[454]
الآية
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ(124)
سبب النّزول
يقول العلاّمة الطّبرسي في «مجمع البيان»: نزلت هذه الآية بشأن «الوليد بن المغيرة» (الذي كان من زعماء عبدة الأصنام دماغهم المفكر) كان هذا يقول لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إِذا كانت النّبوة حقّاً، فأنا أولى منك بها لكبر سني ولكثرة مالي.
وقيل: إِنّها نزلت بشأن «أبي جهل» لأنّه كان يقول: مقام النّبوة يجب أن يكون موضع تنافس، فنحن وبنو عبد مناف (قبيلة رسول الله) كنّا نتنافس على كل شيء، ونجري كفرسي رهان كتفاً لكتف، حتى قالوا: إِنّ نبياً قام فيهم، وأنّه ينزل عليه الوحي فنحن لا نؤمن به إِلاّ إِذا نزل علينا الوحي كما ينزل عليه.
التّفسير
الله أعلم حيث يجعل رسالته:
تشير هذه الآية بإِيجاز إلى طريقة تفكير هؤلاء الأكابر (أكابر مجرميها)وإِلى
[455]
مزاعمهم المضحكة الباطلة، فتقول: (وإِذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أُوتي رسل الله) كأنّ الوصول إِلى مقام النبوة وهداية الناس يعتمد على سن الشخص وماله، أو هو ميدان للمنافسة الصبيانية بين القبائل! وكأنّ على الله أن يراعي هذه الأُمور المضحكة الباطلة التي لا تدل إِلاّ على منتهى الإِنحطاط الفكري وعدم إِدراك معنى النبوة وقيادة الخليقة!
إِنّ القرآن يرد على هؤلاء بوضوح قائلا: (الله أعلم حيث يجعل رسالته).
بديهي أنّ الرسالة لا علاقة لها بالسن ولا بالمال ولا بمراكز القبائل، لأنّ شرطها الأوّل هو الإِستعداد الروحي، وطهارة الضمير، والسجايا الإِنسانية الأصيلة، والفكر السامي، والرأي السديد ثمّ التقوى إِلى درجة العصمة ... إِنّ هذه الصفات، وخصوصاً الإِستعداد لمقام العصمة لا يعلم بها غير الله، فما أبعد الفرق بين هذه الشروط وما كان يدور بخلد أُولئك.
كما إِنّ من يخلف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لابدّ أن تكون له جميع تلك الصفات عدا الوحي والتشريع، أي أنّه حامي الشرع والشريعة، والحارس على قوانين الإِسلام، والقائد المادي والمعنوي للناس، لذلك لابدّ له أن يكون معصوماً عن الخطأ والإِثم، لكي يكون قادراً على أن يوصل الرسالة إِلى أهدافها، وأن يكون قائداً مطاعاً وقدوة يعتمد عليها.
وبناءاً على ذلك، يكون إِختياره من الله أيضاً، فهو وحده الذي يعلم أين يضع هذا المقام، فلا يمكن أن يترك ذلك للناس ولا للإِنتخابات والشورى.
وفي النهاية تشير الآية إِلى المصير الذي ينتظر أمثال هؤلاء المجرمين والزّعماء الذين يدعون الباطل، فتقول: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون)(1).
_____________________________
1 ـ «الإِجرام» من «جرم» وأصله القطع، والمجرم هو الذي يقطع العهود وإرتباطة بالله بعدم إِطاعته، ولذلك أطلقت كلمة «الجرم» على الإِثم والذنب، في هذا إشارة لطيفة إِلى أنّ هناك في ذات الإِنسان إتفاق مع الحق والطهارة والعدالة، والإِجرام هو قطع هذه الإِتفاق الفطري الإِلهي.
[456]
كان هؤلاء الأنانيون بمواقفهم العدائية يريدون أن يحافظوا على مراكبهم، ولكنّ الله سينزلهم إِلى أدنى درجات الصغار والحقارة بحيث إِنّهم سيتعذبون بذلك عذاباً روحياً شديداً، مضافاً إِلى أنّهم سيلاقون العذاب الشديد في الآخرة لأنّ سعيهم على طريق الباطل كان شديداً أيضاً.
* * *
[457]
الآيات
فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاِْسْلَـمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ(125) وَهَـذَا صِرَطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الاَْيَـتِ لِقَوْم يَذَّكَّرُونَ(126) لَهُمْ دَارُا لسَّلَـمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(127)
التّفسير
الإِمدادات الإِلهية:
تعقيباً على الآيات السابقة التي دارت حول المؤمنين الصادقين والكافرين المعاندين تشرح هذه الآية النعم الإِلهية الكبيرة التي تنتظر الفريق الأوّل، والشقاء الذي سيصيب الفريق الثاني، فتقرر أنّ الله ينعم بالهداية على من يشاء، وذلك بأن يفتح صدره لتقبل الإِسلام، أمّا الذي لا يريد الله أن يوفقه لذلك ـ لسوء أعماله ـ يضيق صدره بحيث يجعله وكأنّه يريد أن يصعد إِلى السماء. (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنّما يصّعد في السماء).
