00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة التوبة من آية 38 ـ 60 من ( ص 51 ـ 99 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء السادس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[51]

الآيتان

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الاَْرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الاَْخِرَةِ فَمَا مَتَـعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا فِى الاَْخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ(38) إِلاَّ تَنِفُروا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَتَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(39)

سبب النّزول

جاء عن ابن عباس وآخرين أنّ الآيتين ـ محل البحث ـ نزلتا في معركة تبوك حين كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عائداً من الطائف الى المدينة، وهو يهيىء الناس ويعبؤهم لمواجهة الروم.

وقد ورد في الرّوايات الإِسلاميّة أنّ النّبي لم يكن يبيّن أهدافَه وإِقدامه على المعارك للمسلمين قبل المعركة لئلاتقع الأسرار العسكرية بيد أعداء الإِسلام، أنّه في معركة تبوك، لما كانت المسألة لها شكل آخر، فقد بيّن كل شيء للمسلمين بصراحة، وأنّهم سيواجهون الروم، لأنّ مواجهة امبراطورية الروم لم تكن مواجهة بسيطة كمواجهة مشركي مكّة أو يهود خيبر، وينبغي على المسلمين أن يكونوا في

[52]

منتهى الإِستعداد وبناء الشخصية

أضف الى كل ذلك أنّ المسافة بين المدينة وأرض الروم كانت بعيدة غاية البعد، وكان الوقت صيفاً قائظاً، وهو أوان اقتطاف الثمار وحصد الحبوب والغلات.

هذه الأُمور اجتمعت بعضها الى بعض فصعب على المسلمين الخروج للقتال. حتى أنّ بعضهم تردد في استجابته لدعوة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).

فالآيتان ـ محل البحث ـ نزلتا في هذا الظرف، وأنذرتا المسلمين بلهجة صارمة لمواجهة هذه المعركة الحاسمة.(1)

* * *

التّفسير

التّحرك نحو سوح الجهاد مرّة أُخرى

كما أشرنا آنفاً في شأن نزول الآتين، فإنّهما نزلتا في غزوة «تبوك».

وتبوك منطقة بين المدينة والشام، وتعدّ الآن من حدود الحجاز، وكانت آنئذ على مقربة من أرض الروم الشرقية المتسلطة على الشامات.(2)

وقد حدثت هذه الواقعة في السنة التاسعة للهجرة، أي بعد سنة من فتح مكّة تقريباً.

وبما أن المواجهة في هذا الميدان كانت مواجهةً لإِحدى الدول الكبرى في ذلك العصر، لا مواجهة لإِحدى القبائل العربية، فقد كان جماعة من المسلمين قلقين مشفقين من المساهمة والحضور في هذه المواجهة، ولذلك فقد كانت الأرضية مهيأة لوساوس المنافقين وبذر السموم، فلم يألوا جهداً في إضعاف

____________________________

1 ـ ذكر شأن النّزول هذا جماعة من المفسّرين كالطبرسي في مجمع البيان، والفخر الرازي في تفسيره الكبير، والآلوسي في روح المعاني.

2 ـ الفاصلة بين تبوك والمدينة 610 كم والفاصلة بينها وبين الشام 692 كم.

[53]

المعنويات وإحباط المؤمنين أبداً. فقد كان الموسم موسم اقتطاف الثمار وجمع المحاصيل الزراعية، وكان هذا الموسم للمزارعين يعدّ فصلا مصيرياً، إِذ فيه رفاه سنتهم هذا من جهة.

ومن جهة أُخرى، فإنّ بعد المسافة وحرارة الجوّ ـ كما أشرنا آنفاً ـ كلّ ذلك كان من العوامل المثبطة للمسلمين في حركتهم نحو مواجهة الأعداء.

فنزل الوحي ليشدَّ من أزر الناس، والآيات تترى الواحدة بعد الأُخرى لإزالة الموانع والأسباب المثبطة.

ففي الآية الأُولى ـ من الآيتين محل البحث ـ يدعو القرآن المسلمين الى الجهاد بلسان الترغيب تارةً وبالعتاب تارةً أُخرى وبالتهديد ثالثة فهو يدعوهم ويهيؤهم الى الجهاد، ويدخل إِليهم من كل باب.

إِذ تقول الآية: (يا أيّها الذين آمنوا ما لكم إِذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثّاقلتم الى الارض).

«اثّاقلتم» فعل مشتق من الثقل، ومعناه واضح إِذ هو خلاف «الخفيف» وجملة «اثاقلتم» كناية عن الرغبة في البقاء في الوطن وعدم التحرك نحو سوح الجهاد، أو الرغبة في عالم المادة واللصوق بزخارفها والإِنشداد نحو الدنيا، وعلى كل حال فالآية تخاطب من كان كذلك من المسلمين ـ ضعاف الإِيمان ـ لا جميعهم، ولا المسلمين الصادقين وعاشقي الجهاد في سبيل الله.

ثمّ تقول الآية مخاطبة إِيّاهم بلهجة الملامة: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل).

فكيف يتسنى للإِنسان العاقل أن يساوم مساومة الخُسران، وكيف يعوّض متاعاً غالياً لا يزول بمتاع زائل لا يعد شيئاً؟!

ثمّ تتجاوز الآية مرحلة الملامة والعتاب الى لهجة أشدّ وأسلوب تهديديّ جديد، فتقول: (إِلاّ تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً).

[54]

فإِذا كنتم تتصورون أنّكم إِذا توليتم وأعرضتم عن الذهاب الى سوح الجهاد، فإنّ عجلة الإِسلام ستتوقف وينطفىء نور الإِسلام، فأنتم في غاية الخطأ والله غني عنكم (ويستبدل قوماً غيركم) قوماً أفضل منكم من كل جهة، لا من حيث الشخصيّة فحسب، بل من حيث الإِيمان والإِرادة والشهامة والإِستجابة والطاعة (ولا تضرّوه شيئاً).

وهذه حقيقة وليست ضرباً من الخيال أو أمنية بعيدة المدى، فالله عزيز حكيم (والله على كل شيء قدير).

* * *

ملاحظات

1 ـ في الآيتين آنفتي الذكر تأكيد على الجهاد من سبعة وجوه:

الأوّل: أنّها تخاطب المؤمنين (يا أيّها الذين آمنوا).

الثّاني: أنّها تأمر بالتحرك نحو ميدان الجهاد (انفروا).

الثّالث: أنّها عبرت عن الجهاد بـ(في سبيل الله).

الرّابع: الإِستفهام الإِنكاري في تبديل الدنيا بالآخرة (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة)؟

الخامس: التهديد (بالعذاب الأليم).

السّادس: الاِستبدال بالمخاطبين (قوماً) غيرهم.

السّابع: أنّ الله على كل شيء قدير ولا يضره شيئاً وإِنّما يعود الضرر على المتخلفين.

2 ـ يستفاد من الآيتين ـ آنفتي الذكر ـ أن تعلق قلوب المجاهدين بالحياة الدنيا يضعف همتهم في أمر الجهاد، فالمجاهدون ينبغي أن يكونوا معرضين عن الدنيا، زُهّاداً غير مكترثين بزخارفها وزبارجها.

[55]

ونقرأ دعاء للإِمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) لأهل الثغور وحُماة الحدود، إِذ تقول: «وأنسهم عند لقائهم العدوّ ذكر دنياهم الخدّاعة وامحُ عن قلوبهم خطرات المال الفتون».

ولو عرفنا قيمة الدنيا وحالها شأن الآخرة ودوامها معرفة حقّة، لوجدنا أنّ الدنيا زهيدة بالمقارنة والموازنة مع الآخرة الى درجة أنّها لاتحسب شيئاً ونقرأ حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصدد يقول فيه: «والله ما الدنيا في الآخرة إلاّ كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثمّ يرفعا فينظر بِمَ ترجع»!

3 ـ هناك كلام بين المفسّرين في المراد من قوله تعالى: (يستبدل قوماً غيركم)الوارد في الآي محل البحث فمن هم هؤلاء؟!

قال بعضهم: هم الفرس وقال آخرون: بل هم أهل اليمن. ولكلّ منهم أثره في تقدم الإِسلام. وقال آخرون: إِنّ المراد بالنص السابق هم أُولئك القوم الذين ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وتقبلوا الإِسلام، بعد أن نزلت الآيتان آنفتا الذكر.

* * *

[56]

الآية

إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثْنََيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَـحِبِهِ، لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)

التّفسير

المدد الإلهي للرّسول في أشد اللحظات:

كان الكلام في الآيات المتقدمة عن موضوع الجهاد ومواجهة العدوّ، وكما أشرنا فقد جاء الكلام عن الجهاد مؤكّداً بعدّة طرق، من ضمنها أنّه لا ينبغي أن تتصوروا أنّكم إذا تقاعستم من الجهاد ونصرة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فستذهب دعوته والإِسلام أدرَاج الرياح.

فالآية محل البحث تعقّب على ما سبق لتقول: (إلاّ تنصروه فقد نصره الله).(1)

____________________________

1 ـ في هذه الجملة حذف من الناحية الأدبية، وكانت الجملة في الأصل: إِن لا تنصروه ينصره الله. لأنّ الفعل الماضي الذي يدل (مفهومه) على وقوعه في الماضي أيضاً، لا يمكن أن يقع جزاءً للشرط إلاّ أن يكون الفعل الماضي بمعنى المضارع!

[57]

وكان ذلك عندما تآمر مشركو مكّة على اغتيال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقتله، وقد مرّ بيان ذلك في ذيل الآية (30) من سورة الأنفال بالتفصيل، حيث قرّروا بعد مداولات كثيرة أن يختاروا من كل قبيلة من قبائل العرب رجلا مسلّحاً ويحاصروا دار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا، وأن يهجموا عليه الغداة ويحملوا عليه حملَة رجل واحد فيقطعوه بسيوفهم.

ولكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اطّلع ـ بأمر الله ـ على هذه المكيدة، فتهيأ للخروج من (مكّة) والهجرة إلى (المدينة) إلاّ أنّه توجه نحو (غار ثور) الذي يقع جنوب مكّة وفي الجهة المخالفة لجادة المدينة واختبأ فيه، وكان معه (أبوبكر) في هجرته هذه.

