00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة يونس من آية 68 ـ آخر السورة من ( ص 402 ـ 448 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[402]

الآيات

قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَنَهُ هُوَ الْغَنِىُّ لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَان بِهَذَآ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَيُفْلِحُونَ(69) مَتَاعً فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثمّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ(70)

التّفسير

تستمر هذه الآيات ـ أيضاً ـ في بحثها مع المشركين ، وتذكر واحدة من أكاذيب واتهامات هؤلاء لساحة الله المقدسه، فتقول أوّلا: (قالوا اتّخذ الله ولداً).

إِنّ هذا الكلام قاله المسيحيون في حق المسيح(عليه السلام)، ثمّ عبدة الأوثان في عصر الجاهلية في حق الملائكة، حيث كانوا يظنون أنّها بنات الله، وقاله اليهود في شأن عزير. ويجيبهم القرآن بطريقين:

الأوّل: إِنّ الله سبحانه منزّه عن كل عيب ونقص، وهو مستغن عن كل شيء: (سبحانه هو الغني) وهذا إِشارة إِلى أنّ الحاجة إِلى الولد، إمّا للحاجة الجسمية إِلى قوته ومساعدته، أو للحاجة الروحية والعاطفية، ولما كان الله سبحانه منزّه عن كل

[403]

عيب ونقص وحاجة، فلايمكن أن يتخذ لنفسه ولداً.

(له ما في السماوات وما في الأرض) ومع هذا الحال فأي معنى لأن يتخذ لنفسه ولداً ليطمئنه ويهدئه، أو يعينه ويساعده.

ممّا يلفت النظر أنّ الآية عبّرت هنا بـ (اتخذ) وهذا يوحي أنّ هؤلاء كانوا يعتقدون أنّ الله تعالى لم يلد ذلك الولد، بل يقولون: إِنّ الله قد اختار بعض الموجودات كولد له، تماماً مثل أُولئك الذين لا يولد لهم ولد، ويتبنون طفلا من دور الحضانة وأمثالها.

على كل حال، فإِنّ هؤلاء الجاهلين وقصيري النظر وقعوا في اشتباه المقارنة بين الخالق والمخلوق، وكانوا يقيسون ذات الله الصمدية على وجودهم المحدود المحتاج.

والجواب الثّاني الذي يذكره القرآن لهؤلاء هو: إِنّ من يدعي شيئاً يجب عليه أن يقيم دليلا على مدعاه: (إِن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون)أي إِنّكم على فرض عدم قبولكم للدليل الأوّل الواضح، فإِنّكم لا تستطيعون أن تنكروا هذه الحقيقة، وهي أن ادعاءَكم وقولكم تهمة وقول بغير علم.

وتعيد الآية التّالية عاقبة الإِفتراء على الله المشؤومة. فتوجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: (قل إِنّ الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون).

وعلى فرض أن هؤلاء يستطيعون بافتراءاتهم وأكاذيبهم أن ينالوا المال والمقام لعدّة أيّام، فإِنّ ذلك (متاع في الدنيا ثمّ إِلينا مرجعهم ثمّ نذيقهم العذاب بما كانوا يفترون).

الواقع أنّ هذه الآية والتي قبلها ذكرتا نوعين من العقاب لهؤلاء الكذابين الذين نسبوا إِلى الله تهمة اتّخاذ الولد:

الأوّل: إِنّ هذا الكذب والإِفتراء لايمكن أن يكون أساساً لفلاح ونجاح هؤلاء أبداً، ولا يوصلهم إِلى هدفهم مطلقاً، بل إِنّهم يصبحون حيارى تائهين تحيط

[404]

التعاسة والشقاء والهزيمة بأطرافهم.

الثّاني: على فرض أنّهم استطاعوا أن يستغفلوا الناس ويخدعوهم بهذه الكلمات لعدة أيّام، ويصلوا عن طريق الديانة الوثنية إِلى رفاه وعيش رغيد، إلاّ أنّ هذا التمتع لا دوام ولا بقاء له، والعذاب الإِلهي الخالد في انتظارهم.

* * *

ملاحظات

1 ـ إِنّ كلمة «سلطان» تعني هنا الدليل، وهذه الكلمة أعمق وأبلغ من كلمة الدليل، لأنّ الدليل بمعنى الدلالة والإِرشاد أمّا السلطان فهو الشيء الذي يسلط الإِنسان على الطرف المقابل، ويناسب موارد البحث والجدال والنقاش، وهو إِشارة إِلى الدليل القاطع القوي.

2 ـ «المتاع» يعني الشيء الذي يستفيد منه الإِنسان ويتمتع به، ومفهومه واسع جداً يشمل كل لوازم ووسائل الحياة والمواهب المادية. يقول الراغب في المفردات: كلما ينتفع به على وجه ما، فهو متاع ومتعة.

3 ـ إِنّ التعبير بـ (نذيقهم) الذي ورد في شأن العذاب الإِلهي يشير إِلى أنّ هذا العذاب الذي سينال هؤلاء بدرجة من الشدّة بحيث كأنّهم يذوقونه بألسنتهم وأفواههم، وهذا التعبير أبلغ جداً من المشاهدة، بل وحتى من لمس العذاب.

* * *

[405]

الآيات

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوح إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَقَومِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِئاَيَتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لاَيَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ  وَلاَ تُنظِرُونِ(71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الْمُنذَرِينَ(73)

التّفسير

جانب من جهاد نوح:

الآيات أعلاه بداية لبيان قسم من تأريخ الأنبياء وقصص وحوادث الأُمم الماضية لتوعية وإِيقاظ المشركين والفئات المخالفة، فيأمر الله نبيّه أن يتابع حديثه السابق مع المشركين بشرح تأريخ الماضين ليكون عبرة لهم.

في البداية تطرقت إِلى قصّة نوح، فقالت: (واتل عليهم نبأ نوح إِذا قال لقومه يا

[406]

قوم إِن كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت) ولهذا فإِنّي لا أخاف غيره. ثمّ تضيف: (فاجمعوا أمركم وشركاءكم) أي ادعوا أصنامكم أيضاً لتعينكم في المشورة، حتى لايبقى شيء خافياً على أحد ولايتعرض منكم الى الهم والغم أحد (ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة) بل اتّخذوا قراركم في شأني بكل وضوح.

«غمّة» من مادة غم، وهي تعني خفاء الشيء وتغطيته، وإِنّما يقولون للحزن: غمّ أيضاً لأنّه يغطي قلب الإِنسان.

ثمّ يقول: (ثمّ اقضوا إِليّ ولا تنظرون)(1).

إِنّ نوحاً رسول الله الكبير صمد مقابل اعداءه الاقوياء المعاندين وواجههم بقاطعية وحزم وفي منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القليلين الذين كانوا معه، وكان يستهزيء بقواهم ويريهم عدم اهتمامه بخططهم وأفكارهم وأصنامهم، وبهذه الطريقة كان يوجه ضربة نفسية عنيفة إِلى أفكارهم.

وإِذا علمنا أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة في الوقت الذي كان يعيش فيه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ظروفاً تشبه ظروف نوح، وكان المؤمنون قلّة، سيتّضح أنّ القرآن يريد أن يعطي للنّبي ـ أيضاً ـ نفس هذا الدرس بأنّ لا يهتم بقدرة العدو، بل يسير ويتقدم بكل حزم وجرأة وشجاعة، لأنّ الله يسنده وينصره، ولا تستطيع أية قوّة أن تقف في مقابل قدرته.

____________________________

(1) هناك بحث بين المفسّرين في أنّه ماهو جزاء شرط جملة (إِن كان كبر عليكم)؟ ومن بين الإِحتمالات التي طرحوها يبدو للنظر أن اثنين منها هما الأقرب: الأوّل: إِنّ جملة (فاجمعوا أمركم) هي جزاء الشرط، وإِن جملة: (فعلى الله توكلت) جملة معترضة فصلت بين الشرط والجزاء.

الثّاني: إِنّ الجزاء محذوف والجمل التالية تدل على ذلك، والتقدير هكذا: فافعلوا ما تريدون فإِنّي متوكل على الله. في الواقع، إِنّ جملة: (فعلى الله توكلت) من قبيل العلة حلت محل المعلول، و(شركاءكم) في الجملة التالية إِشارة إِلى الأصنام، والواو قبلها بمعنى مع. (فتدبر جيداً).

[407]

ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء نوعاً من الإِعجاز، لأنّهم مع عدم امتلاكهم الإِمكانيات الظاهرية فإِنّهم كانوا يهدّدون العدو بالهزيمة، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي، وهذا لايمكن قبوله إلاّ عن طريق الإِعجاز، إلاّ أنّ هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإِسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم، بل إِنّهم باتكالهم على الله كانوا يدعون هؤلاء إِلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم، فكان هذا عاملا مهمّاً في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين، وتدمير معنويات العدو وانهيارها.

وذكرت الآية التّالية بياناً آخر عن نوح من أجل إثبات أحقيته، هناك حيث تقول: (فإِن توليتم فما سألتكم من أجر(1) أجري إلاّ على الله)، فإنّي أعمل له، ولا أريد الأجر إلاّ منه (وأُمرت أن أكون من المسلمين).

إِنّ مقولة نوح هذه درس آخر للقادة الإِلهيين بأن لا يتوقعوا أي جزاء مادي ومعنوي من الناس لقاء دعوتهم وتبليغهم، لأنّ هذا التوقع يوجد نوعاً من التعلق النفسي الذي يؤدي الى عرقلة اساليب الدعوة الصريحة والنشاطات الحرة، ومن الطبيعي عن ذلك أن يقلّ تأثير دعوتهم وإِبلاغهم، ولهذا السبب فإِنّ الطريق الصحيح في الدعوة إِلى الإِسلام أن يعتمد المبلّغون والداعون في إِدارة أُمورهم المعاشية على بيت المال فقط، لا بالإِحتجاج إِلى الناس!

