتهى اللين.
وأخيراً فكّرت في أن تخلو به وتوفّر له جميع ما يثير غريزته، من ثياب فضفاضة، وعطور عبقة شذيّة، وتجميلات مرغبة، حتّى تستولي على يوسف وتأسره!.
يقول القرآن الكريم: (وغلّقت الأبواب وقالت هيتَ لك).
«غلّقت» تدلّ على المبالغة وأنّها أحكمت غلق الأبواب، وهذا يعني أنّها سحبت يوسف إلى مكان من القصر المتشكّل من غرف متداخلة .. وكما ورد في بعض الرّوايات كانت سبعة أبواب، فغلقتها عليه جميعاً .. لئلاّ يجد يوسف أي طريق للفرار .. إضافةً إلى ذلك أرادت أن تُشعر يوسف أن لا يقلق لإنتشار الخبر فإنّه سوف لا يفتضح، حيث لا يستطيع أحد أن ينفذ إلى داخل القصر أبداً.
[177]
وفي هذه الحال، حين رأى يوسف أنّ هذه الأُمور تجري نحو الإثم، ولم ير طريقاً لخلاصه منها، توجّه يوسف إلى زليخا و (قال معاذ الله) وبهذا الكلام رفض يوسف طلب امرأة العزيز غير المشروع .. وأعلمها أنّه لن يستسلم لإرادتها. وأفهمها ضمناً ـ كما أفهم كلّ إنسان ـ أنّه في مثل هذه الظروف الصعبة لا سبيل إلى النجاة من وساوس الشيطان وإغراءاته إلاّ بالإلتجاء إلى الله .. الله الذي لا فرق عنده بين السرّ والعلن، بين الخلوة والإجتماع، فهو مطّلع ومهيمن على كلّ شيء، ولا شيء إلاّ وهو طوع أمره وإرادته!
وبهذه الجملة إعترف يوسف بوحدانية الله تعالى من الناحية النظرية، وكذلك من الناحية العملية أيضاً، ثمّ أضاف (إنّه ربّي أحسن مثواي) .. أليس التجاوز ظُلماً وخيانةً واضحة (إنّه لا يفلح الظالمون).
المراد من كلمة «ربّي»
هناك أقوال كثيرة بين المفسّرين في المراد من قوله: (إنّه ربّي) فأكثر المفسّرين، كالعلاّمة الطبرسي في مجمع البيان وكاتب المنار في تفسير المنار وغيرهما، قالوا: إنّ كلمة «ربّ» هنا إستعملت في معناها الواسع، وقالوا: إنّ المراد من كلمة «ربّ» هنا هو «عزيز مصر» الذي لم يألُ جهداً في إكرام يوسف، وكان يوصي امرأته من البداية بالإهتمام به وقال لها: (أكرمي مثواه).
ومن يظنّ أنّ هذه الكلمة لم تستعمل بهذا المعنى فهو مخطىء تماماً، لأنّ كلمة «ربّ» في هذه السورة أطلقت عدّة مرّات على غير الله سبحانه. وأحياناً ورد هذا الإستعمال على لسان يوسف نفسه، وأحياناً على لسان غيره!
فمثلا في قصّة تعبير الرؤيا للسجناء، طلب يوسف من الذي بشّره بالنجاة أن يذكر حاله عند ملك مصر (وقال للذي ظنّ أنّه ناج منهما أذكرني عند ربّك) (الآية 42).
[178]
كما نلاحظ هذا الإستعمال على لسان يوسف ـ أيضاً ـ حين جاءه مبعوث فرعون مصر، إذ يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: (فلمّا جاءه الرّسول قال ارجع إلى ربّك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن) (الآية 50).
وفي الآية (41) من هذه السورة، وذيل الآية (42) اُطلقت كلمة «ربّ» في لسان القرآن الكريم بمعنى المالك وصاحب النعمة. فعلى هذا تلاحظون أنّ كلمة «ربّ» استعملت 4 مرّات ـ سوى الآية محلّ البحث ـ في غير الله، وإن كانت قد إستعملت في هذه السورة وفي سور أُخرى من القرآن في خصوص ربّ العالمين (الله) مراراً.
فالحاصل أنّ هذه الكلمة من المشترك اللفظي وهي تستعمل في المعنيين.
ولكن رجّح بعض المفسّرين أن تكون كلمة «ربّ» في هذه الآية (إنّه ربّي أحسن مثواي) يُقصد بها الله .. لأنّها جاءت بعد كلمة (معاذ الله) مباشرةً، وكونها إلى جنب لفظ الجلالة صار سبباً لعود الضمير في (إنّه ربّي) عليه فيكون معنى الآية: إنّني ألتجىء إلى الله وأعوذ به فهو إلهي الذي أكرمني وعظم مقامي وكلّ ما عندي من النعم فهو منه.
ولكن مع ملاحظة وصيّة عزيز مصر لامرأته (أكرمي مثواه) وتكرارها في الآية ـ محل البحث ـ يكون المعنى الأوّل أقرب وأقوى.
جاء في التوراة الفصل 39 رقم 8 و9 و10 ما مؤدّاه: «وبعد هذا وقعت المقدّمات، إنّ امرأة سيّده ألقت نظرتها على يوسف وقالت: إضطجع معي، لكنّه أبى وقال لامرأة سيّده: إنّه سيّدي غير عارف بما معي في البيت، وكلّ ما يملك مودع عندي، ولا أجد أكبر منّي في هذا البيت، ولم يزاحمني شيء سواك لأنّك امرأته، فكيف اُقدم على هذا العمل القبيح جدّاً، وأتجرّأ في الذنب على الله». فهذه الجمل في التوراة تؤيّد المعنى الأوّل.
وهنا يبلغ أمر يوسف وامرأة العزيز إلى أدقّ مرحلة وأخطرها، حيث يعبّر
[179]
القرآن عنه تعبيراً ذا مغزى كبير (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه).
وفي معنى هذه الجملة أقوال بين المفسّرين يمكن تصنيفها وإجمالها إلى ثلاثة تفاسير:
1 ـ إنّ امرأة العزيز كانت تريد أن تقضي وطراً مع يوسف، وبذلت وسعها في ذلك، وكاد يوسف يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشراً شابّاً لم يتزوّج ويرى نفسه إزاء المثيرات الجنسيّة وجهاً لوجه ... لولا أن رأى برهان الله ... أي روح الإيمان والتقوى وتربية النفس، أضف إلى كلّ ذلك مقام العصمة الذي كان حائلا دون هذا العمل!
فعلى هذا يكون الفرق بين معاني «همّ» أي القصد من امرأة العزيز، والقصد من قبل يوسف، هو أنّ يوسف كان يتوقّف قصده على شرط لم يتحقّق، أي (عدم وجود برهان ربّه) ولكن القصد من امرأة العزيز كان مطلقاً، ولأنّها لم يكن لديها مثل هذا المقام من التقوى والعفّة، فإنّها صمّمت على هذا القصد حتّى آخر مرحلة، وإلى أن اصطدمت جبهتها بالصخرة الصمّاء!
ونظير هذا التعبير موجود في الآداب العربيّة وغيرها كما نقول مثلا: إنّ جماعة لا ترتبط بقيم أخلاقية ولا ذمّة صمّمت على الإغارة على مزرعة فلان ونهب خيراته، ولولا أنّي تربّيت سنين طوالا عند اُستاذي العارف الزاهد فلان، لأقدمت على هذا العمل معهم.
فعلى هذا كان تصميم يوسف مشروطاً بشرط لم يتحقّق، وهذا الأمر لا منافاة له مع مقام يوسف من العصمة والتقوى، بل يؤكّد له هذا المقام العظيم كذلك.
وطبقاً لهذا التّفسير لم يبدُ من يوسف أي شيء يدلّ على التصميم على الذنب، بل لم يكن في قلبه حتّى هذا التصميم.
ومن هنا فيمكن القول أنّ بعض الرّوايات التي تزعم أنّ يوسف كان مهيّئاً
[180]
لينال وطراً من امرأة العزيز، وخلع ثيابه عن بدنه، وذكرت تعبيرات أُخرى نستحيي من ذكرها، كلّ هذه الأُمور عارية من الصحّة ومختلقة، وهذه أعمال من شأن الأفراد والمنحرفين الملوّثين غير الأنقياء. فكيف يمكن أن يتّهم يوسف مع هذه المنزلة وقداسة روحه ومقام تقواه بمثل هذا الإتّهام.