وقد سعى الأعداء سعياً حثيثاً للعثور على النّبي، إلاّ أنّهم عادوا آيسين، وبعد ثلاثة أيّام من اختباء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه في الغار واطمئنانه من رجوع العدوّ توجه ليلا نحو المدينة (في غير الطريق المطرّق) وبعد بضعة أيّام وصل(صلى الله عليه وآله وسلم)المدينة سالماً، وبدأت مرحلة جديدة من تأريخ الإِسلام هناك.

فالآية آنفة الذكر تشير إِلى أشدّ اللحظات حرجاً في هذا السَفَر التاريخي، فتقول: (إِذْ أخرجه الذين كفروا) وبالطبع فإنّهم لم يريدوا إِخراجه بل أرادوا قتله، لكن لما كانت نتيجة المؤامرة خروج النّبي من مكّة فراراً منهم، فقد نسبت الآية إِخراجه إِليهم.

ثمّ تقول: كان ذلك في حال هو (ثاني اثنين).

وهذا التعبير إِشارة إِلى أنّه لم يكن معه في هذا السفر الشاق إِلاّ رجل واحد، وهو أبو بكر (إِذ هما في الغار) أي غار ثور، فاضطرب أبو بكر وحزن فأخذ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يسرّي عنه، وكما تقول الآية: (إِذ يقول لصاحبه لا تحزن إِنّ الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها).

[58]

ولعل هذه الجنود الغيبيّة هي الملائكة التي حفظت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره الشاق المخيف، أو الملائكة التي نصرته في معركتي بدر وحنين وأضرابهما.

(وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا).

وهي إشارة إلى أنّ مؤامراتهم قد باءت بالخيبة والفشل وحبطت أعمالهم وآراؤهم، وشعّ نور الله في كل مكان، وكان الإِنتصار في كل موطن حليف محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم لا يكون الأمر كذلك (والله عزيز حكيم)؟

فبعزته وقدرته نصر نبيّه، وبحكمته أرشده سبل الخير والتوفيق والنجاح.

قصّة صاحب النّبي في الغار:

هناك كلام طويل بين مفسّري الشيعة وأهل السنة في شأن صحبة أبي بكر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره وهجرته، وما جاءت من إشارات مغلقة في شأنه في الآية آنفاً. فمنهم مَن أفرط، ومنهم من فرّط.

فالفخر الرازي في تفسيره سعى بتعصبه الخاص أن يستنبط من هذه الآية اثنتى عشرة فضيلة! لأبي بكر، ومن أجل تكثير عدد فضائله أخذ يفصّل ويسهّب بشكل يطول البحث فيه ممّا يتلف علينا الوقت الكثير.

وعلى العكس من الفخر الرازي هناك من يصرّ على استنباط صفات ذميمة لأبي بكر من سياق الآية.

وينبغي أن نعرف ـ أوّلا ـ هل تدل كلمة «الصاحب» على الفضيلة؟ والظاهر أنّها ليست كذلك، لأنّ الصاحب في اللغة تدلّ على الجليس أو الملازم للمسافر بشكل مطلق، سواء كان صالحاً أم طالحاً، كما نقرأ في الآية (37) من سورة الكهف عن محاورة رجلين فيما بينَهما، أحدهما مؤمن والآخر كافر (قال له صاحبه أكفرت بالذي خلقك من تراب)؟!

كما يصرّ بعضهم على أنّ مرجع الضمير من «عليه» في قوله تعالى (فأنزل الله

[59]

سكينته عليه) يعود على أبي بكر، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن بحاجة إِلى السكينة، فنزول السكينة إِذن كان على صاحبه، أي أبي بكر.

إِلاّ أنّه مع الإِلتفات إِلى الجملة التي تليها (وأيّده بجنود لم تروها) ومع ملاحظة اتحاد المرجع في الضمائر، يتّضح أن الضمير في «عليه» يعود على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أيضاً، ومن الخطأ أن نتصور بأنّ السكينة إنّما هي خاصّة في مواطن الحزن والأسى، بل ورد في القرآن ـ كثيراً ـ التعبير بنزول السكينة على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وذلك حين يواجه الشدائد والصعاب، ومن ذلك ما جاء في الآية (26) من هذه السورة أيضاً في شأن معركة حنين (ثمّ أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين).

كما نقرأ في الآية (26) من سورة الفتح أيضاً (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) مع أنّه لم يَرِدْ في الجمل والتعابير المتقدمة على هاتين الجملتين أي شيء من الحزن وما إِلى ذلك، وإنّما ورد التعبير عن مواجهة الصعاب والتواء الحوادث...

وعلى كل حال، فإنّ القرآن يدلّ أن نزول السكينة إنّما يكون عند الشدائد، وممّا لا ريب فيه أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يواجه اللحظات الصعبة وهو في (غار ثور)!

والأعجب من كل ما تقدم أن بعضاً قال: بأنّ التعبير (وأيده بجنود لم تروها)يعود على أبي بكر. مع أنّ جميع المحاور في هذه الآية تدور حول نصرة الله نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن يريد أن يكشف أنّ النّبي ليس وحده، وإذا لم ينصره أحد من أصحابه وجماعته، فإنّ الله سينصره. فكيف يمكن لأحد أن يترك الشخص الذي تدور حوله بحوث الآية، ويتّجه نحو شخص ثانوي وتبعي في منظور الآية ؟! وهذا يَدلّ على أن التعصب بلغ حدّاً بأصحابه، بحيث منعهم حتى من الإِلتفات إلى معنى الآية.

* * *

[60]

الآيتان

انفِرُواْ خِفَافاً وثِقَالا وَجَـهِدُوا بِأَمْولِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيرٌ لَّكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـذِبُونَ (42)

التّفسير

الكُسالى الطّامعون:

قلنا: إِنّ معركة تبوك كانت لها حالة استثنائية، وكانت مقترنة بمقدمات معقّدة وغامضة تماماً، ومن هنا فإن عدداً من ضعاف الإِيمان أو المنافقين أخذ «يتعلّل» في الإِعتذار عن المساهمة في هذه المعركة. وقد وردت في الآيات المتقدمات ملامة للمؤمنين من قبل الله سبحانه لتباطؤهم في نصرة نبيّهم عند صدور الأمر بالجهاد، وعدم الإِسراع إِلى ساحة الحرب وأكّدت بأنّ الأمر بالجهاد لصالحكم، وإِلاّ فإنّ بإمكان الله أن يهيىء جنوداً مؤمنين شجعاناً مكان الكسالى الذين لاحظ لهم في الثبات والإِرادة، بل حتى مع عدمهم فهو قادر على أن يحفظ نبيّه، كما حفظه «ليلة المبيت»، وفي «غار ثور».

[61]

والعجيب أنّ عدداً من «خيوط العنكبوت» المنسوجة على مدخل الغار كانت سبباً لإِنحراف فكر الأعداء الألداء، وأن يعودوا قافلين آيسين بعد وصولهم إِلى هذا الغار، وأن يسلم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من كيدهم.

فحيث أنّ بإمكان الله أن يغيّر مسير التأريخ، ببضعة خيوط من نسيج العنكبوت، فأية حاجة بهذا أو ذاك ليبدي كلّ معاذيره !!

وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه الأوامر هي لتكامل المسلمين أنفسهم، لا لرفع الحاجة لدى الله سبحانه... وتعقيباً على هذا الكلام يدعو المؤمنين جميعاً مرّة أُخرى ـ دعوة عامّة ـ نحو الجهاد ويعنف المتسامحين فيقول سبحانه: (انفروا خفافاً وثقالا).

«الخفاف» جمع الخفيف، «الثقال» جمع الثقيل، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل يستوعب جميع حالات الإِنسان. أي انفروا في أية حالة كنتم شباباً أم شيوخاً، متزوجين أم غير متزوجين، تعولون أحداً أم لا تعولون، أغنياءً أم فقراء، مبتلين بشيء أم غير مبتلين، أصحابَ تجارة أو زراعة أم لستم من أُولئك!

فكيف ما كنتم فعليكم أن تستجيبوا لدعوة الداعي إِلى الجهاد، وأن تنصرفوا عن أيّ عمل شغلتم به، وتنهضوا مسرعين إِلى ساحات القتال، وفي أيديكم السلاح.

وما قاله بعض المفسّرين من أنّ هاتين الكلمتين تعنيان مثلا واحداً ممّا ذكرنا آنفاً، لا دليل عليه أبداً، بل إنّ كل واحد ممّا ذكرناه مصداق جلي لمفهومها الوسيع.

ثمّ تضيف الآية قائلة: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) أي جهاداً مطلقاً عاماً من جميع الجهات، لأنّهم كانوا يواجهون عدوّاً قويّاً مستكبراً، ولا يتحقق النصر إِلاّ بأن يجاهدوا بكل ما وسعهم من المال والأنفس.

ولئلا يتوهّم أحد أنّ هذه التضحية يريدها الله لنفسه ولا تنفع أصحابها، فإنّ الآية تضيف قائلة: (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون).

[62]

أي إن كنتم تعلمون بأنّ الجهاد مفتاح عزتكم ورفعتكم ومنعتكم.

ولو كنتم تعلمون بأنّ أية أُمّة في العالم لن تصل بدون الجهاد إِلى الحرية الواقعية والعدالة.

ولو كنتم تعلمون بأنّ سبيل الوصول إِلى مرضاة اللّه والسعادة الأبدية وأنواع النعم والمواهب الإِلهية، كل ذلك إنّما هو في هذه النهضة المقدسة العامّة والتضحية المطلقة.

ثمّ يتناول القرآن ضعاف الإِيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية للفرار من ساحة القتال، فيخاطب النّبي مبيّناً واقعهم فيقول: (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لأتبعوك(1) ولكن بعدت عليهم الشقة(2))

والعجيب أنّهم لا يكتفون بالأعذار الواهية، بل (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم). فعدم ذهابنا إِلى ساحات القتال إِنّما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا وابتلائنا!! (يهلكون أنفسهم والله يعلم أنّهم لكاذبون).

فهم قادرون على الذهاب إِلى ساحات القتال، لكن حيث أن السفر ذو مشقة، ويواجهون صعوبةً وحرجاً، فإنّهم يتشبثون بالكذب والباطل.