وتبيّن الآية الأخيرة عاقبة ومصير أعداء نوح، وصدق توقعه وقوله السابق بهذه الصورة: (فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك)(2) ولم ننقذهم وحسب، بل

____________________________

(1) جواب هذا الشرط محذوف أيضاً، وتقديره: فإِن توليتم فلا تضروني، أو: فإِن توليتم فأنتم وشأنكم.

(2) «الفلك» بمعنى السفينة، والفرق بينها وبين السفينة أن سفينة مفرد وجمعها سفائن أم الفلك فإِنّها تطلق على المفرد والجمع.

[408]

(وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا).

وفي النهاية توجه الخطاب إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول: (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين).

* * *

[409]

الآية

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوُبِ الْمُعْتَدِينَ(74)

التّفسير

الرّسل بعد نوح:

بعد إنتهاء البحث الإِجمالي حول قصّة نوح، أشارت هذه الآية إِلى الأنبياء الآخرين الذين جاؤوا بعد نوح وقبل موسى(عليهما السلام) لهداية الناس كإِبراهيم وهود وصالح ولوط ويوسف(عليهم السلام)، فقالت: (ثمّ بعثنا من بعده رسلا إِلى قومهم فجاؤوهم بالبيّنات)فقد كانوا مسلّحين كنوح بسلاح المنطق والإِعجاز والبرامج البناءة، إلاّ أنّ الذين سلكوا طريق العناد وكذّبوا الأنبياء السابقين، كذّبوا هؤلاء الأنبياء أيضاً ولم يؤمنوا بهم (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) وكان ذلك نتيجة للعصيان والتمرد وعداء الحق الذي أوصد تلك القلوب (كذلك نطبع على قلوب المعتدين).

* * *

[410]

ملاحظتان

1 ـ جملة: (فماكانوا اليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل) تشير إِلى أنّ فئة من بين الأُمم كانوا لا يسلمون أمام دعوة أي نبي ومصلح، واستمروا في الثبات على موقفهم، ولم تكن تؤثر فيهم دعوة الأنبياء المتكررة أدنى أثر، وبناءً على هذا فإِن الجملة المذكورة تشير إِلى طائفة وقفت في وجه دعوة أنبياء متعددين في زمانين (وهذا هو ظاهر الجملة حيث أن مرجع كل الضمائر واحد).

وقد احتمل أيضاً في معنى هذه الآية أنّها تشير إِلى جماعتين مختلفتين، إِحداهما كانت في زمن نوح وكذّبت دعوته، والأُخرى هم الذين جاؤوا بعد أُولئك وسلكوا طريقهم في إِنكار وتكذيب الأنبياء، وبناء على هذا، فإِنّ معنى الجملة يصبح: إِنّ المعتدين أقوام آخرين امتنعوا عن الإِيمان بالشيء الذي امتنع الماضون عن الإِيمان به.

طبعاً، بملاحظة أنّ مخالفي دعوة نوح قد هلكوا أثناء الطوفان، سيقوى هذا الإِحتمال في تفسير هذه الآية، إلاّ أنّ ذلك يستلزم على كل حال أن نفرق بين مرجع الضمائر في الجملة، وهي واو الجمع في كانوا، وليؤمنوا، وكذبوا.

2 ـ من الواضح أنّ جملة: (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) لاتدل على الجبر، وقد أخفي تفسير ذلك فيها، لأنّها تقول: إِنّنا نطبع على قلوب المعتدين حتى لا يدركوا شيئاً، وبناءً على هذا فإِنّ الإِعتداءات المتكررة المتلاحقة على حدود الأحكام الإِلهية والحق والحقيقة كانت تصدر من هؤلاء، وكانت تترك أثرها على قلوبهم تدريجياً حتى سلبت منهم قدرة تشخيص وتعيين الحق، ووصل الأمر بهم إِلى أن يصبح التمرد والعصيان والمعصية طبيعة ثانية لديهم، بحيث لا يذعنون ولا يسلّمون أمام أية حقيقة(1).

* * *

____________________________

(1) ذكرنا تفصيل هذا المطلب في المجلد الأوّل ذيل الآية (7) من سورة البقرة.

[411]

الآيات

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بِأَيَتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ(75) فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ(76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)

التّفسير

جانب من جهاد موسى وهارون:

لقد جرى ذكر قصص الأنبياء والأُمم السابقة كنماذج حيّة، وبدأ الحديث أوّلا عن نوح(عليه السلام)، ثمّ عن الأنبياء بعد نوح، ووصل الدور في هذه الآيات إِلى موسى وهارون(عليهما السلام) ومواجهاتهم المستمرة مع فرعون وأتباعه، فتقول الآية الأُولى: (ثمّ بعثنا من بعدهم موسى وهارون إِلى فرعون وملئه بآياتنا)(1).

____________________________

(1) المراد من الآيات هي تلك الآيات المتعددة المشهورة التي كانت لموسى في بداية أمره.

[412]

«الملأ» كما أشرنا إِلى ذلك سابقاً تطلق على الأشرف الأثرياء اللامعين الذين يملأ ظاهرهم العيون ويلاحظ حضورهم في كل مكان من المجتمع. وتأتي عادة في مثل هذه الآيات محل البحث بمعنى المناصرين والمشاورين والملتفين حول شخص ما.

ونرى الكلام في هذه الآيات يدور حول بعثة موسى إِلى فرعون وملئه فقط، في حين أنّ موسى مبعوث لكل الفراعنة وبني إِسرائيل، وعلّة ذلك أنّ مقدرات المجتمع في يد الهيئة الحاكمة، وبناءً على هذا فإِنّ أي برنامج إِصلاحي وثوري يجب أن يستهدف هؤلاء أوّلا، كما تقول ذلك الآية (12) من سورة التوبة: (فقاتلوا أئمّة الكفر).

إِلاّ أنّ فرعون وأتباعه امتنعوا عن قبول دعوة موسى، وعن التسليم في مقابل الحق: (فاستكبروا) ونظراً للتكبر والإِستعلاء وعدم امتلاكهم لروح التواضع فإِنّهم لم يلتفتوا إِلى الحقائق الواضحة في دعوة موسى، وأصرّوا واستمروا في إِجرامهم: (وكانوا قوماً مجرمين).

وتتحدث الآية التّالية عن مراحل مواجهة الفراعنة لموسى وأخيه هارون، وأوّل تلك المراحل هي مرحلة الإِنكار والتكذيب والإِفتراء واتهامهما بسوء النية، وابطال سنن الأجداد، والإِخلال بالنظام الإِجتماعي، كما يقول القرآن: (فلمّا جاءهم الحق من عندنا قالوا إِن هذا لسحر مبين).

إِنّ جاذبية دعوة موسى الخارقة من جهة، ومعجزاته الباهرة من جهة أُخرى، وتزايد نفوذه بصورة محيرة من جهة ثالثة، دفعت الفراعنة إِلى التفكير في حل لهذه المسألة، فلم يجدوا وسيلة أفضل من رميه بالسحر، فأعلنوا أنّه ساحر وأنّ عمله سحر ليس إِلاّ، وهذه التهمة سائدة في جميع مراحل الأنبياء وعلى طول تاريخهم، خاصّة نبي الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم).

إِلاّ أنّ موسى(عليه السلام) نهض للدفاع عن نفسه، فأزاح الستار وأوضح كذب هؤلاء

[413]

وأبطل تهمتهم، ففي البداية: (قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا)(1).

صحيح أنّ لكلّ من السحر والمعجزة نفوذاً وتأثيراً، وأن من الممكن أن يؤثر الحق والباطل على ادراكات الناس ونفسياتهم، إلاّ أن السحر الذي هو أمر باطل يتميز تماماً عن المعجزة التي هي حق، إِذا لايمكن المقارنة بين نفوذ الأنبياء ونفوذ السحرة، فإِنّ أعمال السحرة تفتقد الى الهدفية ومحدودة ولا قيمة لها، ومعجزات الأنبياء لها أهداف إِصلاحية وتغييرية وتربوية واضحة، وتعرض بشكل واسع وغير محدود.

إِضافة إِلى أنّه: (ولا يفلح الساحرون) وهذا التعبير دليل آخر على امتياز عمل الأنبياء عن السحر. ففي الدليل السابق أثبت اختلاف السحر والمعجزة ووجه وهدف الإِثنين وافتراق أحدهما عن الآخر، أمّا هنا فإِنّ الدليل يستعين لإِثبات المطلب باختلاف حالات السحرة وأصحاب المعاجز.

إِنّ السحرة، وبحكم عملهم وفنهم الذي له صفة الإِنحراف والإِغفال، أفراد انتهازيون يفكرون في الربح، يستغفلون الناس ويخادعونهم، ويمكن معرفتهم من خلال أعمالهم. أمّا الأنبياء فهم رجال يطلبون الحق، حريصون على هداية الناس، مطهرون، لهم هدف وغاية، ولا يهتمون بالأُمور المادية.

إِن السحرة لايرون وجه الفلاح مطلقاً، ولا يعملون إلاّ من أجل المال والثروة والمنصب والمنافع الشخصية، في حين أن هدف الأنبياء هداية خلق الله وإِصلاح المجتمع الإِنساني من جميع جوانبه المادية والمعنوية.

ثمّ يستمر فرعون وملؤه في رمي موسى(عليه السلام) بسيل الإِتهامات الصريحة، حيث (قالوا: أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا). الواقع، أنهم قدموا صنم «سنة الآباء» وعظمتهم الخيالية والأسطورية حتى يوجهوا الرأي العام ضد موسى وهارون،

____________________________

(1) الواقع، أنّ للجملة أعلاه محذوف مقدر يفهم من مجموع الكلام، وكانت في الأصل هكذا: أتقولون للحق لما جاءكم سحر، أسحر هذا.

[414]

بأنّهما يريدان أن يعبثا بمقدسات مجتمعكم وبلادكم.

ثمّ استمروا في هذا التشويه، وقالوا بأن دعوتكم إِلى دين الله ما هي إلاّ كذب محض، وكل هذه مصائد وخطط خيانية بهدف التسلط على الناس: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض).

