00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الاعراف من آية 123 ـ 145 من ص ( 157 ـ 217 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الخامس)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[157]

الآيات

قَالَ فِرْعَوْنُ ءَامَنْتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ  تَعْلَمُونَ(123) لاَُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَـف ثُمَّ لاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِأيتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)

التّفسير

التّهديدات الفرعونية الجوفاء:

عندما توجهت ضربة جديدة ـ بانتصار موسى على السحرة وإيمانهم به ـ إلى أركان السلطة الفرعونية، استوحش فرعون واضطرب بشدّة ورأى أنّه إذا لم يظهر أي ردّ فعل في مقابل هذا المشهد، فسيؤمن بموسى كل الناس أو أكثرهم، وستكون السيطرة على الأوضاع غير ممكنة، لهذا عمد فوراً إلى عملين مبتكرين:

في البداية وجه اتهاماً (لعلّه مرغوب عند السواد من الناس) إلى السحرة، ثمّ هددهم بأشدّ التهديدات، ولكن على العكس من توقعات فرعون أظهر السحرة

[158]

مقاومة عجيبة تجاه هذين الموقفين، مقاومة أغرقت فرعون وجهازه في تعجب شديد، وأفشلت جميع خططه. وبهذه الطريقة وجهوا ضربة ثالثة إلى أركان السلطان الفرعوني المتزلزل، وقد رسمت الآيات اللاحقة هذا المشهد بصورة رائعة.

في البداية يقول: إنّ فرعوناً قال للسحرة: هل آمنتم بموسى قبل أن آذن لكم (قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم)؟!

وكأنّ التغيير بـ «به» لأجل تحقير موسى والإزدراء به، وكأنّه بجملة «قبل أن آذن لكم» أراد أن يظهر أنّه يتحرى الحقيقة ويطلب الحق، فلو كان عمل موسى(عليه السلام)يتسم بالحقيقة والواقعية لأذنت أنا للناس بأن يؤمنوا به، ولكن استعجالكم اكشفت عن زيفكم، وأنّ هناك مؤامرة مبيّنة ضد شعب مصر.

وعلى أية حال، أفادت الجملة أعلاه أنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أن لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئاً من دون إجازته وإذنه، بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضاً!!

وهذه هي أعلى درجات الإستعباد والاستحمار، أن يكون شعبٌ من الشعوب أسيراً وعبداً بحيث لا يحق له حتى التفكير والإِيمان القلبي بأحد أو بعقيدة.

وهذا هو البرنامج الذي يواصله «الإستعمار الجديد»، يعني أنّ المستعمرين لا يكتفون بالإستعمار الإِقتصادى والسياسي والإِجتماعي، بل يسعون إلى تقوية جذورهم عن طريق الإِستعمار الفكري.

وتتجلى مظاهر هذا الإِستعباد الفكري في البلاد الشيوعية أكثر فأكثر، بالحدود المغلقة، والأسوار الحديدية والرقابة الشديدة المفروضة على كل شيء، وبخاصّة على الأجهزة الثقافية.

ولكن في البلاد الرأسمالية الغربية التي يظن البعض أنّه لا يوجد استعباد فكري وثقافي على الأقل وأن لكل أحد أن يفكر ويختار بحرية; يمارس

[159]

الإستعباد بنحو آخر، لأنّ الرأسماليين الكبار بتسلّطهم الكامل على الصحف المهمّة، والإذاعات، ومحطات التلفزيون، وجميع سبل الإِرتباط الجمعي ووسائل الإِعلام، يفرضون على المجتمع أفكارهم وآراءهم في لباس الحرية الفكرية، ويوجهون المجتمع ـ عن طريق عملية غسيل دماغ واسعة ومستمرة ـ إلى الوجهة التي يريدون، وهذا بلاء عظيم يعاني منه عصرنا الحاضر.

ثمّ يضيف فرعون قائلا (إن هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها).

ونظراً إلى الآية (71) من سورة «طه» التي تقول (إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر) يتّضح أنّ مراد فرعون هو أنّ هناك مؤامرة مدروسة وتواطؤاً مبيّتاً قد دبرتموه قبل مدّة للسيطرة على أوضاع مصر واستلام زمام السلطة، لا أنّكم دبرتموه للتو وقبل قليل في لقاء محتمل بينكم وبين موسى.

ومن هنا يتّضح أنّ المراد من «المدينة» هو مجموع القطر المصري، والألف واللام ألف ولام الجنس، والمراد من «لتخرجوا منها أهلها» هو تسلط موسى(عليه السلام)وبني إسرائيل على أوضاع مصر، وإقصاء حاشية فرعون وأعوانه عن جميع المناصب الحساسة، أو إبعاد بعضهم إلى النقاط البعيدة من البلاد، والآية (110) في هذه السورة شاهدة على ذلك أيضاً.

وعلى كل حال، فإنّ هذه التهمة كانت خاوية ومفضوحة، إلى درجة أنّه لم يكن يقتنع بها إلاّ العوام والجهلة من الناس، لأنّ موسى(عليه السلام) لم يكن حاضراً في مصر، ولم يلتق بأحد من السحرة من قبل، ولو كان أستاذهم وكبيرهم الذي علمهم السحر، لوجب أن يكون معروفاً ومشهوراً في جميع الأماكن، وأن يعرفُه أكثر الناس، وهذه لم تكن أُموراً يمكن إخفاؤها وكتمانها، لأنّ التواطؤ مع أشخاص المنتشرين في شتى مناطق مصر على أمر بهذا القدر من الاهمية غير ممكن عملا.

ثمّ إنّ فرعون هدَّدهم بتهديد غامض ولكنّه شديد ومحكم، إذ قال: (فسوف

[160]

تعلمون)!!

وفي الآية اللاحقة بيّن تفاصيل ذلك التهديد الذي هدَّد به السحرة فاقسم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم ويصلبهم، إذ قال: (لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ثمّ لأصلبنكم أجمعين).

وفي الحقيقة كان مراده أن يقتلهم بالتعذيب والتنكيل، ويجعل من هذا المشهد الرهيب درساً للآخرين، لأن قطع الأيدي والأرجل، ثمّ الصلب على الشجر أمام الناس، ومنظر تدفق الدم من أجسامهم وما يرافق هذا من حالات النزع فوق المشانق إلى أن يموتوا، سيكون عبرة لمن يعتبر (ولابدّ من ملاحظة أن الصلب في ذلك الزمان لم يكن يتمّ على النحو الذي يتمّ به الآن، وهو تعليق المشنوق بوضع الحبل في عنقه، بل كان الحبل يوضع تحت كتفيه حتى لا يموت بسرعة).

ولعل قطع اليد والرجل من خلاف، كان لأجل أن هذا العمل يتسبب في أن يموتوا بصورة أبطأ، ويتحملوا قدراً أكثر من الألم والعذاب.

والجدير بالتأمل أن البرامج التي انتهجها فرعون لمكافحة السحرة الذين آمنوا بموسى، كانت برامج عامّة في مكافحة الجبارين وتعاملهم الوحشي الرخيص مع أنصار الحق والمنادين به، فهم من جانب يستخدمون حربة التهمة حتى يزعزعوا مكانة أنصار الحق في نفوس الجماهير، ومن جانب آخر يتوسلون بسلاح القوة والقهر والتهديد لتحطيم إرادتهم، ولكن ـ كما نقرأ في ذيل قصّة موسى ـ لم يستطع هذان السلاحان أن يفعلا شيئاً في نفوس أنصار الحق، ولن يفعلا.

لقد قاوم السحرة كلتا حربتي فرعون، و أجابوه جواب رجل واحد: إنّنا نرجع إلى ربّنا إذن (قالوا إنّا إلى ربّنا منقلبون).

يعني إذا تحقق تهديدك الثّاني (وهو القتل) فمعناه أنّنا سننال الشهادة في سبيل الدفاع عن الحق، وهذا لا يوجب ضرراً علينا، ولا ينقصنا شيئاً، بل يُعدّ سعادة وفخراً عظيماً لنا.

[161]

ثمّ إنّهم للردّ على تهمة فرعون، ولايضاح الحقيقة لجماهير المتفرجين على هذا المشهد، واثبات براءتهم من أي ذنب، قالوا: إنّ الإشكال الوحيد الذي تورده علينا هو أنّنا آمنا بآيات الله وقد جاءتنا (وما تنقم منّا إلاّ أن آمنا بآيات ربّنا لما جاءتنا).

يعني أنّنا لسنا مشاغبين، ولا متآمرين، ولا متواطئين ضدك، وليس إيماننا بموسى يعني أنّنا نريد استلام أزمة الحكم، ولا أن نخرج أهل هذه البلاد من ديارهم، وأنت نفسك تعلم أننا لسنا بهذا الصدد، بل نحن عندما رأينا الحق وشاهدنا علائمه بوضوح أجبنا داعي الله ولبينا نداءه وآمنا به، وهذا هو ذنبنا الوحيد في نظرك ليس غير.

وهكذا أظهروا لفرعون بالجملة الأُولى أنّهم لا يخافون أي تهديد، وأنّهم يستقبلون جميع الحوادث والتبعات حتى الشهادة بمنتهى الشهامة. وبالجملة الثّانية ردّوا بصراحة على الإتهامات التي وجهها فرعون إليهم.

إن جملة «تنقم» مشتقة من مادة «نقمة» على وزن «نعمة» وهي في الأصل تعني رفض شيء باللسان أو بالعمل والعقوبة. وعلى هذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون بمعنى إنّ العمل الوحيد الذي تنكره علينا هو أنّنا آمنا، أو يعني أنّ العقوبة التي تريد أن تعاقبنا بها إنما هو لأجل إيماننا.

ثمّ إنّهم أشاحوا بوجوههم عن فرعون وتوجهوا إلى الله سبحانه، وطلبوا منه الصبر والإستقامة، لأنّهم كانوا يعلمون أنّهم لا يستطيعون أن يقاوموا تلك العقوبات الثقيلة من دون نصره وتأييده وعونه، لهذا قالوا: (ربّنا افرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين).

والملفت للنظر أنّهم بعبارة (أفرغ علينا صبراً) أظهروا أن الخطر المحدق بهم بلغ الدرجة القصوى، فأعطنا يا ربّ أنت ـ أيضاً ـ آخر درجات الصبر والإستقامة، لأنّ «أفرغ» من مادة «الإفراغ» بمعنى صبّ السائل من وعاء حتى يفرغ.

[162]

الاستقامة الواعية:

يمكن أن يتملك الإنسان عجب شديد عند أوّل إطلاعة على قصّة السحرة في زمان موسى(عليه السلام) الذين صاروا من المؤمنين الصادقين، هل يمكن أن يحدث مثل هذا الإنقلاب والتحول العميق في الروح الإنسانية في مثل هذه المدّة القصيرة، بحيث يقطع الشخص كل علاقاته مع الصف المخالف، ويصير في صف الموافق، ثمّ يدافع عن عقيدته الجديدة بإصرار وعناد عجيبين إلى درجة أنّه يتجاهل مكانته ومصالحه وحياته جميعاً، ويستقبل الشهادة بشجاعة منقطعة النظير، وبوجه مستبشر؟

ولكن هذا الإِستغراب يتبدد إذا التفتنا إلى هذه النقطة، وهي أنّ هؤلاء ـ نظراً إلى سوابقهم الكثيرة في علم السحر ـ وقفوا جيداً على عظمة معجزة النّبي موسى(عليه السلام) وحقانيته، وسلكوا هذا السبيل عن وعي كامل ... وهذا الوعي صار منشأ لعشق ملتهب سربل كل وجودهم وكيانهم، وهو عشق لا يعرف حدّاً وسدّاً، وفوق جميع النوازع والرغبات البشرية.

إنّهم كانوا يعلمون جيداً أي طريق يسلكونه؟ ولماذا يجاهدون؟ ومن يكافحون؟ وأي مستقبل مشرق ينتظر هذا الجهاد العظيم؟

أجل، إذا كان الإيمان مقروناً بالوعي الكامل فإنّه ينتهي إلى مثل هذا العشق الملتهب الذي لا يكون هذا التفاني في سبيله مثار للعجب.

ولهذا نرى كيف أن السحرة قالوا بصراحة وشجاعة (كما في سورة طه الآية (72): (قالوا لن نؤثرك على ماجاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنّما أنت تقض هذه الحياة الدنيا).

وأخيراً ـ وكما جاء في الرّوايات وكتب التأريخ ـ استقام أُولئك الجماعة من السحرة الذين آمنوا بموسى حتى نفّذ فرعون تهديداته، ومثّل بأجسامهم تمثيلا

[163]

مروعاً، وصلبهم على جذوع النخل على مقربة من نهر النيل. وهكذا كتبت أسماؤهم مع أحرار التاريخ بأحرف من نور، وكانوا كما وصفهم المفسّر الكبير العلاّمة الطبرسي: كانوا أوّل النهار كفاراً سحرة، وآخر النهار شهداء وبررة.

ولكن مع الإلتفات إلى أنّ مثل هذا الإِنقلاب والتحول والإِستقامة ليس ممكناً إلاّ في ظلّ الإمدادات الإِلهية، ومن المسلّم أن كلّ من اختار سلوك طريق الحق، شملته هذه العنايات الرّبانية، والإمدادات الإلهية.

* * *

[164]

الآيات

وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَومِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الاَْرْضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ واصْبِرُوا إِنَّ الاَْرضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَقِبَهُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الاَْرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ(129)

التّفسير

في هذه الآيات يبيّن لنا القرآن الكريم مشهداً آخر من الحوار الذي دار بين فرعون وبين ملائه حول وضع موسى(عليه السلام)، ويستفاد من القرائن الموجودة في نفس الآية أنّ محتوى هذه الآيات يرتبط بفترة ما بعد المواجهة بين موسى وبين السحرة.

تقول الآية في البداية: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك).