الطريف أنّ التّفسير الأوّل نقل عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في عبارة موجزة جدّاً وقصيرة، حيث يسأله المأمون «الخليفة العبّاسي» قائلا: ألا تقولون أنّ الأنبياء معصومون؟ فقال الإمام: «بلى». فقال: فما تفسير هذه الآية (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) فقال الإمام (عليه السلام): «لقد همّت به، ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت، لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه» فقال المأمون: لله درُّك ياأبا الحسن(1).
2 ـ إنّ تصميم كلّ من امرأة العزيز ويوسف لا علاقة له بالوطر الجنسي، بل كان تصميماً على ضرب أحدهما الآخر ..
فتصميم امرأة العزيز على هذا العمل كان لعدم إنتصارها في عشقها وبروز روح الإنتقام فيها ثأراً لهذا العشق.
وتصميم يوسف كان دفاعاً عن نفسه، وعدم التسليم لطلب تلك المرأة.
ومن جملة القرائن التي تذكر في هذا الموضوع:
أوّلا: إنّ امرأة العزيز كانت قد صمّمت على نيل الوطر الجنسي قبل هذه الحالة، وكانت قد هيّأت مقدّمات هذا الأمر، فلا مجال ـ إذن ـ لأنّ يقول القرآن: إنّها صمّمت على هذا العمل الآن، لأنّ هذه الساعة لم تكن ساعة تصميم.
وثانياً: إنّ ظهور حالة الخشونة والإنتقام بعد هذه الهزيمة أمر طبيعي، لأنّها بذلت ما في وسعها لإقناع يوسف، ولمّا لم توفّق إلى ما رغبت فيه توسلّت بطريق آخر، وهو طريق الخشونة والضرب.
_____________________________
1 ـ تفسير نور الثقلين ج2 ص421.
[181]
وثالثاً: إنّنا نقرأ في ذيل هذه الآية (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)والمراد بالفحشاء هو التلوّث وعدم العفّة .. والمراد بصرف السوء، هو نجاته من مخالف امرأة العزيز، وعلى كلّ حال فحين رأى يوسف برهان ربّه ... تجنّب الصراع مع امرأة العزيز وضربها، لأنّه قد يكون دليلا على تجاوزه وعدوانه عليها، ولذا رجّح أن يبتعد عن ذلك المكان ويفرّ نحو الباب.
3 ـ ممّا لا شكّ فيه أنّ يوسف كان شابّاً يحمل جميع الأحاسيس التي في الشباب، وبالرغم من أنّ غرائزه كانت طوع عقله وإيمانه .. إلاّ أنّ مثل هذا الإنسان ـ بطبيعة الحال ـ يهيج طوفان في داخله لما يشاهده من مثيرات في هذا المجال، فيصطرع العقل والغريزة، وكلّما كانت أمواج المثيرات أشدّ كانت كفّة الغرائز أرجح، حتّى أنّها قد تصل في لحظة خاطفة إلى أقصى مرحلة من القوّة، بحيث لو تجاوز هذه المرحلة خطوة لهوى في مزلق مهول، ولكنّ قوّة الإيمان والعقل ثارت في نفسه فجأة وتسلّمت زمام الأُمور في إنقلاب عسكري سريع وكبحت جماح الشهوة.
والقرآن يصوّر هذه اللحظة الخاطفة الحسّاسة والمتأزّمة التي وقعت بين زمانين هادئين ـ في الآية المتقدّمة ـ فيكون المراد من قوله تعالى: (وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) إنّ يوسف إنجرّ إلى حافّة الهاوية في الصراع بين الغريزة العقل، ولكن فجأةً ثارت قوّة الإيمان والعقل وهزمت طوفان الغريزة(1).. لئلاّ يتصوّر أحد أنّ يوسف عندما إستطاع أن يخلّص نفسه من هذه الهاوية فلم يقم بعمل مهمّ، لأنّ أسباب الذنب والهياج الجنسي كانت فيه ضعيفة .. كلاّ أبداً .. فهو في هذه اللحظة الحسّاسة جاهد نفسه أشدّ الجهاد.
_____________________________
1 ـ مقتبس من تفسير «في ظلال القرآن» لسيّد قطب ذيل الآية ج4 ص711.
[182]
ما المراد من بُرهان ربّه؟
«البرهان» في الأصل مصدر «بَرِهَ» ومعناه «صيرورة الشيء أبيضاً» ثمّ اُطلق هذا اللفظ على كلّ دليل محكم قوي يوجب وضوح المقصود، فعلى هذا يكون برهان الله الذي نجّى يوسف نوعاً من الأدلّة الإلهيّة الواضحة، وقد إحتمل فيه المفسّرون إحتمالات كثيرة، من جملتها:
1 ـ العلم والإيمان والتربية الإنسانية والصفات البارزة.
2 ـ معرفته بحكم تحريم الزنا.
3 ـ مقام النبوّة وعصمته من الذنب.
4 ـ نوع من الإمداد الإلهي الذي تداركه في هذه اللحظة الحسّاسة بسبب أعماله الصالحة.
5 ـ هناك رواية يستفاد منها أنّه كان في قصر امرأة عزيز مصر صنم تعبده، وفجأةً وقعت عيناها عليه، فكأنّها أحسّت بأنّ الصنم ينظر إلى حركاتها الخيانيّة بغضب، فنهضت وألقت عليه ستراً، فاهتزّ يوسف لهذا المنظر، وقال: أنت تستحين من صنم لا يملك عقلا ولا شعوراً ولا إحساساً، فكيف لا أستحيي من ربّي الخبير بكلّ شيء، والذي لا تخفى عليه خافية؟.
فهذا الإحساس منح يوسف قوّة جديدة، وأعانه على الصراع الشديد في أعماق نفسه بين الغريزة والعقل، ليتمكّن من التغلّب على أمواج الغريزة في نفسه(1).
وفي الوقت ذاته لا مانع أن تكون جميع هذه المعاني منظورة، لأنّ مفهوم البرهان العام يستوعبها جميعاً، وقد أطلقت آيات القرآن كلمة «البرهان» على كثير من المعاني المتقدّمة.
أمّا الرّوايات التي لا سند لها والتي ينقلها بعض المفسّرين، والتي مؤدّاها أنّ
_____________________________
1 ـ نور الثقلين، ج2، ص422; وتفسير القرطبي، ص398، ج5.
[183]
يوسف صمّم على الذنب، ولكنّه لاحظ فجأةً حالة من المكاشفة بين جبرئيل ويعقوب وهو يعضّ على إصبعه، فرأى يوسف هذا المنظر وتخلّف عن إقدامه على هذا الذنب .. فهذه الرّوايات ليس لها أي سند معتبر .. وهي روايات إسرائيلية أنتجتها الذهنيات البشرية الضيّقة التي لم تدرك مقام النبوّة أبداً.
والآن لنتوجّه إلى تفسير بقيّة الآية إذ يقول القرآن المجيد: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه كان من عبادنا المخلصين). وهي إشارة إلى أنّ هذا الإمداد الغيبي والإعانة المعنوية لإنقاذ يوسف من السوء والفحشاء من قبل الله لم يكن إعتباطاً، فقد كان عبداً عارفاً مؤمناً ورعاً ذا عمل صالح طهّر قلبه من الشرك وظلماته، فكان جديراً بهذا الإمداد الإلهي.
وبيان هذا الأمر يدلّ على أنّ مثل هذه الإمدادات الغيبية، في لحظات الشدّة والأزمة التي تدرك الأنبياء ـ كيوسف مثلا ـ غير مخصوصة بهم، فإنّ كلّ من كان في زمرة عباد الله الصالحين المخلصين فهو جدير به هذه المواهب أيضاً.
* * *
ملاحظات
1 ـ جهاد النفس
نحن نعرف أنّ أعظم الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس، الذي عُبّر عنه في حديث عن النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بـ«الجهاد الأكبر» أي هو جهاد أعظم من جهاد العدوّ الذي عبّر عنه بالجهاد الأصغر .. وإذا لم يتوفّر في الإنسان الجهاد الأكبر بالمعنى الواقعي ـ أساساً ـ فلن ينتصر في جهاده على أعدائه.