في الحقيقة، إِنّ هؤلاء لما كانوا يسعون دائماً من أجل الحكم الظالم على الناس كانوا يظنون أنّ الآخرين مثلهم، وهكذا كانوا يفسرون مساعي المصلحين والأنبياء.

(وما نحن لكما بمؤمنين) لأنا على علم بنواياكم و خططكم الهدامة.

وكانت هذه هي المرحلة الأُولى من المواجهة السلبية مع موسى .

* * *

[415]

الآيات

وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِى بِكُلِّ سَحِر عَلِيم(79) فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُم مُّلْقُونَ(80) فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ(81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الُْمجْرِمُونَ(82)

التّفسير

المرحلة الثّانية:

تفصل هذه الآيات مرحلة أُخرى من المجابهة، وتتحدث عن إِجراءات فرعون العملية ضد موسى وأخيه هارون.

فعندما لاحظ فرعون قسماً من معجزات موسى، كاليد البيضاء والحية العظيمة، ورأى أنّ إدعاء موسى ليس واهياً بدون دليل وبرهان، وأنّ هذا الدليل سيؤثر في جميع أنصاره أو الآخرين قليلا أو كثيراً، فكّر بجواب عملي كما يقول القرآن: (وقال فرعون أئتوني بكل ساحر عليم) فقد كان يعلم أنّ كل عمل يجب أن يؤتى من طريقة ويجب أن يستعين بالخبراء بذلك الفن.

هل إِنّ فرعون كان حقيقة في شك من أحقّية دعوة موسى، وكان يريد أن

[416]

يحاربه ويواجهه عن هذا الطريق؟ أم أنّه كان يعلم أنّه مرسل من الله، إلاّ أنّه كان يظن أنّه يستطيع بواسطة ضجّة السحرة وغوغائهم أن يهدىء الناس، ويمنع مؤقتاً خطر نفوذ موسى في الأفكار العامّة، ويقول للناس بأنّه إِن جاء بعمل خارق للعادة فإِنّنا غير عاجزين عن القيام بمثله، وإِذا شاءت إِرادتنا الملوكية ذلك، فإِنّ مثل هذا الشيء سهل يسير بالنسبة لنا!

ويبدو أنّ الإِحتمال الثّاني أقرب، ويؤيد ذلك سائر الآيات المرتبطة بقصّة موسى التي وردت في سورة طه وأمثالها، وأنّه هبّ لمجابهة موسى عن وعي ودراية.

على كل حال: (فلمّا جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون).

جملة (ألقوا ما أنتم ملقون) تعني في الأصل: ألقوا كل ما تستطيعون إِلقاءه، وهذا إِشارة إِلى الحبال والعصي الخاصّة التي كان جوفها خالياً، وصبت فيه مواد كيماوية خاصّة بحيث أنّها تتحرك وتتقلب إِذا ما قابلت نور الشمس. والشاهد على هذا الكلام الآيات التي وردت في سورة الأعراف والشعراء، ففي الآية (43)ـ (44) من سورة الشعراء نقرأ: (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزّة فرعون إِنّا لنحن الغالبون). ولكن من الطبيعي أنّها تتضمن هذا المعنى أيضاً بأنّ أظهروا كل ما تملكون من القدرة في الميدان.

على كل حال، فإِنّ هؤلاء قد عبؤوا كل ما يملكون من قدرة، وألقوا كل ما أتوا به ـ معهم في وسط الحلبة: (فلمّا ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إِنّ الله سيبطله)فأنتم أفراد فاسدون ومفسدون لأنّكم تخدمون حكومة جبارة وظالمة وتعملون على تقوية دعائم هذه الحكومة الغاشمة الدكتاتورية وهذا بنفسه أقوى دليل على كونكم مفسدين، و(إِنّ الله لا يصلح عمل المفسدين).

في الواقع، إِنّ كل إِنسان ذي عقل وعلم يستطيع أن يدرك هذه الحقيقة حتى قبل انتصار موسى على السحرة، وهي أنّ عمل السحرة لا يقوم على اساس من

[417]

الحق. لأنّه يصب في طريق تقوية دعائم الظلم والجور، فأي شخص لم يكن يعلم أنّ فرعون غاصب وظالم ومفسد؟ ومعه ألا تعتبر خدمة مثل هذا الجهاز الحاكم مشاركة في ظلمه وفساده؟ وهل يمكن أن يكون عمل هؤلاء صحيحاً وإِلهياً؟ كلاّ مطلقاً، وبناءً على هذا كان من الواضح أنّ الله سيبطل هذه المساعي المفسدة.

هل أنّ التعبير بـ «سيبطله» دليل على أنّ السحر حقيقة واقعية، إلاّ أنّ الله يبطله؟ أم أنّ المقصود من الجملة هو أنّ الله يكشف كون السحر باطلا؟

إِنّ الآية (116) من سورة الأعراف تقول: إِنّ سحر السحرة قد أثر في أعين الناس فخوفوهم به: (فلمّا ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم) وهذا التعبير لا ينافي أن يكون هؤلاء قد أوجدوا نوعاً من الحركات الواقعية في تلك الحبال والعصي بواسطة سلسلة من الوسائل المرموزة كما وقع ذلك في المفهوم والمعنى اللغوي للسحر، وخاصّة بالإِستفادة من الخواص الفيزيائية والكيميائية للأجسام المختلفة، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ هذه الحبال والعصي لم تكن موجودات حيّة كما ظهرت أمام أعين الناس، كما قال القرآن في سورة طه الآيه (66) : (فإِذا حبالهم وعصيهم يخيل إِليه من سحرهم أنّها تسعى). بناء على هذا، فإِنّ بعض تأثير السحر واقعي، والبعض الآخر وهم وخيال.

وفي الآية الأخيرة، إِنّ موسى قال لهؤلاء: إِنّ النصر والغلب لنا في هذه المبارزة حتماً. لأنّ الله سبحانه قد وعد أن يظهر الحق بواسطة المنطق القاطع، ومعجزات أنبيائه القاهرة، ويفضح ويخزي المفسدين وأهل الباطل وإِن كره المجرمون ذلك: (ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون).

و المراد من «كلماته» إمّا وعد الله بنصرة الرسل وإِحقاق الحق، أو معجزاته القاهرة القوية(1).

* * *

____________________________

(1) لقد بحثنا مفصلا جزئيات مواجهة موسى لفرعون والفراعنة، ومسائلها الرائعة في ذيل الآيات (113) وما بعدها من سورة الأعراف من المجلد الخامس، وبحثنا السحر وحقيقته في المجلد الأوّل ذيل الآية (102) سورة البقرة، فراجع.

[418]

الآيات

فَمَآ ءَآمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْف مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلاءِيْهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرعَوْنَ لَعَال فِى الأرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسرِفِينَ(83) وَقَالَ مُوسَى يَقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ(84) فَقَالُواْ عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا  لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقُوْمِ الظَّلِمِينَ(85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ(86)

التّفسير

المرحلة الثّالثة:

عكست هذه الآيات مرحلة أُخرى من المواجهة الثورية بين موسى وفرعون، ففي البداية تبيّن وضع المؤمنين فتقول: (فما آمن لموسى إلاّ ذريّة من قومه).

إِنّ هذه المجموعة الصغيرة القليلة، والتي كان الشباب والأشبال يشكلون أكثريتها بمقتضى ظاهر كلمة ذرية، كانت تواجه ضغوطا شديدة من فرعون وأتباعه الى درجة أنّهم خافوا أن يصل بهم الامر الى ترك دين موسى نتيجة هذه الضغوط الشديدة: (على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإِنّ فرعون لعال في

[419]

الأرض وإِنّه لمن المسرفين).

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّه من كانت هذه الذريّة التي آمنت بموسى؟ وإِلى من يعود ضمير (من قومه) إِلى موسى أم فرعون؟

فذهب البعض الى أنّ هؤلاء كانوا نفراً قليلا من قوم فرعون والأقباط كمؤمن آل فرعون، وزوجة فرعون وماشطتها ووصيفتها، والظاهر أنّ الدليل على اختيار هذا الرأي أن أغلب بني إسرائيل قد آمنوا. وهذا لا يناسب التعبير بـ (ذرية من قومه) لأنّه يدل على صغر هذه المجموعة.

إِلاّ أنّ البعض الآخر يرى أنّهم جماعة من بني إِسرائيل، والضمير يعود إِلى موسى، لأنّ اسم موسى قد ذكر قبله، وحسب قواعد اللغة والنحو فإِنّ الضمير يجب أن يرجع إِليه.

ولا شك أنّ المعنى الثّاني أوفق لظاهر الآية، والدليل الآخر الذي يؤيد ذلك هو الآية التالية التي تقول: (وقال موسى يا قوم ...) أي إِنّه خاطب المؤمنين بـ «قومي».

الإِشكال الوحيد الذي يبقى على هذا التّفسير، هو أنّ جميع بني إِسرائيل قد آمنوا بموسى، لا جماعة منهم.

إِلاّ أنّ هذا الإِيراد يمكن دفعه بملاحظة هذه النقطة، وهي أنّنا نعلم أنّ الشباب في كل ثورة هم أوّل مجموعة تنجذب إِليها، فإِضافة إِلى قلوبهم الطاهرة وأفكارهم السليمة، فإِنّ الحماس والهيجان الثوري لديهم أكبر وأقوى، علاوة على أنّهم غير متعلقين بالأُمور المادية التي تدعو الكبار إِلى المحافظة عليها وغيرها الملاحظات المختلفة الأُخرى، فليس لهم مال وثروة يخافون ضياعها، ولا منصب ولا مقام يخشون فقدانه.

بناءً على هذا، فمن الطبيعي أن تنجذب هذه الفئة إِلى موسى، وتعبير «الذريّة» يناسب هذا المعنى جدّاً.