[165]

يستفاد من هذا التعبير ـ جيداً ـ أنّ فرعون بعد هزيمته أمام موسى(عليه السلام) ترك موسى وبني إسرائيل أحراراً (طبعاً الحرية النسبية) مدّة من الزمن، ولم يترك بنو إسرائيل بدورهم هذه الفرصة من دون أن يشتغلوا بالدعوة والتبليغ لصالح دين موسى(عليه السلام) إلى درجة أن قوم فرعون قلقوا من انتشاره ونفوذ دعوتهم، فحضروا عند فرعون وحرضوه على اتّخاذ موقف مشدد تجاه موسى و بني اسرائيل.

فهل فترة الحرية النسبية هذه كانت لأجل الخوف والرعب الذي أصاب فرعون بسبب ما رأى من معجزة موسى(عليه السلام) القوية، أو للإختلاف الذي برز في شعب مصر (وحتى القبطيين منهم) حول موسى ودينه، حيث أنّ جماعة رغبوا في دينه، وكان فرعون شاهداً لهذه الحالة فلم يمكنه أن يتخذ في مثل هذه الأجواء والظروف موقفاً متشدداً من موسى ودينه.

كلا الإحتمالين قريبان إلى ذهن فرعون، ويمكن أن يكون كلاهما معاً قد تركا أثراً في نفسه وفكره.

وعلى كل حال فإنّ فرعون ـ بسبب تحذيرات أعوانه وحاشيته ـ صمم على اتّخاذ موقف متشدد من بني إسرائيل، فقال لحاشيته في معرض الجواب على تحريضهم وتحذيرهم: سأقتل أبناءهم وأستخدام نساءهم ونحن متفوقون عليهم على كل حال: (قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).

وقد وقع كلام بين المفسّرين حول المراد من لفظة «آلهتك» والظاهر من الآية هو أنّ فرعون كانت له معبودات وأصنام، وإن كان يُفهم من الآية (4) من سورة النازعات (أنا ربّكم الأعلى) ومن الآية (38) من سورة القصص (ما علمت لكم من إله غيري) إنّ فرعون كان أعظم إله لشعب مصر، أو على الأقل كان فرعون يعتبر نفسه أعظم معبود لشعب مصر ولكن مع ذلك كان قد اختار آلهة لنفسه وكان يعبدها.

والنقطة الأُخرى أن فرعون عمد هنا إلى مكافحة جذرية وعميقة، وقرر

[166]

تحطيم قوة بنى إسرائيل تحطيماً كاملا، وذلك بالقضاء على المقاتلين ورجال الحرب بقتل أبناء بني إسرائيل واستئصالهم، ويستبقي نساءهم وبناتهم لاسترقاقهن واستخدامهن، وهذا هو نهج كل مستعمر قديم وجديد، فهو يقضي على الرجال العالمين والقوى المؤثرة في المواجهة، أو يقتل فيهم روح الرجولة والشهامة والغيرة والحمية بالوسائل المختلفة، ويستبقي غير المؤثرين في هذا المجال.

على أنّه يحتمل ـ أيضاً ـ أن فرعون كان يريد أن يبلغ هذا الكلام إلى مسامع بني إسرائيل، فتتحطم معنوياتهم من جهتين: أوّلاهما من جهة قتل أبنائهم ورجال مستقبلهم، والأُخرى: من جهة وقوع نسائهم وأعراضهم في أيدي العدو.

وعلى كل حال أراد بعبارة (إنّا فوقهم قاهرون) أن يزيل الخوف والقلق من قلوب حاشيته وأعوانه، ويخبرهم بأنّه مسيطر على الأوضاع سيطرة كاملة.

سؤال:

وهنا يطرح سؤال، وهو: لماذا لم يقرر فرعون قتل موسى، وإنّما قرر ـ فقط ـ القضاء على أبناء بني إسرائيل؟

جواب:

يستفاد من آيات سورة المؤمن ـ جيداً ـ أنّ فرعون كان عازماً في البداية على قتل موسى، ولكن نصائح مؤمن آل فرعون المقترنة بالتهديد، في أنّ قتل موسى يمكن أن يقترن بالخطر فيحتمل أن يكون مرسلا من الله حقيقة وواقعاً، وأن كل ما يقوله من العقوبات الإِلهية يتحقق بمقتله، أثرت في روح فرعون وفكره.

هذا مضافاً إلى أنّ خبر انتصار موسى على السحرة انتشر في كل مكان، ووقع بسببه خلاف بين شعب مصر في مخالفة أو تأييد موسى. ولعل فرعون خاف إن هو

[167]

اتّخذ من موسى(عليه السلام) موقفاً حاداً واجه ردّ فعل قوي من جانب الناس الذين تأثروا بهذه المسألة، ولهذا انصرف عن فكرة قتل موسى(عليه السلام).

والآية اللاحقة بيّنت ـ في الحقيقة ـ خطّة موسى التي اقترحها على بني إسرائيل لمواجهة تهديدات فرعون، وشرح فيها شروط الغلبة على العدو، وذكرهم بأنّهم إذا عملوا بثلاث مباديء انتصروا على العدو حتماً:

أوّلها: الإِتكال على الله فقط (قال موسى لقومه استعينوا بالله).

والآخر: أن يثبتوا ولا يخافوا من تهديدات العدو: (واصبروا).

وللتأكيد على هذا المطلب، ومن باب ذكر الدليل، ذكّرهم بأنّ الأرض كلّها ملك الله، وهو الحاكم عليها والمالك المطلق لها، فهو يعطيها لمن يشاء (إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده).

وآخر هذه المباديء هو أن يعتمدوا التقوى لأنّ العاقبة لمن اتّقى (والعاقبة للمتقين).

هذه المبادىء والشروط الثلاثة ـ أحدها في العقيدة (الإستعانة بالله) والثّاني في الأخلاق (الصبر والثبات) والأخير في العمل (التقوى) ـ ليست شرائط انتصار قوم بني إسرائيل وحدهم على العدو، بل كل شعب أراد الغلبة على أعدائه لابدّ له من تحقيق هذه البرامج الثلاثة فالأشخاص غير المؤمنين والجبناء الضعفاء الإرادة، والشعوب الفاسقة الغارقة في الفساد، إذا ما انتصرت فإنّ انتصارها يكون لا محالة مؤقتاً غير باق.

والملفت للنظر أنّ هذه الشروط الثلاثة كل واحد منها متفرع على الآخر، فالتقوى لا تتوفر من دون الثبات والصبر في مواجهة الشهوات، وأمام بهارج العالم المادّي، كما أنّ الصبر والثبات لا يكون لهما أي بقاء ودوام من دون الإِيمان بالله.

[168]

وفي آخر آية من الآيات الحاضرة يعكس القرآن الكريم شكايات بني إسرائيل وعتابهم من المشكلات التي ابتلوا بها بعد قيام موسى(عليه السلام) فيقول: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا) فإذاً متى يحصل الفرج؟!

وكأنّ بني إسرائيل مثل كثير منّا كانوا يتوقعون أن تصلح جميع الأُمور بقيام موسى(عليه السلام) في ليلة واحدة .... أن يزول فرعون ويسقط، ويهلك الجهاز الفرعوني برمته، وتصبح مصر بجميع ثرواتها تحت تصرف بني إسرائيل، ويتحقق كل ذلك عن طريق الإِعجاز، من دون أن يتحمل بنو إسرائيل أيّ عناء.

ولكن موسى(عليه السلام) أفهمهم بأنّهم سينتصرون في المآل، ولكن أمامهم طريقاً طويلا، وإنّ هذا الإنتصار ـ طبقاً للسنة الإِلهية ـ يتحقق في ظل الإِستقامة والثبات والسعي والإِجتهاد، كما جاء ذلك في الآية الحاضرة(قال عسى ربّكم أن يُهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض).

وذكر كلمة «عسى» مثل كلمة «لعلّ» التي وردت في كثير من الآيات القرآنية إشارة ـ في الحقيقة ـ إلى أنّ لهذا التوفيق والإنتصار شرائط، من دونها لا يصلون إليه، (للوقوف على المزيد في هذا المجال راجع ما كتبناه في تفسير الآية 84 من سورة النساء).

ثمّ يقول في ختام الآية: إنّ الله أعطاكم هذه النعمة، وأعاد إليكم حريتكم المسلوبة كي ينظر كيف تتصرفون أنتم(فينظر كيف تعملون)؟

يعني ستبدأ ـ بعد الإنتصار ـ مرحلة امتحانكم واختباركم، اختبار شعب كان فاقداً لكل شيء ثمّ حصل على كل شيء في ضوء الهداية الإِلهية.

إنّ هذا التعبير ـ هو ضمناً ـ إشعار بأنّكم سوف لا تخرجون من هذا  الإختبار ـ في المستقبل ـ بنجاح، وستفسدون وتظلمون كما فعل من كان قبلكم.

ونقرأ في رواية وردت في كتاب الكافي مروية عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه قال:

[169]

«وجدنا في كتاب علي صلوات الله عليه: إنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، أنا وأهل بيتي الذين أورثنا الله الأرض ونحن المتقون».(1)

وهذه إشارة إلى أن الحكم المذكور في هذه الآية حكم شامل، وقانون عام، والأرض هي الآن ـ في الحقيقة ـ للمتقين.

* * *

_____________________________

1 ـ التّفسير نورالثقلين، المجلد الثاني، الصفحة 56.

[170]

الآيتان

وَلَقَدْ أَخَذَنَآ ءَالَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْص مِّنَ الَّثمَرتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَن مَّعَهُ أَلاَ إِنَّمَا طَـئِرُهُمْ عِندَ اللهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131)

التّفسير

العقوبات التنبيهية:

لقد كان القانون الإِلهي العام في دعوة الأنبياء ـ كما قلنا في تفسير الآية (94) من نفس هذه السورة ـ هو أنّهم كلّما واجهوا معارضة كان الله تعالى يبتلي الاقوام المعاندين بأنواع المشاكل والبلايا، حتى يحسّوا بالحاجة في ضمائرهم وأعماق نفوسهم، وتستيقظ فيهم فطرة التوحيد المتكّسلة تحت حجاب الغفلة عند الرفاه والرخاء، فيعودوا إلى الإحساس بضعفهم وعجزهم، ويتوجهوا إلى المبدأ القادر مصدر جميع النعم.

وفي أوّل آية من الآيتين الحاضرتين إشارة إلى نفس هذا المطلب في قصّة فرعون، إذ يقول تعالى: (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلّهم

[171]

يذكّرون).

و«السنين» جمع «سنة» بمعنى العام، ولكنّها إذا قرنت بلفظة «أخذ» أعطت معنى الإبتلاء بالقحط والجدب، وعلى هذا يكون معنى أخذته السنة هو: أُصيب بالقحط والجدب، ولعل علّة ذلك هي أن أعوام القحط والجدب قليلة بالقياس إلى أعوام الخصب والخير، وعلى هذا إذا كان المراد من السنة السنين العادية لم يكن ذلك موضوعاً جديداً، ويتبيّن من ذلك أنّ المراد من السنين هي السنين الإِستثنائية، أي سنوات القحط وأعوام الجدب.

وكلمة «آل» كانت في الأصل «أهل» ثمّ قلبت فصارت هكذا، والأهل بمعنى أقرباء الإِنسان وخاصته، سواء أقرباؤه أو زملاؤه ونظراؤه في المسلك والتفكير وأعوانه.

ومع أنّ القحط والجدب أصابا حاشية فرعون ومؤيديه أجمع، ولكن الخطاب فى الآية موجه إلى خصوص أقربائه وخاصته، وهو إشارة إلى أن المهم هو أن يستيقظ هؤلاء، لأنّ بيدهم أزمة الناس..... أن يضلوا الناس، أو يهدونهم، ولهذا توجه الخطاب إليهم فقط، وإن كان البلاء قد أصاب الآخرين أيضاً.

ويجب أن لا نستبعِد هذه النقطة، وهي أن الجدب كان يعدّ بلاءً عظيماً لمصر، لأنّ مصر كانت بلداً زراعياً، فكان الجدب مؤذياً لجميع الطبقات، ولكن من المسلّم أنّ آل فرعون ـ وهم الأصحاب الأصليين للأراضي الزراعية وإنتاجها ـ كانوا أكثر تضرراً بهذا البلاء.

ثمّ إنّه يُعلَم من الآية الحاضرة أنّ الجدب استمر عدّة سنوات، لأنّ كلمة «سنين» صيغة جمع، وخاصّة أنّه أُضيف إليها عبارة (نقص من الثمرات) لأنّ الجدب المؤقت والعابر يمكن أن يترك شيئاً من الأثر في الأشجار ولكن عندما يكون الجدب طويلا فإنّه يبيد الاشجار أيضاً. ويحتمل أيضاً أنّه علاوة على الجدب فانّ الفواكه والثمار اُصيبت بآفات قاتلة كذلك.

[172]

وكأنّ جملة (لعلَّهم يذكرون) إشارة إلى هذه النقطة، وهي: أنّ التوجه إلى حقيقة التوحيد موجودة من البداية في الروح الآدمية، ولكنّه على أثر التربية غير الصحيحة أو بطر النعمة ينساها الإِنسان، وعند حلول البلايا والأزمات يتذكر ذلك مجدداً، ومادة «تذكر» تناسب هذا المعنى.

هذا والجدير بالإنتباه أنّ جملة (لعلّهم يضرّعون) جاءت في ذيل الآية (94) وهي مقدمة أُخرى ـ في الحقيقة ـ لأنّ الإِنسان يتذكر أوّلا، ثمّ يخضع ويسلّم ، أو يطلب من الله الصفح والمغفرة.

ولكن بدل أن يستوعب «آل فرعون» هذه الدروس الإلهية، ويستيقظوا من غفلتهم وغفوتهم العميقة، أساءوا استخدام هذا الظرف والحالة، وفسّروها حسب مزاجهم، فإذا كانت الأحوال مؤاتية ومطابقة لرغبتهم، وكانوا يعيشون في راحة واستقرار قالوا: إنّ الوضع الحسن هو بسبب جدارتنا، وصلاحنا (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه).