ولم يكن هذا الأمر منحصراً بغزوة تبوك وعصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، ففي كل مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون لحظات الإنتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأُولى، ويصرخوا بعالي الصوت أنّهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل، لينالوا ثمرات جهود الآخرين في انتصارهم دون أن يبذلوا أيّ جهد!

غير أنّ هؤلاء «المجاهدين» المخلصين!! كما يزعمون، حين يواجهون

____________________________

1 ـ العَرَض ما يعرض ويزول عاجلا ولا دوام له، ويطلق عادةً على مواهب الدنيا المادية، والقاصد معناه السهل. لأَنّه في الأصل من قصد، والناس يسعون في قصدهم إِلى المسائل السهلة.

2 ـ الشقة تعني الأرض الصخرية أو الطريق الطويل البعيد الذي يجلب على عابره المشقة والنصب.

[63]

الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون بالأعذار الباطلة والحجج الواهية. كأن يقول أحدهم: إِنّي مريض، ويقول الآخر: إِنى مبتلىً بطفلي، ويقول الثّالث: زوجي مُقرب وعلى وشك الولادة، ويقول الرّابع: ياليتني كنت معكم لولا ضعف في عينيّ لا أبصر بهما، ويقول الخامس: أنا أتدارك مقدمات الأمر وأنا على أثركم، وهكذا...

إِلاّ أنّ على القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإذا لم يكونوا أهلا للإِصلاح فينبغي إِخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين.

* * *

[64]

الآيات

عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم حَتَّى يتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدقُوا وَتَعْلَمَ الْكَـذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَومِ الاَْخِرِ أَن يُجَـهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيم بِالْمُـتَّقِين (44)إِنَّـمَا يَسْتَئْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

التّفسير

التعرّف على المنافقين!

يُستفاد من الآيات ـ محل البحث ـ أنّ جماعة من المنافقين جاؤوا إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد أن تذرعوا بحجج واهية مختلفة ـ حتى أنّهم أقسموا على صدق مدعاهم ـ استأذنوا النّبي أن ينصرفوا عن المساهمة في معركة تبوك، فأذن لهم النّبي بالإِنصراف.

فالله سبحانه يعتّب على النّبي في الآية الأُولى من الآيات محل البحث فيقول: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبيّن لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين).

وهناك كلام طويل بين المفسّرين في المراد من عتاب الله نبيّه المشفوع بالعفو عنه، أهو دليل على أن إِذن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مخالفة، أم هو من باب ترك الأُولى، أم

[65]

لا هذا ولا ذاك؟!

وقد جنح البعض إلى الافراط إِلى درجة أنّهم أساؤوا إِلى مقام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وساحته المقدّسة، وزعموا أن الآيات المذكورة أنفاً دليل على إمكان صدور العصيان والذنب من قبل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يراعوا ـ على الأقل ـ الأدب الذي رعاه الله العظيم في تعبيره عن نبيّه الكريم، إذ بدأ بالعفو ثمّ ثنى بالعتاب والمؤاخذة، فوقعوا في ضلال عجيب.

والإِنصاف أنّه لا دليل في الآية على صدور أي ذنب أو معصية من النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحتى ظاهر الآية لا يدلّ على ذلك، لأنّ جميع القرائن تثبت أن النّبي سواءً أذن لهم أم لم يأذن، فإنّهم لم يكونوا ليساهموا في معركة تبوك، وعلى فرض مساهمتهم فيها لم يحلّوا مشكلة من أمر المسلمين، بل يزيدون الطين بلة، كما سنقرأ في الآيات التالية قوله تعالى: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إِلاّ خبالا).

فبناءً على ذلك فإنّ المسلمين لم يفقدوا أيّة مصلحة بإذن النّبي لأُولئك بالإِنصراف، غاية الأمر أنّه لو لم يأذن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم ويعرفهم المسلمون، غير أنّ هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أنّ ذهابهم وفقدانهم موجباً لإِرتكاب ذنب أو عصيان.

وربّما يمكن أن يسمى ذلك تركاً للأولى فحسب، بمعنى أنّ إِذن النّبي لهم في تلك الظروف، وبما أظهره أُولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم، وإن لم يكن أمراً سيئاً، إلاّ أن ترك الإِذن كان أفضل منه، لتُعرف هذه الجماعة بسرعة.

كما يُحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفاً إنّما هو على سبيل الكناية، ولم يكن في الأمر حتى «تركُ الأُولى» بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام.

ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالماً يريد أن يلطم وجه ابنك، إلاّ أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون

[66]

راضياً عن سلوكه هذا، بل وتشعر بالسرور الباطني، إلاّ أنّك ولإِثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك: لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه؟ وهدفك من هذا البيان إِنّما هو إِثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه، الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قِبَلِك؟

وهناك شبهة أُخرى في تفسير الآية، وهي أنّه: ألم يكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف المنافقين حتى يقول له الله سبحانه: (لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)؟

والجواب على هذا السؤال، هو:

أوّلا: أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم الظاهري، ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات، بل ينبغي أن ينكشف أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة و(المعتادة).

ثانياً: لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النّبي حالهم فحسب، بل لعل الهدف كان أن يعلم المسلمون جميعاً حالهم، وإن كان الخطاب موجّهاً للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).

ثمّ يتناول القرآن أحد علامات المؤمنين والمنافقين، فيقول: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم).

بل ينهضون مسرعين دون سأم أو ملل عند صدور الأمر بالجهاد ويدعوهم الإِيمان بالله واليوم الآخر ومسؤولياتهم وإيمانهم بمحكمة القيامة، كلّ ذلك يدعوهم إلى هذا الطريق ويوصد بوجوههم الأعذار والحجج الواهية (والله عليم بالمتقين).

ثمّ يضيف القرآن: (إنّما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر).

ويعقّب مؤكّداً عدم إيمانهم بالقول: (وارتابت قلوبُهم فهم في ريبهم يترددون).

وبالرّغم من أنّ الصفات الواردة في الآيات آنفاً جاءت بصيغة الفعل المضارع،

[67]

إلاّ أنّ المراد منها بيان صفات المؤمنين وصفات المنافقين وأحوالهم، ولا فرق بين الماضي والحال والإستقبال في ذلك.

وعلى كل حال فإن المؤمنين ـ بسبب إيمانهم ـ لديهم إرادة ثابتة وتصميم أكيد لا يقبل التهاون والرجوع حيث يرون طريقهم بجلاء ووضوح، فمقصدهم معلوم وهدفهم واضح، ولذلك فهم يمضون بخطى واثقة نحو الأمام ولا يترددون أبداً.

أمّا المنافقون فلأن هدفهم مظلم وغير معلوم، فهم مترددون حائرون ذاهلون، ويبحثون دائماً عن الأعذار والحجج الواهية للتخلص والفرار من تحمل المسؤولية الملقاة على عواتقهم.

وهاتان العلامتان لا تختصان بالمؤمنين والمنافقين في صدر الإسلام ومعركة تبوك فحسب، بل يمكن في عصرنا الحاضر أن نميز المؤمنين الصادقين من المدَّعين الكاذبين بهاتين الصفتين.

فالمؤمن شجاع ذو إِرادة وتصميم وخطى واثقة، والمنافق جبان وخائف ومتردد وحائر ويبحث عن المعاذير دائماً.

* * *

[68]

الآيات

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُروُجَ لاََعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَـعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالا وَلاَوْضَعُوا خِلَـلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّـعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّـلِمينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الاُْمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أمْرُ اللهِ وَهُمْ كَـرِهُونَ(48)

التّفسير

عدم وجودهم أفضل:

في الآية الأُولى ـ من الآيات أعلاه ـ بيان لعلامة أُخرى من علائم كذبهم، وهي في الحقيقة تكمل البحث الوارد في الآيات المتقدمة آنفاً، إِذ جاء فيها (والله يعلم أنّهم لكاذبون) فالآية محل البحث تقول: (ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة)، ولم ينتظروا الإذن لهم، (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم(1) وقيل اقعدوا مع

____________________________

1 ـ ثبّطهم مشتق من التثبيط ويعني الوقوف بوجه العمل المزمع إجراؤه بوجه من الوجوه.

[69]

القاعدين).

وهناك كلام بين المفسّرين في المراد بـ «قيل اقعدوا» فمن هو القائل؟! أهو الله سبحانه، أم النّبي، أم باطنهم؟!

الظاهر أنّه أمر تكويني نهض من باطنهم المظلم، وإنّه مقتضى عقيدتهم الفاسدة وأعمالهم القبيحة، وكثيراً ما يُرى أن مقتضى الحال يظهرونه في هيئة الأمر أو النهي. ويستفاد من الآية محل البحث أنّ لكلّ عمل ونيّة اقتضاءً يُبتلى به الإِنسان شاء أم أبى، وليس لكلّ أحد قابلية السير في سبيل الله وتحمّل الأعباء الكبرى، بل هو توفيق من قِبَل الله يوليه من يجد فيه طهارة النيّة والإِستعداد والإِخلاص.

وفي الآية التالية إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن عدم مساهمة مثل هؤلاء الأفراد في ساحة الجهاد ليس مدعاة للتأثر والأسف فحسب، بل لعله مدعاة للسرور، لأنّهم لا ينفعونكم فحسب، بل سيكونون بنفاقهم ومعنوياتهم المتزلزلة وانحرافهم الأخلافي مصدراً لمشاكل أُخرى جديدة.

والآية في الحقيقة تعطي درساً للمسلمين أن لا يكترثوا بكثرة المقاتلين أو قلّتهم وكميتهم وعددهم، بل عليهم أن يفكروا في اختيار المخلصين المؤمنين وإن كانوا قِلّة، فهذا درس لمسلمي الماضي والحاضر والمستقبل.

وتقول الآية: (لو خرجوا فيكم) أي إِلى تبوك للقتال (ما زادوكم إلاّ خبالا).

«الخبَال» بمعنى الإِضطراب والتردد.

والخَبَل على زنة «الأجَل» معناه الجنون.

والخَبْلُ على زنة «الطَبْل» معناه فساد الأعضاء.

فبناءً على ذلك فإنّ حضورهم بتلك الروحيّة الفاسدة المقرونة بالتردد والنفاق لا أثر له سوى إيجاد الشك والتردد وتثبيط العزائم بين جنود الإِسلام.