[420]

هذا إِضافةً إِلى أنّ كبار السن الذين التحقوا فيما بعد بهذه الفئة لم يكن لهم دور مهم في المجتمع آنذاك، وكانوا ضعفاء وعاجزين، وهذا التعبير ـ كما نقل عن ابن عباس ـ في حقهم ليس ببعيد كما أنّنا حينما ندعو بعض أصدقائنا نقول: اذهب وادعُ الأولاد، بالرغم من أنهم قد يكونون كباراً، وإِذا لم نتفق وهذا المعنى للآية، فإِنّ الإِحتمال الأوّل يبقى على قوته.

إِضافةً إِلى أن الذرية وإِن كانت تطلق عادة على الأولاد، إلاّ أنّها من ناحية الأصل اللغوي ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ تشمل الصغير والكبير.

والملاحظة الأُخرى التي ينبغي الإِلتفات إِليها هنا، هي أنّ المراد من الفتنة التي تستفاد من جملة (أن يفتنهم) هو صرف هؤلاء عن دين موسى بالتهديد والإِرعاب والتعذيب، أو بمعنى آخر إِيجاد مختلف المصاعب والعراقيل امامهم سواء كانت دينية أو غير دينية.

على كل حال، فقد حدّث موسى هؤلاء بلسان المحبّة والمودة من أجل تهدئة خواطرهم وتسكين قلوبهم: (وقال موسى يا قوم إِن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إِن كنتم مسلمين).

إِنّ حقيقة التوكل هي إِلقاء العمل والتصرف في الأُمور على كاهل الوكيل، وليس معنى التوكل أن يترك الإِنسان الجد والسعي وينزوي في زاوية ويقول: إِنّ الله معتمدي وكفى، بل معناه أن يبذل قصارى جهده، فإِذا لم يستطع أن يحل المشكلة ويرفع الموانع من طريقه، فلا يدع للخوف طريقاً إِلى نفسه، بل يصمد أمامها بالتوكل والإِعتماد على لطف الله والإِستعانة بذاته المقدسة وقدرته اللامتناهية، ويستمر في جهاده المتواصل، وحتى في حالات القدرة والاستطاعة فإِنّه لا يرى نفسه مستغنياً عن الله، لأنّ كل قدرة يتمتع بها هي من الله في النهاية.

هذا هو مفهوم التوكل الذي لا ينفك عن الإِيمان والإِسلام، لأنّ الفرد المؤمن والمذعن لأوامر الله يعتقد أنّه قادر على كل شيء، وكل عسير مقابل إِرادته سهل

[421]

يسير. ويعتقد بوعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر.

إِنّ هؤلاء المؤمنين المخلصين أجابوا دعوة موسى بالتوكل: (فقالوا على الله توكلنا). ثمّ رجوا من الله سبحانه أن ينجيهم من شر الأعداء ووساوسهم وضغوطهم ويؤمّنهم: (ربّنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين).

(ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) والجميل في الأمر أنّ فرعون قد وصف في الآية الأُولى بأنّه من (المسرفين) وفي الآية الثّالثة سمّي هو وأعوانه باسم (الظالمين)، وفي آخر آية بأنّهم من (الكافرين).

إِنّ هذا التفاوت في التعبيرات ربّما لأن الإِنسان يشرع في مسير الذنب والخطأ من الإِسراف أوّلا، أي التعدي على الحدود، ثمّ الظلم، وينتهي عمله أخيراً إِلى الكفر والالحاد!

* * *

[422]

الآيات

وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ(87)وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ(88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيَما وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ(89)

التّفسير

المرحلة الرّابعة: مرحلة البناء من أجل الثّورة:

شرحت هذه الآيات مرحلة أُخرى من نهضة وثورة بني إِسرائيل ضد الفراعنة. فتقول أولا: (وأوحينا إِلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة) فالأمر الالهي يقرر اختيار البيوت لبني اسرائيل بمصر وان تكون هذه البيوت متقاربة ومتقابلة.

[423]

ثمّ تطرقت إِلى مسألة تربية النفس معنوياً وروحياً، فقالت: (وأقيموا الصلاة)ومن أجل أن تطرد آثار الخوف والرعب من قلوب هؤلاء وتعيد وتزيد من قدرتهم المعنوية والثّورية قالت: (وبشّر المؤمنين).

يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ بني إِسرائيل كانوا في تلك الفترة بصورة جماعة متشتتة مهزومة ومتطفلة وملوّثة وخائفة، فلا مأوى لهم ولا اجتماع مركزي، ولا برنامجاً معنوياً بنّاء، ولا يمتلكون الشجاعة والجرأة اللازمة للقيام بثورة حقيقية.

لذلك فإِنّ موسى وأخاه هارون قد تلقوا مهمّة وضع برنامج في عدّة نقاط من أجل تطهير مجتمع بني إِسرائيل، وخاصّة في الجانب الروحي:

1 ـ الإِهتمام أوّلا بمسألة بناء المساكن، وعزل مساكنهم عن الفراعنة، وكان لهذا العمل عدّة فوائد:

إِحداها: أنّهم بتملّكهم المساكن في بلاد مصر سيشعرون برابطة أقوى تدفعهم للدفاع عن أنفسهم وعن ذلك الماء والتراب.

والأُخرى: أنّهم سينتقلون من الحياة الطفيلية في بيوت الأقباط إِلى حياة مستقلة.

والثّالثة: أنّ أسرار أعمالهم وخططهم سوف لا تقع في أيدي الأعداء.

2 ـ أن يبنوا بيوتهم متقاربة ويقابل بعضها الآخر. لأنّ القبلة في الأصل بمعنى حالة التقابل، وإِطلاق كلمة القبلة على ما هو معروف اليوم إنّما هو معنىً ثانوي لهذه الكلمة(1).

وأدّى هذا العمل الى تجمع وتمركز بني إِسرائيل بشكل فاعل، واستطاعوا بذلك

____________________________

(1) بعض المفسّرين لم يأخذوا القبلة في الآية أعلاه بمعنى المقابل، بل فسروها بنفس معناها، اي قبلة الصلاة، ويعتبرون جملة: (وأقيموا الصلاة) شاهداً على ذلك، إلاّ أن المعنى الأوّل أنسب لمفهوم الكلمة اللغوي الأصلي، إِضافة إِلى أن إِرادة كلا المعنيين من هذه الكلمة لا إِشكال فيه أيضاً، كما مر علينا نظير هذا مراراً.

[424]

وضع المسائل الإِجتماعية بعامّة قيد البحث والتحقيق، وأن يجتمعوا مع بعضهم لأداء المراسم الدينية والشعائر المذهبية، وأن يرسموا الخطط اللازمة من أجل حريتهم.

3 ـ التوجه إِلى العبادة، وخاصّة الصلاة التي تحرر الإِنسان من عبودية العباد، وتربطه بخالق كل القوى والقدرات، وتغسل قلبه وروحه من لوث الذنوب، وتحيي فيه الشعور بالإِعتماد على النفس وعلى قدرة الله حيث ستدب وتنبعث روح جديدة في الإِنسان.

4 ـ إنّ هذه المهمّة وجهت الأمر لموسى ـ باعتباره قائداً ـ بأن يطهّر روح بني إِسرائيل من اشكال الخوف والرعب التي كانت من افرازات سنين العبودية والذلة الطويلة. وأن يربي وينمي فيهم الإِرادة والشهامة والشجاعة وذلك عن طريق بشارة المؤمنين بالفتح والنصر النهائي، ولطف الله ورحمته.

الملفت للنظر أنّ بني إِسرائيل من أولاد يعقوب، وجماعة منهم من أولاد يوسف طبعاً، وقد حكم هو و اخوته مصر سنين طويلة، وسعوا في عمران هذا الوطن، إلاّ أنّه نتيجة لتركهم طاعة الله والغفلة والخلافات الداخلية وصلوا إِلى مثل هذا الوضع المأساوي. إِنّ هذا المجتمع المسحوق المصاب يجب أن يبنى من جديد، ويمحو نقاط ضعفه ويستبدلها بالخصال الروحية البناءة ليعيد عظمة الماضي.

ثمّ أشارت إِلى إِحدى علل طغيان فرعون وأزلامه، فتقول على لسان موسى: (وقال موسى ربّنا إِنّك آتيت فرعون وملاءه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ليضلوا عن سبيلك).

إِنّ اللام في «ليضلوا» لام العاقبة، أي إِنّ جماعة الأشراف الأثرياء المترفين سيسعون من أجل إِضلال الناس شاؤوا أم أبوا، وسوف لا تكون عاقبة أمرهم شيئاً غير هذا، لأنّ دعوة الأنبياء والأطروحات الإِلهية توقظ الناس وتوحدّهم وبذلك

[425]

لايبقى مجال لتسلط الظالمين وكيد المعتدين وستضيق الدنيا عليهم، فلا يجدوا بدّاً من معارضة الانبياء.

ثمّ يطلب موسى(عليه السلام) من الله طلباً فيقول: (ربّنا اطمس على أموالهم).

«الطمس» في اللغة بمعنى المحو وسلب خواص الشيء ، واللطيف في الأمر أن ماورد في بعض الرّوايات من أنّ أموال الفراعنة قد أصبحت خزفاً وحجراً بعد هذه اللعنة، ربّما كان كناية عن أنّ التدهور الاقتصادي قد بلغ بهم أن سقطت فيه قيمة ثرواتهم تماماً وأصبحت كالخزف لا قيمة لها!

ثمّ اضافت (وأشدد على قلوبهم) اي: اسلبهم قدرة التفكير والتدبّر أيضاً لأنّهم بفقدانهم هاتين الدعامتين (المال والفكر) سيكونون على حافة الزوال والفناء، وسينفتح أمامنا طريق الثورة، وتوجيه الضربه النهائية لهؤلاء.

اللّهم إِن كنتُ قد طلبتُ ذلك منك في حق الفراعنة فليس ذلك نابعاً من روح الإِنتقام والحقد، بل لأنّ هؤلاء قد فقدوا أرضية الإِيمان أبداً: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ومن الطبيعي أنّ الإِيمان بعد مشاهدة العذاب ـ كما سيأتي قريباً ـ لا ينفع هؤلاء أيضاً.