ولكن عندما تنزل بهم النوائب فإنّهم ينسبون ذلك إلى موسى(عليه السلام) وجماعته فوراً ويقولون هذا من شومهم: (وإن تصبهم سيئةٌ يطّيروا بموسى ومن معه).

و«يطّيروا» مشتقة من مادة «تطيُّر» بمعنى التشاؤم، وأصلها من الطير، فقد كان العرب غالباً ما يتشاءمون بواسطة الطيور. وربّما تشاءموا بصوت الغراب، أو بطيران الطير، فإذا طار من ناحية اليسار اعتبروا ذلك علامة الشقاء والفشل، وكلمة التطير تعني مطلق التشاؤم.

ولكن القرآن الكريم قال في معرض الردّ عليهم: اعلموا أنّ منشأ كل شؤم وبلاء أصابكم انّما هو من قبل الله، وأنّ الله تعالى أراد أن تصيبكم نتيجة أعمالكم المشؤومة، ولكن أكثرهم لا يعلمون (ألا إنّما طائرهم عندالله ولكن أكثرهم لا يعلمون).

والجدير بالتأمل أن هذا النمط من التفكير لم يكن خاصاً بالفرعونيين، بل هو

[173]

أمر نلاحظه بوضوح الآن بين الشعوب المصابة بالأنانية والضلال، فهي ـ بغية قلب الحقائق، وخداع ضميرها أو ضمائر الآخرين ـ كلما أصابها نجاح وتقدم اعتبرت ذلك ناشئاً من جدارتها وكفاءتها، وإن لم يَكن في ذلك النَجاح والتقدم أدنى شيء من تلك الكفاءة والجدارة، وبالعكس إذا أصابها أي إخفاق وشقاء نسبت ذلك فوراً إلى الأجانب وإلى أيادي العدو الخفيّة أو المكشوفة، وإن كانوا هم بأنفسهم سبب ذلك الشقاء والإخفاق.

يقول القرآن الكريم: إنّ أعداء الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتوسلون بمثل هذا المنطق أيضاً في مقابل رسول الله (كما نقرأ في الآية 78 من سورة النساء).

وفي مكان آخر يقول: إنّ المنحرفين هم هكذا (كما في سورة فصلت الآية 50) وهذا في الحقيقة هو أحد مظاهر الأنانية واللجاج البارز.(1)

التفاؤل والتشاؤم (الفأل والطيرة):

مسألة التطيّر والتفاؤل والتشاؤم قد تكون منتشرة في مختلف المجتمعات البشرية، فيتفاءلون بأُمور وأشياء ويعتبرونها دليل النجاح، ويتشاءمون بأمور وأشياء ويعتبرونها آية الهزيمة والفشل. في حين لا توجد أية علاقة منطقية بين النجاح والإخفاق وبين هذه الأُمور، وبخاصّة في مجال التشاؤم حيت كان له غالباً جانب خرا في غير معقول.

إنّ هذين الأمرين وإن لم يكن لهما أي أثر طبيعي إلاّ أنّه يمكن أن يكون لهما أثر نفسي لا ينكر، وإنّ التفاؤل غالباً يوجب الأمل والتحرك، والتشاؤم يوجب اليأس والوهن والتراجع.

ولعله لأجل هذا لم يُنْه في الرّوايات والأحاديث الإسلامية عن التفاؤل، بينما

_____________________________

1 ـ ذكر «حسنة» محلاةً بالألف واللام و «إذا» وذكر «سيئة» مع (إن) بصورة النكرة إشارة إلى النعم كانت تنزل عليهم بصورة متتابعة، بينما كانت البلايا تنزل أحياناً.

[174]

نهي عن التشاؤم بشدّة، ففي حديث معروف مروي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «تفاءلوا بالخير تجدوه» وقد شوهد في أحوال النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) الهداة(عليهم السلام) ـ أنفسهم ـ أنّهم ربّما تفاءلوا بأشياء، مثلا عندما كان المسلمون في «الحديبية» وقد منعهم الكفار من الدخول إلى مكّة جاءهم «سهيل بن عمرو» مندوب من قريش، فلمّا علم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بإسمه قال متفاءلا باسمه: «قد سهل عليكم أمركم»(1).

وقد أشار العالم المعروف «الدميري» وهو من كتّاب القرن الثامن الهجري، في إحدى كتاباته إلى نفس هذا الموضوع، وقال: إنّما أحب النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الفأل لأنّ الإنسان إذا أمل فضل الله كان على خير، وإن قطع رجاءه من الله كان على شر، والطيرة فيها سوء ظن وتوقع للبلاء(2).

ولكن في مجال التشاؤم الذي يسمّيه العرب «التطير» و«الطيرة» ورد في الأحاديث الإِسلامية ـ كما أسلفنا ـ ذم شديد، كما أُشير إليه في القرآن الكريم مراراً وتكراراً أيضاً، وشجب بشدّة(3).

ومن جملة ذلك ما روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «الطيرة شرك»(4) وذلك لأن من يعتقد بالطيرة كأنّه يشركها في مصير الإنسان.

وتشير بعض الأحاديث أنّه إذا كان للطيرة أثر سيء فهو الأثر النفسي، قال الإمام الصادق(عليه السلام): «الطيرة على ما تجعلها، إن هونتها تهونت، وإن شددتها تشدّدت، وإن لم تجعلها شيئاً لم تكن شيئاً»(5).

وورد أنّ طريقة مكافحة الطيرة تتمثل في عدم الإِعتناء بها، فقد روي عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «ثلاث لا يسلم منها أحد: الطيرة والحسد والظن. قيل: فما

_____________________________

1 ـ الميزان، المجلد 19، الصحفة 86.

2 ـ سفينة البحار، المجلد الثاني، الصفحة 102.

3 ـ مثل سورة «يس» الآية (19)، وسورة النمل الآية (47)، والآية المطروحة على بساط البحث هنا.

4 ـ الميزان في ذيل الآية المبحوثة هنا.

5 ـ الميزان، في ذيل الآية المبحوثة هنا.

[175]

نصنع؟ قال: إذا تطيرت فامض (أي لا تعتنِ بها) وإذا حسدت فلا تبغ (أي لا تعمل بوحي منه شيئاً) وإذا ظننتَ فلا تحقق».

والعجيب أنّ مسألة الفأل والطيرة كانت ولا تزال موجودة حتى في البلاد الصناعية المتقدمة، وفي أوساط من يسمّون بالمثقفين، بل وحتى النوابغ المعروفين، ومن جملتها: يعتبر المرور من تحت السلم عند الغربيين ـ وسقوط المملحة، وإهداء سكين، أموراً يتشاءم بها بشدّة.

على أنّ وجود الفأل الجيد ـ كما قلنا ـ ليس مسألة مهمّة، بل لها غالباً آثارٌ حسنة طيبة، ولكن يجب مكافحة عوامل التشاؤم وفكرة الطيرة، ونبذها من الأذهان، وأفضل وسيلة لمكافحتها هي تقوية روح التوكل، والثقة بالله والإِعتماد عليه كما أشير إلى ذلك في الأحاديث الإِسلامية.

* * *

[176]

الآيتان

وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ ءَايَة لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنينَ(132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ والضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَـت مُّفَصَّلَـت فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ(133)

التّفسير

النّوائب المتنوعة:

في هاتين الآيتين أُشير إلى مرحلة أُخرى من الدروس المنبهة التي لقّنها الله لقوم فرعون، فعندما لم تنفع المرحلة الأُولى، يعني أخذهم بالجدب والسنين وما ترتب عليه من الأضرار المالية في إيقاظهم وتنبيههم، جاء دور المرحلة الثّانية وتمثلت في عقوبات أشدّ، فأنزل الله عليهم نوائب متتابعة مدمِرة، ولكنّهم ـ وللأسف ـ لم ينتبهوا مع ذلك.

وفي الآية الأُولى من الآيات المبحوثة يقول القرآن الكريم من باب المقدمة لنزول النّوائب: إنّهم بقوا يلجّون في إنكار دعوة موسى، وقالوا: مهما تأتنا من آية وتريد أن تسحرنا بها فإننا لن نؤمن بك: (وقالوا مهما تأتنا من آية لتسحرنا بها فما

[177]

نحن لك بمؤمنين).

إنّ التعبير بـ «الآية» لعلّه من باب الإِستهزاء والسخرية، لأنّ موسى(عليه السلام)وصف معاجزه بأنّها آيات الله، ولكنّهم كانوا يفسرونها بالسحر.

إنّ لحن الآيات والقرائن يفيد أنّ الجهاز الإعلامي الفرعوني الذي كان ـ تبعاً لذلك العصر ـ أقوى جهاز إعلامي، وكان النظام الحاكم في مصر يستخدمه كامل الإِستخدام ... إنّ هذا الجهاز الإِعلامي قد عبّأ قواه في توكيد تهمة السحر في كل مكان، وجعلها شعاراً عاماً ضد موسى(عليه السلام)، لأنّه لم يكن هناك تهمة منها أنسب بالنسبة إلى معجزات موسى(عليه السلام) للحيلولة دون إنتشار الدعوة الموسوية ونفوذها المتزايد في الأوساط المصرية.

ولكن حيث أن الله سبحانه لا يعاقب أُمّة أو قوماً من دون أن يتمّ عليهم الحجّة قال في الآية اللاحقة: نحن أنزلنا عليهم بلايا كثيرة ومتعددة لعلهم يتنبهون ... فقال أولا: (فأرسلنا عليهم الطوفان).

وكلمة «الطوفان» مشتقّة من مادة «الطوف» على وزن «خَوف» وتعني الشيء الذي يطوف ويدور، ثمّ أُطلقت هذه اللفظة على الحادثة التي تحيط بالإِنسان، ولكنّها أطلقت ـ في اللغة ـ على السيول والأمواج المدمرة التي تأتي على كل شيء في الأغلب، وبالتالي تدمر البيوت، وتقتلع الأشجار من جذورها.

ثمّ سلط الجراد على زروعهم وأشجارهم (والجراد).

وقد جاء في الأحاديث أن هجوم أسراب الجراد كان عظيماً جدّاً إلى درجة أنّها وقعت في أشجارهم وزروعهم أكلا وقضماً وإتلافاً، حتى أنّها أفرغتها من جميع الغصون والأوراق، وحتى أنّها أخذت تؤذي أبدانهم، بحيث تعالت صيحاتهم واستغاثاتهم.

وكلّما كان يُصيبهم بلاء كانوا يلجأون إلى موسى(عليه السلام) ويسألونه أن يطلب من الله أن يرفع عنهم ذلك البلاء، فقد فعلوا هذا بعد الطوفان والجراد أيضاً، وقبل

[178]

موسى(عليه السلام)، وارتفع عنهم البلاء ولكنّهم مع ذلك لم يكفّوا عن لجاجهم وتعنتهم.

وفي المرّة الثّالثة سلط عليهم القمل (والقمل).

وأمّا ما هو المراد من «القمل» فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين، ولكن الظاهر أنّه نوع من الآفات الزراعية التي تصيب الغلات، وتفسدها وتتلفها.

وعندما خفت أمواج هذا البلاء، واستمرّوا في عنادهم سلط الله عليهم في المرحلة الرّابعة، الضفادع، فقد تزايد نسل الضفادع تزايداً شديداً حتى أنّه تحول إلى بلاء عظيم عكّر عليهم صفو حياتهم: (والضفادع)(1).

ففي كل مكان كانت الضفادع الصغيرة والكبيرة تزاحمهم، حتى في البيوت والغرف والموائد وأواني الطعام، بحيث ضاقت عليهم الحياة بما رحبت، ولكنّهم مع ذلك لم يخضعوا للحق، ولم يسلّموا.

وفي هذا الوقت بالذات سلّط الله عليهم (الدّم).

قال البعض: إنّ داء الرعاف (وهو نزيف الدم من الأنف) شاع بينهم كداء عام، وأُصيب الجميع بذلك. ولكن أكثر الرّواة والمفسّرين ذهبوا إلى أن نهر النيل العظيم تغير وصار لونه كلون الدم، بحيث صار تعافه الطباع، ولم يعد قابلا للإِنتفاع.

وقال تعالى في ختام ذلك: إنّ هذه الآيات والمعاجز الباهرة ـ رغم أنّها أظهرت لهم حقانية موسى ـ ولكنّهم استكبروا عن قبول الحق وكانوا مجرمين. (آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين).

وفي بعض الرّوايات نقرأ أن كل واحدة من هذه البلايا كانت تقع في سنة واحدة، يعني أنّه أصابهم الطوفان في سنة، والجراد في سنة أُخرى، والآفات الزراعية في سنة ثالثة، وهكذا. ولكن نقرأ في بعض الرّوايات أنّه كان يفصل بين كل بلاء وآخر شهر واحد لا أكثر وعلى أي حال، لاشك أنّها كانت تقع بصورة

_____________________________

1 ـ الضّفادع جمع ضفدعة وقد جاء ذكر هذا البلاء في الآية بصورة الجمع، ولكن البلايا السابقة جاءت في صورة المفرد. ولعل هذا يفيد أن الله سلّط عليهم أنواعاً مختلفة من الضفادع.

[179]

منفصلة، وفي فواصل زمينة مختلفة (كمايقول القرآن: مفصلات) كي تكون هناك فرصة للتفكر والتنبه واليقظة.

هذا والجدير بالإِنتباه أنّنا نقرأ في الرّوايات أن هذه البلايا كانت تصيب آل فرعون وقومه خاصّة، وكان بنو إسرائيل في معزل عن ذلك، ولا شك أنّ هذا نوع من الإِعجاز، ولكن يمكن أن نبرر قسماً من ذلك بتبرير علمي معقول، لأنّنا نعلم أنّ أجمل نقطة في بلد مثل مصر هي شاطئا النيل وضفتاه، وكانت هذه الشواطيء والضفاف برمتها تحت تصرف الفرعونيين والقبطيين ومحل سكناهم، فقصورهم الجميلة الشامخة، ومزارعهم الخضراء وبساتينهم العامرة، كانت في هذه الضفاف. وبطبيعة الحال كان نصيب بني إسرائيل الذين كانوا عبيداً للفرعونيين والقبطيين هي النقاط النائية والصحاري البعيدة الشحيحة الماء.