وتضيف الآية قائلة: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة)(1)

____________________________

1 ـ أوضعوا من مادة الإِيضاع ومعناه، الإسراع في الحركة، ومعناه هنا الإِسراع في النفوذ بين صفوف المقاتلين، والفتنة هنا بمعنى التفرقة واختلاف الكلمة.

[70]

ثمّ تنذر المسلمين مِن المتأثرين بهم في صفوف المسلمين (وفيكم سمّاعون لهم).

«السمّاع» تطلق على من يسمع كثيراً دون تروٍّ أو تدقيق، فيصدِّق كل كلام يسمعه.

فبناءً على ذلك فإنّ وظيفة المسلمين الراسخين في الإيمان مراقبت مثل هؤلاء الضعفاء لئلا يقعوا فريسة المنافقين الذئاب. كما يَرِدُ هذا الإِحتمال، وهو أنّ المراد من السمّاع في الآية هو الجاسوس الذي يتجسّس بين المسلمين ويجمع الأخبار للمنافقين.

وتُختتم الآية بالقول: (والله عليم بالظالمين).

وفي آخر آية من الآيات محل البحث إِنذار للنّبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ هؤلاء المنافقين لم يبادروا لأوّل مرّة إلى التخريب والتفرقة وبذر السموم، بل ينبغي أن تتذكر ـ يا رسول الله ـ أنّ هؤلاء ارتكبوا من قبل مثل هذه الأُمور وهم يتربصون الفرص الآن لينالوا مُناهم (لقد ابتغوا الفتنة من قبل).

وهذه الآية تشير إِلى ما جرى في معركة أُحد حيث رجع عبدالله بن أبي وأصحابه وانسحبوا وهم في منتصف الطريق، أو أنّها تشير إلى مؤامرات المنافقين عامّة التي كانوا يكيدونها للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو للمسلمين، ولم يغفل التاريخ أن يسجلها على صفحاته!

(وقلّبوا لك الأُمور) وخطّطوا للإِيقاع بالمسلمين، أو لمنعهم من الجهاد بين يديك، إلاّ أن كل تلك المؤامرات لم تفلح، وإِنما رَقَموا على الماء ورشقوا سهامهم على الحجر (حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون).

غير أن مشيئة العباد وإِرادتهم لا أثر لها إزاء مشيئة الله وإرادته، فقد شاء الله أن ينصرك وأن يُبلغَ رسالتك إِلى أصقاع المعمورة، ويزيل العراقيل والموانع عن

[71]

منهاجك، وقد فعل.

إِلاّ أنّ ما يهمنا هنا أن نعرف أنّ مدلول الآيات آنفة الذكر لا يختص بعصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وزمانه، ففي كل جيل وكل عصر جماعة من المنافقين تحاول أن تنثر سموم التفرقة في اللحظات الحسّاسة والمصيرية، ليحبطوا روح الوحدة ويثيروا الشكوك والتردد في أفكار الناس، غير أنّ المجتمع إِذا كان واعياً فهو منتصر بأمر الله ووعده الذي وعد أولياءه، وهو ـ سبحانه ـ الذي يذر ما يرقم المنافقون ومخططاتهم سُدىً، شريطة أن يجاهد أولياؤه في سبيله مخلصين، وأن يراقبوا بحذر أعداءهم المتوغلين بينهم.

* * *

[72]

الآية

وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذَن لِّى وَلاَ تَفْتِنِّى أَلاَ فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وإِنَّ جَهَنَّمَ لَُمحِيَطةٌ بِالْكَـفِرينَ (49)

سبب النزول

قال جماعة من المفسّرين: إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يُعبّىء المسلمين ويُهيؤهم لمعركة تبوك ويدعوهم للتحرك نحوها، فبينا هو على مثل هذه الحال إذا برجل من رؤساء طائفة «بني سلمة» يُدعى «جدّ بن قيس» وكان في صفوف المنافقين، فجاء إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مستأذناً أن لا يشهدَ المعركة، متذرعاً بأنّ فيه شبقاً إِلى النساء، وإذا ما وقعت عيناه على بنات الروم فربّما سيهيم وَلَهاً بهنَّ وينسحب من المعركة!! فأذن له النّبي بالإِنصراف.

فنزلت الآية أعلاه معنفةً ذلك الشخص!

فالتفت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى بني سلمة وقال: من كبيركم؟ فقالوا: جدّ بن قيس، إلاّ أنّه رجل بخيلٌ وجبان، فقال: وأي شيء أبشع من البخل؟ ثمّ قال: إِن كبيركم ذلك الشاب الوضيء الوجه بشر بن براء «وكان رجلا سخياً سمحاً بشوشاً».

[73]

التّفسير

المنافقون المتذرّعون:

يكشف شأن النزول المذكور أن الإِنسان متى أراد أن يتنصل من تحمل المسؤولية يسعى للتذرّع بشتى الحيل، كما تذرع المنافق جد بن قيس لعدم المشاركة في المعركة وميدان الجهاد، بأنّه ربّما تأسره الوجوه النضرة من بنات الروم وتختطف قلبه، فينسحب من المعركة ويقع في إشكالِ شرعي!!...

ويذكرني قول جد بن قيس بكلام بعض الضالعين في ركاب الطاغوت، إذ كان يقول: إِذا لم نضغط على الناس فإنّ ما نتسلمه من الراتب والحقوق المالية مشكل شرعاً. فمن أجل التخلص من هذا الإِشكال الشرعي لابدّ من إِيذاء الناس وظلمهم!.

وعلى كل حال فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليردّ على مثل هذه الذرائع المفضوحة قائلا: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي) بالنساء والفتيات الروميات الجميلات.

كما ويحتمل في شأن نزول الآيه أن جد بن قيس كان يتذرع ببقاء امرأته وأطفاله وأمواله بلا حام ولا كفيل بعده ليتخلّص من الجهاد.

ولكن القرآن يقول مجيباً عليه وأمثاله: (ألا في الفتنة سقطوا وأن جهنّم لمحيطة بالكافرين).

أي أنّ أمثال أُولئك الذين تذرّعوا بحجّة الخوف من الذنب ـ هم الآن واقعون فيه فعلا، وأن جهنم محيطة بهم، لأنّهم تركوا ما أمرهم الله ورسوله به وراء ظهورهم وانصرفوا عن الجهاد بذريعة الشبهة الشرعية!!

* * *

[74]

ملاحظتان

1 ـ إِن أحد طرق معرفة جماعة المنافقين في كل مجتمع، هو التدقيق في أسلوب استدلالهم وأعذارهم التي يذكرونها ليتركوا ما عليهم من الوظائف، فهذه الأعذار تكشف ـ بجلاء ـ ما يدور في خلدهم وباطنهم. فهم غالباً ما يتشبثون بسلسلة من الموضوعات الجزئية والمضحكة أحياناً بدلا من الإهتمام بالمواضيع المهمّة، ويستعملون المصطلحات الشرعية لإغفال المؤمنين ويتذرّعون بالاحكام الشرعية وأوامر الله ورسوله، في حين غارقون في دوّامة الخطايا، جادّون في عداوتهم للرسول ودينه القويم.

2 ـ للمفسّرين أقوال مختلف في تفسير جملة (وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين)فقال بعضهم: هذه العبارة كناية عن أحاطة عوامل ورودهم إِلى جهنم بهم، أي أن ذنوبهم تحيط بهم!

وقال بعضهم: إنّ هذا التعبير من قبيل الحوادث الحتمية المستقبلية التي تذكر بصيغة الفعل الماضي أو الحال، أي أن جهنم ستحيط بهم بشكل قاطع.

كما ويحتمل أن نفسر الجملة بمعناها الحقيقي، وهو أن جهنم موجودة فعلا، وهي عبارة عن باطن هذه الدنيا، فالكفار قابعون في وسط جهنّم في حياتهم الدنيوية وإن لم يصدر الأمر بتأثيرها، كما أن الجنّة موجودة في هذه الدنيا أيضاً وتحيط بالجميع، غاية ما في الأمر لما كان أهل الجنّة جديرين بها فسيكونون مرتبطين بها; وأهل النّار جديرون بالنّار فهم من أهلها أيضاً.

* * *

[75]

الآيات

إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَآ أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَاب مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ (52)

التّفسير

في الآيات ـ آنفة الذكر ـ إشارة إِلى إِحدى صفات المنافقين وعلاماتهم وبهذا تتابع البحث الذي يتناول صفات المنافقين في ذيل الآيات المتقدمة والآيات اللاحقة.

تقول الآيات أوّلا: (إِن تُصبك حسنة تسؤهم).

سواء كانت هذه الحسنة انتصاراً على العدوّ، أو الغنائم التي تنالونها في المعارك أو أيّ تقدّم آخر.

وهذه المساءَة دليل على العداوة الباطنيّة وفقدان الإيمان. فكيف يمكن لمن له

[76]

أدنى إِيمان أن يسوءه انتصار النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو أي مؤمن آخر؟!

ولكنّهم على خلاف هذه الحال عند الشدّة والخطب: (وإن تُصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولّوا وهم فرحون).

هؤلاء المنافقون عُمي القلوب ينتهزون أيّة فرصة لصالحهم ومنافعهم، ويزعمون أن ما نالوه كان بتدبيرهم وعقلهم، إذ لم نُساهم في المعركة الفلانية ولم نقع في أيّ مأزق!! كما أُبتلي به الآخرون الذين لم يكن لهم نصيب من التعقل والتدبر، وبهذه المزاعم يعودون إلى أوكارهم وهم يكادون أن يطيروا فرحاً.

ولكنك ـ يا رسول الله ـ عليك أن تردّ عليهم بجواب منطقيّ متين وذلك:

أوّلا: (قُلْ لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا هو مولانا) أجَلْ فلا يريد بنا إِلاّ الخير والصلاح: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

فهم يعشقون الله فحسب، ومنه يطلبون المدد والعون، ويتوكلون عليه ويلتجئون إِليه عند الخطوب.