ثمّ خاطب الله سبحانه وتعالى موسى وأخاه بأنّه: الآن وقد أصبحتما مستعدين لتربية وبناء قوم بني إِسرائيل (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما) في سبيل الله ولا تخافا سيل المشاكل، وكونا حازمين في أعمالكما ولا تستسلما أمام اقتراحات الجاهلين، بل استمرا في برنامجكما الثوري (ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون).

* * *

[426]

الآيات

وَجَوَزْنَا بِبَنىِ إِسْرَاءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَآ أدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ أَمَنتُ أَنَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِى ءَاَمَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90) ءَآلْئَنَ وَقدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّن النَّاسِ عَنْ ءَايَتِنَا لَغَفِلُونَ(92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إِسْرَائيلَ مُبَؤَّأَ صِدْق وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(93)

التّفسير

الفصل الأخير من المجابهة مع الظّالمين:

هذه الآيات جسّدت آخر مرحلة من المواجهة بين بني إِسرائيل والفراعنة وبيّنت مصير هؤلاء في عبارات قصيرة، لكنّها دقيقة وواضحة ـ كما هو دأب القرآن ـ وتركت المطالب الأُخرى تُفهم من الجمل السابقة واللاحقة.

[427]

فتقول أوّلا: إِنّنا جاوزنا ببني إِسرائيل البحر ـ وهو نهر النيل العظيم أطلق عليه اسم البحر لعظمته ـ أثناء مواجهتهم للفراعنة، وعندما كانوا تحت ضغط ومطاردة هؤلاء: (وجاوزنا ببني إِسرائيل البحر) إلاّ أنّ فرعون وجنوده طاردوا هؤلاء من أجل القضاء على بني إِسرائيل: (فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً).

«البغي» يعني الظلم، «والعدو» بمعنى التعدي، أي إِنّ هؤلاء إِنّما طاردوهم وتعقبوهم لغرض الظلم والتعدي عليهم، أي على بني إِسرائيل.

جملة «فأتبعهم» توحي بأنّ فرعون وجنوده قد تتبعوا بني إِسرائيل طوعاً، وتؤيد بعض الرّوايات هذا المعنى، والبعض الآخر تخالف هذا المعنى، إلاّ أن ما يفهم ويستفاد من ظاهر الآية هو الحجة على كل حال.

أمّا كيفية عبور بني إِسرائيل للبحر، وأي إِعجاز وقع في ذلك الحين، فإِنّ شرح ذلك سيأتي في ذيل الآية (63) من سورة الشعراء، إِن شاء الله تعالى.

على كل حال، فإِنّ هذه الأحداث قد استمرت حتى أوشك فرعون على الغرق، وأصبح كالقشة تتقاذفه الأمواج وتلهو به، فعنذاك زالت حجب الغرور والجهل من أمام عينه، وسطع نور التوحيد الفطري وصدع بالإِيمان: (حتى إِذ أدركه الغرق قال آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنوا إِسرائيل) فلست مؤمناً بقلبي فقط، بل إِنّي من المسلمين عملياً: (وأنّا من المسلمين).

ولما تحققت تنبؤات موسى(عليه السلام) الواحدة تلو الأُخرى وأدرك فرعون صدق هذا النّبي الكبير أكثر فأكثر وشاهد قدرته وقوته، اضطر إِلى إِظهار الإِيمان على أمل أن ينقذه ربّ بني إِسرائيل كما أنجاهم من هذه الأمواج المتلاطمة ولذلك يقول: آمنت أنّه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنو إِسرائيل!

إِلاّ أنّ من البديهي أنّ مثل هذا الإِيمان الذي يتجلّى عند نزول البلاء ونشوب أظفار الموت، إِيمان اضطراري يتشبث به كل جان ومجرم ومذنب وليست له أية قيمة، أو يكون دليلا على حسن نيته أو صدق قوله، ولهذا فإِنّ الله سبحانه خاطبه

[428]

فقال: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين).

وقد قرأنا سابقاً في الآية (18) من سورة النساء: (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إِذا حضر أحدهم الموت قال إِنّي تبت الآن) ولهذا فإنّ كثير من الناس ما أن تستقر بهم الحال وينجون من الموت يعودون إِلى أوضاعهم وأعمالهم السابقة. ونظير هذا التعبير الذي ورد أعلاه جاء أيضاً في اشعار وكلمات الأدباء العرب والعجم، مثل:

أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل

لكن (فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) آية للحكام المستكبرين ولكل الظالمين والمفسدين، وآية للفئات المستضعفة.

هناك بحث بين المفسّرين المراد من البدن هنا، فأكثرهم يرى بأنّ المراد هو جسد فرعون الذي فارقته الروح، لأنّ عظمة فرعون في أفكار الناس في ذلك المحيط بلغت حدّاً بحيث أنّ الكثير لولا ذلك لم يكن يصدق أن فرعون يمكن أن يغرق، وكان من الممكن أن تنسج الأساطير والخرافات الكاذبة حول نجاة وحياة فرعون بعد هذه الحادثة، لذلك ألقى الله سبحانه جسده خارج الماء.

اللطيف هنا، أنّ البدن في اللغة ـ كما قال الراغب في مفرداته ـ يعني الجسد العظيم ـ وهذا يدلنا على أن فرعون كان عظيم الهيكل ممتلىء الجسم كما هو الحال في الكثير من أهل الترف والرفاه الدنيوي!

إِلاّ أنّ البعض الآخر قالوا: إِنّ أحد معاني البدن هو الدرع، وهذا إِشارة إِلى أن الله سبحانه قد أخرج فرعون من الماء بدرعه الذهبي الذي كان على بدنه ليعرف عن طريقه، ولا يبقى أي مجال للشك في أنّه فرعون.

هذه النقطة أيضاً تستحق الإِنتباه، وهي أنهم استفادوا من جملة «ننجيك» أنّ الله سبحانه قد أمر الأمواج أن تلقي بدنه على مكان مرتفع عن الساحل لأنّ مادة «النجوة» تعني المكان المرتفع والأرض العالية.

[429]

والنقطة الأُخرى التي تلاحظ في الآية أنّ جملة: (فاليوم ننجّيك) قد بدأت بفاء التفريع، ومن الممكن أن يكون ذلك إِشارة إِلى أن إِيمان فرعون الباهت في هذه اللحظة اليائسة وفي ساعة الاحتضار كان كالجسد بدون روح ولذلك أثر بالمقدار الذي أنجى الله جسد فرعون من الماء بعد أن فارقته الروح، حتى لايكون طعمة للأسماك وليكون عبره للأجيال القادمة!

ويوجد الآن في متاحف مصر وبريطانيا جثة أو جثتين من جثث الفراعنة التي بقيت محنّطة بالمومياء، فهل أنّ بدن فرعون المعاصر لموسى من بينهاحيث حفظوه فيما بعد بالمومياء، أم لا؟

لايمكننا اثبات ذلك، إلاّ أنّ تعبير (لمن خلفك) يقوي هذا الإِحتمال في أن بدن ذلك الفرعون من بين هذه الأبدان، ليكون عبرة لكل الأجيال القادمة، لأنّ تعبير الآية مطلق ويشمل كل الاجيال في المستقبل (فتدبر جيداً).

ويقول في نهاية الآية: إِنّه وبالرغم من كل هذه الآيات والدلالات على قدرة الله، ومع كل الدروس والعبر التي ملأت تاريخ البشر فإِنّ الكثير معرضون عنها (وإِنّ كثيراً من النّاس عن آياتنا لغافلون).

وتبيّن آخر آية من هذه الآيات النصر النهائي لبني إِسرائيل، والرجوع إِلى الأرض المقدسة بعد الخلاص من قبضة الفراعنة، فتقول: (ولقد بوأنا بني إِسرائيل مبوأ صدق).

إِنّ التعبير بـ (مبوأ صدق) يمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّ الله سبحانه قد وفى بما وعد به بني إِسرائيل وأرجعهم إِلى الوطن الموعود، أو أنّ (مبوّأ صدق) إِشارة إِلى طهارة وقدسية هذه الأرض، وبذلك تناسب أرض الشام وفلسطين التي كانت محط الأنبياء والرسل.

وقد احتمل جماعة أن يكون المراد أرض مصر، كما يقول القرآن في سورة الدخان / الآية (25) ـ (28) : (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناهما قوماً آخرين).

[430]

وقد جاء هذا المضمون في الآية (57) ـ (59) من سورة الشعراء، ونقرأ في آخرها: (وأورثناها بني إِسرائيل).

من هذه الآيات نخرج بأنّ بني إسرائيل قد بقوا فترة في مصر قبل الهجرة إِلى الشام، وتنعّموا ببركات تلك الأرض المعطاء.

ثمّ يضيف القرآن الكريم: (ورزقناهم من الطيبات) ولا مانع بالطبع من أن تكون أرض مصر هي المقصودة، وكذلك أراضي الشام وفلسطين. إلاّ أنّ هؤلاء لم يعرفوا قدر هذه النعمة (فما أختلفوا حتى جاءهم العلم) وبعد مشاهدة كل تلك المعجزات التي جاء بها موسى، وأدلة صدق دعوته، إلاّ (أن ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وإِذا لم يتذوقوا طعم عقاب الإِختلاف اليوم، فسيذوقونه غداً.

وقد احتمل ـ أيضاً ـ في تفسير هذه الآية، أن يكن المراد من الإِختلاف هو الإِختلاف بين بني إِسرائيل واليهود المعاصرين للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قبول دعوته، أي إِنّ هؤلاء رغم معرفتهم صدق دعوته حسب بشارات وعلامات كتبهم السماوية، فإِنّهم اختلفوا، فآمن بعضهم، وامتنع القسم الأكبر عن قبول دعوته، وإِنّ الله سبحانه سيقضي بين هؤلاء يوم القيامة.

إِلاّ أنّ الإِحتمال الأوّل أنسب لظاهر الآية.