ومن الطبيعي أنّ الطوفان عندما يحدث يكون الأقرب إلى الخطر ضفتا النيل وشاطئاه ومن يسكنها، وكذا عندما كانت الضفادع تخرج من الماء، وكذا انقلاب الماء إلى هيئة الدم كان يظهر في مياه الفرعونيين الذين كانوا يسكنون إلى جانب النيل دون بني إسرائيل، وأمّا الجراد والآفات النباتية فقد كانت تتعرض لها المناطق الزراعية والبساتين الخضراء الوفيرة المحصول في الدرجة الأُولى.

كل ما قيل في الآيات السابقة جاء في التوراة أيضاً، ولكن ثمّة فروق واضحة بين محتويات القرآن الكريم وما جاء في التوراة راجع سفر الخروج الفصل السابع إلى العاشر من التوراة).

* * *

[180]

الآيات

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَـمُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إِسْرَءِيل (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَل هُم بَـلِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَـهُمْ فِى الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَـتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَـفِلِينَ (136)

التّفسير

نقض العهد المتكرر:

في هذه الآيات نلاحظ رد فعل الفرعونيين في مقابل النوائب والبلايا المنبّهة الإِلهيّة، ويستفاد من مجموعها أنّهم عندما كانوا يقعون في مخالب البلاء ينتبهون من غفوتهم بصورة مؤقتة شأنهم شأن جميع العصاة، وكانوا يبحثون عن حيلة للتخلص منها، ويطلبون من موسى(عليه السلام) أن يدعو لهم، ويسأل الله في خلاصهم، ولكن بمجرّد أن يزول عنهم طوفان البلاء وتهدأ أمواج الحوادث، ينسون كل شيء ويعودون إلى سيرتهم الأُولى.

وفي الآية الأُولى نقرأ: (ولمّا وقع عليهم الرّجز قالوا يا موسى اُدع لنا ربّك بما

[181]

عهد عندك).

إنّهم عند نزول البلاء يلجأون إلى موسى ويطلبون منه أن يدعو لرفع العذاب عنهم، وأن يفي الله بما وعده له من استجابة دعائه: (وعهد عندك).

ثمّ يقولون: إذا دعوتَ فرفع عنّا البلاء فإنّنا نحلف لك بأن نؤمن بك، ونرفع طوق العبودية عن بني إسرائيل: (لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل).

ولفظة «الرجز» استعملت في معاني كثيرة: البلايا الصعبة، الطاعون، الوثن والوثنية، وسوسة الشيطان، والثلج أو البَرَد الصلب.

ولكن جميع ذلك مصاديق مختلفة لمفهوم يشكّل الجذر الأصلي لتلك المعاني، لأن أصل هذه اللفظة كما قال «الراغب» في «المفردات» هو الإِضطراب. وحسب ما قال «الطبرسي» في «مجمع البيان» مفهومه الأصلي هو الإِنحراف عن الحق.

وعلى هذا الأساس إطلاق لفظ «الرجز» على العقوبه والبلاء، لأنّها تصيب الإِنسان لانحرافه عن الحق، وارتكاب الذنب، وكذا يكون الرجز نوعاً من الإِنحراف عن الحق، والإِضطراب في العقيدة، ولهذا أيضاً يطلق العرب هذا اللفظ على داء يصيب الإبل، ويسبب اضطراب أرجلها حتى أنّها تلجأ للمشي بخطوات قصيرة، أو تمشي تارة وتتوقف تارة أُخرى، فيقال لهذا الداء «الرَجَز» على وزن «المَرضْ».

والسبب في إطلاق الرَجَز على الأشعار الحربيّة، لأنّها ذات مقاطع قصيرة ومتقاربة.

وعلى كل حال، فإنّ المقصود من «الرجز» في الآيات الحاضرة هو العقوبات المنبهة الخمسة التي أُشير إليها في الآيات السابقة، وإن احتمل بعض المفسّرين أن يكون إشارة إلى البلايا الأُخرى التي أنزلها الله عليهم ولم يرد ذكرها في الآيات

[182]

السابقة، ومنها الطاعون أو الثلج والبرد القاتل، الذي وردت الإِشارة إليها في التوراة.

هذا، وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من عبارة (بما عهد عندك) وأنّه ما هو المقصود من ذلك العهد الإلهي الذي أعطاه سبحانه لموسى؟

إنّ ما هو الأقرب إلى النظر هو أن المقصود من ذلك الوعد الإِلهي هو أن يستجيب دعاءه إذا دعاه، ولكن يحتمل أيضاً أن يكون المقصود هو عهد «النبوة» وتكون «الباء» باء القسم، يعني نقسم عليك بحق مقام نبوتك إلاّ ما دعوت الله ليرفع عنّا هذا البلاء.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى نقضهم للعهد ويقول: (فلمّا كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون).(1)

إنّ جملة (إلى أجل هم بالغوه) إشارة إلى أنّ موسى حدّد لهم وقتاً وعيّن أمداً، فكان يقول لهم: في الوقت الفلاني سيرفع هذا البلاء عنكم، حتى يتّضح لهم أنّ إرتفاع ذلك البلاء عنهم ليس أمراً اتفاقياً وصدقة، بل هو بفضل دعائه وطلبه من الله تعالى.

إنّ جملة (إذا هم ينكثون) وبالنظر إلى أن «ينكثون» فعل مضارع يدلّ على الإستمرارية يفيد أنّه قد تكرر تعهدّهم لموسى(عليه السلام) ثمّ نقضهم للعهد، حتى أصبح نقض العهد جزءاً من برنامجهم وسلوكهم الدائم.

وآخر هذه الآيات تبيّن ـ من خلال جملتين قصيرتين ـ عاقبة كلّ هذا التعنت، ونقض العهد، فتقول بصورة مجملة (فانتقمنا منهم).

ثمّ تشرح هذا الإنتقام وتذكر تفصيله (فأغرقناهم في إليم بأنّهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين)(2).

_____________________________

1 ـ النكث على وزن مَكْث، يعني فل الحبل المفتول، ثمّ أُطلق على نقض الميثاق والعهد.

2 ـ يستفاد من مصادر اللغة، وكتب الأحاديث أن المراد من اليم هو «البحر»، وهو يطلق على نهر النيل أيضاً، أمّا أن لفظة اليم هل هي عربية أو سريانية أو هيرغلوفية، فقد وقع في ذلك كلام بين العلماء، يقول صاحب تفسير المنار وهو أحد علماء مصر المعروفين والذي جمع وجوه إشتراك اللغات الهيروغلوفية والعربية وألف كتاب المعجم الكبير في هذا المجال نقل: أنه وجد بعد التحقيق أن لفظة اليم كانت في اللغة المصرية تعني البحر، وعلى هذا الأساس حيث أن هذه القصة تتعلق بمصر لهذا استفاد القرآن من لغات المصريين في بيان هذه الحادثة.

[183]

إنّهم لم يكونوا غافلين واقعاً، لأنّ موسى(عليه السلام) ذكّرهم مراراً وبالوسائل المختلفة المتعددة ونبههم، بل أنّهم تصرّفوا عملياً كما يفعل الغافلون، فلم يعتنوا بآيات الله أبداً.

ولا شك أن المقصود من الإنتقام الإِلهي ليس هو أنّ الله كان يقوم بردّ الفعل في مقابل أعمالهم، كما يفعل الأشخاص الحاقدون الذين ينطلقون في ردود أفعالهم من مواقع الحقد والإنتقام، بل المقصود من الإِنتقام الإِلهي هو أن الجماعة الفاسدة وغير القابلة للإِصلاح لا يحق لها الحياة في نظام الخلق، ولابدّ أن تمحى من صفحة الوجود.

والإِنتقام في اللغة العربية ـ كما أسلفنا ـ يعني العقوبة والمجازاة، لا ما هو شائع في عرف الناس اليوم.

* * *

[184]

الآية

وَأَوْرَثْنَا الْقَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـرِقَ الاَْرْضِ وَمَغَـرِبَهَا الَّتِي بَـرَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلى بَنِى إِسْرءِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

التّفسير

قوم فرعون والمصير المؤلم:

بعد هلاك قوم فرعون، وتحطّم قدرتهم، وزوال شوكتهم، ورث بنو إسرائيل الذين طال رزوحهم في أغلال الأسر والعبودية اراضي الفراعنة الشاسعة والآية الحاضرة تشير إلى هذا الأمر (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها).

و «الإرث» كما أسلفنا يعني في اللغة المال الذي ينتقل من شخص إلى آخر من دون تجارة ومعاملة، سواء كان المنتَقَل منه حياً أو ميّتاً.

و«يستضعفون» مشتقّة من مادة «الإستضعاف» وتطابق كلمة «الإستعمار» التي تستعمل اليوم في عصرنا الحاضر، ومفهومها هو أن يقوم جماعة بإضعاف

[185]

جماعة أُخرى حتى يمكن للجماعة الأُولى أن تستغل الجماعة الضعيفة في سبيل مآربها ومصالحها، غاية ما هنالك أن هناك تفاوتاً بين هذه اللفظة ولفظة الإِستعمار، وهو: أن الإِستعمار ظاهره تعمير الأرض، وباطنه الإِبادة والتدمير، ولكن الإِستضعفاف ظاهره وباطنه واحد.

والتعبير بــ(كانوا يستضعفون) إشارة إلى الفرعونيين كانوا يستبقون بني إسرائيل في حالة ضعف دائمية: ضعف فكري، وضعف أخلاقي، وضعف إقتصادي، ومن جميع الجهات وفي جميع النواحي.

والتعبير بـ (مشارق الأرض ومغاربها) إشارة إلى الأراضي الواسعة العريضة التي كانت تحت تصرّف الفرعونيين، لأنّ الأراضي الصغيرة ليس لها مشارق ومغارب مختلفة، وبعبارة أُخرى «ليس لها آفاق متعددة» ولكن الأراضي الواسعة جداً من الطبيعي أن يكون مشارق ومغارب بسبب كروية الأرض فيكون التعبير بمشارق الأرض ومغاربها كناية عن أراضي الفرعونيين الواسعة العريضة جدّاً.

وجملة (باركنا فيها) إشارة إلى الخصب العظيم الذي كانت تتمتع به هذه المنطقة ـ يعني مصر والشام ـ التي كانت تعدّ آنذاك، وفي هذا الزمان أيضاً، من مناطق العالم الخصبة الكثيرة الخيرات. حتى أن بعض المفسّرين كتب: إن بلاد الفراعنة في ذلك العصر كانت واسعة جدّاً بحيث كانت تشمل بلاد الشام أيضاً.

وعلى هذا الأساس لم يكن المقصود من العبارة هو الحكومة على كل الكرة الأرضية، لأنّ هذا يخالف التاريخ حتماً. بل المقصود هو حكومة بني إسرائيل على كل أراضي الفراعنة وبلادهم.

ثمّ يقول: (وتمت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) أي تحقق الوعد الإِلهي لبني إسرائيل بانتصارهم على الفرعونيين، بسبب صبرهم وثباتهم.

وهذا هو الوعد الذي أُشير إليه في الآيات السابقة (الآية 128 و 129 من نفس هذه السورة).

[186]

صحيح أنَّ هذه الآية تحدّثت عن بني إِسرائيل ونتيجة ثباتهم في وجه الفرعونيين فقط، إلاّ أنّه يستفاد من الآيات القرآنية الأُخرى أن هذا الموضوع لا يختص بقوم أو شعب خاص، بل إن كان شعب مستضعف نهض وحاول تخليص نفسه من مخالب الأسر والإستعمار، استعان في هذا السبيل بالثبات والاستقامة، سوف ينتصر آخر المطاف ويحرر الأراضي التي احتلها الظلمة الجائرون.

ثمّ يضيف في آخر الآية: نحن الذين دمرنا قصور فرعون وقومه العظيمة، وأبنيتهم الجميلة الشامخة، وكذا بساتينهم ومزارعهم العظيمة (ودمرّنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).

و«صنع» كما يقول «الراغب» في «المفردات» يعني الأعمال الجميلة، وقد وردت هذه اللفظة في الآية الحاضرة بمعنى الهندسة الجميلة الرائعة التي كان يستخدمها الفرعونيين في أبنيتهم.

و«ما يعرشون» في الأصل تعني الأشجار والبساتين التي تنصب بواسطة العروش والسقف، ولها جمال عظيم وروعة باهرة.

و«دمرنا» من مادة «التدمير» بمعنى الإِهلاك والإبادة.

وهنا يطرح السؤال التالي وهو: كيف اُبيدت هذه القصور والبساتين، ولماذا؟

ونقول في الجواب: لا يبعد أن ذلك حدث بسبب زلازل وطوفانات جديدة وأمّا الضرورة التي قضت بهذا الفعل فهي أن جميع الفرعونيين لم يغرقوا في النيل، بل غَرق فرعون وجماعة من خواصّه وعسكره الذين كانوا يلاحقون موسى(عليه السلام)، ومن المسلَّم أنّه لو بقيت تلك الثروات العظيمة، والإمكانيات الإقتصادية الهائلة بيد من بقي من الفراعنة الذين كان عدد نفوسهم في شتى نواحي مصر كثيراً جداً لاستعادوا بها شوكتهم، ولقدروا على تحطيم بني إسرائيل، أو الحاق الاذى بهم على الأقل. أمّا الإمكانيات والوسائل فإن من شأنه أن يجردهم من أسباب الطغيان إلى الأبد.