[458]
ولتوكيد هذه الأمر تضيف الآية: (كذلك يجعل الله الرّجس على الذين لا يؤمنون). فيسلبهم التوفيق ويركسهم في التعاسة والشقاء.
ملاحظات
هنا يبغي أن نلاحظ النقاط التّالية:
1 ـ ما المقصود من «الهداية» و«الضلالة»؟
سبق لنا أن قلنا مرات عديدة أن المقصود من لفظي «الهداية» و«الضلالة» الإِلهيين هو توفير الظروف والمقدمات المؤدية إِلى الهداية بالنسبة للذين لهم الإِستعداد لذلك، وسلبها عن الذين لا استعداد لهم لذلك ،بالنظر إِلى أعمالهم.
إِنّ السالكين طريق الحق والباحثين عن الإِيمان المتعطشين إِليه، يضع الله في طريقهم مصابيح مضيئة لكيلا يضيعوا في ظلمات الطريق، وليصلوا إِلى منبع أكسير الحياة، أمّا الذين أثبتوا تماهلهم تجاه هذه الحقائق فهم محرومون من هذه الإِمدادات الإِلهية، وسوف يتعثرون في طريقهم بالكثير من المشاكل، ولا يوفّقون لهداية.
وبناءاً على ذلك، فلا الفريق الأوّل مجبور على السير في هذا الطريق، ولا الفريق الثاني في أعمالهم، وفي الواقع أنّ الهداية والضلال يكملان ما أرادوه هم بأنفسهم واختاروه.
>2 ـ المقصود من «الصّدر» هنا هو الروح والفكر، وهذه الكناية ترد كثيراً، والمقصود من «الشرح» هو بسط الروح وإِرتفاع الفكر واتسّاع أُفق العقل البشري، لأنّ تقبّل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية، ممّا لا يقدر عليه إِلاّ ذوو الأرواح العالية والافكار السامية.
3 ـ «الحرج» بمعنى الضيق الشديد، وهذه هي حال المعاندين وفاقدي الإِيمان، ففكرهم قاصر وروحهم ضيقة صغيرة، ولا يتنازلون في حياتهم عن شيء.
[459]
4 ـ معجزة قرآنية علمية:
إِنّ تشبيه أمثال هؤلاء بالذي يريد أن يصعد إِلى السماء، جاء لأنّ الصعود إِلى السماء صعب جدّاً، فكذلك هو قبول الحق عند هؤلاء.
إِنّنا في كلامنا اليومي نتمثل بهذا التشبيه، فإِذا أردنا أن نقول أنّ الوصول إِلى الأمر الفلاني صعب نقول: أن تصل إِلى السماء أقرب إِليك من ذلك.
بالطّبع لم يكن الطيران في السماء للبشر آنذاك أكثر من تصور، ولكن على الرغم من تحقق ذلك اليوم، فهو ما يزال صعباً، وكثيراً ما يصادف رواد الفضاء المشاكل في طيرانهم.
ويخطر في الذهن معنى ألطف من ذلك يكمل البحث السابق، وهو أنّه ثبت اليوم علمياً أنّ الهواء المجاور للارض مضغوط بشكل يصلح لتنفس الإِنسان، ولكنّنا كلما ارتفعنا قلت كثافة الهواء ونسبة وجود الأوكسجين فيه، بحيث إِنّنا إِذا ارتفعنا بضع كيلومترات أصبح من الصعب أن نتنفس بسهولة (بغير قناع الأوكسجين)، وإِذا ما واصلنا صعودنا ازداد ضيق تنفسنا واصبنا بالإِغماء، إِن ذكر هذا التشبيه في ذلك الزمن قبل أن تثبت هذه الحقيقة العملية يعتبر واحدة من معجزات القرآن العلمية.
5 ـ ما هو شرح الصدر؟
في هذه الآية يعتبر «شرح الصدر» من نعم الله الكبرى و«ضيق الصدر» من عقاب الله، كما جاء ذكر هذه النعمة في قوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)(1)ويتضح هذا أكثر عند دراسة الأشخاص، فأنت ترى بعضهم على درجة من سعة الصدر بحيث إِنّهم قادرون على إِستيعاب كل حقيقة مهما كبرت، وعلى العكس منهم نرى صدر بعضهم من الضيق بحيث لا تكاد تنفذ إِليها أية حقيقة، فأُفق
_____________________________
1 ـ الإِنشراح، 1.