كان هذا الحديث عن قسم من ماضي بني إِسرائيل المليء بالعبر، والذي بُيّن ضمن آيات في هذه السورة، وما أشبه حال أُولئك بمسلمي اليوم، فإِنّ الله قد نصر المسلمين بفضله مرّات كثيرة. وقهر أعداءهم الأقوياء بصورة إِعجازية، ونصر بفضله ورحمته هذه الأمة المستضعفة على أُولئك المتجبرين، إلاّ أنّهم وللأسف الشديد، بدل أن يجعلوا هذا النصر وسيلة لنشر دين الإِسلام في جميع أرجاء العالم، فإِنّهم قد اتّخذوه ذريعة للتفرقة وإِيجاد النفاق والإِختلاف بحيث عرّضوا كل انتصاراتهم للخطر! اللّهم نجّنا من كفران النعمة هذا.

* * *

[431]

الآيات

فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ(94) وَلاَتَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأَيَتِ الله فَتَكُونَ مِنَ الْخَسِرِينَ(95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمَ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ(96) وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءَايَة حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ(97)

التّفسير

لاتدع للشك طريقاً إِلى نفسك!

لمّا كانت الآيات السابقة قد ذكرت جوانب من ماضي الأنبياء والأُمم السابقة، وكان من الممكن أن يشكك بعض المشركين ومنكري دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في صحة ذلك، فقد طلب القرآن من هؤلاء أن يراجعوا أهل الكتاب للتأكد والعلم بصحة هذه الأقوال، وليسألوهم عن ذلك، لأنّ كثيراً من هذه المسائل قد ورد في كتب هؤلاء.

إِلاّ أنّه بدل أن يوجه الخطاب لهؤلاء، خاطب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: (فإِن كنت في شك ممّا أنزلنا إِليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك) ليثبت عن هذا الطريق بأنّه (لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين).

[432]

ويحتمل أيضاً أنّ الآية أعلاه تطرح بحثاً جديداً ومستقلا في صدق دعوة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتعلم المخالفين أنّهم إِن كانوا في شك من أحقيته فليسألوا أهل الكتاب عن علاماته التي نزلت في الكتب السابقة كالتّوراة والإِنجيل.

ونقل سبب آخر للنزول في بعض التفاسير(1) يؤيد هذا المعنى، وهو أن جمعاً من كفار قريش كانوا يقولون: إِنّ هذا القرآن لم ينزل من الله، بل إِنّ الشيطان يلقيه على محمّد!! وقد سبب هذا الكلام أن يقع عدّة أشخاص في وادي الشك والتردد، فأجابهم بهذه الآية.

هل كان النّبي شاكّاً؟!

يمكن أن يتراءى للنظر في البداية أنّ هذه الآيات تحكي عن أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان شاكّاً في صدق الآيات التي كانت تنزل عليه، وأنّ الله سبحانه قد أزال شكّه عن الطريق أعلاه.

ولكن واقع الأمر أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلقى مسألة الوحي مع الشهود والمشاهدة ـ كما تحكي آيات القرآن هذا المعنى ـ ومعه لا يبقي أي معنى للشك في هذا المورد. إِضافةً إِلى أنّ هذا الاُسلوب من خطاب القريب من أجل تنبيه البعيد رائج في العرف، وهذا هو المراد من المثل المعروف: إِيّاك أعني واسمعي يا جارة، وتأثير مثل هذا الكلام أكبر من الخطاب الصريح في كثير من الموارد.

إِضافةً إِلى أن ذكر الجملة الشرطية لايدل دائماً على احتمال وجود الشرط، بل هو للتأكيد على مسأله ما أحياناً، أو لبيان قانون كلي عام، فنقرأ مثلا في الآية (23) من سورة الإِسراء: (وقضى ربّك أن لاتعبدوا إلاّ إِيّاه وبالوالدين إِحساناً إِمّا يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف) وينبغي الإِنتباه إِلى أنّ المخاطب في الآية هو النّبي ظاهراً، إلاّ أنّه لما كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أباه قبل ولادته وأُمّه في

____________________________

(1) تفسير أبي الفتوح الرازي، الجزء 6، ص 227 ذيل الآية.

[433]

طفولته، فإِنّ من الواضح أنّ احترام الوالدين طُرح هنا كقانون عام بالرغم من أن المخاطب ظاهراً هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

وكذلك نقرأ في سورة الطلاق: (يا أيّهاالنّبي إِذا طلقتم النساء) وهذا التعبير لايدل على أن النّبي قد طلق امرأة في حياته، بل هو بيان قانون عام، والبديع في هذا التعبير أنّ المخاطب في بداية الجملة هو النّبي، وفي نهايتها كل الناس.

ومن جملة القرائن التي تؤيد أنّ المقصود الأساس في الآية هم المشركون والكافرون، الآيات التي تتلو هذه الآية والتي تتحدث عن كفر وجحود هؤلاء.

ويلاحظ نظير هذا الموضوع في الآيات المرتبطة بالمسيح، عندما يسأله الله يوم القيامة: (ءأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إِلهين من دون الله)؟ فإِنّه ينكر هذه المسألة بصراحة، ويضيف: (إِن كنت قلته فقد علمته) سورة المائدة من الآية (116).

ثمّ تضيف الآية التّالية: (ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) من بعد ما اتّضحت لك آيات الله وصدق هذه الدعوة.

إِنّ الآية السابقة تقول بأنّك إِن كنت في شك فاسأل أُولئك المطلعين العالمين، وتقول هذه الآية بأنّك يجب أن تسلم مقابل هذه الآيات بعد أن ارتفعت عوامل الشك، وإِلاّ فإِنّ مخالفة الحق لا عاقبة لها إلاّ الخسران.

إِنّ هذه الآية قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآيه السابقة هم عموم الناس بالرغم من أن الخطاب موجه إِلى شخص النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ من البديهي أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يكذب الآيات الإِلهية مطلقاً، بل كان المدافع المستميت الصلب عن دينه.

ثمّ أنّها تخبر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ من بين مخالفيك جماعة متعصبين عنودين لا فائدة من انتظار إِيمانهم، فإِنّهم قد مسخوا من الناحية الفكرية، وتوغلوا في طريق الباطل إِلى الحد الذي فقدوا معه الضمير الإِنساني الحي تماماً، وتحولوا إِلى

[434]

موجودات لايمكن اختراقها، غاية ما في الأمر أنّ القرآن الكريم يبيّن هذا الموضوع بهذا التبعير: (إِنّ الذين حقت عليهم كلمة ربّك لايؤمنون).

وحتى إِذا جاءتهم كل الآيات والدلالات فإِنّهم لايؤمنون: (ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) ولا أثر لإِيمانهم في ذلك الوقت.

إِنّ الآيات الأُولى من الآيات مورد البحث تدعو عامّة الناس إِلى المطالعة والتحقيق والسؤال من أهل العلم، ثمّ طلبت منهم أن ينصروا الحق ويدافعوا عنه بعد أن اتّضح لهم. إلاّ أنّ الآيات الأخيرة تقول: لا تتوقّع أن يؤمن كل هؤلاء، لأنّ البعض قد فسد قلبه بحيث لايمكن إِصلاحه، فلا يثبطك عدم ايمانهم عن مواصلة الطريق. ولا تتعب نفسك في سبيل هدايتهم، بل توجه إِلى الأكثرية من الناس ممّن لهم أهلية الهداية.

وكما كررنا مراراً، فإِنّ التعبيرات التي تشابه هذه الآية السابقة ليست دليلا على الجبر أبداً، بل هي من قبيل ذكر آثار عمل الإِنسان، لكن لما كان أثر كل شيء بأمر الله، فإِنّ هذه الأُمور تنسب إِلى الله أحياناً.

ويبدو أنّ ذكر هذه النقطة مهم أيضاً، وهي أنّنا قرأنا في بعض الآيات السابقة في شأن فرعون أنّه قد أظهر الإِيمان بعد نزول العذاب والوقوع في قبضة الطوفان، إِلاّ أن مثل هذا الإِيمان لما كان يتصف بالإِضطرار لم ينفعه. إلاّ أنّ هذه الآيات تقول إِنّ هذا لم يكن أُسلوب وطريق فرعون وحده، بل هو طريق كل العنودين الأنانيين المستكبرين المُسْوَدّه قلوبهم الذين وصلوا إِلى قمة الطغيان ولديهم نفس هذه الحالة، فإِنّ هؤلاء أيضاً لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، ذلك الإِيمان العديم الأثر بالنسبة لهؤلاء.

* * *

[435]

الآية

فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيَمانُهَآ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَـمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين(98)

التّفسير

الاُمّة التي آمنت في الوقت المناسب!

تحدثت الآيات السابقة عن فرعون خاصّة، والأقوام السابقة بصورة عامّة، وهي أنّ هؤلاء امتنعوا من الإِيمان بالله في وقت الإِختيار والسلامة، إلاّ أنّهم لما أشرفوا على الموت والعذاب الإِلهي أظهروا الإِيمان الذي لم يكن نافعاً لهم آنذاك.

وتطرح الآية التي نبحثها هذه المسألة كقانون عام، فتقول: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إِيمانها). ثمّ استثنت قوم يونس فقالت: (إِلاّ قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إِلى حين)أي إِلى آخر عمرهم.

إِنّ كلمة «لولا» تعني هنا النفي على رأي بعض المفسّرين، ولذلك تمّ الإِستثناء منها بواسطة «إِلاّ» وعلى هذا الأساس يصبح معنى الجملة: لم يؤمن أي من الأقوام والأُمم التي عاشت في الماضي في المدن والأماكن المعمورة أمام أنبياء الله

[436]

بصورة جماعية إلاّ قوم يونس.

إِلاّ أنّ البعض الآخر معتقد بأنّ كلمة «لولا» لم تأت بمعنى النفي، بل أتت دائماً بمعنى التحضيض ـ ويقال للسؤال المقترن بالتوبيخ والتحريك تحضيض ـ إلاّ أن لازم مفهومها في مثل هذه الموارد يكون نفياً، ولهذا يمكن أن يستثنى منها بـ«إِلاّ».