* * *

[187]

الآيات

وَجَـوَزْنَا بِبَنِى إِسْرءِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْم يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنَام لَّهُمْ قَالُوا يَـمُوسَى اجْعَل لَّنَآ إِلَـهَاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَومٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَـؤُلاَءِ مَتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبـطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ(140)وَإِذْ أَنجَيْنَـكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

التّفسير

الاقتراح على موسى بصنع الوثن:

في هذه الآيات إشارة إلى جانب حساس آخر من قصّة بني إسرائيل التي بدأت في أعقاب الإِنتصار على الفرعونيين، وذلك هو مسألة توجه بني إسرائيل إلى الوثنية التي بحثت بداياتها في هذه الآيات، وجاءت نتيجتها النهائية بصورة مفصّلة في سورة طه من الآية (86) إلى (97)، وبصورة مختصرة في الآية (148) فما بعد من هذه السورة.

[188]

وفي الحقيقية فإنّه مع انتهاء قصة فرعون بدأت مشكلة موسى الداخلية الكبرى، يعني مشكلته مع جهلة بني إسرائيل، والأشخاص المتعنتين والمعاندين. وكانت هذه المشكلة أشدّ على موسى(عليه السلام) وأثقل بمراتب كثيرة ـ كما سيتّضح من قضية مواجهته لفرعون والملأ وهذه هي خاصية المشاكل والمجابهات الداخلية.

في الآية الأُولى: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) أي النيل العظيم.

ولكن في مسيرهم مرّوا على قوم يخضعون للأصنام (فأَتَوا على قوم يعكفون على أصنام لهم).

و«عاكف» مشتقّة من مادة «العكوف» بمعنى التوجه إلى شيء وملازمته المقارنة لإِحترامه وتبجيله.

فتأَثَّر الجهلة الغافلون بهذا المشهد بشدّة إلى درجة قالوا لموسى من دون إبطاء: يا موسى اتّخذ لنا معبوداً على غرار معبودات هؤلاء (قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلِهة).

فانزعج موسى(عليه السلام) من هذا الإِفتراح الأحمق بشدّة، وقال لهم: (قال إنّكم قوم تجهلون).

* * *

بحوث

وهنا لابدّ من الانتباه إلى نقاط:

1 ـ الجهل منشأ الوثنية

يستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ منشأ الوثنية هو جهل البشر بالله تعالى من جانب، وعدم معرفته بذاته المقدسة وأنّه لا يتصور له شبيه أو نظير أو مثيل.

ومن جانب آخر جهل الإِنسان بالعلل الأصلية لحوادث العالم الذي يتسبب

[189]

أحياناً في أن ينسب الحوادث إلى سلسلة من العلل الخرافية والخيالية ومنها الأصنام.

ومن جانب ثالث جهل الإنسان بما وراء الطبيعة، وقصور فكره إلى درجة أنّه لا يرى ولا يؤمن إلاّ بالقضايا الحسية.

إن هذه الجهالات تضافرت وتعاضدت، وصارت على مدار التأريخ منشأ للوثنية وعبادة الأصنام، وإلاّ فكيف يمكن أن يأخذ إنسان واع فاهم عارف بالله وصفاته، عارف بعلل الحوادث، عارف بعالم الطبيعة وعالم بما بعد الطبيعة. قطعة من الصخر منفصلة من الجبل مثلا، فيستعمل قسماً منها في بناء بيته، أو صنع سلالم منزله، ويتخذ قسماً آخر معبوداً يسجد أمامه، ويسلّم مقدراته بيده.

والجدير بالذكر أنّنا نقرأ في كلام موسى(عليه السلام) في الآية الحاضرة كيف يقول لهم: أنتم غارقون في الجهل دائماً، (لأنّ تجهلون فعل مضارع ويدل غالباً على الإِستمرارية) وبخاصّة أن متعلق الجهل لم يبيّن في الآية، وهذا يدل على عمومية المجهول وشموليته.

والاغرب من كل ذلك أنّ بني إسرائيل بقولهم (اجعل لنا إلهاً) أظهروا أن من الممكن أن يصير الشيء التافه ثميناً ـ بمجرّد اختيارهم وجعلهم ووضع اسم الصنم والمعبود عليه ـ وتوجب عبادته التقرب إلى الله، وعدم عبادته البعد عنه تعالى، وتكون عبادته منشأ للخير والبركة، واحتقاره منشأ للضرر والخسارة، وهذه هي نهاية الجهل والغفلة.

صحيح أنّ مقصود بني إسرائيل لم يكن إيجاد معبود يكون خالق العالم، بل كان مقصودهم هو: إجعل لنا معبوداً نتقرب بعبادته إلى الله، ويكون مصدراً للخير والبركة، ولكن هل يمكن أن يصير شيء فاقداً للروح والتأثير مصدراً للخيرات والتأثيرات بمجرّد تسمّيته معبوداً وإلهاً؟ هل الدافع لذلك العمل شيء سوى الجهل

[190]

والخرافة، والخيال الواهي والتصور الخاوي؟!(1)

2 ـ أرضية الوثنية عند بني إسرائيل

لا شك أنّه كانت لدى بني إسرائيل ـ قبل مشاهدة هذا الفريق من  الوثنيين ـ أرضية فكرية مساعدة لهذا الموضوع، بسبب معاشرتهم الدائمة للمصريين الوثنيين، ولكن مشاهدة هذا المشهد الجديد كان بمثابة شرارة كشفت عن دفائن جبلّتهم، وعلى كل حال فإنّ هذه القضية تكشف لنا أنّ الإنسان إلى أيّ مدى يتأثر بعامل البيئة، فإنّ البيئة هي التي تستطيع أن تسوق الإنسان إلى الله، كما أنّ البيئة هي التي تسوقه إلى الوثنية، وأنّ البيئة يمكن أن تصير سبباً لأنواع المفاسد والشقاء، أو منشأ للصلاح والطهر. (وإن كان انتخاب الإنسان نفسه هو العامل النهائي) ولهذا إهتم الإِسلام بإصلاح البيئة إهتماماً بالغاً.

3 ـ الكفرة بالنعم في بني إسرائيل

الموضوع الآخر الذي يستفاد من الآيه بوضوح، أنّه كان بين بني إسرائيل أشخاص كثيرون ممن يكفرون النعمة ولا يشكرونها، فمع أنّهم رأوا كل تلك المعاجز التي أُتي بها موسى(عليه السلام)، ومع أنّهم تمتعوا بكل تلك المواهب الإِلهية التي خصّهم الله بها، فإنّه لم ينقصِ عن هلاك عدوهم فرعون ونجاتهم من الغرق برهة من الزمن حتى نسوا كل هذه الأُمور دفعة واحدة، وطلبوا من موسى أن يصنع لهم أصناماً ليعبدوها!!

ونقرأ في نهج البلاغة أنّ أحد اليهود اعترض على المسلمين عند أمير المؤمنين(عليه السلام) قائلا: ما دفنتم نبيّكم حتى اختلفتم فيه. فردّ عليه الإمام صلوات الله

_____________________________

1 ـ مرّت أبحاث أُخرى حول تاريخ الوثنية في تفسير الآية (258) سورة البقرة.

[191]

عليه قائلا: «إنّما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنّكم ما جفّت أرجلكم من البحر حتى قلتم لنبيّكم اجعَلْ لنا إِلهاً كما لهم آلهة، فقال إنّكم قوم تجهلون».

أي أنّنا اختلفنا في الأحاديث والأوامر التي وصلت إلينا عن نبيّنا، لا أنّنا اختلفنا حول النّبي ونبوته، (فكيف بألوهية الله) ولكنّكم ما إن خرجتم من مياه البحر إلاّ واقترحتم على نبيّكم أن اجعل لنا آلهة كما للوثنيين آلهة، وقال موسى: إنّكم قوم تجهلون.

وفي الآية اللاحقة نقرأ أنّ موسى(عليه السلام) ـ لتكميل حديثه لبني إسرائيل ـ قال: إنّ هذه الجماعة الوثنية التي ترونها سينتهي أمرها إلى الهلاك، وإن عملهم هذا باطل لا أساس له (إن هؤلاء متبرٌّ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون).

فعمل هذه الجماعة باطل، وجهودهم غير منتجة، كما أن مصير مثل هؤلاء القوم وكل قوم وثنيين ومشركين هو الهلاك والدمار. (لأنّ «متبَّر» مشتّقة من التبار أي الهلاك).

ثمّ تضيف الآية التوكيد: إنّ موسى(عليه السلام) (قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين).

يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما، فإنّ ذلك أيضاً يرتبط بالله سبحانه، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقاً لها.

وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإِلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل، ليبعث بالإِلتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإِلهية المقدسة فحسب، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئاً أبداً.

يقول في البداية: تذكَّروا يوم أنجيناكم من مخالب آل فرعون الذين كانوا

[192]

يعذبونكم دائماً (وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب).

و«يسومون» مشتقّة من مادة «سوم» وتعني في الأصل ـ كما قال «الراغب» في «المفردات» ـ الذهاب في طلب شيء، كما يستفاد من القاموس تضمنه لمعنى الإِستمرار والمضّي أيضاً، وعلى هذا يكون معنى (يسومونكم سوء العذاب)أنّهم كانوا يعذبونكم بتعذيبات قاسية باستمرار.

ثمّ تمشياً مع أسلوب القرآن في بيان الأُمور بتفصيل بعد إحمال شرح هذا العذاب المستمر، وهو: قتل الأبناء، واستبقاء النساء للخدمة والإسترقاق (يقتلون أبناءكم، ويستحيون نساءكم).

وقد كان في هذا اختبار عظيم من الله لكم (وفي ذلكم بلاءٌ من ربّكم عظيم).

وسياق الآية يكشف عن أن هذه العبارة قالها موسى(عليه السلام) عن الله لنبي إسرائيل عندما رغبوا بعد عبورهم بحر النيل في الوثنية وعبادة الأصنام.

صحيح أنّ بعض المفسّرين احتمل أن يكون المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّ التّفسير الأوّل يحتاج إلى تقدير شيء بأن يقال: إن الآية كانت في الأصل هكذا: قال موسى: قال ربّكم ... وهذا خلاف الظاهر.

ولكن مع الإلتفات إلى أنّه لو كان المخاطبون في هذه الآية هم يهود عصر النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) لإنقطع إرتباط الآية بما يسبقها وما يلحقها بصورة كاملة، وكانت هذه الآية كالجملة المعترضة، يبدو للنظر أن التّفسير الأوّل أصح.

هذا ولابدّ ـ ضمناً ـ من الإلتفات إلى أن نظير هذه الآية مرّ في سورة البقرة الآية (49) مع فارق جداً بسيط، ولمزيد التوضيح راجع تفسير الآية (49) من سورة البقرة.

* * *

[193]

الآية

وَوَعَدْنَا مُوسَى ثَلَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لاَِخيهِ هَـرُونَ اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

التّفسير

الميعاد الكبير:

في هذا الآية إشارة إلى مشهد من مشاهد حياة بني إسرائيل، ومشكلة موسى(عليه السلام) معهم، وذلك هو قصّة ذهاب موسى إلى ميقات ربّه، وتلقي أحكام التّوراة عن طريق الوحي وكلامه مع الله، واصطحاب جماعة من كبار بني إسرائيل وشخصياتهم إلى الميقات لمشاهدة هذه الحادثة وإثبات أنّ الله لا يمكن أن يدرَك بالأبصار، والتي ذكرت بعد قصّة عبادة بني إسرائيل للعجل وإنحرافهم عن مسير التوحيد، وضجّة السامريّ العجيبة.

يقول تعالى أوّلا: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربّه أربعين ليلة).

وكلمة «الميقات» مشتقّة من مادة «الوقت» بمعنى الموعد المضروب للقيام

[194]

بعمل ما، ويطلق عادة على الزمان، ولكنّه قد يطلق على المكان الذي يجب أن يتمّ العمل فيه، مثل «ميقات الحج» يعني المكان الذي لا يجوز أن يجتازه أحد إلاّ محرماً.

ثمّ ذكرت الآية أنّ موسى استخلف هارون وأمره بالإصلاح في قومه، وأن لا يتبع سبيل المفسدين: (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين).

* * *

بحوث

وهنا عدّة نقاط ينبغي التوقف عندها والإِلتفات إليها:

1 ـ لماذا التفكيك بين الثلاثين والعشر؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه في مجال الآية الحاضرة، هو: لماذا لم يبيّن مقدار الميقات بلفظ واحد هو الأربعين، بل ذكر أنّه واعده ثلاثين ليلة ثمّ أتمّه بعشر، في حين أنّه تعالى ذكر ذلك الموعد في لفظ واحد هو أربعين في الآية (151) من سورة البقرة.

ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة لهذا التفكيك، والذي يبدو أقرب إلى النظر وأكثر انسجاماً مع أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) هو أنّه وإن كان الواقع هو أربعين يوماً، إلاّ أنّه في الحقيقة وعد الله موسى في البداية ثلاثين يوماً ثمّ مدّده عشرة أيّام أُخرى، اختباراً لبني إسرائيل كي يُعرف المنافقون في صفوف بني إسرائيل.

فقد روي عن الإِمام محمّد الباقر(عليه السلام) أنّه قال: إنّ موسى(عليه السلام) لما خرج وافداً إلى ربّه واعدهم ثلاثين يوماً، فلمّا زاده الله على الثلاثين عشراً قال قومه، قد

[195]

أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا (من عبادة العجل)(1).

وأمّا أن هذه الأيّام الأربعين صادفت أيّام أي شهر من الشهور الإِسلامية، فيستفاد من بعض الرّوايات أنّها بدأت من أوّل شهر ذي القعدة وختمت باليوم العاشر من شهر ذي الحجة (عيد الأضحى). وقد جاء التعبير بلفظ أربعين ليلة في القرآن الكريم لا أربعين يوماً، فالظاهر أنّه لأجل أن مناجاة موسى لربّه كانت تتمّ غالباً في الليالي.