وهذا خطأ كبير أُبتلي به المنافقون، إِذ يتخيّلون أنّهم بعقولهم القاصرة وفكرهم المحدود يستطيعون أن يواجهوا جميع المشكلات والحوادث، وأن يكونوا في غنىّ عن رحمة الله ولطفه!!... إنّهم لا يعلمون أن جميع وجودهم لا يعدو ورقة يابسة في مهبّ العاصفة. أو كقطرة ماء في صحراء محرقة في يوم قائظ فلولا لطف الله ومدده فما عسى أن يفعل الإِنسان الضعيف أمام الشدائد والخطوب؟!

ثانياً: (قُلْ هل تربصون بنا إلاّ إِحدى الحسنيين)؟!

فإمّا أن نُبير الأعداء في ساحة الحرب ونُبيدهم ونعود منتصرين، أو نُقتل فننهل ورد الشهادة العذب، فكلاهما محبّب لنا ومصدر افتخارنا.

وهكذا يختلف حالنا عن حالكم، فنحن نتوقع لكم مساءتين: إمّا أن تصيبكم سهام البلايا والمصائب والعقوبات الإِلهية سواء في الدنيا أو الآخرة، أو يكون هلاككم على أيدينا: (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو

[77]

بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون) تربصوا غبطتنا وسعادتنا ونحن نتربص شقاءكم وسوء عاقبتكم.

* * *

بحوث

1 ـ المقادير وسعي الإنسان

ممّا لا شك فيه أن مآلنا وعاقبة أمرنا ـ بأيدينا ـ ما دام الأمر يدور في دائرة سعينا وجدّنا، والقرآن الكريم يصرّح بهذا الشأن أيضاً، كقوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إِلاّ ما سعى)(1) ، وكقوله تعالى: (كل نفس بما كسبت رهينة)(2) وفي آيات أخر. بالرغم من أنّ الجد والسعي هما من السنن الإِلهيّة وبأمره تعالى أيضاً.

إِلاّ أنّه عند خروج الأمر عن دائرة سعينا وجدّنا، فإنّ يد القدر هي التي تتحكم بمآلنا وعاقبة أمرنا، وما هو جار بمقتضى قانون العليّة الذي ينتهي إِلى مشيئة الله وعلمه وحكمته وهو مقدّر علينا، فهو ما سيكون ويقع حينئذ. غاية ما في الأمر أن المؤمنين بالله وعلمه وحكمته ولطفه ورحمته، يفسّرون هذه المقادير بأنّها جارية وفقاً «للنظام الأحسن» وما فيه مصلحة العباد، وكلُّ يُبتلى بمقادير تناسبه حسب جدارته التي اكتسبها.

فالجماعة إذا كانوا من المنافقين الجبناء والكسالى والمتفرقين فهي محكومة بالفناء حتماً. إلاّ أنّ الجماعة المؤمنة الواعية المتّحدة المصمّمة، ليس لها إلاّ النصرُ والتوفيق مآلا.

فبناءً على ذلك يتّضح أنّ الآيات آنفة الذكر لا تنافي أصل الحرية [حرية الإِرادة والإختيار] وليست دليلا على العاقبة الجبرية للإِنسان أو أن سعي الإِنسان لا أثر له.

____________________________

(1) سورة النّجم، 39.

(2) المدثر، 38.

[78]

2 ـ لا وجود للهزيمة في قاموس المؤمنين

نواجه في آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ منطقاً مُحكماً متيناً يستبطن السّر الأساس لإنتصارات المسلمين الأوائل جميعاً، ولو لم يكن للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من تعليم ودستور إِلاّ ما نجده في هذه الآية لكان كافياً لإنتصار أتباعه ومقتفي منهاجه، وهو أنّه لا مفهوم للهزيمة في صفحات أرواحهم فقد أثبتت الحوادث أنّهم منتصرون على كل حال، منتصرون إِن استشهدتم!... منتصرون إِن قتلتم أعداءكم!

وإنّ للمؤمنين مسلكين لا ثالث لهما، في أيّ منهما ساروا وسلكوا وصلوا إِلى هدفهم وغايتهم.

أحدها هو طريق الشهادة التي تمثل أوج الفخر للمؤمنين، وأعظم موهبة يمكن أن تُتصور للإِنسان أن يبيعَ اللهَ نفسه، ويشتري الحياة الأبدية الخالدة وجوار الله، والتنعم بما لا يمكن وصفه من النعم.

والآخر هو الإِنتصار على العدوّ وتدمير قواه الشيطانية، وتطهير البيئة والمحيط الإِنساني من لوث الظالمين والمنحرفين الضالين، وهذا بنفسه فيض ولطف كبير وفخر مسلّم به.

فالجندي الذي يدخل ساحة المعركة بهذه الروحية والمعنوية لا يفكر بالفرار والإِدبار أبداً، ولا يخاف من أي أحد ولا من أي شيء، فالخوف والإِستيحاش والإِضطراب والتردد ليس لها طريق إِلى قلبه ووجوده. والجيش الذي يتألف من جنود بهذه الروحية لا يعرف الهزيمة اطلاقاً.

ولا يحصل الانسان على هذه المعنويات العالية إلاّ عن طريق اعتماد التعليمات الاسلامية، فلو أنّ هذه التعليمات تجلّت مرّة أُخرى في نفوس المسلمين بالتربية السليمة والتعليم الصحيح لأمكن جبران كل اشكال التخلف الذي أصاب المسلمين.

أُولئك الذين يطالعون ويدرسون أسباب تقدّم المسلمين الأوائل وانتصارهم،

[79]

وأسباب تأخرهم في الوقت الحاضر، ويعدّون الأمر أحجية ولغزاً لا ينحلّ، من الأفضل لهم أن يأتوا ويفكروا في هذه الآية ليتّضح لهم الجواب على ما يرد في خواطرهم.

ممّا ينبغي الإِلتفات إِليه آنفة الذكر عندما تتحدث عن هزيمتي المنافقين واندحارهم، تبيّن ذلك بتفصيل (ونحن نتربص أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) إلاّ أنّها تمرّ على بيان إنتصار المؤمنين بإجمال، فكأنّ المسألة من الوضوح بمكان حتى أنّها لا تحتاج إِلى بيان وشرح، وهذه لطيفة بلاغيّة تناولتها الآية الكريمة.

3 ـ صفات المنافقين

نؤكّد مرّة أُخرى على أنّه لا ينبغي أن نقرأ هذه الآيات ونعدّ موضوعها مسألة تاريخية ترتبط بما سبق، بل علينا أن نعتبرها درساً ليومنا وأمسنا وغدنا، ولجميع الناس. فليس من مجتمع يخلو من مجموعة منافقين، قلّت أو كثرت، وصفاتهم على شاكلة واحدة تقريباً.

فالمنافقون عادة أناس جهلة أنانيون متكبرون، يزعمون بأنّهم يتمتّعون بقسط وافر واف من العقل والدراية! إنّهم في عذاب وحسرة مادام الناس في راحة وسرور ويفرحون عندما تحلّ بهم كارثة!.

إنّهم يتخبطون في دوامة من الوهم والشك والحيرة، ولذلك فهم يخطون تارة نحو الأمام، وأُخرى إلى الوراء!!

وعلى خلافهم المؤمنون، فهم يشاركون الناس في السراء والضرّاء، ولا يزعمون أنّهم أولو علم ودراية، ولا يستغنون عن رحمة الله ولطفه، وقلوبهم تعشق الله ولا تخاف في سبيله من سواه!

* * *

[80]

الآيات

قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّنْ يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَـسِقِينَ (53) وَمَا مَنعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـتُهُمْ إِلاّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَـوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـرِهُونَ (54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَلُهُمْ وَلاَ أَوْلَـدُهُمْ إِنَّـمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَتَزْ هَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَـفِرُونَ 55

التّفسير

تشير هذه الآيات إِلى قسم آخر من علامات المنافقين وعواقب أعمالهم ونتائجها، وتبيّن بوضوح كيف أن أعمالهم لا أثر لها ولا قيمة، ولا تعود عليهم بأيّ نفع.

ولما كانَ ـ من بين الأعمال الصالحة ـ الإِنفاق في سبيل الله «الزكاة بمعناها الواسع» والصلاة «وهي العلاقة بين الخلق والخالق» ـ لهما موقع خاص، فقد اهتمّت الآيات بهذين القسمين اهتماماً خاصاً!

تخاطب الآيات النّبي الكريم فتقول: (قل انفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل

[81]

منكم)(1).

ثمّ تشير الآية إلى سبب ذلك فتقول: (إنّكم كنتم قوماً فاسقين).

فنيّاتكم غير خالصة، وأعمالكم غير طاهرة، وقلوبكم مظلمة، وإنّما يتقبل الله العمل الطاهر من الورع التقي.

وواضح أنّ المراد من الفسق هنا ليس هو الذنب البسيط والمألوف، لأنّه قد يرتكب الإِنسان ذنباً وهو في الوقت ذاته قد يكون مخلصاً في أعماله، بل المراد منه الكفر والنفاق، أو تلوّث الإِنفاق بالرياء والتظاهر.

كما لا يمنع أن يكون الفسق ـ في التعبير آنفاً ـ في مفهومه الواسع شاملا للمعنيين، كما ستوضح الآية التالية ذلك.

وفي الآية التالية يوضح القرآن مرّة أُخرى السبب في عدم قبول نفقاتهم فيقول: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنّهم كفروا بالله وبرسوله).

والقرآن يعوّل كثيراً على أنّ قبول الأعمال الصالحة مشروط بالإِيمان، حتى أنّه لو قام الإِنسان بعمل صالح وهو مؤمن، ثمّ كفر بعد ذلك فإنّ الكفر يحبط عمله ولا يكون له أي أثر «بحثنا في هذا المجال في المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل».

وبعد أن أشار القرآن إِلى عدم قبول نفقاتهم، يشير إِلى حالهم في العبادات فيقول: (ولا يأتون الصلاة إلاّ وهم كسالى) كما أنّهم (ولا ينفقون إلاّ وهم كارهون).

وفي الحقيقة أنّ نفقاتهم لا تقبل لسببين:

الأوّل: هو أنّهم (كفروا بالله وبرسوله).

والثّاني: أنّهم إِنما ينفقون عن كره وإِجبار.

كما أن صلواتهم لا تُقبل لسببين أيضاً:

الأوّل: لأنّهم (كفروا بالله...).

____________________________

1 ـ جملة «انفقوا» وإن كانت في صورة الأمر، إلاّ أن فيها مفهوم الشرط، أي لو أنفقتم طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم.