وفي القرآن المجيد ترتسم صور شتّى في ميادين الجهاد، وتتجلّى فيها علاقة الأنبياء وأولياء الله الصالحين. وقصّة يوسف وما كان من عشق امرأة العزيز الملتهب واحدة من هذه الصور، وبالرغم من أنّ القرآن لم يوضّح جميع ما في القصّة من خفايا وزوايا، إلاّ أنّه أجملها بصورة موجزة في جملة قصيرة هي (وهمّ
[184]
بها لولا أن رأى برهان ربّه) وبيّن شدّة هذا الطوفان.
لقد خرج يوسف من هذا الصراع منتصراً بوجه مشرق لثلاثة أسباب:
الأوّل: إنّه التجأ إلى الله وإستعاذ به، وقال: (معاذ الله).
الثّاني: التفاته إلى الإحسان الذي أسداه إليه عزيز مصر، وما تناوله في بيته فأثّر فيه، فلم ينس فضله طيلة حياته، ومع ملاحظة نعم الله التي لا تُحصى وإنقاذه له من غيابة الجبّ الموحشة إلى محيط الأمان والهدوء جعلته يفكّر في ماضيه ومستقبله، ولا يستسلم للتيارات العابرة.
الثّالث: بناءُ شخصيّته وعبوديّته المقرونة بالإخلاص التي عبّر عنها القرآن (إنّه من عبادنا المخلصين) يستفاد منها أنّها منحته القوّة والقدرة ليخرج من ميادين الوسوسة التي تهجم عليه من الداخل والخارج بإنتصار.
وهذا درس كبير لجميع الناس الأحرار الذين يريدون أن ينتصروا على عدوّهم الخطر في ميادين جهاد النفس.
يقول الإمام علي بن أبي طالب «أمير المؤمنين» في دعاء الصباح، باُسلوب جميل رائق: «وإن خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان، فقد وكلني خذلانك إلى حيث النصب والحرمان».
ونقرأ في بعض الأحاديث أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث سرية فلمّا رجعوا قال: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر» فقيل: يارسول الله، وما الجهاد الأكبر قال: «جهاد النفس»(1).
ويقول الإمام علي (عليه السلام) أيضاً «المجاهد من جاهد نفسه»(2).
كما ينقل عن الإمام الصادق أنّه قال: «من ملك نفسه إذا رغب وإذا رهب وإذا اشتهى وإذا غضب وإذا رضي حرّم الله جسده على النار»(3).
_____________________________
1 ـ وسائل الشيعة، ج11، ص122.
2 ـ المصدر السابق، ص124.
3 ـ المصدر نفسه، ص123.
[185]
2 ـ ثواب الإخلاص
كما أشرنا في تفسير الآيات المتقدّمة، فإنّ القرآن المجيد عزا نجاة يوسف ـ من هذه الأزمة الخطرة التي أوقعته امرأة العزيز فيها ـ إلى الله، إذ قال: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء).
ولكن مع ملاحظة الجملة التي تليها: (إنّه كان من عبادنا المخلصين) تتجلّى هذه الحقيقة، وهي أنّ الله سبحانه لا يترك عباده المخلصين في اللحظات المتأزمّة وحدهم .. ولا يقطع عنهم إمداداته المعنويّة .. بل يحفظ عباده بألطافه الخفيّة. وهذا الثواب في الواقع هو ما يمنحه الله جلّ جلاله لأمثال هؤلاء العباد، وهو ثواب الطهارة والتقوى والإخلاص.
وهناك مسألة جديرة بالتنويه، وهي أنّ يوسف «من عباد الله المخلَصين» ومفرد الكلمة «مُخلَص» على وزن «مطلق» وهو اسم مفعول. ولم تأت الكلمة على وزن اسم الفاعل أي «مُخلِص» على وزن «مُحسِن».
والدقّة في آيات القرآن تكشف عن أنّ كلمة «مخلِص» (بكسر اللام) غالباً ما تُستعمل في مراحل تكامل الإنسان الاُولى وفي حال بناء شخصيته، كقوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفُلك دعوا الله مخلِصين له الدين)(1).
وكقوله تعالى: (وما اُمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلِصين له الدين)(2).
غير أنّ كلمة «مخلَص» بفتح اللام إستعملت في المرحلة العالية .. التي تحصل بعد مدّة مديدة من جهاد النفس، تلك المرحلة التي ييأس الشيطان فيها من نفوذه ووسوسته داخل الإنسان، وفي الحقيقة تكون نفس الإنسان مؤمّناً عليها من قبل الله، يقول القرآن في هذا الصدد: (قال فبعزّتك لأغوينّهم أجمعين
_____________________________
1 ـ العنكبوت، 65.
2 ـ البيّنة، 5.
[186]
إلاّ عبادك منهم المخلَصين)(1).
وكان يوسف قد بلغ هذه المرحلة بحيث وقف كالجبل أمام تلك الأزمة، فينبغي على كلّ فرد السعي لبلوغ هذه المرحلة.
3 ـ العفّة والمتانة في البيان
من عجائب القرآن وواحدة من أدلّة الإعجاز، أنّه لا يوجد في تعبيره ركّة وإبتذال وعدم العفّة وما إلى ذلك، كما أنّه لا يتناسب مع اُسلوب الفرد العادي الاُمّي الذي تربّى في محيط الجاهليّة، مع أنّ حديث كلّ أحد يتناسب مع محيطه وأفكاره!.
وبين جميع قصص القرآن وأحداثه التي ينقلها توجد قصّة غرام وعشق واقعية، وهي قصّة (يوسف وامرأة عزيز مصر).
قصّة تتحدّث عن عشق امرأة جميلة والهة ذات أهواء جامحة لشاب جميل طاهر القلب.
أصحاب المقالات والكتاب حين يواجهون مثل هذا الأمر .. إِمّا أن يتحدّثوا عن أبطال القصّة بأن يطلقوا للقلم أو اللسان العنان، حتّى تظهر في (البين) تعابير مثيرة وغير أخلاقية كثيرة.
وإِمّا أن يحافظوا على العفّة والنزاهة في القلم واللسان، فيحوّلوا القصّة إلى القرّاء أو السامعين بشكل غامض ومبهم.
فالكاتب أو صاحب المقال مهما كان ماهراً يبتلى بواحد من هذين الإشكالين، ترى هل يعقل أنّ فرداً لم يدرس يرسم رسماً دقيقاً وكاملا لفصول مثل هذا العشق المثير، دون أن يستعمل أقلّ تعبير مهيّج وبعيد عن العفّة؟!
ولكنّ القرآن يمزج في رسم هذه الميادين الحسّاسة من هذه القصّة ـ
_____________________________
1 ـ سورة ص، الآية 83.
[187]
باُسلوب معجب ـ الدقّة في البيان مع المتانة والعفّة، دون أن يغضّ الطرف عن ذكر الوقائع، أو أن يظهر العجز، وقد إستعمل جميع الاُصول الأخلاقية والأُمور الخاصّة بالعفّة.
ونعرف أنّ أخطر ما في هذه القصّة ما جرى في «خلوة العشق» وما أظهرته امرأة العزيز بإبتكارها وهواها.
والقرآن يتناول كلّ ما جرى من حوادث ويتحدّث عنها دون أن يظهر أقلّ إنحراف من اُصول العفّة حيث يقول: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي إنّه لا يُفلح الظالمون)(يوسف 23).
والمسائل التي تسترعي الإنتباه في هذه القصّة ما يلي:
1 ـ كلمة «راود» تستعمل في مكان يطلب فيه أحد من الآخر شيئاً بإصرار ممزوجاً بالترغيب واللين، لكن ما الذي أرادته امرأة العزيز من يوسف؟!.. بما أنّه كان واضحاً فقد إكتفى القرآن بالكناية والتلميح دون التصريح!.
2 ـ إنّ القرآن هنا لم يعبّر عن امرأة العزيز تعبيراً مباشراً، بل قال: (التي هو في بيتها) ليقترب من بيان العفّة وإسدال الحجاب، كما جسّد معرفة يوسف للحقّ وجسّد مشاكل يوسف أيضاً في عدم التسليم إزاء من كانت حياته في قبضتها.
3 ـ (غلّقت الأبواب) التي تدلّ على المبالغة وأنّ الأبواب جميعاً أوصدت بشدّة، (وهذا تصوير من هذا الميدان المثير).