2 ـ كيف نصب موسى(عليه السلام) هارون قائداً وإماماً؟

السؤال الثّاني الذي يطرح نفسه هنا، هو: إنّ هارون كان نبيّاً، فكيف نصبه موسى(عليه السلام) خليفة له وإماماً وقائد لبني إسرائيل؟

والجواب على هذا السؤال يتّضح بعد الإلتفات إلى أنّ مقام النّبوة شيء ومقام الإمام شيء آخر، ولقد كان هارون نبيّاً، ولكن لم يكن قد أنيط به مقام الإمامة العامّة لبني اسرائيل، بل كان مقام الإمامة ومنصب القيادة العامّة خاصاً بموسى(عليه السلام)، ولكنّه عندما قصد أن يفارق قومه إلى ميقات ربّه اختار هارون إماماً وقائداً.

3 ـ لماذا طلب موسى(عليه السلام) من أخيه الإصلاح وعدم اتّباع المفسدين؟

السؤال الثّالث الذي يطرح نفسه هنا، هو: لماذا قال موسى(عليه السلام) لأخيه: اصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، مع أن هارون نبي معصوم من المستحيل أن يتبع طريق المفسدين وينهج نهجهم الفاسد؟

نقول في الجواب: إنّ هذا ـ في الحقيقة ـ نوع من التوكيد لإلفات نظر أخيه إلى أهمية مكانته في بني إسرائيل. ولعله أراد بهذا الموضوع أن يوضح لبني إسرائيل

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، المجلد الثّاني، الصفحة 33 ـ نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 61.

[196]

ويفهمهم أن عليهم أن يمتثلوا لتعاليم هارون ونصائحه ومواعظه الحكيمة، ولا يستثقلوا أوامره ونواهيه، ولا يعتبروا تلك الأوامر والنواهي وكذلك قيادة هارون لهم دليلا على قِصَرِهم وصغرهم ... بل يفعلون كما يفعل هارون حيث كان رغم منزلته البارزة ومقام نبوته تابعاً ومطيعاً لنصائح موسى(عليه السلام).

4 ـ ميقات واحد أو مواقيت متعددة؟

السؤال الرّابع الذي يطرح نفسه هنا، هو: هل ذهب موسى إلى ميقات ربّه مرّة واحدة، وهي هذه الأربعون يوماً، وتلقى أحكام التوراة وشريعته السماوية عن طريق الوحي في هذه الأربعين يوماً، كما اصطحب معه جماعة من شخصيات بني إسرائيل معه كممثلين عن قومه، ليشهدوا نزول أحكام التوراة عليه، وليفهمهم أن الله لا يدرك بالأبصار أبداً، في هذه الأربعين يوماً نفسها؟

أم أنّه كانت له مع الله أربعينات متعددة، أحدها لأخذ الأحكام، وفي الأُخرى اصطحب كبار قومه، وله ـ احتمالا ـ أربعون ثالثة لمقاصد ومآرب أُخرى غير هذه، (كما يستفاد من سفر الخروج من التوراة الفعلية الفصل 19 إلى 24).

وهنا أيضاً وقع كلام بين المفسّرين، ولكن الذي يبدو أنّه أقرب إلى الذهن ـ بملاحظة الآية المبحوثة والآيات السابقة عليها واللاحقة لها ـ أن جميع هذه الأُمور ترتبط بحادثة واحدة لا متعددة، لأنّه بغض النظر عن أن عبارة الآية اللاحقة (ولما جاء موسى لميقاتنا) تناسب تماماً وحدة هاتين القصّتين، فإنّ الآية (145) من نفس هذه السورة تفيد ـ بجلاء ـ أن قصّة ألواح التوراة، واستلام أحكام هذه الشريعة قد تمّت جميعُها في نفس هذا السفر أيضاً.

5 ـ حديث المنزلة

[197]

أشار كثير من المفسّرين الشيعة والسنة ـ في ذيل الآية المبحوثة ـ إلى حديث «المنزلة» المعروف، بفارق واحد هو: أنّ الشيعة اعتبروا هذا الحديث من الأدلة الحيّة والصريحة على خلافة علي(عليه السلام) لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة وبلا فصل.

ولكي يتّضح هذا البحث ندرج هنا أوّلا أسانيد ونص هذا الحديث باختصار، ثمّ نبحث في دلالته، ثمّ نتكلم حول الحملات التي وجهها بعض المفسّرين إلى الشيعة.

أسانيد حديث المنزلة:

1 ـ روى جمع كبير من صحابة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حول غزوة تبوك: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى تبوك واستخلف علياً فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه ليس نبيّ بعدي».

وهذا النص ورد في أوثق الكتب الحديثية لدى أهل السنّة، يعني صحيح البخاري وعن سعد بن أبي وقاص.(1)

وقد روى هذا الحديث ـ أيضاً ـ في صحيح مسلم الذي يعدّ من المصادر الرئيسية عن أهل السُنّة، في باب «فضائل الصحابة» عن سعد أن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي(عليه السلام): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(2).

في هذا الحديث الذي نقله صحيح مسلم أعلن عن الموضوع بصورة كليّة، ولم يرد فيه ذكر عن غزوة تبوك.

وهكذا نقل حديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذا في سياق ذكر غزوة تبوك بعد ذكر الحديث بصورة كلّية، بصورة مستقلة كما جاء في صحيح البخاري.

_____________________________

1 ـ صحيح البخاري، الجزء السّادس، الصفحة 3، طبعة دار إحياء التراث العربي.

2 ـ صحيح مسلم، المجلد الرّابع، الصفحة 187، طبعة دار إحياء التراث العربي.

[198]

وقد ورد عين هذا الموضوع في سنن ابن ماجه أيضاً(1).

وقد أضيف في سنن الترمذي مطلب آخر، وهو أنّ معاوية قال لسعد ذات يوم: ما يمنعك أن تسبَّ أبا تراب؟! قال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فلن أسبَّه، لئن تكون لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حُمْر النَعَم. ثمّ عدد الأُمور الثلاثة فكان أحدها ما قاله رسول الله لعلي في تبوك وهو قوله: «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوة بعدي»(2).

وقد أشير إلى هذا الحديث في عشرة موارد من مسند أحمد بن حنبل، تارة ذكرت فيه غزوة تبوك، وتارة من دون ذكر غزوة تبوك بل بصورة كلّية(3).

وقد روي في أحد هذه المواضع أنّه أتى ابن عباس ـ بينما هو جالس ـ تسعة رهط، فقالوا: يا ابن عباس، إمّا أن تقوم معنا، وإمّا أن تخلونا هؤلاء، فقال ابن عباس: بل أقوم معكم (إلى أن قال) وخرج بالناس (أي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)) في غزوة تبوك ثمّ نقل كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام) وأضاف: «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي»(4).

وجاء نفس هذا الحديث في «خصائص النسائي»(5) وهكذا في مستدرك الحاكم(6)، وفي تاريخ الخلفاء للسيوطي(7) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر(8)

_____________________________

1 ـ المجلد الأوّل، الصفحة 43، طبعة دار إحياء الكتب العربية.

2 ـ المجلد الخامس، الصفحة 638، طبعة المكتبة الإِسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

3 ـ مسند أحمد بن حنبل، المجلد الأول، الصفحة 173 و 175 و 177 و 179 و 183 و 185 و 231، و المجلد السّادس، الصفحة 369 و 438.

4 ـ مسند أحمد، المجلد الأوّل، الصفحة 231.

5 ـ خصائص النسائي، ص 4 و 14.

6 ـ المجلد الثالث، الصفحة 108 و 109.

7 ـ المجلد الأوّل، الصفحة 65.

8 ـ الصفحة 177.

[199]

وسيرة ابن هشام(1) والسيرة الحلبية(2) وكتب كثيرة أُخرى.

ونحن نعلم أن هذه الكتب من الكتب المعروفة، والمصادر الأُولى لأهل السنة.

والجدير بالذكر أن هذا الحديث لم يروه «سعد بن أبي وقاص» عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وحده، بل رواه ـ أيضاً ـ مجموعة كبيرة من الصحابة الذين يتجاوز عددهم عشرين شخصاً منهم: «جابر بن عبدالله» و «أبو سعيد الخدري» و«أسماء بنت عميس» و«ابن عباس» و«أم سلمة» و«عبدالله بن مسعود» و«أنس بن مالك» و«زيد بن أرقم» و«أبو أيوب» والأجدر بالذكر أنّ هذا الحديث رواه عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) «معاوية بن أبي سفيان» و«عمر بن الخطاب» أيضاً.

وينقل «محب الدين الطبري» في «ذخائر العقبى» أنّه جاء رجل إلى معاوية فسأله عن مسألة فقال: سل عنها علي بن أبي طالب فهو أعلم. قال: يا أمير المؤمنين (ويقصد به معاوية) جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب عليّ.

فال: بئسما قلتَ، لقد كرهت رجلا كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يغره بالعلم غراً، وقد قال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، وكان عمر إذا أشكل عليه أخذ منه(3).

وروى أبو بكر البغدادي في «تأريخ بغداد» بسنده عن عمر بن الخطّاب أنّه رأى رجلا يسبّ عليّاً(عليه السلام) فقال: إنّي أظنّك منافقاً، سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إنّما عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(4).

_____________________________

1 ـ السيرة النبوية، المجلد الثّالث، الصفحة 163 طبعة مصر.

2 ـ السيرة الحلبية، المجلد الثّالث، الصفحة 151 طبعة مصر.

3 ـ ذخائر العقبى، الصفحة 79، طبعة مكتبة القدس، الصواعق المحرقة، ص 177، طبعة مكتبة القاهرة.

4 ـ تاريخ بغداد، المجلد السابع، الصفحة 452 طبعة السعادة.

[200]

حديث المنزلة في سبعة مواضع:

النقطة الأُخرى، إنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ و خلافاً لما يتصوّره البعض ـ لم يقل هذا البحث في علي(عليه السلام) في غروة تبوك فقط، بل قال هذه العبارة في عدّة مواضع منها:

1 ـ في المؤاخاة الأُولى: يعني في المرّة الأُولى التي آخى فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بين المهاجرين واختار عليّاً(عليه السلام) في هذه المؤاخاة لنفسه وقال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»(1).

2 ـ في يوم المؤاخاة الثّانية: وكانت في المدينة بعد الهجرة بخمسة أشهر، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار، واصطفى لنفسه منهم عليّاً واتخذه من دونهم أخاه، وقال له: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي وأنت أخي ووارثي»(2).

3 ـ أم سليم ـ التي كانت على جانب من الفضل والعقل، وكانت تعدّ من أهل السوابق، وهي من الدعاة إلى الإِسلام، واستشهد أبوها وأخوها بين يدي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفارقت زوجها لأنّه أبى أن يعتنق الإِسلام، وكان رسولُ الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يزورها في بيتها بين الحين والآخر ويسلّيها ـ تروي أم سليم هذه أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها ذات يوم: «إنّ عليّاً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى»(3).

4 ـ قال ابن عباس: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كُفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب فقد رأيتُ من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فيه خصالا لئن تكون لي واحدة منهن في آل الخطّاب أحبَّ إلي ممّا طلعت عليه الشمس، كنتُ أنا وأبوبكر وأبو عبيدة في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فانتهينا إلى باب أمّ سلمة وعلي

_____________________________

1 ـ كنز العمال، الحديث 918، المجلد الخامس، الصفحة 40، والمجلد السّادس، الصفحة 390.

2 ـ منتخب كنزالعمال، (في حاشية مسند أحمد)، المجلد الخامس، من مسند أحمد، الصفحة 31.

3 ـ كنز العمال، المجلد السّادس، الصفحة 164.

[201]

قائم على الباب، فقلنا: أردنا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يخرج إليكم، فخرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فسرنا إليه، فأتكأ على علي بن أبي طالب ثمّ ضرب بيده منكبة ثمّ قال: «أنت (يا علي) أوّل المومنين إيماناً، وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(1).

5 ـ روى النسائي في كتاب «الخصائص» أن علياً وزيداً وجعفر اختصموا في من يكفل ابنة حمزة، وكان كل واحد منهم يريد أن يكفلها هو دون غيره فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلى: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى»(2).

6 ـ روى جابر بن عبدالله أنّه عندما أمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بسدّ جميع أبواب المنازل التي كانت مشرعة إلى المسجد إلاّ باب بيت علي(عليه السلام)، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي، وإنّك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(3).

هذه الموارد الستّة النّبي هي غير غزوة تبوك، أخذناها برمتها من المصادر المعروفة لأهل السنّة، وإلاّ فإن هناك في الرّوايات المرويّة عن طريق الشيعة موارد أُخرى قال فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) هذه العبارة في شأن علي(عليه السلام) أيضاً.

من مجموع ذلك يستفاد ـ بوضوح وجلاء ـ أنّ حديث المنزلة لم يكن مختصاً بغزوة تبوك، بل هو أمر عام ودائم في شأن علي(عليه السلام).

ومن هنا يتّضح أيضاً ـ أنّ ما تصوره بعض علماء السنّة مثل «الآمدي» من أن هذا الحديث يتكفل حكماً خاصاً في مجال خلافة علي(عليه السلام) وأنّه يرتبط بظرف غزوة تبوك خاصّة، ولا يرتبط بغيره من الظروف والأوقات، تصوّر باطل أساساً، لأنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كرّر هذه العبارة في مناسبات متنوعة ممّا يفيد أنّه كان حكماً عاماً.

محتوى حديث المنزلة:

_____________________________

1 ـ كنز العمال، المجلد السّادس، الصفحة 395.

2 ـ خصائص النسائي، الصفحة 19.

3 ـ ينابيع المودة، آخر باب 17، الصفحة 88 الطبعة الثّانية دار الكتب العراقية.