[82]

والثّاني: أنّهم (لا يأتون الصلاة إلاّ وهم كسالى)!...

العبارات المتقدمة في الوقت الذي تبيّن حال المنافقين في عدم النفع من أعمالهم، فهي في الحقيقة تبيّن علامة أُخرى من علائمهم في الوقت ذاته، وهي أن المؤمنين الواقعيين يمكن معرفتهم من نشاطهم عند أداء العبادة، ورغبتهم في الأعمال الصالحة التي تتجلى فيهم بإخلاصهم.

كما يمكن معرفة حال المنافقين عن طريق كيفية أعمالهم، لأنّهم يؤدّون أعمالهم عادةً دون رغبة ومكرهين، فكأنّما يُساقون إِلى عمل الخير سوقاً.

وبديهي أنّ أعمال الطائفة الأُولى (المؤمنين) لما كانت تصدر عن قلوب تعشق الله مقرونةً بالتحرق واللهفة، فإنّ جميع الآداب ومقرراتها مرعية فيها. إلاّ أنّ الطائفة الثّانية لما كانت أعمالها تصدر عن اكراه وعدم رغبة، فهي ناقصّة لا روح فيها، وهكذا تكون البواعث المختلفة في أعمال الطائفتين تظفي على الأعمال شكلين مختلفين.

وفي آخر الآية ـ من الآيات محل البحث ـ يتوجه الخطاب نحو النّبي قائلا: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم).

فهي وإن كانت نعمةً بحسب الظاهر، إلاّ أنّه (إِنّما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون).

وفي الواقع فإنّهم يعذبون عن طريقين بسبب هذه الأموال والأولاد، أي القوة الإِقتصادية والإِنسانية:

فالأوّل: إنّ مثل هؤلاء الابناء لا يكونون صالحين عادة، ومثل هذه الأموال لا بركة فيها، فيكونان مدعاة قلقهم وأَلَمِهِمْ في الحياة الدنيا، إِذ عليهم أن يسعوا ليل نهار من أجل أبنائهم الذين هم مدعاة أذاهم وقلقهم، وأن يجهدوا أنفسهم لحفظ أموالهم التي اكتسبوها عن طريق الإِثمّ والحرام.

[83]

والثّاني: لما كانوا بهذه الأَموال والأولاد متعلقين، ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت ولا بالدار الآخرة الواسعة ولا بنعيمها الخالد فليس من الهيّن أن يغمضوا عن هذه الأموال والذّرية، ويخرجون من هذه الدنيا ـ بحال مزرِيَة وفي حال الكفر.

فالمال والبنون قد يكونان موهبة وسعادة ومدعاة للرفاه والهدوء والإِطمئنان والدعة إذا كانا طاهرين طيبين و إِلاّ فهما مدعاة العذاب والشقاء والألم.

* * *

ملاحظتان

1 ـ يسأل بعضهم: إِنّ الآية الأُولى ـ من الآيات محل البحث ـ تقول: (انفقوا طوعاً وكرهاً لن يتقبل منكم) مع أن الآية الأُخرى تقول بصراحة: (ولا ينفقون إلاّ وهم كارهون).

ترى ألا توجد منافاة بين هذين التعبيرين؟!

لكن مع قليل من الدقة يتّضح الجواب على هذا السؤال، وهو أن بداية الآية الأُولى في صورة القضية الشرطية، أي لو أنفقتم طوعاً أو كرهاً فعلى آية حال لن تتقبل منكم. ونعرف أن القضية الشرطية لا تدل على وجود الشرط، أي على فرض أن ينفقوا طوعاً واختياراً فإنفاقهم لا فائدة فيه، لأنّهم غير مؤمنين.

إِلاّ أنّ ذيل الآية الأُخرى بيان قضية خارجيّة، وهي أنّهم ينفقون عن إكراه دائماً.

2 ـ والدرس الذي نستفيده من الآيات الآنفة، هو أنّه لا ينبغي الإِنخداع بصلاة الناس وصيامهم، لأنّ المنافقين يؤدون ذلك أيضاً، كما أنّهم ينفقون بحسب الظاهر في سبيل الله. بل ينبغي تمييز الصلاة والإِنفاق بدافع النفاق من غيرهما عن أعمال

[84]

المؤمنين البنّاءة والهادفة، ويمكن معرفة ذلك بالتدقيق والإمعان في النظر، ونقرأ في الحديث: «لا تنظروا إِلى طول ركوع الرجل وسجوده، فإنّ ذلك شيءٌ اعتاده، ولو تركه استوحش ولكن انظروا إِلى صدق حديثه وأداء أمانته».

* * *

[85]

الآيتان

وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ(56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجأً أَوْ مَغَـرت أَوْ مُدَّخَلا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ(57)

التّفسير

علامة أُخرى للمنافقين:

ترسم الآيتان أعلاه حالة أُخرى من أعمال المنافقين بجلاء، إذ تقول الآية الأُولى: (ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنّهم قوم يفرقون) ومن شدّة خوفهم وَفَرقِهم يخفون كفرهم ويظهرون الإِيمان.

و«يفرقون» من مادة «الفرق» على زنة «الشفق» ومعناه شدّة الخوف.

يقول «الراغب» في «المفردات» إِن الفرق في الأصل معناه التفرّق والتشتت، فكأنّهم لشدّة خوفهم تكاد قلوبهم أن تتفرق وتتلاشى.

وفي الواقع أنّ مثل هؤلاء لما فقدوا ما يركنون إِليه في أعماقهم، فهم في هلع واضطراب عظيم دائم، ولا يمكنهم أن يكشفوا عمّا في باطنهم لما هم عليه من الهلع والفزع، وحيث أنّهم لا يخافون الله «لعدم إيمانهم به»، فهم يخافون من كل شيء غيره، ويعيشون في استيحاش دائم، غير أنّ المؤمنين الصادقين ينعمون في

[86]

ظل الإِيمان بالهدوء والإِطمئنان.

والآية التالية تصوّر شدّة عداوة المنافقين للمؤمنين ونفورهم منهم، في عبارة موجزة إلاّ أنّها في غاية المتانة والبلاغة، إذ تقول: (لو يجدون ملجأً أو مغارات أو مدّخلا لولّوا إِليه وهم يجمحون).

«الملجأ» معناه معروف، وهو ما يأوي إِليه الخائف عادة، كالقلاع والكهوف وأضرابهما.

و«المغارات» جمع مغارة.

و«المدّخل» هو الطريق الخفي تحت الأرض، كالنقب مثلا.

و«يجمحون» مأخوذ من الجماح، ومعناه الحركة السريعة والشديدة التي لا يتأتى لأيّ شيء أن يصدها، كحركة الخيول المسرعة الجامحة التي لا تطاوع أصحابها، ولذلك سُمّي الجواد الذي لا يطاوع صاحبه جموحاً أو جامحاً.

وعلى كل حال، فهذه الآية واحدة من أبلغ الآيات والتعابير التي يسوقها القرآن في وصف المنافقين، وبيان هلعهم وخوفهم وبغضهم إِخوانهم المؤمنين، بحيث لو كان لهم سبيل للفرار من المؤمنين، ولو على قمم الجبال أو تحت الأرض، لَولّوا إِليه وهم يجمحون، ولكن ما عسى أن يفعلوا مع الروابط التي تربطهم معكم من القبيلة والأموال والثروة، كل ذلك يضطرهم إِلى البقاء على رغم أنوفهم.

* * *

[87]

الآيتان

وَمِنهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَـتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُواْ وَإِنْ لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَآ إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَآ ءَاتَهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَغِبُونَ (59)

سبب النّزول

جاء في تفسير «الدر المنثور» عن «صحيح البخاري» و«النسائي» وجماعة آخرين، أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مشغولا بتقسيم الأموال (من الغنائم أو ما شاكلها)، وإِذا برجل من بني تميم يدعى ذو الخويصرة - وهو حرقوص بن زهير ـ يأتي فيقول له: يا رسول الله، اعدل. فقال رسول الله: «ويلك من يعدل إِذا لم أعدل!» فصاح عمر: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه. فقال رسول الله: «دعه فإنّ له أصحاباً يحتقر أحدكم صلاته مع صلواتهم وصومهم مع صومه، يمرقون من دين كما يمرق السهم من الرميّة...».(1)

فنزلت الآيتان عندئذ ونصحت مثل هؤلاء الناس ووعظتهم.

____________________________

(1) نور الثقلين، ج2، ص227.

[88]

التّفسير

الأنانيون السفهاءُ:

في الآية الأُولى أعلاه إِشارة إِلى حالة أُخرى من حالات المنافقين، وهي أنّهم لا يرضون أبداً بنصيبهم، ويرجون أن ينالوا من بيت المال أو المنافع العامّة ما استطاعوا إِلى ذلك سبيلا، سواءً كانوا مستحقين أم غير مستحقين، فصداقتهم وعداوتهم تدوران حول محور المنافع سلباً وإِيجاباً.

فمتى مُلئت جيوبهم رضوا (عن صاحبهم) ومتى ما أُعطوا حقّهم وروعي العدل في إِيتاء الآخرين حقوقهم سخطوا عليه، فهم لا يعرفون للحق والعدالة مفهوماً «في قاموسهم» وإِذا كان في قاموسهم مفهوم للحق أو العدل، فهو على أساس أن من يعطيهم أكثر فهو عادل، ومن يأخذ حق الآخرين منهم فهو ظالم!!

وبتعبير آخر: إنّهم يفقدون الشخصية الإِجتماعية، ويتمسكون بالشخصية الفردية والمنافع الخاصّة، وينظرون للأشياء جميعاً من هذه الزّاوية (المشار إِليها آنفاً).

لذا فإنّ الآية تقول: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) لكنّهم في الحقيقة ينظرون إِلى منافعهم الخاصّة (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون).

فهؤلاء يرون أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) غير منصف ولا عادل!! ويتهمونه في تقسيمه المال!.

(ولو أنّهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إِنّا إِلى الله راغبون).

تُرى ألا يوجد أمثال هؤلاء في مجتمعاتنا الإِسلامية المعاصرة؟! وهل الناس جميعاً قانعون بحقّهم المشروع! فمن أعطاهم حقهم حسبوه عادلا؟!