4 ـ جملة (هيت لك) تشرح آخر كلام امرأة العزيز للبلوغ إلى وصال يوسف، ولكنّها في عبارة متينة ذات مغزى كبير وليس فيها ما يشير إلى تعبير سيىء.
5 ـ (معاذ الله إنّه ربّي أحسن مثواي) التي قالها يوسف لتلك المرأة الجميلة، معناها كما يقول أكثر المفسّرين: إنّي ألتجىء إلى الله فإنّ عزيز مصر
[188]
صاحبي وسيّدي وهو يجلّني ويحترمني ويعتمد عليّ، فكيف أخونه؟! وهذا العمل خيانة وظلم (إنّه لا يفلح الظالمون) وبهذا توضّح الآية سعي يوسف إلى إيقاظ العواطف الإنسانية في امرأة العزيز.
6 ـ جملة (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه) ترسم ـ من جهة ـ تلك الخلوة بدقّة، بحيث لو أنّ يوسف لم يكن لديه مقام العصمة أو العقل أو الإيمان لكان قد وقع في «الفخّ».
ومن جهة أُخرى ترسم إنتصار يوسف أخيراً في هذه الظروف على شيطان الشهوة الطاغي .. باُسلوب رائع.
الطريف هنا أنّ الآية استعملت كلمة «همّ» فحسب، «أي إنّ امرأة العزيز صمّمت من جهتها ولو لم يَر يوسف برهان ربّه لصمّم من جهته أيضاً، ترى هل توجد كلمة أكثر متانةً للتعبير عن (القصد والتصميم) أفضل من هذه؟!
* * *
[189]
الآيات
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُر وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِىَ رَوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُل فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَذِبِينَ(26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُر فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّدِقِينَ (27) فَلَمَّا رَءَا قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُر قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ(28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
التّفسير
فضيحة امرأة العزيز!!
المقاومة الشديدة التي أبداها يوسف جعلت امرأة العزيز آيسة منه تقريباً .. ولكن يوسف الذي إنتصر في هذا الدور على تلك المرأة المعاندة أحسّ أنّ بقاءه في بيتها ـ في هذا المزلق الخطر ـ غير صالح، وينبغي أن يبتعد عنه، ولذلك أسرع نحو باب القصر ليفتحه ويخرج، ولم تقف امرأة العزيز مكتوفة الأيدي، بل
[190]
أسرعت خلفه لتمنعه من الخروج، وسحبت قميصه من خلفه فقدّته (واستبقا الباب فقدّت قميصه من دُبُر).
(الإستباق) في اللغة هو المسابقة بين شخصين أو أكثر.
و (قدّ) بمعنى مَزّق طولا، كما أنّ «قطّ» بمعنى مَزّق عرضاً، ولذلك نقرأ في الحديث .. «كانت ضربات علي بن أبي طالب (عليه السلام) أبكاراً، إذا اعتلى قدّ، وإذا إعترض قطّ»(1).
وعلى كلّ حال فقد أوصل يوسف نفسه نحو الباب وفتحه فرأيا «يوسف وامرأة العزيز» عزيز مصر خلف الباب فجأةً. يقول القرآن الكريم: (وألفيا سيّدها لدى الباب).
«ألفيا» من مادّة «الإلفاء» ومعناها العثور المفاجىء .. والتعبير عن الزوج بـ«السيّد» كما يقول بعض المفسّرين كان طبقاً للعرف السائد في مصر، حيث كانت تخاطب المرأة زوجها بالسيّد.
في هذه اللحظة التي رأت امرأة العزيز نفسها على أبواب الفضيحة من جهة، وشعلة الإنتقام تتأجّج في داخلها من جهة أُخرى، كان أوّل شيء توجّهت إليه أن تخاطب زوجها متظاهرة بمظهر الحقّ متّهمة يوسف إذ (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلاّ أن يسجن أو عذاب أليم).
من الطريف هنا أنّ هذه المرأة الخائنة نسيت نفسها أنّها امرأة العزيز حينما كانت لوحدها مع يوسف، ولكن عندما وجدت نفسها مشرفة على الإفتضاح، عبّرت عن نفسها بأنّها أهله لتثير فيه إحساس الغيرة! فهي خاصّة به ولا ينبغي لأحد أن يلقي عليها نظرات الطمع!!
وهذا الكلام قريب الشبه بكلام فرعون مصر في عصر موسى إذ قال: (أليس
_____________________________
1 ـ مجمع البيان: ذيل الآية.
[191]
لي ملك مصر)،(1) حيث كان جالساً على عرش السلطنة! ولكنّه حين وجد نفسه مشرفاً على السقوط، ووجد ملكه وتاجه في خطر، قال عن موسى وأخيه: (يريدان أن يخرجاكم من أرضكم)(2).
والأمر الآخر أنّ امرأة العزيز لم تقل إنّ يوسف كان يريد السوء بي، بل تحدّثت [عن ما يستحقّه من الجزاء] مع عزيز مصر، فكأنّ أصل المسألة مسلّم به!! والكلام عن كيفية الجزاء.
وهذا التعبير المدروس الذي كان في لحظة إضطراب ومفاجأة للمرأة يدلّ على شدّة إحتيالها(3).
ثمّ إنّ التعبير عن السجن أوّلا، ثمّ عدم قناعتها بالسجن وحده، إذ تتجاوز هذا الحكم إلى العذاب الأليم أو «الإعدام» مثلا.
ولكن يوسف أدرك أنّ السكوت هنا غير جائز .. فأماط اللثام عن عشق امرأة العزيز (وقال هي راودتني عن نفسي).
وطبيعي أنّ مثل هذا الحادث من العسير تصديقه في البداية، أي إنّ شابّاً يافعاً غير متزوّج لا يُعدّ آثماً، ولكن امرأة متزوّجة ذات مكانة إجتماعية ـ ظاهراً ـ آثمة! فلذلك كانت أصابع الإتّهام تشير إلى يوسف أكثر من امرأة العزيز.
ولكن حيث أنّ الله حامي الصالحين والمخلصين فلا يرضى أن يحترق هذا الشاب المجاهد بشعلة الإتّهام، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: (وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قدّ من قُبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قدّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين). وأي دليل أقوى من هذا الدليل، لأنّ طلب المعصية إن كان من طرف امرأة العزيز فقد ركضت خلف يوسف وقدّت
_____________________________
1 ـ الزخرف، 50.
2 ـ سورة طه، 63.
3 ـ في المراد من «ما» من قولها «ما جزاء» أهي نافية أم إستفهامية، هناك إختلاف بين المفسّرين، والنتيجة واحدة.
[192]
قميصه من دُبر، لأنّه كان يريد الفرار فأمسكت بثوبه فقدّته، وإذا كان يوسف هو الذي هجم عليها وهي تريد الفرار أو وقفت أمامه للمواجهة والدفاع، فمن المسلّم أن يُقدّ قميص يوسف من قُبل! وأيّ شيء أعجب من أن تكون هذه المسألة البسيطة «خرق الثوب» مؤشّراً على تغيير مسير حياة بريء وسنداً على طهارته ودليلا على إفتضاح المجرم!.
أمّا عزيز مصر فقد قبل هذا الحكم الدقيق، وتحيّر في قميص يوسف ذاهلا: (فلمّا رأى قميصه قُدّ من دُبر قال إنّه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم).
في هذه الحال، ولخوف عزيز مصر من إنتشار خبر هذا الحادث المؤسف على الملأ، فتسقط منزلته وكرامته في مصر رأى أنّ من الصلاح كتمان القضيّة، فالتفت إلى يوسف وقال: (يُوسفُ أعرض عن هذا) أي اُكتم هذا الأمر ولا تخبر به أحداً .. ثمّ التفت إلى امرأته وقال: (واستغفري لذنبك إنّك كنت من الخاطئين)(1).
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ القائل لهذه الجملة ليس عزيز مصر، بل الشاهد نفسه، ولكن لا دليل يؤيّد هذا الإحتمال وخاصّة مع وقوع هذه الجملة بعد قول العزيز.
* * *
ملاحظات
1 ـ من كان الشاهد؟!