[202]

لو درسنا ـ بموضوعية وتجرّد ـ هذا الحديث، وتجنَّبْنا الأحكام المسبَّقة والتحججات الناشئة من العصبية، لاستفدنا من هذا الحديث أنّ عليّاً(عليه السلام) كان  له ـ بموجب هذا الحديث ـ جميع المنازل التي كانت لهارون في بني إسرائيل ـ إلاّ النّبوة ـ لأنّ لفظ الحديث عام، والاستثناء (إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي) يؤكّد هو الآخر هذه العموميّة، ولا يوجد أيّ قيد أو شرط في هذا الحديث يخصصه ويقيّده.

وعلى هذا الأساس يمكن أن يستفاد من هذا الحديث الأُمور التالية:

1 ـ إنّ الإمام علياً(عليه السلام) أفضل الأئمّة بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان لهارون مثل هذا المقام.

2 ـ إنّ علياً وزير النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعاونه الخاص وعضده، وشريكه في قيادته، لأنّ القرآن أثبت جميع هذه المناصب لهارون عندما يقول حاكياً عن موسى قوله: (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، أشدد به أزري واشركه في أمري)(1).

3 ـ إنّه كان لعلي(عليه السلام) ـ مضافاً إلى الأخوة الإِسلامية العامّة مقام الأخوة الخاصّة والمعنوية للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم).

4 ـ إنّ عليّاً(عليه السلام) كان خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع وجوده لم يكن أي شخص آخر يصلح لهذا المنصب.

أسئلة حول حديث المنزلة:

لقد أورد بعض المتعصبين إشكالات وإعتراضات على هذا الحديث والتمسك به لإثبات خلافة علي لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل.

بعض الإشكالات والإِعتراضات واهية جداً إلى درجة لا تصلح للطرح على بساط المناقشة، بل لا يملك المرء عند السماع بها إلاّ أن يتأسف على حال البعض

_____________________________

1 ـ سورة طه، 29 الى 32.

[203]

كيف صدّتهم الأحكام المسبقة غير المدروسة عن قبول الحقائق الواضحة؟

أمّا البعض الآخر من الإشكالات القابلة للمناقشة والدراسة فنطرحها على بساط البحث تكميلا لهذه الدراسة:

الإشكال الأوّل: إن هذا الحديث يبين ـ فقط ـ حكماً خاصاً محدوداً، لأنّه ورد في غزوة تبوك، وذلك عندما انزعج علي(عليه السلام) من استبقائه في المدينة بين النساء والصبيان، فسلاّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه العبارة:

وعلى هذا الأساس كان المقصود هو: إنّك وحدك الحاكم والقائد لهذه النسوة والصبيان دون غيرك.

وقد اتضح الجواب على هذا الإشكال من الأبحاث السابقة ـ بجلاء ـ وتبيّن أنّه ـ على خلاف تصور المعترضين ـ لم يرد هذا الحديث في واقعة واحدة، ولم يصدر في واقعة تبوك فقط، بل صدر في موارد عديدة على أساس كونه يتكفل حكماً كليّاً، وقد أشرنا إلى سبعة موارد ومواضع منها مع ذكر أسانيدها من مؤلفات علماء أهل السنة.

هذا مضافاً إلى أنّ بقاء عليّ(عليه السلام) في المدينة لم يكن أمراً بسيطاً يهدف المحافظة على النساء والصبيان فقط، بل لو كان الهدف هو هذا، لتيّسر للآخرين القيام به، وإنّ النّبي لم يكن ليترك بطل جيشه البارز في المدينة لهدف صغير، وهو يتوجه إلى قتال امبراطورية كبرى (هي إمبراطورية الروم الشرقية).

إنّ من الواضح أنّ الهدف كان هو منع أعداء الرسالة الكثيرين الساكنين في أطراف المدينة والمنافقين القاطنين في نفس المدينة، الذين كانوا يفكرون في استغلال غيبة النّبي الطويلة لإجتياح المدينة قاعدة الإِسلام، ولهذا عمد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يخلف في غيبته شخصيّةً قويّةً يمكنه أن يحفظ هذا المركز الحساس، ولم تكن هذه الشخصية سوى علي(عليه السلام).

الإشكال الثّاني: نحن نعلم ـ كما اشتهر في كتب التاريخ أيضاً ـ أنّ هارون

[204]

توفي في عصر موسى(عليه السلام) نفسه، ولهذا لا يُثبت التشبيه بهارون أن عليّاً(عليه السلام) خليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاته(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولعل هذا هو أهم إشكال أورد على هذا البحث والتمسك به، ولكن جملة «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» تجيب على هذا الإشكال بوضوح، لأنّه إذا كان كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الذي يقول: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، خاصاً بزمان حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لما كانت هناك ضرورة إلى جملة «إلاّ أنّه لا نبي بعدي» لأنّه إذا اختص هذا الكلام بزمان حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكان التحدث حول من يأتي بعده غير مناسب أبداً (إذ يكون لهذا الإِستثناء ـ كما اصطلح في العربية ـ طابع الإِستثناء المنقطع الذي هو خلاف الظاهر).

وعلى هذا الأساس يكشف وجود هذا الإستثناء ـ بجلاء ـ أنّ كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ناظر إلى مرحلة ما بعد وفاته، غاية ما هنالك ولكي لا يلتبس الأمر، و لا يعتبر أحدٌ عليّاً(عليه السلام) نبيّاً بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ لك جميع هذه المنازل ولكنّك لن تكون نبيّاً بعدي.

فيكون مفهوم كلام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أن لك جميع ما لهارون من المناصب والمنازل، لا في حياتي فقط، بل أنّ هذه المنازل تظلّ مستمرة وباقية لك إلاّ مقام النّبوة.

وبهذه الطريقة يتّضح أن تشبية علي(عليه السلام) بهارون، إنّما هو من حيث المنازل والمناصب، لا من حيث مدّة إستمرار هذه المنازل والمناصب، ولو أنّ هارون كان يبقى حياً لكان يتمتع بمقام الخلافة لموسى ومقام النّبوة معاً.

ومع ملاحظة أنّ هارون كان له ـ حسب صريح القرآن ـ مقام الوزارة والمعاونة لموسى، وكذا مقام الشركة في أمر القيادة (تحت إشراف موسى) كما أنّه كان نبيّاً، تثبت جميع هذه المنازل لعلي(عليه السلام) إلاّ النّبوة، حتى بعد وفاة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)بشهادة عبارة (إلاّ أنّه لا نبي بعدي).

[205]

الإشكال الثّالث: إنّ الاستدلال بهذا الحديث يستلزم أنّه كان لعلي(عليه السلام) منصب الولاية والقيادة حتى في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في حين لا يمكن أن يكون هناك إمامان وقائدان في عصر واحد.

ولكن مع الإِلتفات إلى النقطة التالية يتّضح الجواب على هذا الإشكال أيضاً، وهي أنّ هارون كان له ـ من دون شك ـ مقام قيادة بني إسرائيل حتى في عصر موسى(عليه السلام)، ولكن لا بقيادة مستقلة، بل كان قائداً يقوم بممارسة وظائفه تحت إشراف موسى. وقد كان علي(عليه السلام) في زمان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) معاوناً للنّبي في قيادة الأُمّة أيضاً، وعلى هذا الأساس يصير قائداً مستقلا بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

وعلى كل حال، فإنّ حديث المنزلة الذي هو من حيث الأسانيد من أقوى الأحاديث والرّوايات الإسلامية التي وردت في مؤلفات جميع الفرق الإسلامية بلا إستثناء، إنّ هذا الحديث يوضح لأهل الإِنصاف من حيث الدلالة أفضلية علي(عليه السلام)على الأُمّة جمعاء، وأيضاً خلافته المباشرة (وبلا فصل) بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولكن مع العجب العجاب أنّ البعض لم يكتف برفض دلالة الحديث على الخلافة، بل قال: إنّه لا يتضمّن ولا يثبت أدنى فضيلة لعليّ(عليه السلام).. وهذا حقّاً أمر محيّر.

* * *

[206]

الآية

وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَـتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرانِى وَلَـكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـنَكَ تُبْتُ إِليْكَ وَأَنَا أوَّلُ الْمُؤْمِنينَ(143)

التّفسير

المطالبة برؤية الله:

في هذه الآيات والآيات اللاحقة يشير سبحانه إلى مشهد مثير آخر من مشاهد حياة بني إسرائيل، وذلك عندما طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى(عليه السلام) ـ بإلحاح وإصرار ـ أن يَروا الله سبحانه، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه، فاختار موسى سبعين رجلا من قومه واصطحبهم معه إلى ميقات ربّه، وهناك رفع طلبهم إلى الله سبحانه، فسمع جواباً أوضح لبني إسرائيل كل شيء في هذا الصعيد.

وقد جاء قسم من هذه القصّة في سورة البقرة الآية (55) و (56)، وقسم آخر

[207]

منه في سورة النساء الآية (153)، وقسم ثالث في الآيات المبحوثة هنا في الآية (155) من هذه السورة.

ففي الآيات الحاضرة يقول أوّلا: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك).

ولكن سرعان ما سمع الجواب من جانب المقام الرّبوبي: كلا، لن تراني أبداً (قال لن تراني ولكن اُنطر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلى ربّه للجبل جعله دكاً)(1).

فلمّا رأى موسى هذا المشهد الرهيب تملكه الرعب إلى درجة أنّه سقط على الأرض مغمىً عليه (وخرّ موسى صعقاً).

وعندما أفاق قال: ربّاه سبحانك، أنبتُ إليك، وأنا أوّل من آمن بك (فلمّا أفاق قال سبحانك تبتُ إليك وأنا أوّل المؤمنين).

* * *

بحوث

وفي هذه الآية نقاط ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها:

1 ـ لماذا طلب موسى رؤية الله؟

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه هنا هو: كيف طلب موسى(عليه السلام) ـ و هو النّبي العظيم ومن أُولي العزم ـ رؤية الله وهو يعلم جيداً أن الله ليس بجسم، وليس له مكان، ولا هو قابل للمشاهدة والرؤية، والحال أن مثل هذا الطلب لا يليق حتى بالأفراد العاديّين من الناس؟

_____________________________

1 ـ «دك» في الأصل بمعنى سوّى الأرض، وعلى هذا فالمقصود من عبارة «جعله دكّاً» هو أنّه حطم الجبال وسواها كالأرض و جاء في بعض الرّوايات أنّ الجبل تناثر أقساماً، سقط كلّ قسم منه في جانب أو غار في الأرض نهائياً.

[208]

صحيح أنّ المفسّرين ذكروا أجوبة مختلفة على هذا السؤال، ولكن أوضح الأجوبة هو أن موسى(عليه السلام) طرح مطلب قومه، لأنّ جماعة من جَهَلة بني إسرائيل أصرّوا على أن يروا الله حتى يؤمنوا (والآية 153 من سورة النساء خير شاهد على هذا الأمر) وقد أمر موسى (عليه السلام) من جانب الله أن يطرح مطلب قومه هذا على الله سبحانه حتى يسمع الجميع الجواب الكافي، وقد صُرّح بهذا في رواية مرويّة عن الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في كتاب عيون أخبار الرضا أيضاً(1).

ومن القرائن الواضحة التي تؤيد هذا التّفسير ما نقرأه في الآية (155) من نفس هذه السورة، من أنّ موسى(عليه السلام) قال بعدما حدث ما حدث: (أتهلِكُنا بما فَعَل السفهاءُ منّا).

فيتّضح من هذه الجملة أنّ موسى(عليه السلام) لم يطلب لنفسه مثل هذا الطلب اطلاقاً، بل لعلّ الرجال السبعين الذين صعدوا معه إلى الميقات هم أيضاً لم يطلبوا مثل هذا الطلب غير المعقول وغيرالمنطقي، إنّهم كانوا مجرّد علماء، ومندويين من جانب بني إسرائيل خرجوا مع موسى(عليه السلام) لينقلوا فيما بعد مشاهداتهم لجماعات الجهلة والغافلين الذين طلبوا رؤية الله سبحانه وتعالى ومشاهدته.

2 ـ هل يمكن رؤية الله أساساً؟

نقرأ في الآية الحاضرة أن الله سبحانه قال لموسى(عليه السلام): (انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) فهل مفهوم هذا الكلام هو أن الله قابل للرؤية أساساً؟

الجواب هو أن هذا التعبير هو كناية عن استحالة مثل هذا الموضوع، مثل جملة (حتى يلج الجمل في سمّ الخياط) وحيث أنّه كان من المعلوم أنّ الجبل يستحيل أن يستقر في مكانه عند تجلّي الله له، لهذا ذكر هذا التعبير.

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 65.

[209]

3 ـ ما هو المراد من تجلّي الله؟

لقد وقع كلام كثير بين المفسّرين في هذا الصعيد، ولكن ما يبدو للنظر من مجموع الآيات أنّ الله أظهر إشعاعة من أحد مخلوقاته على الجبل (وتجلّي آثاره بمنزلة تجليه نفسه) ولكن ماذا كان ذلك المخلوق؟ هل كان إحدى الآيات الإلهية العظمية التي بقيت مجهولة لنا إلى الآن، أو أنّه نموذج من قوة الذرَّة العظيمة، أو الأمواج الغامضة العظيمة التأثير والدفع، أو الصاعقة العظيمة الموحشة التي ضربت الجبل وأوجدت برقاً خاطفاً للأبصار وصوتاً مهيباً رهيباً وقوّة عظيمة جداً، بحيث حطّمت الجبل ودكّته دكّاً(1)؟!

وكأنّ الله تعالى أراد أن يُرِىَ ـ بهذا العمل ـ شيئين لموسى(عليه السلام) وبني إسرائيل:

الأوّل: أنّهم غير قادرين على رؤية ظاهرة جد صغيرة من الظواهر الكونية العظيمة، ومع ذلك كيف يطلبون رؤية الله الخالق.