ممّا لا ريب فيه أنّ الجواب على السؤال الآنف بالنفي، ومع كل الأسف فما

[89]

يزال الكثيرون يقيسون العدل ويزنون الحق بمعيار المنافع الشخصيّة ولايقنعون بحقوقهم!! ولو قُدّر لأحد أن يوصل إِلى جميع الناس حقوقهم المشروعة ولا سيما المحرومين منهم ـ لتعالى صراخهم وعويلهم!!

فبناءً على ذلك، لا داعي لأن نقلب ونتصفح سجل التاريخ لمعرفة المنافقين. فبنظرة واحدة إلى من حولنا، بل بنظرة إِلى أنفسنا، نستطيع أن نميزَ حالنا من حال الآخرين!

اللهم، أحيِ فينا روح الإِيمان، وأمت في أنفسنا النفاق وأفكار الشيطان.

* * *

[90]

الآية

إِنَّمَا الصَّدَقَـتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَكِينِ وَالْعَـمِلينَ عَلَيْهَا وَالْمَؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَـرِمينَ وَفِى سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(60)

التّفسير

موارد صرف الزكاة ودقائقها:

في تاريخ صدر الإِسلام مرحلتان يمكن ملاحظتهما بوضوح، إحداهما في مكّة، حيث كان هدف النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين فيها تعليم الأفراد وتربيتهم ونشر التعاليم الإِسلامية. والثّانية في المدينة، حيث أقدم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على تشكيل حكومة إِسلاميّة أجرى من خلالها الأحكام والتعاليم الإِسلامية.

وممّا لا شك فيه أنّ أوّل وأهم مسألة واجهت تشكيل الحكومة هي إيجاد بيت المال، إِذ عن طريقه تُؤمَّن حاجات الدولة الإِقتصادية، وهي حاجات طبيعية توجد في كل دولة بدون استثناء، ومن هنا كان إِيجاد بيت المال من أوائل أعمال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة، وتشكل الزكاة أحد موارده، وعلى المشهور فإنّ هذا الحكم شُرّع في السنة الثّانية للهجرة النبوية.

[91]

وكما سنشير ـ بعد حين ـ إِلى إِرادة الله وحكمه، فإنّ حكم الزكاة قد نزل من قبل في مكّة، لكن لا على نحو وجوب جمعها في بيت المال، بل كان الناس يؤدونها ذاتياً، أمّا في المدينة فإنّ قانون جباية الزكاة وجمعها في بيت المال قد صدر من الله تعالى في الآية (103) من سورة التوبة.

إنّ الآية التي نبحثها، والتي نزلت يقيناً بعد آية وجوب الزكاة ـ وإن لم يسبق لها ذكر في القرآن الكريم ـ تبيّن الموارد المختلفة التي تصرف فيها الزكاة. وممّا يلفت النظر أن الآية بدأت بكلمة (إنّما) الدالّة على الحصر، وهي توحي بأنّ بعض الأفراد الأنانيين أو المغفلين كانوا يطمعون في أن يحصلوا على نصيب من الزكاة بدون أي وجه لإستحقاقهم لها، لكن كلمة (إنّما) ردّت أيديهم في أفواهم. وهذا المعنى تبيّنه الآيتان اللتان سبقت هذه الآية، حيث ذكرت أنّ هؤلاء كانوا يعترضون على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في عدم إِعطائهم شيئاً من الزكاة، ويرضون عنه إِذا أعطاهم شيئاً منها.

وعلى أي حال، فإنّ الآية قد بيّنت ـ بوضوح ـ الموارد الحقيقة التي تصرف فيها الزّكاة، وأنهت التوقعات غير المنطقية وحددت موارد صرف الزّكاة في ثمانية أصناف:

1 ـ الفقراء.

2 ـ المساكين: وسيأتي البحث في نهاية تفسير الآية عن الفرق بين الفقير والمسكين.

3 ـ العاملين عليها: وهم الذين يسعون في جباية الزكاة، وإدارة بيت المال، وما يُعطى لهم هو في الواقع بمنزلة أجرة عملهم، ولهذا لا يشترط فيهم الفقر على أي حال.

4 ـ المؤلفة قلوبهم: وهم الذين لا يوجد لديهم الحافز والدافع المعنوي القوي من أجل النهوض بالأهداف الإِسلامية وتحقيقها، ولكن ويمكن استمالتهم بواسطة بذل المال لهم، والإِستفادة منهم في الدفاع عن الإِسلام وتحكيم دولته، وإعلاء

[92]

كلمته. وسيأتي توضيح أوسع حول هذا القسم.

5 ـ في الرقاب: وهذا يعني أن قسماً من الزكاة يخصّص لمحاربة العبودية والرق وإنهاء هذه الحالة غير الإِنسانية، وكما قلنا في محله فإنّ برنامج الإِسلام في معالجة مسألة الرقيق هو اتباع نظام (التحرير التدريجي) الذي ينتهي إِلى تحرير جميع العبيد بدون مواجهة ردود فعل اجتماعية غير متوقعة، ويشكّل تخصيص قسم من الزكاة لهذا الموضوع جانباً من هذا البرنامج المتكامل.

6 ـ الغارمون: وهم الذين عجزوا عن أداء ديونهم، ولم يكن هذا العجز نتيجة لتقصيرهم.

7 ـ في سبيل الله: والمراد منه ـ كما سنشير إِليه في آخر تفسير الآية ـ جميع السبل التي تؤدي إِلى تقوية ونشر الدين الإِلهي، وهي أعم من مسألة الجهاد والتبليغ وأمثالها.

8 ـ ابن السبيل: وهم الذين تخلفوا في الطريق لعلة ما، وليس معهم من الزاد والراحلة ما يوصلهم إِلى بلدانهم أو إِلى الجهة التي يقصدونها، حتى ولو لم يكونوا فقراء في واقعهم، لكنّهم افتقروا الآن نتيجة سرقة أموالهم أو مرضهم أو قلّة أموالهم أو لأسباب أخر، ومثل هؤلاء يجب أن يُعطَوا من الزكاة ما يوصلهم إِلى مقصدهم أو بلدهم.

وفي خاتمة الآية نلاحظ التأكيد على صرفها في الجهات السابقة، ولذلك قال سبحانه: (فريضة من الله) ولا شك أنّ هذه الفريضة قد حُسبت بصورة دقيقة جدّاً، وبصورة تحفظ مصالح الفرد والمجتمع، لأنّ (الله عليم حكيم).

* * *

[93]

بحوث

وهنا أُمور ينبغي ملاحظتها:

1 ـ الفرق بين الفقير والمسكين

هناك بحث بين المفسّرين في مفهومي الفقير والمسكين، هل أنّ مفهومهما واحد، وتكرار اللفظين معاً في الآية من باب التأكيد فتصبح موارد صرف الزكاة سبعة لا ثمانية، أم أنّهما لهما معنيان مختلفان؟

أغلب المفسّرين والفقهاء قالوا بالثّاني، لكن وقع البحث حتى بين أنصار هذا القول في تفسير وتحديد مفهوم كل من الكلمتين، والذي يبدو أقرب للنظر، أنّ (الفقير) هو الشخص الذي يعاني من حاجة مالية في حياته ومعاشه مع أنّه يعمل ويكتسب، لكنّه لا يسأل أحداً مطلقاً رغم حاجته لعفته وعزّة نفسه، أمّا (المسكين) فهو أشد حاجة من الفقير، وهو العاجز عن العمل، فهو مضطر لأنّ يستعطي الناس ويسألهم. والدليل على ذلك أنّ الأصل اللغوي لكلمة مسكين مأخوذ من مادة السكون، لأنّ المسكين لشدة فقره كأنّه سكن وأخلد إلى الأرض.

ثمّ إنّ ملاحظة استعمال الكلمتين في مواضع متعددة من القرآن يؤيد هذا الرأي، فمثلا: نقرأ في الآية (16) من سورة البلد: (أو مسكيناً ذا متربة) وفي الآيه (8) من سورة النساء: (وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم)ويُفهم من هذا التعبير أنّ المراد بالمساكين هم الذين يسألون ويستعطون إِذا حضروا مثل هذه المواضع.

وفي الآية (24) من سورة القلم نقرأ: (أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين)وهي إشارة إِلى السائلين.

وكذلك التعبير بـ (إِطعام مسكين) أو (طعام مسكين)، فإنّه يوحي بأنّ المساكين هم الجياع الذين يحتاجون إِلى الطعام، في حين أنّنا نستطيع أن نفهم بوضوح ـ من خلال بعض الآيات القرآنية التي وردت فيها كلمة الفقير ـ أنّ المراد من الفقراء هم

[94]

أفراد محتاجون للمال لكنّهم لحفظ ماء الوجه ولعزة أنفسهم لا يسألون الناس مطلقاً، كما تبين ذلك الآية (273) من سورة البقرة: (للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأَرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف).

وبعد كل هذا ففي رواية رواها محمّد بن مسلم عن الإِمام الصادق أو الإِمام الباقر(عليهما السلام)، أنّه سأله عن الفقير والمسكين فقال: «الفقير الذي لا يسأل، والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل»(1). وبهذا المضمون وردت رواية عن أبي بصير عن الصادق(عليه السلام)، وكلتاهما صريحتان في المعنى السابق.

ونذكّر هنا بأنّ قسماً من القرائن قد يظهر منه أحياناً خلاف ما قلناه، إلاّ أنّنا إذا نظرنا إِلى مجموع القرائن اتَّضح أن الحق ما قلناه.

2 ـ هل يجب تقسيم الزّكاة إِلى ثمانية أجزاء متساوية؟

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب تقسيم الزكاة إِلى ثمانية أجزاء متساوية، وصرف كل جزء في مورده الخاص إلاّ أن يكون مقدار الزكاة من القلّة بحيث لا يمكن تقسيمه إِلى ثمانية أقسام.

أمّا الأكثرية الساحقة من الفقهاء فقد ذهبوا إلى أن ذكر الأصناف الثمانية في الآية يبيّن جواز صرف الزكاة في هذه الموارد، لا أنّه يجب تقسيم الزكاة إلى ثمانية أجزاء. والسيرة الثابتة للنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) تؤيّد هذا المعنى، إضافة إلى أنّ الزكاة إِحدى الضرائب الإِسلامية، والحكومة الإِسلامية هي المسؤولة عن جبايتها من الناس، والهدف من تشريعها هو تأمين الحاجات المختلفة للمجتمع الإِسلامي.