هناك أقوال في الشاهد الذي ختم «ملفّ يوسف وامرأة العزيز» بسرعة، وأوضح البريء من المسيء من هو؟
_____________________________
1 ـ ورد التعبير بالخاطئين وهو جمع مذكّر، ولم يرد التعبير بالخاطئات الذي هو جمع مؤنث، لأنّ جمع المذكّر السالم يُغلّب في كثير من الموارد ويطلق على جماعة الذكور والإناث أي «إنّك في زمرة الخاطئين».
[193]
قال بعضهم: هو أحد أقارب امرأة العزيز، وكلمة «من أهلها» دليل على ذلك .. وعلى القاعدة فهو رجل حكيم وعارف ذكي بحيث إستطاع أن يستنبط الحكم من قدّ الثوب دون أن يكون لديه شاهد أو بيّنة. بل إكتشف حقيقة الحال .. ويقال: إنّ هذا الرجل كان من مشاوري عزيز مصر وكان معه.
التّفسير الآخر: إنّ الشاهد كان طفلا رضيعاً من أقارب امرأة العزيز وكان على مقربة من الحادث، وكان يوسف قد طلب من عزيز مصر أن يحتكم إلى هذا الطفل، فتعجّب عزيز مصر من هذا الطلب .. تُرى هل يمكن هذا؟! لكن «الطفل» حين تكلّم ـ كما تكلّم المسيح(عليه السلام) في المهد ـ وأعطى هذا المعيار لمعرفة البريء من المسيىء، التفت عزيز مصر إلى أنّ يوسف ليس غلاماً (عاديّاً) بل هو نبي أو متنّبي.
والرّوايات المنقولة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) وأهل السنّة تشير إلى هذا التّفسير، من جملتها ما نقله ابن عبّاس عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّه قال: «أربعة تكلّموا أطفالا: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم»(1).
كما نقل عن تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق أنّ شاهد يوسف كان طفلا في المهد(2).
ولكن ينبغي الإلتفات إلى أنّ أيّاً من الحديثين المتقدّمين ليس له سند قوي، بل هما مرفوعان.
الإحتمال الثالث: إنّ الشاهد هو القدّ في الثوب الذي تكلّم بلسان الحال، ولكن مع ملاحظة كلمة (من أهلها) يضعّف هذا الإحتمال، بل ينفيه!.
_____________________________
1 ـ تفسير المنار، ج12، ص287.
2 ـ تفسير نور الثقلين، ج12، ص422.
[194]
2 ـ الموقف الضعيف لعزيز مصر
من جملة المسائل التي تستجلب الإنتباه في هذه القصّة أنّ في مثل هذه المسألة المهمّة التي طُعن فيها بناموس عزيز مصر وعرضه، كيف يكتفي قانعاً بالقول (واستغفري لذنبك إنّك كنت من الخاطئين) وربّما كانت هذه المسألة سبباً لأنّ تدعو امرأة العزيز نساء الأشراف إلى مجلسها الخاص، وتكاشفهنّ بقصّة حبّها وغرامها بجلاء.
تُرى: أكان هذا خوفاً من الإفتضاح، فاختصر عزيز مصر هذه المسألة وغضّ النظر عنها!؟
أم أنّ هذه المسألة ـ أساساً ـ ليست بذات أهميّة للحكّام ومالكي أزمّة الأُمور والطواغيت، فهم لا يكترثون للغيرة وحفظ الناموس، لأنّهم ملوّثون بالذنوب وغارقون في مثل هذه الرذائل والفساد حتّى كأنّه لا أهميّة لهذا الموضوع في نظرهم.
يبدو أنّ الإحتمال الثّاني أقرب للنظر!.
3 ـ حماية الله في الأزمات
الدرس الكبير الآخر الذي نتعلّمه من قصّة يوسف، هو حماية الله ورعايته للإنسان الأكيدة في أشدّ الحالات، وبمقتضى قوله: (يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ـ فمن جهة كان يوسف لا يُصدّق أبداً أنّ نافذة من الأمل ستفتح له، ويكون قدُّ القميص سنداً للطهارة والبراءة، ذلك القميص الذي يصنع الحوادث، فيوماً يفضح إخوة يوسف لأنّهم جاؤوا أباهم وهو غير ممزّق، ويوماً يفضح امرأة العزيز لأنّه قدّ من دُبر، ويوماً آخر يهب البصر والنّور ليعقوب، وريحه المعروف يسافر مع نسيم الصباح من مصر إلى أرض كنعان ويبشّر العجوز «الكنعاني» بقدوم موكب البشير!.
[195]
وعلى كلّ حال فإنّ لله ألطافاً خفيّة لا يسبر غورها أحد، وحين يهبّ نسيم هذه الألطاف تتغيّر الأسباب والمسبّبات بشكل لا يمكن حتّى لأذكى الأفراد أن يتنبّأ عنها!.
بل قد يتّفق أحياناً أنّ خيوط العنكبوت تبدّل مسير الحياة لاُمّة أو قوم بشكل دائم، كما حدث في قصّة غار ثور وهجرة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
4 ـ خطّة امرأة العزيز
في الآيات المتقدّمة إشارة إلى مكر النسوة (طبعاً النساء اللائي لا إرتباط لهنّ بشيء إلاّ هواهنّ كامرأة العزيز) وهذا المكر والتحيّل الموصوف بالعظمة (إنّ كيدكنّ عظيم) يوجد منه في التاريخ والقصص التاريخيّة أمثلة كثيرة، حيث تكشف إجمالا أنّ النساء اللائي يسوقهنّ هواهنّ يرسمن خططاً لا نظير لها من نوعها.
رأينا في القصّة المتقدّمة كيف أنّ امرأة العزيز بعد الهزيمة في عشقها وإفتضاح أمرها، برّأت نفسها بمهارة واتّهمت يوسف ولم تقل إنّ يوسف قصد السوء بي، بل إفترضت ذلك أمراً مسلّماً به. وإنّما سألت فقط عن جزاء مثل من يعمل هذا العمل!! جزاءً لا يتوقّف على السجن فحسب، بل يأخذ أبعاداً أُخرى غير محدودة.
ونرى أيضاً أنّ هذه المرأة في مقابل لوم نسوة مصر لها إذ عشقت غلامها ـ في الآيات التالية ـ تستعمل مثل هذا المكر أو الخداع، وهذا تأكيد آخر على مكر مثل هؤلاء النسوة!
* * *
[196]
الآيات
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَوِدُ فَتَهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَل مُّبِين (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَءَاتَتْ كُلَّ وَحِدَة مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(34)
التّفسير
مؤامرة أُخرى:
بالرغم من أنّ عشق امرأة العزيز المذكور آنفاً كان ـ مسألة خصوصية ـ
[197]
بحيث أكّد حتّى العزيز على كتمانها، ولكن حيث أنّ هذه الأسرار لا تبقى خافية، ولا سيّما في قصور الملوك وأصحاب المال والقوّة ـ التي في حيطانها آذان صاغية ـ فسوف تتسرّب إلى خارج القصر كما يقول القرآن في هذا الشأن: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبّاً) ثمّ لُمْنَها وعَنَّفنها بهذه الجملة (إنّا لنراها في ضلال مبين). وواضح أنّ المتحدّث بمثل هذا الكلام كنّ نساء أشراف مصر حيث كانت أخبار القصور المفعمة بفساد الفراعنة والمستكبرين مثيرةً لهنّ وكنّ يستقصينها دائماً.
لم يكن فساد هؤلاء النسوة بأقلّ من امرأة العزيز ولكنّ أيديهنّ لم تصل إلى يوسف، وكما يقول المثل ـ «العين بصيرة واليد قصيرة» فكنّ يرين امرأة العزيز بسبب هذا العشق في ضلال مبين.
ويقول بعض المفسّرين: إنّ إذاعة هذا السرّ من قبل هذه المجموعة من نساء مصر، كانت خطّة لتحريك امرأة العزيز حتّى تدعوهنّ إلى قصرها لتكشف لهنّ عن براءتها وتريهن يوسف وجماله!
ولعلّهنّ كنّ يتصوّرن أنّ يوسف إذا رآهنّ بهره جمالهنّ، وربّما رآهنّ أجمل من امرأة العزيز، ولأنّ يوسف كان يحترم امرأة العزيز إحترام الولد لوالدته ـ أم مربّيته ـ فهو لا يطمع فيها، ولهذا السبب يكون إحتمال نفوذهنّ إلى قلبه أقوى من نفوذ امرأة العزيز إليه!.