وعلى كل حال، فلا شك في أنّ جماعات كثيرة من الأقوام السالفة آمنوا أيضاً، إِلاّ أنّ الذي يميز قوم يونس هو أنّهم آمنوا بأجمعهم دفعة واحدة، وكان ذلك قبل حلول العقاب الإِلهي الحتمي، في حين أنّ جماعة كبيرة من بين الأقوام الأُخرى بقوا على مخالفتهم وعنادهم حتى صدر القرار الإِلهي بالعذاب الحتمي، فلمّا رأى هؤلاء العذاب الأليم أظهر أغلبهم الإِيمان، إلاّ أنّ إِيمانهم ـ وللسبب الذي قلناه سابقاً ـ لم يكن له أثر ولا نفع.

قصّة إِيمان قوم يونس:

كانت قصّة هؤلاء على ما جاء في التواريخ، أنّه عندما يئس يونس من إِيمان قومه القاطنين أرض نينوى في العراق، دعا على قومه باقتراح من عابد كان يعيش بينهم، في حين أنّ عالماً كان معهم أيضاً اقترح على يونس أن يدعو لهؤلاء لا عليهم، وأن يستمر في إِرشاده أكثر من قبل ولا ييأس.

يونس اعتزل قومه بعد الدعاء عليهم، فاجتمع قومه الذين كانوا قد جربوا صدق أقواله حول ذلك الرجل العالم، ولم يكن أمر العذاب القطعي قد صدر بعد، إلاّ أنّ علاماته قد شرعت في الظهور، فاغتنم هؤلاء الفرصة وعملوا بنصيحة العالم وخرجوا معه خارج المدينة. للتضرع والدعاء، وأظهروا الإِيمان والتوبة، ومن أجل أن يزداد توجههم الروحي فرقوا بين الأُمهات والأولاد، ولبسوا اللباس الخشن البالي وهبوّا للبحث عن نبيّهم فلم يعثروا له على أثر.

إِلاّ أنّ هذه التوبة والإِيمان والرجوع إِلى الله، الذي تمّ في الوقت المناسب وعن

[437]

وعي مقترن بالإِخلاص قد أثر أثره، وارتفعت علامات العذاب وعادت المياه الى مجاريها. ولمّا رجع يونس إِلى قومه بعد احداث ووقائع كثيرة وقعت له قبلوه بأرواحهم وقلوبهم.

وسنبيّن تفصيل حياة يونس نفسه في ذيل الآيات (134 ـ 148) من سورة الصافات، إِن شاء الله تعالى.

والجدير بالذكر، إِنّ قوم يونس لم يستحقوا العذاب الإِلهي، الحتمي، وإِلاّ لم تقبل توبتهم، بل كانت تأتيهم الإِنذارات والتحذيرات التي تظهر عادة قبل العذاب النهائي، وقد كان مقدارها كافياً للتوعية، في حين أنّ الفراعنة مثلا كانوا قد رأوا هذه الإِنذارات مراراً ـ كحادثة الطوفان والجراد واختلاف ماء النيل الشديد وأمثالها ـ إلاّ أنّهم لم يعبؤوا بها مطلقاً ولم يأخذوها بمنظار جدي. واكتفوا بالطلب من موسى أن يدعوا الله ليرفع عنهم هذه الإِبتلاءات ليؤمنوا، لكنّهم لم يؤمنوا مطلقاً.

ثمّ إِنّ القصّة أعلاه تبيّن بصورة ضمنية مدى تأثير القائد الواعي الرشيد الحريص في القوم أو الأُمّة، في حين أن العابد الذي لا يمتلك الوعي الكافي يعتمد على الخشونة أكثر، وهكذا يفهم من هذه الرّواية منطق الإِسلام في المقارنة بين العبادة الجاهلة. والعلم الممتزج بالإِحساس بالمسؤولية.

* * *

[438]

الآيتان

وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لاََمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ(99) وَمَا كَانَ لِنَفْس أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيَعْقِلُونَ(100)

التّفسير

لاخير في الإِيمان الإِجباري:

لقد طالعنا في الآيات السابقة أنّ الإِيمان الإِضطراري لا يجدي نفعاً أبداً، ولهذا فإِنّ الآية الأُولى من هذه الآيات تقول: (ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعاً) وبناء على هذا فلا يعتصر قلبك ألماً لعدم إِيمان جماعة من هؤلاء، فإِنّ من مستلزمات أصل حرية الإِرادة والإِختيار أن يؤمن جماعة ويكفر آخرون، وإِذا كان الأمر كذلك (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟

إِنّ هذه الآية تنفي بصراحة مرّة أُخرى التهمة الباطلة التي قالها ويقولها أعداء الإِسلام بصورة مكررة، حيث يقولون: إِنّ الإِسلام دين السيف، وقد فرض بالقوّة والإِجبار على شعوب العالم، فتجيب الآية ـ ككثير من آيات القرآن الأُخرى ـ بأنّ الإِيمان الإِجباري لا قيمة له، والدين والإِيمان شيء ينبع عادة من أعماق

[439]

الروح، لا من الخارج وبواسطة السيف، خاصّة وأنّها حذرت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من إِكراه وإِجبار الناس على الإِيمان والإِسلام.

الآية التّالية قد ذكرت هذه الحقيقة أيضاً، وهي أنّ البشر وإِن كانوا أحراراً في اختيارهم، إلاّ أنّه (وما كان لنفس أن تؤمن إلاّ بإِذن الله) ولهذا فإِنّ هؤلاء قد ساروا في طريق الجهل وعدم التعقل، ولم يكونوا مستعدين للإِستفادة من رأس مال فكرهم وعقلهم، وسوف لا يوفقون للإِيمان وهم على هذا الحال، إِذ (ويجعل الرجس على الذين لايعقلون).

* * *

ملاحظتان

1 ـ من الممكن أن يُتصور في البداية أنّ هناك تنافياً وتضاداً بين الآية الأُولى والثّانية، إِذ أنّ الآية الأُولى تقول: إِنّ الله لا يجبر أحداً على الإِيمان، في حين أن الآية الثّانية تقول: إِنّ أحداً لايمكن أن يؤمن حتى يأذن الله!

إِلاّ أنّ التنبه إِلى نكتة واحدة يرفع هذا التضاد الظاهري، وهي أنّنا نعتقد بأنّ الجبر غير صحيح، كما أنّ التفويض غير صحيح أيضاً، أي أن الناس ليسوا مجبورين تماماً على أعمالهم، ولا هم متروكون وأنفسهم يعملون مايشاؤون، بل إِنّهم في الوقت الذي يكونون فيه أحراراً في الإِرادة، فإِنّهم في حاجة للمعونة الالهية، لأنّ الله سبحانه هو الذي يعطيهم حرية الإِرادة، فالعقل والوجدان الطاهر هما من مواهبه وعطاياه، وإِرشاد الأنبياء وهدايه الكتب السماوية من جانبه أيضاً، وبناء على هذا ففي عين حرية الإِرادة والإِختيار، فإِنّ منبع هذه الهبة وما ينتج عنها من جانب الله سبحانه. دققوا ذلك.

2 ـ إِنّ آخر جملة من الآية الأخيرة، أي (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) لاينبغي أن تفسر بمعنى الجبر مطلقاً، لأنّ جملة (لا يعقلون)دليل على

[440]

اختيار هؤلاء، أي أنّ هؤلاء الأفراد قد امتنعوا من التفكير والتدبر أوّلا. فابتلوا في النهاية بهذا العقاب، الذي هو الرجس وقذارة الشك والتردد وظلمة القلب والخطأ في التفكير الذي سلط على هؤلاء حتى سلبت منهم القدرة على الإِيمان، إلاّ أنّه ينبغي الإِنتباه إِلى أنّ مقدمات العذاب قد هيأها هؤلاء بأنفسهم، وفي مثل هذه الأحوال فإنّ الله تعالى لايأذن في إِيمان هؤلاء.

وبتعبير آخر، فإِنّ هذه الجملة تشير إِلى أنّ إِذن الله وأمره ليس أمراً اعتباطياً غير مدروس ومحسوب، بل إِنّه يشمل أُولئك الذين لهم أهلية الإِيمان، أمّا غير اللائقين فإِنّهم سيحرمون منه.

* * *

[441]

الآيات

قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِى الأَيَتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْم لاَّيُؤْمِنُونَ(101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّى مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ(102) ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ حَقَّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ(103)

التّفسير

الموعظة والنصيحة:

كان الكلام في الآيات السابقة عن أنّ الإِيمان يجب أن يكون اختيارياً لا بالجبر والاكراه، ولهذا فإِن الآية الأُولى هنا ترشد الناس إِلى الإِيمان الإِختياري، وتخاطب النّبي فتقول: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض)؟

إِن كل هذه النجوم اللامعة والكواكب السماوية المختلفة التي يدور كل منها في مداره، وهذه المنظومات الكبيرة والمجرات العملاقة، وهذا النظام الدقيق الحاكم على كل تلك الكواكب، وكذلك هذه الكرة الأرضية بكل عجائبها واسرارها، وكل هذه الكائنات الحية المتنوعة المختلفة .. تدل بالتمعن في دقائق صنعها والتدبّر في

[442]

نظامها على المبدأ الأزلي للعالم. وستتعرفون أكثر على خالق هذه الكائنات.

إِنّ هذه الجملة تنفي بوضوح مسألة الجبر وسلب حرية الإِرادة، فهي تقول: إِنّ الإِيمان هو نتيجة التدبر في عالم الخلقة، أي إِنّ هذا الأمر في اختياركم.

ثمّ تضيف أنّه رغم كل هذه الآيات والعلامات الدالّة على الحق، فلا داعي للعجب من عدم إِيمان البعض، لأنّ الآيات والدلالات والإِنذارات تنفع الذين لهم الإِستعداد لتقبل الحق، أمّا هؤلاء فإِنّه (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لايؤمنون)(1).

إِنّ هذه الجملة إِشارة إِلى الحقيقة التي قرأناها مراراً في القرآن، وهي أن الدلائل وكلمات الحق والمواعظ لاتكفي لوحدها، بل إِنّ الأرضية المستعدة شرط أيضاً في حصول النتيجة.