الثاني: كما أن هذه الآية الإلهية العظيمة مع أنّها مخلوق من المخلوقات لا أكثر، ليست قابله للرؤية بذاتها، بل المرئي هو آثارها، أي الرجة العظيمة، والمسموع هو صوتها المهيب. أمّا أصل هذه الأشياء أي تلك الأمواج الغامصة أو القوة العظيمة فلا هي ترى بالعَين، ولا هي قابلة للإدراك بواسطة الحواس الأُخرى، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يشك في وجود مثل هذه الآية، ويقول: حيث أنّنا لا نرى ذاتها، بل ندرك فقط آثارها فلا يمكن أن نؤمن بها.

فإذا يصح الحكم هذا حول مخلوق من المخلوقات، فكيف يصح أن يقال عن الله تعالى: بما أنّه غير قابل للرؤية، إذن لا يمكننا الإيمان به، مع أنّه ملأت آثاره

_____________________________

1 ـ الصاعقة عبارة عن التبادل الكهربائي بين قطع الغيوم والكرة الأرضية، فالسحب ذات الكهربية الموجبة عندما تقترب إلى الأرض ذات الكهربية السلبية تندلع شرارة من بينهما يعني السطح المجاور من الكرة الأرضية، وهي خطرة مدمرة في الغالب، ولكن البرق والرعد ينشآن من التبادل الكهربائي بين قطعتين من السحاب أحدهما موجب، والآخر سلبي، وحيث أنّهما يحدثان في السماء لذلك لا يشكلان خطراً في العادة إلاّ للطائرات. والسفن الفضائية.

[210]

كل مكان؟

وهناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية وهو أنّ موسى(عليه السلام) طلب لنفسه هذا المطلب حقيقة، ولكن لم يكن مقصوده مشاهدته بالعين التي تستلزم جسمانيته تعالى، وتنافي نبوة موسى(عليه السلام)، بل المقصود هو نوع من الإدراك الباطني والمشاهدة الباطنية، نوع من الشهود الكامل الروحيّ والفكري، لأنّه كثيراً ما تستعمل الرؤية في هذا المعنى مثلما نقول: «أنا أرى في نفسي قدرةً على القيام بهذا العمل» في حين أنّ القدرة ليست شيئاً قابلا للرؤية، بل المقصود هو أنّني أجد هذه الحالة في نفسي بوضوح.

كان موسى(عليه السلام) يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الشهود والمعرفة، في حين أن الوصول إلى هذه المرحلة لم يكن ممكناً في الدنيا، وإن كان ممكناً في عالم الآخرة الذي هو عالم الشهود.

ولكن الله تعالى أجاب موسى(عليه السلام) قائلا: إنّ مثل هذه الرؤية غير ممكنة لك، ولإثبات هذا المطلب تجلّى للجبل، فتحطَّم الجبل وتلاشى، وبالتالي تاب موسى من هذا الطلب.(1)

ولكن هذا التّفسير مخالف لظاهر الآية المبحوثة هنا، ويتطلب ارتكاب التجوّز من جهات عديدة(2) هذا مضافاً إلى أنّه ينافي بعض الرّوايات الواردة في تفسير الآية أيضاً، فالحق هو التّفسير الأول.

_____________________________

1 ـ ملخص من تفسير الميزان، المجلد الثامن، الصفحة 249 إلى 254.

2 ـ فهو مخالف لمفهوم الرؤية، ولإطلاق جملة «لن تراني» وجملة «أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا».

هذا بغض النظر عن أن طلب الشهود الباطني ليس أمراً سيئاً ليتوب منه موسى، فقد طلب إبراهيم من الله مثل هذا المطلب في مجال المعاد أيضاً ولبى الله طلبه.
ولو أن الجواب في مجال الشهود الباطني لله بالنفي لما كان دليلا على المؤاخذة والعقاب.

[211]

4 ـ مم تاب موسى(عليه السلام) ؟

إنّ آخر سؤال يطرح نفسه هنا هو: أن موسى(عليه السلام) بعد أن أفاق قال: (تبتُ إليك) في حين أنّه لم يرتكب إثماً أو معصية، لأن هذا الطلب كان من جانب بني إسرائيل، وكان طرحه بتكليف من الله، فهو أدى واجبه إذن، ثمّ إذا كان هذا الطلب لنفسه وكان مراده الشهود الباطني لم يُحسب هذا العمل إثماً؟؟

ولكن يمكن الجواب على هذا السؤال من جانبين:

الأوّل: أن موسى طلب مثل هذا الطلب بالنيابة عن بني إسرائيل، ومع ذلك طلب من الله أن يتوب عليه، وأظهر الإِيمان.

الآخر: أنّ موسى(عليه السلام) وإن كان مكلَّفاً بأن يطرح طلب بني إسرائيل، ولكنّه عندما تجلى ربّه للجبل واتّضحت حقيقة الأمر، انتهت مدّة هذا التكليف، وفي هذا الوقت لا بدّ من العودة إلى الحالة الأُولى يعني الرجوع إلى ما قبل التكليف، وإظهار إيمانه حتى لا تبقى شبهة لأحد، وقد بيّن ذلك بجملة، (إنّي تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين).

5 ـ الله غير قابل للرؤية مطلقاً

إنّ هذه الآية من الآيات التي تشهد بقوة وجلاء أنّ الله غير قابل للرؤية والمشاهدة مطلقاً، لأنّ كلمة «لن» حسب ما هو مشهور بين اللغويين للنفي الأبدي، وعلى هذا الأساس يكون مفهوم جملة (لن تراني) إنّك لا تراني لا في هذا العالم ولا في العالم الآخر.

ولو أنّ أحداً شكّك ـ افتراضاً ـ في أن يكون «لن» للنفي التأبيدي يدل إطلاق الآية، وكون نفي الرؤية ذكر من دون قيد أو شرط على أن الله غير قابل للرؤية في مطلق الزمان وجميع الظروف.

إنّ الأدلة العقلية هي الأُخرى تهدينا إلى هذه الحقيقة، لأنّ الرؤية تختص

[212]

بالأجسام.

وعلى هذا الأساس، إذا جاء في الأحاديث والأخبار الإسلامية أو الآيات القرآنية عبارة «لقاء الله» فإن المقصود هو المشاهدة بعين القلب والعقل، لأنّ القرينة العقلية والنقلية أفضل شاهد على هذا الموضوع وقد كان لنا أبحاث أُخرى في ذيل الآية (102) من سورة الأنعام في هذا الصعيد.

* * *

[213]

الآيتان

قَالَ يَـمُوسَى إِنِّى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَـلَتِى وَبِكَلَـمِى فَخُذْ مَآ ءَاتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّـكِرِينَ(144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاَْلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِّكُلِّ شَيء فَخُذْهَا بِقُوَّة وَامُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأحْسَنِهَا سَأُوِريكُمْ دَارَ الْفَـسِقِينَ(145)

التّفسير

ألواح التوراة:

وفي النهاية أنزل الله شرائع وقوانين دينه على موسى(عليه السلام).

ففي البداية: (قال يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي).

فإذا كان الأمر كذلك (فخذ ما آيتناك وكن من الشاكرين).

فهل يستفاد من هذه الآية أن التكلم مع الله كان من إمتيازات موسى الخاصّة به دون بقية الأنبياء، يعني اصطفيتك لمثل هذا الأمر من بين الأنبياء؟

الحق أنّ هذه الآية ليست بصدد إثبات مثل هذا الأمر، بل إن هدف  الآية ـ بقرينة ذكر الرسالات التي كانت لجميع الأنبياء ـ هو بيان امتيازين كبيرين

[214]

لموسى على الناس: أحدهما تلقي رسالات الله وتحمّلها، والآخر التكلّم مع الله، وكلا هذين الأمرين من شأنهما تقوية مقام قيادته بين أمته.

ثمّ أضاف تعالى واصفاً محتويات الألواح التي أنزلها على موسى(عليه السلام) بقوله: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء).

ثمّ أمره بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر مأخذ الجد، ويحرص عليها بقوة (فخذها بقوّة).

وأن يأمر قومه أيضاً بأن يختاروا من هذه التعاليم أحسنها (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها).

كما يحذرهم بأن مخالفة هذه الأوامر والتعاليم والفرار من المسؤوليات والوظائف تستتبع نتائج مؤلمة، وأن عاقبتها هي جهنم وسوف يرى الفاسقون مكانهم (سأوريكم دار الفاسقين).

* * *

بحوث

ثمّ إن ها هنا نقاط عديدة ينبغي التوقف عندها والإلتفات إليها:

1 ـ نزول الألواح على موسى

إنّ ظاهر الآية الحاضرة يفيد أن الله تعالى أنزل ألواحاً على موسى(عليه السلام) قد كتب فيها شرائع التوراة وقوانينها، لا أنّه كانت في يدي موسى(عليه السلام) ألواح ثمّ انتقشت فيها هذه التعاليم بأمر الله.

ولكن ماذا كانت تلك الألواح، ومن أي مادة؟ إنّ القرآن لم يتعرض لذكر هذا الأمر، وإنما أشار إليها بصورة الإِجمال وبلفظة «الألواح» فقط، وهذه الكلمة جمع «لوح»، وهي مشتّقة من مادة «لاح يلوح» بمعنى الظهور والسطوع، وحيث أنّ

[215]

المواضيع تتّضح وتظهر بكتابتها على صفحة، تسمى الصفحة لوحا(1).

ولكن ثمّة احتمالات مختلفة في الرّوايات وأقوال المفسّرين حول كيفية وجنس هذه الألواح، وحيث إنّها ليست قطعية أعرضنا عن ذكرها والتعرض لها.

2 ـ كيف كلّم الله موسى؟

يستفاد من الآيات القرآنية المتنوعة أنّ الله تعالى كلّم موسى(عليه السلام)، وكان تكليم الله لموسى عن طريق خلق أمواج صوتية في الفضاء أو في الأجسام، وربّما انبعثت هذه الأمواج الصوتية من خلال «شجرة الوادي الأيمن» وربّما من «جبل طور» وتبلغ مسمع موسى فما ذهب اليه البعض من أن هذه الآيات تدلّ على جسمانية الله تعالى جموداً على الألفاظ تصوُّر خاطىء بعيد عن الصواب.

على أنّه لا شك في أن ذلك التكلُّم كان من جانب الله تعالى بحيث أن موسى(عليه السلام) كان لا يشك عند سماعه له في أنّه من جانب الله، وكان هذا العلم حاصلا لموسى، إمّا عن طريق الوحي والإِلهام أو من قرائن أُخرى.

3 ـ عدم وجوب جميع تعاليم الألواح

يستفاد من عبارة (من كل شيء موعظة) أنّه لم تكن جميع المواعظ والمسائل موجودة في ألواح موسى(عليه السلام) لأنّ الله يقول: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة) وهذا لأجل أن دين موسى(عليه السلام) لم يكن آخر دين، ولم يكن موسى(عليه السلام) خاتم الإنبياء، ومن المسلّم أن الأحكام الإلهية التي نزلت كانت في حدود ما يحتاجه الناس في ذلك الزمان، ولكن عندما وصلت البشرية إلى آخر مرحلة حضارية للشرايع السماوية نزل آخر دستور إلهي يشمل جميع حاجات

_____________________________

1 ـ تفسير التبيان، المجلد الرّابع، الصفحة 539.

[216]

الناس المادية والمعنوية.

وتتّضح من هذا أيضاً علة تفضيل مقام علي(عليه السلام) على مقام موسى(عليه السلام) في بعض الرّوايات(1)، وهي أن علياً(عليه السلام) كان عارفاً بجميع القرآن، الذي فيه تبيان كل شيء (نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء) في حين أنّ التوراة لم يرد فيها إلاّ بعض المسائل.

4 ـ هل في الألواح تعاليم حسنة وأُخرى غير حسنة؟

إنّ ما نقرؤه في الآية (وامر قومك يأخذوا بأحسنها) لا يعني أنّه كانت في ألواح موسى تعاليم «حسنة» وأُخرى «سيئة» وأنّهم كانوا مكلَّفين بأن يأخذوا بالحسنة ويتركوا السيئة، أو كان فيها الحسن والأحسن، وكانوا مكلّفين بالأخذ بالأحسن فقط، بل ربّما تأتي كلمة «أفعل التفضيل» بمعنى الصفة المشبهة، والآية المبحوثة من هذا القبيل ظاهراً، يعني أن «الأحسنْ» هنا بمعنى «الحسن» وهذا إشارة إلى أن جميع تلك التعاليم كانت حسنة وجيدة.

ثمّ إنّ هناك احتمالا آخر في الآية الحاضرة ـ أيضاً ـ وهو أن الأحسن بمعنى أفعل التفضيل، وهو إشارة إلى أنّه كان بين تلك التعاليم أُمور مباحة (مثل القصاص) وأُمور أُخرى وصفت بأنّها أحسن منها (مثل العفو) يعني: قل لقومك ومن اتبعك ليختاروا ما هو أحسن ما استطاعوا، وللمثال يرجحوا العفو على القصاص (إلاّ في موارد خاصّة).(2)

5 ـ في مجال قوله: (سأوريكم دار الفاسقين) الظاهر أن المقصود منها هو جهنم، وهي مستقرّ كل أُولئك الذين يخرجون من طاعة الله، ولا يقومون بوظائفهم

_____________________________

1 ـ للوقوف على هذه الرّوايات يراجع تفسير نورالثقلين، المجلد الثّاني، الصفحة 68.

2 ـ ويحتمل أيضاً أن الضمير في «أحسنها» يرجع إلى «القوة» أو «الأخذ بقوة» وهو إشارة إلى أن عليهم أن يأخذوا بها بأفضل أنواع الجدية والقوة والحرص.

[217]

الإلهية.

ثمّ إنّ بعض المفسّرين احتمل أيضاً أن يكون المقصود هو أنّكم إذا خالفتم هذه التعاليم فإنكم سوف تصابون بنفس المصير الذي أصيب به قوم فرعون والفسقة الآخرون، وتتبدل أرضكم إلى دار الفاسقين(1).

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير المنار المجلد التاسع الصفحة 193.




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21334354

  • التاريخ : 28/03/2024 - 12:38

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net