«الشغف» من مادّة «الشغاف» ومعناه أعلى القلب أو الغشاء الرقيق المحيط بالقلب، وشغفها حبّاً معناه أنّها تعلّقت به إلى درجة بحيث نفذ حبّه إلى قلبها وإستقرّ في أعماقه.
وهذا التعبير إشارة إلى العشق الشديد والملتهب.
يذكر «الآلوسي» في تفسيره «روح المعاني» نقلا عن كتاب أسرار البلاغة مراتب الحبّ والعشق ونشير هنا إلى قسم منها:
[198]
فأوّل مراحل الحبّ «الهوى» ومعناه الميل، ثمّ «العلاقة» وهي المحبّة الملازمة للقلب، وبعدها «الكلف» وهو الحبّ الشديد، ثمّ «العشق» وبعده «الشعف» بالعين المهملة أي الحالة التي يحترق القلب فيها من الحبّ ويحسّ باللّذة من هذه الحالة .. وبعدها «اللوعة» ثمّ «الشغف» وهو المرحلة التي ينفذ العشق فيها إلى جميع زوايا القلب، ثمّ «الوله» وهو المرحلة التي تخطف عقل الإنسان من العشق، وآخر المراحل «الهيام» وهو المرحلة التي تذهل العاشق وتجرّه إلى كلّ جهة دون إختياره(1).
هناك مسألة جديرة بالإلتفات وهي: من الذي أذاع هذا السرّ؟ هل كان من امرأة العزيز التي لم ترغب في هذه الفضيحة أبداً! أو من قبل العزيز نفسه! وكان يؤكّد على كتمان السرّ، أو القاضي الحكيم الذي حكم في الأمر، ويُستبعد منه هذا العمل؟!
وعلى كلّ حال فإنّ مثل هذه المسائل في هذه القصور المفعمة بالفساد لا تبقى طيّ الكتمان، وأخيراً فإنّها تنتقل على ألسنة الذين يظهرون الحرص على شرف القصر وتنتشر، ومن الطبيعي أن يضيف عليها آخرون أوراقاً وأغصاناً.
أمّا امرأة العزيز فقد وصلها ما دار بين النسوة من إفتضاحها (فلمّا سمعت بمكرهنّ أرسلت إليهنّ واعتدت لهنّ متكئاً وأتت كلّ واحدة منهنّ سكيناً)(2).
هذا العمل دليل على أنّ امرأة العزيز لم تكن تكترث بزوجها، ولم تأخذ الدرس من فضيحتها، ثمّ أمرت يوسف أن يتخطّى في المجلس (وقالت اُخرج عليهن) وتعبير (اُخرج عليهن) بدلا من «اُدخل» يشير إلى أنّها كانت أخفت يوسف داخل البيت، أو جعلته مشغولا في إحدى الغرف التي يوضع فيها الغذاء
_____________________________
1 ـ تفسير (روح المعاني) ج12 ص203.
2 ـ «المتّكأ» ما يتكأ عليه كالكراسي والأسرة، وما يوضع خلف الظهر كما هو معروف في القصور، ولكن البعض قال: إنّ المتّكأ هو نوع من الفواكه المعروفة «بالاُترنج» والذين فسّروا المتّكأ بالمعنى المتقدّم قالوا أيضاً: إنّها فاكهة «الأترنج» وهي فاكهة من فصائل الحمضيات لها قشر ضخم يستعمل في المربيات، وهذه الفاكهة في مصر خفيفة الحموضة وتؤكل!
[199]
عادةً حتّى يكون دخوله إلى المجلس مفاجأة للجميع.
نساء مصر ـ وطبقاً لبعض الرّوايات التي تقول: كنّ عشراً .. أو أكثر ـ فوجئن بظهور يوسف كأنّه البدر أو الشمس الطالعة، فتحيّرن من جماله (فلمّا رأينه أكبرنه) وفقدن أنفسهنّ (وقطّعن أيديهن) مكان الفاكهة، وحين وجدن الحياء والعفّة تشرقان من عينيه وقد احمّر وجهه خجلا صحن جميعاً و (قلن حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلاّ ملك كريم)(1).
وهناك أقوال بين المفسّرين في أنّ النسوة إلى أي حدّ قطّعن أيديهن؟ فمنهم من بالغ في الأمر، ولكن كما يستفاد من القرآن على نحو الإجمال أنّهن جرحن أيديهنّ.
وفي هذه الحال التي كانت الدماء تسيل من أيدي النسوة وقد لاحظن ملامح يوسف كلّها وصرن أمامه «كالخُشُبِ المسنَّدة» كشفن عن أنّهن لسن بأقل من امرأة العزيز عشقاً ليوسف، فاستغلّت امرأة العزيز هذه الفرصة فـ(قالت فذالكن الذي لمتنّني فيه).
فكأنّ امرأة العزيز أرادت أن تقول لهنّ: لقد رأيتن يوسف مرّة واحدة فحدث لكنّ ما حدث وفقدتُنّ صوابكن وقطعتن أيديكن من جماله وعشقه، فكيف اُلام وأنا أراه وأسكن معه ليل نهار؟!
وهكذا أحسّت امرأة العزيز بالغرور لأنّها وُفّقت في ما ألقته من فكرة وأعطت لنفسها العذر، وإعترفت بكلّ صراحة بكلّ ما فعلت وقالت: (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم).
وبدلا من أن تظهر الندم على كلامها أو تتحفّظ على الأقل أمام ضيوفها، أردفت القول بكلّ جدّ يحكي عن إرادتها القطعيّة: (ولئن لم يفعل ما آمره
_____________________________
1 ـ «حاش لله» من مادّة «حشى» معناها الطرف أو الناحية .. والتحاشي الإبتعاد ومفهوم جملة «حاش لله» أي إنّ الله منزّه، وهي إشارة إلى أنّ يوسف عبد منزّه وطاهر.
[200]
ليسجننّ) ... ولا أكتفي بسجنه، بل (وليكوناً من الصاغرين).
ومن الطبيعي أنّه إذا اكتفى عزيز مصر إزاء خيانة امرأته بالقول: (استغفري لذنبك) فينبغي أن تجرّ امرأته الفضيحة إلى هذه المرحلة .. وأساساً فإنّ مثل هذه الأُمور والمسائل في قصور الفراعنة والملوك ليست اُموراً مهمّة.
ينقل البعض روايات عجيبة مؤدّاها أنّ بعضاً من نسوة مصر أعطين الحقّ لامرأة العزيز ودرن حول يوسف ليرغبّنه بأن يستسلم لحبّها وكلّ واحدة تكلّمت بكلام!
فقالت واحدة: أيّها الشاب ما هذا الصبر والدلال، ولِمَ لا ترحم هذه العاشقة الواهبة قلبها لك، ألا ترى هذا الجمال الآسر؟ أليس عندك قلب؟! ألست شابّاً؟ ألا تستلذّ بالعشق والجمال، فهل أنت حجارة أو خشب؟!
وقالت الثّانية: إذا كنت لا تعرف عن الجمال والعشق شيئاً .. لكن ألا تدري أنّ امرأة العزيز ذات نفوذ وقدرة .. ألا تفكّر أن لو ملكت قلبها فستنال كلّ شيء وتبلغ أيّ مقام شئت ...
وقالت الثّالثة: إذا كنت لا ترغب في جمالها المثير ولا تحتاج إلى مقامها ومالها، ولكن ألا تعرف أنّها ستنتقم لنفسها بما اُوتيت من وسائل الإنتقام الخطرة، ألا تخاف من السجن ووحشته ومن الغربة المضاعفة فيه؟!
تهديد امرأة العزيز من جانبها بالسجن والإذلال من جهة، ووساوس النسوة الملوّثات اللائي خطّطن ليوسف كما يخطّط الدلاّل من جهة أُخرى، أوقعا يوسف في أزمة شديدة، وأحاط به طوفان المشاكل، ولكن حيث أنّ يوسف كان قد صنع نفسه، وقد أوجد نور الإيمان والعفّة والتقوى في قلبه هدوءاً وسكينة خاصّة، فقد صمّم بعزم وشجاعة والتفت نحو السّماء ليناجي ربّه وهو في هذه الشدّة (قال ربّ السجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه).