ثمّ تقول ـ بنبرة التهديد المتلبسة بلباس السؤال والإِستفهام ـ : هل ينتظر هؤلاء المعاندون الكافرون إلاّ أن يروا مصيراً كمصير الأقوام الطغاة والمتمردين السابقين الذين عمهم العقاب الإِلهي. مصير كمصير الفراعنة والنماردة وشدّاد وأعوانهم وأنصارهم؟! (فهل ينتظرون إلاّ مثل أيّام الذين خلوا من قبلهم).

وتحذرهم الآية أخيراً فتقول: يا أيّها النّبي (قل فانتظروا إنّي معكم من المنتظرين) فأنتم بانتظار هزيمة دعوة الحق، ونحن بانتظار المصير المشؤوم الذي ستلاقونه، مصير المتكبرين الماضين.

وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الإِستفهام في جملة (فهل ينتظرون) استفهام إِنكاري، أي إِنّ هؤلاء بطبيعة سلوكهم هذا لايمكن أن ينتظروا إلاّ حلول مصير مشؤوم

____________________________

(1) نذر جمع نذير، أي المنذر، وهو كنايه عن الأنبياء والقادة الإِلهيين، أو هي جمع إِنذار، بمعنى تحذير وتهديد الغافلين والمجرمين الذي هو من برامج هؤلاء القادة الإِلهيين.

وقد اعتبر البعض (ما) جملة (ما تغني الآيات) نافية، والبعض جعلها بمعنى الإِستفهام الإِنكاري، وهي واحدة من حيث النتيجة، إلاّ أنّ الظاهر أن (ما) نافية.

[443]

مظلم.

كلمة (أيّام) وإِن كانت في اللغة جمع يوم، إلاّ أنّها هنا تعني الحوادث المهلكة التي وقعت للأقوام والاُمم السالفة.

ومن أجل أن لايتوهم متوهم أنّ الله سبحانه يصيب بعذابه الصالح والطالح، تضيف الآية: إِننا إِذا ما تحققت مقدمات نزول العذاب على الأمم السابقة، نقوم بانقاذ عبادنا الصالحين: (ثمّ ننجي رسلنا والذين آمنوا).

ثمّ تقول في النهاية: إِنّ هذا ليس مختصاً بالأُمم السالفة والرسل والمؤمنين الماضين، بل (كذلك حقّاً علينا ننج المؤمنين)(1).

* * *

____________________________

(1) إِنّ جملة (كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين) كانت بهذا المعنى: كذلك ننج المؤمنين وكان ذلك حقّاً علينا، أي إِنّ جملة (حقاً علينا) جملة معترضة بين (كذلك) و(ننج المؤمنين). ويحتمل أيضاً أن تكون (كذلك) متعلقة بالجملة السابقة، أي جملة (ننجي رسلنا والذين آمنوا).

[444]

الآيات

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِى يَتَوَفَّكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ حَنِيفاً وَلاَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهُ مَا  لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّلِمِينَ (106)وإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَير فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)

التّفسير

الحزم في التّعامل مع المشركين:

هذه الآيات والآيات التي تليها، هي آخر آيات هذه السورة، وتتحدث جميعاً حول مسألة التوحيد ومحاربة الشرك والدعوة إِلى الحق، وهي في الحقيقة فهرست أوخلاصة لبحوث التوحيد وتأكيد على محاربة ومجابهة عبادة الأصنام التي بيّنت

[445]

مراراً في هذه السورة.

إِنّ سياق الآية يوحي بأنّ المشركين كانوا يتوهمون أحياناً أن من الممكن أن يلين النّبي ويتسامح في عقيدته في شأن الأصنام ويعترف ويقرّ لهم عبادة الأصنام ولو جزئياً إِلى جانب الإعتقاد بالله بنحو من الانحاء.

إِلاّ أنّ القرآن ينسف هذا التوهم الواهي بصورة قاطعة وحاسمة ويقطع عليهم احلامهم هذه إِلى الأبد، فلا معنى لأي نوع من المساومة واللين في مقابل الأصنام، ولا معبود إلاّ الله، لاتزيد كلمة ولا تنقص أُخرى.

ففي البداية يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب جميع الناس: (قل يا أيّها الناس إِن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله) ولا تكتفي الآية بنفي آلهة أُولئك، بل تثبت كل العبادة لله سبحانه زيادة في التأكيد فتقول: (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم). ومن أجل تأكيد أكبر تضيف: أنّ هذه ليست إِرادتي فقط، بل (وأمرت أن أكون من المؤمنين).

إِنّ التأكيد هنا على مسألة قبض الروح فقط من بين صفات الله، أمّا لأنّ الإِنسان إِذا كان يشك في كل شيء فإِنّه لا يستطيع أن يشك في الموت، أو لأنّ هذه الآية أرادت أن تنبه هؤلاء إِلى مسألة العذاب والعقوبات المهلكة التي أشير إِليها في الآيات السابقة، ولوحت بالتهديد بالغضب الإِلهي.

وبعد أن بيّنت الآية العقيدة الحقة في نفي الشرك وعبادة الأوثان بكل صراحة وقوة، تطرقت إِلى بيان دليل ذلك، دليل من الفطرة. ودليل من العقل:

(وأن أقم وجهك للدين حنيفاً) وهنا أيضاً لم يكتف بجانب الإِثبات، بل نفي الطرف المقابل لتأكيد الامر، فقالت الآية: (ولا تكونن من المشركين).

«الحنيف» ـ كما قلنا سابقاً ـ تعني: الشخص الذي يميل ويتحول عن طريق الإِنحراف إِلى جادة الصواب والإِستقامة، وبتعبير آخر: يغض الطرف عن المذاهب والأفكار المنحرفة، ويتوجه إِلى دين الله المستقيم، ذلك الدين الموافق

[446]

للفطرة موافقة كاملة ومستقيمة. وبناء على هذا فإِنّ هذا التعبير يستبطن الإِشارة إِلى كون التوحيد فطرياً في الأعماق، لأنّ الإِنحراف شيء خلاف الفطرة، (فتدبّر).

وبعد الإِشارة إِلى بطلان الشريك بالدليل الفطري، تشير إلى دليل عقلي واضح، فتقول: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإِن فعلت فإِنّك إِذاً من الظالمين) إِذ تكون قد ظلمت نفسك ومجتمعك الذي تعيش فيه.

أي عقل يسمح أن يتوجه الإِنسان لعبادة أشياء وموجودات لاتضر ولا تنفع أبداً، ولايمكن أن يكون لها أدنى أثر في مصير الإِنسان؟

وهنا أيضاً لم تكتف الآية بجانب النفي، بل إِنّها توكّد إِضافةً إِلى النفي على جانب الإِثبات فتقول: (وإن يمسسك الله يضرّ فلا كاشف له إلاّ هو)، وكذلك (وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله يصيب به من يشاء من عباده) لأنّ عفوه ورحمته وسعت كل شيء (وهو الغفور الرحيم).

* * *

[447]

الآيتان

قُلْ يَآ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل(108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَكِمِينَ(109)

التّفسير

الكلمة الأخيرة:

هاتين الآيتين تضمّنت إِحداهما موعظة ونصيحة لعامّة الناس، واختصت الثّانية بالنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد كملتا الأوامر والتعليمات التي بيّنها الله سبحانه على مدى هذه السورة ومواضعها المختلفة. وبذلك تنتهي سورة يونس.

فتقول أوّلا، وكقانون عام: (قل يا أيّها الناس قد جاءكم الحق من ربّكم)هذه التعليمات، وهذا الكتاب السماوي، وهذا الدين، وهذا النّبي كلها حق، والأدلّة على كونها حقّاً واضحة، وبملاحظة هذه الحقيقة: (فمن اهتدى فإِنّما يهتدي لنفسه ومن ضل فإِنّما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل).

أي إِنّي لست مأموراً بإِجباركم على قبول الحق، لأن الإِجبار على قبول

[448]

الإِيمان لا معنى له، ولا أستطيع إِذا لم تقبلوا الحق ولم تؤمنوا أن أدفع عنكم العذاب الإِلهي، بل إِنّ واجبي ومسؤوليتي هي الدعوة والإِبلاغ والإِرشاد والهداية والقيادة، أمّا الباقي فيتعلق بكم، وعليكم انتخاب طريقكم.

إِنّ هذه الآية إِضافة إِلى أنّها توكّد مرّة أُخرى مسألة الإِختيار وحرية الإِرادة، فإِنّها دليل على أن قبول الحق سيعود بالنفع على الإِنسان نفسه بالدرجة الأُولى، كما أن مخالفته ستكون في ضرره.

إِنّ توجيهات القادة الإِلهيين والكتب السماوية ما هي في الواقع إلاّ دروس لتربية وتكامل البشر، فلا يزيد الإِلتزام بها شيئاً على عظمة الله، ولا تنقص مخالفتها من جلاله شيئاً.

ثمّ تبيّن وظيفة وواجب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في جملتين: الأُولى (واتبع ما يوحى إليك) فإنّ الله قد حدّد مسيرك من خلال الوحي، ولا يجوز لك أن تنحرف عنه قيد أنملة.

والثّانية: إِنّه ستعترضك في هذا الطريق مشاكل مضنية ومصاعب جمة، فلا تدع للخوف من سيل المشاكل إِلى نفسك طريقاً، بل (واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) فإِنّ أمره حق، وحكمه عدل، ووعده متحقق لا محالة.

إلهنا ومولانا: إنّك وعدت عبادك الذين يجاهدون في سبيلك باخلاص، والذين يصبرون ويستقيمون في سبيلك بالنصر.

اللّهم وقد أحاطت بالمسلمين مشاكل لاتحصى، ونحن عبيدك الذين لانتوقف عن الجهاد والإِستقامة بمنك وتوفيقك، فاكشف عنا سحب المشاكل المظلمة بلطفك، وأنر أبصارنا بنور الحق والعدالة ... آمين يا رب العالمين.

نهاية سورة يونس

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21401249

  • التاريخ : 19/04/2024 - 05:54

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net