أمّا كيفية صرف الزكاة في هذه الموارد الثمانية، فإنّه يرتبط بالضرورات الإِجتماعية من وجه، وبرأي ووجهة نظر الحكومة الإِسلامية من جهة أُخرى.

____________________________

1 ـ وسائل الشيعه، ج 6، ص 144، باب 1 من أبواب مستحقي الزكاة، حديث 2.

[95]

3 ـ متى شُرعت الزّكاة؟

يستفاد من الآيات القرآنية المختلفة ـ ومن جملتها الآية (156) من سورة الأعراف، والآية (3) من سورة النمل، والآية (4) من سورة لقمان، والآية (7) من سورة فصلت، وكلها سور مكّية ـ أن حكم وجوب الزكاة نزل في مكّة، وكان المسلمون ملزمين بأدائها كواجب شرعي، لكن لما قدم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة وأسس الدولة الإِسلامية، وكان لابدّ من إِيجاد بيت المال، أمره الله سبحانه بأن يأخذ الزكاة من الناس بنفسه ـ لا أنهم يصرفون الزكاة بأنفسهم حسب ما يرونه ـ فنزلت الآية (103) من سورة التوبة: (خذ من أموالهم صدقة ... ).

والمشهور أنّ ذلك كان في السنة الثّانية للهجرة، ثمّ بيّنت الآية التي نبحثها ـ الآية (60) من سورة التوبة ـ موارد صرف الزكاة بصورة دقيقة. ولا ينبغي التعجب من أن تشريع أخذ الزكاة في الآية (103)، وبيان موارد صرفها ـ والذي يقال أنّه نزل في السنة التاسعة للهجرة ـ في الآية (60)، لأنا نعلم أن آيات القرآن لم تجمع وترتب حسب تأريخ نزولها، بل بأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أمر بوضع كل آية في مكانها المناسب.

4 ـ من هم المقصودون بـ (المؤلفة قلوبهم)؟

الذي يُفهم من تعبير (المؤلفة قلوبهم) أن أحد موارد صرف الزكاة هم الأفراد الذين يراد استمالتهم وجلب محبّتهم بالزكاة، لكن هل المراد منهم الكفار الذين يمكن الإِستعانة بهم في أمر الجهاد ببذل الزكاة لهم، أم يدخل معهم المسلمون ضعيفو الإِيمان؟

وكما قلنا في المباحث الفقهية، فإنّ لهذه الآية، وكذلك للروايات الواردة في هذا الموضوع مفهوماً واسعاً، ولهذا فإنّها تشمل كل من يمكن استمالته من أجل نفع وتحكيم الإِسلام، ولا دليل على تخصيصها بالكفار.

[96]

5 ـ دور الزّكاة في الإِسلام

إِذا علمنا أنّ الإِسلام يظهر على أنّه مذهب أخلاقي أو فلسفي أو عقائدي بحت، بل ظهر إِلى الوجود كدين وقانون كامل وشامل عولجت فيه كل الحاجات المادية والمعنوية في الحياة، وكذلك إِذا علمنا أن تشكيل وتأسيس الدولة الإِسلامية قد لازم ظهور الإِسلام منذ عصر النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا علمنا أن الإِسلام يهتم اهتماماً خاصّاً بنصرة المحرومين ومكافحة الطبقية في المجتمع اتضح لنا أنّ دور بيت المال والزكاة التي تشكل أحد موارده، من أهم الأدوار.

لا شك أن في كل مجتمع أفراداً عاجزين عن العمل، مرضى، يتامى، معوقين، وأمثالهم، وهؤلاء يحتاجون حتماً إِلى من يحميهم ويرعاهم ويقوم بشؤونهم. وكذلك يحتاج هذا المجتمع إِلى جنود مضحين من أجل حفظ وجوده وكيانه، أمّا مصاريف هؤلاء الجنود ونفقاتهم فإنّ الدولة هي التي تلتزم بتأمينها ودفعها إِليهم. وكذلك العاملون في الدولة الإِسلامية، الحكام والقضاة، وسائل الإِعلام والمراكز الدينية وغيرها، فكل قسم من هذه الأقسام يحتاج إلى ميزانية خاصّة ومبالغ طائلة لا يمكن تهيئتها دون أن يكون هناك نظام مالي محكم منظم.

وعلى هذا الأساس أولى الإِسلام الزكاة ـ التي تعتبر في الحقيقة نوعاً من الضرائب على الإِنتاج والأرباح، وعلى الأموال الراكدة ـ اهتماماً خاصاً، حتى أنّه اعتبرها من أهم العبادات، وقد ذكرت ـ جنباً إلى جنب ـ مع الصلاة في كثير من الموارد، بل إِنّه اعتبرها شرطاً لقبول الصلاة.

وأكثر من هذا أننا نقرأ في الرّوايات الإِسلامية أنّ الدولة الإِسلامية إذا طلبت الزكاة من شخص أو أشخاص وامتنع هؤلاء من ذلك فسوف يحكم بارتدادهم، وإذا لم تنفع النصيحة معهم ولم يؤثر الموعظة فيهم، فإنّ الإستعانة بالقوّة العسكرية لمقابلتهم أمر جائز.

[97]

وفي رواية عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «من منع قيراطاً من الزكاة فليس هو بمؤمن، ولا مسلم، ولا كرامة».(1)

وممّا يلفت النظر أنّ الرّوايات قد أظهرت أن تعين الزكاة بهذا المقدار يبيّن دقة حسابات الإِسلام، فإنّ المسلمين جميعاً لو أدّوا زكاة أموالهم بصورة دقيقة وكاملة فسوف لن يبقى فقير أو محروم في كافة أنحاء البلاد الإِسلامية. ففي رواية عن الصادق(عليه السلام): «ولو أنّ الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً... وإن الناس ما افتقروا، ولا احتاجوا، ولا جاعوا، ولا عروا إلاّ بذنوب الأغنياء»(2).

وكذلك يفهم من الرّوايات أنّ أداء الزكاة سبب لحفظ أصل الملك والأموال وتحكيم أسسها، بحيث أنّ الناس إذا أهملوا تطبيق هذا الأصل الإِسلامي المهم فإنّ الفاصلة والتفاوت بين الطبقات سيصل إِلى حد يعرض أموال الأغنياء إِلى الخطر.

في حديث عن الإِمام موسى بن جعفر(عليه السلام): «حَصّنوا أموالكم بالزكاة»(3). وبهذا المضمون نقلت روايات أُخرى عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأميرالمؤمنين(عليه السلام).

ولمزيد الإِطلاع على هذه الأحاديث راجع الأبواب: الأوّل والثّالث والرّابع والخامس من أبواب الزكاة من المجلد السّادس من وسائل الشيعة.

6 ـ ما الفرق بين العطف بـ «اللام أو في»؟

النقطة الأخيرة التي ينبغي الإِلتفات إِليها، هي أنّ في الآية التي نبحثها أربعة أقسام ذكرت معطوفة على حرف اللام: (إنّما الصدقات للفقراء والمساكين

____________________________

(1) وسائل الشيعة، ج 6، ص 20، باب 4، حديث 9.

(2) وسائل الشيعة، ج 6، ص 4، باب 1 من أبواب الزكاة حديث 6.

(3) وسائل الشيعة، ج6، ص 6، باب 1، من أبواب الزكاة، حديث 11.

[98]

والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم)، وهذا التعبير عادة يفيد الملكية. أمّا الأقسام الأربعة الأُخرى فقد سبقها حرف (في): (وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)، وهذا التعبير عادة يُستعمل لبيان مورد الصرف(1).

هناك بحث ونقاش بين المفسّرين في سبب اختلاف التعبير، فالبعض يعتقد أن الأصناف الأربعة الأُولى يملكون الزكاة، أمّا الأصناف الأربعة الأُخرى فإنّهم لا يملكونها، بل إن الزكاة يجوز أن تصرف فيهم.

والبعض الآخر يعتقد أن الإختلاف في التعبير يشير إِلى مسألة أُخرى، وهي أنّ الطائفة الثّانية أكثر استحقاقاً للزكاة، لأن كلمة (في) لبيان الظرفية، لهذا فإن هذه المجموعة الرباعية تمثل محتوى ومصرف الزكاة، والزكاة وعاء لها، في حين أن المجموعة الأُولى ليست كذلك.

لكننا نحتمل ونرجح احتمالا آخر، وهو أن الستة أقسام ـ وهم: الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغازمون وابن السبيل ـ التي لم تذكر قبلها (في) متساوون وقد عطفت على بعضها البعض، أمّا القسمان الآخران ـ وهما في الرقاب وفي سبيل الله ـ اللذان بيّنتهما (في) فإنّ لهما وضعاً خاصاً، وربّما كان السبب في اختلاف التعبير من جهة إِمكان تملك الزكاة من قبل الأصناف الستة، ويمكن أداء الزكاة إِليهم (حتى المدينين والعاجزين عن أداء ديونهم، لكن بشرط الإِطمئنان إِلى أنّ هؤلاء يصرفونها في سداد ديونهم).

أمّا الصنفان الآخران فلا يملكون الزكاة، ولا يمكن دفع الزكاة إِليهم، بل تصرف في جهتهم، فمثلا يجب الشراء العبيد وتحريرهم عن طريق الزكاة، ومن الواضح أنّهم لا يملكون الزكاة في هذه الحالة، بل صرفت الزكاة في جهة

____________________________

(1) ينبغي الإِنتباه إِلى أن (في) قد ذكرت صريحاً في موردين، وعُطف على مجرور (في) في موردين، كما أن اللام قد ذكرت في مورد واحد، وعطف الباقي عليها.

[99]

تحريرهم. وكذلك الحال بالنسبة إِلى الموارد التي تندرج تحت عنوان (في سبيل الله) كنفقات الجهاد، وإِعداد الأسلحة، أو بناء المساجد والمراكز الدينية، وأمثال هذه المفردات لا تملك الزكاة بل أنّها مورد لصرف الزكاة.

وعلى أي حال، فإنّ التفاوت الإِختلاف في التعبير يوضح الدقة المتناهية في التعبيرات القرآنية.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21402460

  • التاريخ : 19/04/2024 - 15:59

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net