وحيث كان يدري أن لا مهرب له إلاّ إلى الله في جميع الأحوال ولا سيما في
[201]
الساعات الحرجة، فقد أودع نفسه عند الله بهذا الكلام (وإلاّ تصرّف عنّي كيدهن أصبُ إليهنّ وأكن من الجاهلين).
ربّاه ... إنّني أتقبّل السجن الموحش رعاية لأمرك وحفظاً لطهارة نفسي ... هذا السجن تتحرّر فيه روحي وتطهّر نفسي، وأنا أرفض هذه الحريّة الظاهرية التي تأسر روحي في سجن «الشهوة» وتلوّث نفسي.
ربّاه .. أعِنّي، وهب لي القوّة، وزدني قدرةً وعقلا وإيماناً وتقوى، حتّى أنتصر على هذه الوساوس!
وحيث أنّ وعد الله حقّ، وأنّه يُعين المجاهد (لنفسه أو لعدوّه) فإنّه لم يترك يوسف سُدىً وتلقفته رحمته ولطفه كما يقول القرآن الكريم: (فاستجاب له ربّه فصرف عنه كيدهن إنّه هو السميع العليم).
فهو يسمع نجوى عبيده، وهو مطلع على أسرارهم، ويعرف طريق الحلّ لهم.
* * *
ملاحظات
1 ـ كما رأينا من قبلُ فإنّ امرأة العزيز ونسوة مصر، استفدن من اُمور مختلفة في سبيل الوصول إلى مرادهن، فمرّة بإظهار العشق والعلاقة الشديدة والتسليم المحض، ومرّة بالترغيب والطمع، ثمّ بالتهديد، أو بتعبير آخر: توسلن بالشهوة والمال والقوّة!!
وهذه اُصول متّحدة المآل يتوسّل بها الطغاة والمتجبرون في كلّ عصر وزمان، حتّى لقد رأينا كراراً ومراراً أنّهم ومن أجل أن يجبروا رجال الحقّ على الإستسلام، يظهرون لهم في مجلس واحد ليناً للغاية ويلوّحون بالمساعدات وأنواع الإمداد ترغيباً، ثمّ يتوسلون في نهاية المجلس بالتهديد والوعيد، ولا يلتفتون إلى ما في هذا من التناقض في مجلس واحد وما فيه من دناءة وخسّة
[202]
ولؤم فاضح.
والسبب واضح .. فهم يريدون الهدف ولا تهمّهم الوسيلة، وبتعبير آخر: يستسيغون للوصول إلى أهدافهم أي اُسلوب وأيّة وسيلة كانت.
وفي هذا المحيط يستسلم الأفراد الضعاف، سواء في أوّل المرحلة أو وسطها أو نهايتها، إلاّ أنّ أولياء الحقّ لا يكترثون بهذه الأساليب بما لديهم من شهامة وشجاعة ونور الإيمان ويرفضون التسليم بضرس قاطع حتّى ولو أدّى ذلك إلى الموت .. وعاقبتهم الإنتصار طبعاً، إنتصار أنفسهم وإنتصار مبادئهم، أو على الأقل إنتصار مبادئهم.
2 ـ كثيرون هم مثل نسوة مصر، فطالما هم جالسون حول الحمى يظهرون أنفسهم منزّهين وأتقياء ويلبسون ثياب العفّة ويعدّون الإنحراف ـ كما هو في امرأة العزيز ـ في ضلال مبين.
ولكن حين يتعرّضون لأدنى صدمة ينكشف أنّ أقوالهم لا تصدّق أفعالهم .. فإذا كانت امرأة العزيز بعد سنين من معاشرة يوسف قد وقعت في شرك حبّه وعشقه، فإنّهم في أوّل مجلس يبتلون بمثل هذا المصير ويقطّعون «الأيدي» مكان «الأترنج».
3 ـ هنا قد يرد سؤال وهو: لِمَ وافق يوسف على طلب امرأة العزيز وخرج على النسوة في المجلس؟ المجلس الذي ترتّب من أجل الإثم، أو لتبرئة امرأة آثمة؟!
ولكن مع ملاحظة أنّ يوسف كان بحسب الظاهر غلاماً مشترى وعليه أن يخدم في القصر، فلعلّ امرأة العزيز إستغلّت هذه الفرصة والحيلة ليأتي بالطعام مثلا دون أن يعرف بهذه الخطّة ومكر النسوة.
وخاصّة أنّنا قلنا أنّ تعبير القرآن (أخرج عليهن) كما يظهر منه أنّه لم يكن خارجاً، بل كان في إحدى الغرف المجاورة للمجلس كالمطبخ مثلا.
[203]
4 ـ جملة (يدعونني إليه) وجملة (تصرف عنّي كيدهن) تدلاّن جيّداً على أنّ نسوة مصر ـ ذوات الهوى ـ بعد ما جرى لهنّ من تقطيع الأيدي والإنبهار بجمال يوسف، وردن هذا الميدان أيضاً وطلبن من يوسف أن يستسلم لهنّ أو لامرأة العزيز، ولكن يوسف أبى عليهنّ جميعاً، وهذا يعني أنّ امرأة العزيز لم تكن وحدها في الجريمة بل كان لها شريكات في ذلك.
5 ـ حين يقع الإنسان أسيراً بقبضة الشدائد والحوادث وتجرّه إلى شفى الهاوية، فعليه أن يتوكّل على الله ويلتجىء إليه ويستمدّ منه فقط، فإذا لم يحظ بلطفه وعونه فإنّه لا يستطيع أن يقوم بأي عمل، وهذا درس علّمنا إيّاه يوسف العظيم الطاهر الذيل، فهو القائل: (وإلاّ تصرف عنّي كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين) فأنت ياربّ الحافظ لي، ولا أعتمد على قواي وقدرتي وتقواي.
هذه الحالة «التعلّق المطلق بلطف الله» بالإضافة إلى أنّها تمنح عبادة الله قدرة وإستقامة غير محدودة، فهي تشملهم بألطافه الخفيّة .. تلك الألطاف التي لا يمكن وصفها والتصديق بها إلاّ عند رؤيتها ومشاهدتها.
فهؤلاء هم الذين يسكنون في ظلّ الله ورحمته في الدنيا والآخرة ... فقد ورد حديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الشأن يقول: «سبعة يظلّهم الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه: إمام عادل، وشابّ نشأ في عبادة الله عزّوجلّ، ورجل قلبه متعلّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود إليه، ورجلان كانا على طاعة الله عزّوجلّ فاجتمعا على ذلك وتفرّقا، ورجل ذكر الله عزّوجلّ خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إنّي أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تصدّق بيمينه»(1).
* * *
_____________________________
1 ـ سفينة البحار، ج1، ص595، مادّة «ظلّ».
[204]
الآيات
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الاَْيَتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين (35)وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَنِى أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الاَْخَرُ إِنِّى أَرَنِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مَمَّا عَلَّمَنِي رَبِّى إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْم لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالاَْخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِى إبْرَهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَىْء ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38)
التّفسير
السّجن بسبب البراءة:
إنتهى المجلس العجيب لنسوة مصر مع يوسف في قصر العزيز في تلك
[205]
الغوغاء والهياج، ولكنّ خبره ـ بالطبع ـ وصلَ إلى سمع العزيز .. ومن مجموع هذه المجريات إتّضح أنّ يوسف لم يكن شابّاً عادّياً، بل كان طاهراً لدرجة لا يمكن لأي قوّة أن تجرّه إلى الإنحراف والتلوّث، واتّضحت علامات هذه الظاهرة من جهات مختلفة، فتمزّق قميصه من دُبر، ومقاومته أمام وساوس نسوة مصر، وإستعداده لدخول السجن وعدم الإستسلام لتهديدات امرأة العزيز بالسجن والعذاب الأليم، كلّ هذه الأُمور أدلّة على طهارته لا يمكن لأحد أن يسدل عليها الستار أو ينكرها!.
ولازم هذه الأدلّة إثبات عدم طهارة امرأة العزيز وإنكشاف جريمتها، وعلى أثر ثبوت هذه الجريمة فإنّ الخوف من فضيحة جنسية في اُسرة العزيز كان يزداد يوماً بعد يوم.
فكان الرأي بعد تبادل المشورة بين العزيز ومستشاريه هو إبعاد يوسف عن الأنظار لينسى الناس إسمه وشخصه، وأحسن السبل لذلك إيداعه قعر السجن المظلم أوّلا، وليشيع بين الناس أنّ المذنب الأصلي هو يوسف ثانياً، لذلك يقول القرآن في هذا الصدد: (ثمّ بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنّنه حتّى حين).
التعبير بكلمة «بدا» التي معناها ظهور الرأي الجديد، يدلّ على أنّ مثل هذا التصميم في حقّ يوسف لم يكن من قبل. ويحتمل أن تكون هذه الفكرة إقترحتها امرأة العزيز الأوّل مرّة .. وبهذا دخل يوسف النزيه ـ بسبب طهارة ثوبه ـ السجن، وليست هذه أوّل مرّة ولا آخرها أن يدخل الإنسان النزيه «بجريرة نزاهته» السجن!!
أجل .. في المحيط المنحرف تكون الحرية من نصيب المنحرفين الذين يسيرون مع التيار وليست الحرية وحدها من نصيبهم فحسب، .. بل أنّ الأفراد النجباء كيوسف الذي لا يتلاءم مع ذلك المحيط ولونه ويتحرّك على خلاف مجرى الماء! ينبغي أن يقبعوا في زاوية النسيان .. ولكن إلى متى؟ هل تستمر هذه
[206]
الحالة؟.. قطعاً لا ..
ومن جملة السجناء الداخلين مع يوسف فتيان (ودخل معه السجن فتيان).
وحيث أنّ من الظروف لم تكن تسمح للإنسان أن يحصل فيها على الأخبار بطريق عادي، فإنّه يأنس لأحاسيس الآخرين ليبحث عن مسير الحوادث ويتوقّع ما سيكون، حتّى أنّ الرؤيا وتعبيرها عنده يكون مطلباً مهمّاً.
من هذا المنطلق جاء ليوسف يوماً هذان الفتيان اللذان يقال: إنّ أحدهما كان ساقياً في بيت الملك، والآخر كان مأموراً للطعام والمطبخ، وبسبب وشاية الأعداء وسعايتهم بهما دخلا السجن بتهمة التصميم لسمّ الملك، وتحدّث كلّ منهما عن رؤيا رآها الليلة الفائتة وكانت بالنسبة له أمراً عجيباً.
(قال أحدهما إنّي أراني أعصر خمراً وقال الآخر إنّي أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه) ثمّ أضافا (نبّئنا بتأويله إنّا نراك من المحسنين).
وحول معرفة الفتيين وإطلاعهما على أنّ يوسف له خبرة بتأويل الأحلام هناك أقوال بين المفسّرين:
قال بعضهم: إنّ يوسف نفسه أخبر السجناء بأنّ له إطلاعاً واسعاً في تفسير الأحلام، وقال بعضهم: إنّ سيماء يوسف الملكوتية كانت تدلّ على أنّه ليس فرداً عادياً .. بل هو فرد عارف مطّلع وصاحب فكر ونظر، ولابدّ أن يكون مثل هذا الشخص قادراً على حلّ مشاكلهم في تعبير الرؤيا.
وقال البعض الآخر: إنّ يوسف من بداية دخول السجن برهن ـ بأخلاقه الحسنة والمعاشرة الطيّبة للسجناء وخدمتهم وعيادة مرضاهم ـ أنّه رجل صالح وحلاّل المشاكل، لذلك كانوا يلتجئون إليه في حلّ مشاكلهم ويستعينون به.
وهناك ملاحظة جدير ذكرها، وهي أنّ القرآن عبّر بـ«الفتى» مكان «العبد» وهو نوع من الإحترام، وعندنا في الحديث «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ولكن
[207]
فتاي وفتاتي»(1) ليكون العبيد في مراحل الإنعتاق والحريّة التي نظّمها الإسلام في مأمن من كلّ أنواع التحقير.
التعبير بـ(إنّي أراني أعصر خمراً) إِمّا لأنّه رأى في النوم أنّه يعصر العنب للشراب أو العنب المخمّر الذي في الدنّ، وهو يعصره ليصفّيه مستخرجاً منه الشراب، أو أنّه يعصر العنب ليقدّم عصيره للملك!.. دون أن يكون خمراً، وحيث أنّ العنب يمكن أن يتبدّل خمراً أطلق عليه لفظ الخمر.
والتعبير بـ(إنّي أراني) بدلا من «إنّي رأيت» هو بعنوان حكاية الحال، أي إنّه يفرض نفسه في اللحظة التي يرى فيها الرؤيا «النوم» وهذا الكلام لتصوير تلك الحالة.
وعلى كلّ حال فقد إغتنم يوسف مراجعة السجينين له لتعبير الرؤيا ـ وكان لا يدع فرصة لإرشاد السجناء ونصحهم ـ وبحجّة التعبير كان يبيّن حقائق مهمّة تفتح لهم السُبُل ولجميع الناس أيضاً.
في البداية، ومن أجل أن يستلفت إهتمامهما وإعتمادهما على معرفته بتأويل الأحلام الذي كان مثار إهتمامهما وتوجّههما (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلاّ نبّأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
وبهذا فقد طمأنهما أنّهما سيجدان ضالّتهما قبل وصول الطعام إليهما.
وهناك إحتمالات كثيرة في هذه الجملة بين المفسّرين، من جملتها: إنّ يوسف قال: أنا بأمر الله مطّلع على بعض الأسرار، لا انّي أستطيع تعبير الأحلام فحسب، بل أنا أستطيع حتّى إخباركم بما سيأتيكم من الطعام وما نوعه وبأي صورة وأي خصوصية!.
فعلى هذا يكون التأويل بمعنى ذكر خصوصيات ذلك الطعام، وإن كان التأويل قليل الإستعمال في مثل هذا المعنى طبعاً، ولا سيّما أنّه ورد في الجملة
_____________________________
1 ـ مجمع البيان، ج5، ص232.
[208]
السابقة بمعنى تعبير الرؤيا.
والإحتمال الآخر من مقصود يوسف هو: إنّ أي نوع من الطعام ترونه في النوم فأنا أعرف ما تأويله (ولكن هذا الإحتمال لا ينسجم مع الجملة السابقة) (قبل أن يأتيكما).
فعلى هذا يكون أحسن التفاسير للجملة المتقدّمة، هو التّفسير الأوّل الذي ذكرناه في بداية الحديث.
ثمّ إنّ يوسف أضاف إلى كلامه مقروناً بالإيمان بالله والتوحيد الجاري بجميع أبعاده في أعماق وجوده، ليبيّن بوضوح أن لا شيء يتحقّق إلاّ بإرادة الله قائلا: (ذلكما ممّا علّمني ربّي) ولئلاّ يتصوّر أنّ الله يمنح مثل هذه الأُمور دون حساب، قال (إنّي تركت ملّة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون).
والمقصود بهذه الملّة أو الجماعة هم عبدة الأصنام بمصر أو عبدة الأصنام من كنعان.
وينبغي لي أن أترك مثل هذه العقائد لأنّها على خلاف الفطرة الإنسانية النقيّة، ثمّ إنّي تربّيت في اُسرة الوحي والنبوّة (واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب).
ولعلّ هذه هي أوّل مرّة يعرّف يوسف نفسه للسجناء بهذا التعريف، ليعلموا أنّه سليل الوحي والنبوّة وقد دخل السجن بريئاً .. كبقيّة السجناء الأبرياء في حكومة الطواغيت.
ثمّ يضيف على نحو التأكيد (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء) لأنّ اُسرتنا اُسرة التوحيد ... اُسرة إبراهيم محطّم الأصنام (ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس).
وعلى هذا فلا تتصوّروا أنّ هذا الفضل والحبّ شملا اُسرتنا أهل النبوّة فحسب ـ بل هي الموهبة العامّة التي تشمل جميع عباد الله المودعة في أرواحهم
[209]
المسمّاة بالفطرة حيث يتكاملون بقيادة الأنبياء (ولكن أكثر الناس لا يشكرون).
جدير بالذكر والإلتفات أنّ «إسحاق» عُدّ في الآية المتقدّمة في زمرة «آباء يوسف» في حين أنّنا نعرف أنّ يوسف هو ابن يعقوب ويعقوب هو إبن إسحاق، فتكون كلمة أب بهذا مستعملة في الجدّ أيضاً.
* * *