[460]
رؤيتهم الفكرية محدود جدّاً ومقتصر على الحياة اليومية، فلو تهيأ لهم الأكل والنوم فكل شيء على ما يرام، وإذا اختل ذلك فقد انهارت حياتهم وانتهى كل شيء.
عند ما نزلت الآية المذكورة أعلاه، سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن معنى شرح الصدر، فقال: «نور يقذفه الله في قلب من يشاء فينشرح له صدره وينفسح».
فسألوه: ألذلك علامة يعرف بها؟
قال: «نعم، الإِنابة إِلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإِستعداد للموت قبل نزول الموت»(1) بالإِيمان والعمل الصالح السعي في سبيل الله.
الآية التّالية تؤكّد البحث السابق فتقول: إِنّ المدد الإِلهي الذي يشمل السالكين سبيل الله ويسلب عن الذين يتنكبون عن سبيل الله، إِنّما هو سنة إِلهية مستقيمة ثابتة لا تتبدل (وهذا صراط ربّك مستقيماً).
كما يحتمل أن يكون «هذا» إِشارة إِلى الإِسلام أو القرآن، إِذ إِنّ الصراط المستقيم هو الطريق المستقيم المستوي.
وفي ختام الآية توكيد آخر: (قد فصلّنا الآيات لقوم يذكرون) أي لمن يملكون قلوباً واعية وآذاناً سامعة.
الآية الثّالثة تشير إِلى نعمتين من أكبر النعم التي يهبها الله للذين يطلبون الحق، إِحداهما: (لهم دار السّلام عند ربّهم)، والثّانية: (وهو وليّهم)، أي ناصرهم وحافظهم، وكل ذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحات: (بما كانوا بعملون).
فأي فخر أجل وأرفع من أن يتولى الله أُمور الإِنسان ويتكفل بها فيكون حافظه ووليه، وأية نعمة أعظم من أن تكون له دار السلام، دار الأمن والأمان، حيث لا حرب ولا سفك دماء، ولا نزاع ولا خصام، ولا عنف ولا تنافس قاتل
_____________________________
1 ـ مجمع البيان، ج 4، ص 363.
[461]
ومميت، ولا تضارب مصالح، ولا كذب ولا إِفتراء، ولا إِتهام ولا حسد ولا حقد، ولا هم ولا غم، بل الهدوء والطمأنينة والهناء؟
ولكن الآية تقول أيضاً: إِنّ هذه النعم لا تأتي بمجرّد الكلام، بل هي تعطي لقاء العمل ... نعم العمل!
* * *
[462]
الآيتان
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَـمَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الاِْنسِ وَقَالَ أَوْلَيَآؤُهُم مِّنَ الاِْنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَكُمْ خَـلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّى بَعْضَ الظَّـلِمِينَ بَعْضَاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129)
التّفسير
تعود هاتان الآيتان إِلى بيان مصير المجرمين الضالين والمضلين فتكملان ما بحث في السابق، فتذكّران بيوم يقفون فيه وجهاً لوجه أمام الشياطين الذين كانوا يستلهمون منهم، فيواجه التابعون والمتبوعون سؤالا لا جواب لديهم عليه، ولا ينالون سوى التحسر والحزن، إنّها تحذيرات للإِنسان كيلا ينظر فقط إِلى أيّامه المعدودات على الأرض، بل عليه أن يفكر بالعاقبة.
تذكر الآية في البداية بذلك اليوم الذي يجتمع فيه الجن والإِنس، ثمّ يقال يا أيّها المضلون من الجن لقد أضللتم كثيراً من الناس: (ويوم يحشرهم جميعاً يا
[463]
معشر الجن قد استكثرتم من الإِنس)(1).
«الجن» هنا هم الشياطين، لأن كلمة الجن ـ كما سبق أن قلنا ـ تشمل كل كائن غير مرئي والآية (50) من سورة الكهف تذكر عن رئيس الشياطين، إِبليس إنّه (كان من الجن).
الآيات السابقة التي تحدثت عن وسوسة الشياطين الهامسة (إنّ الشياطين ليوحون إِلى أوليائهم)، وكذلك الآية التّالية التي تحدثت عن سيطرة بعض الظالمين على الآخرين، قد تكون إِشارة إِلى هذا الموضوع.
ويبدو أنّ الشياطين المضلين لا جواب لديهم على هذا السؤال ويطرقون صامتين، غير أنّ أتباعهم من البشر يقولون: ربّنا، هؤلاء استفادوا منّا كما إنّنا استفدنا منهم حتى جاء أجلنا: (وقال أولياؤهم من الإِنس ربّنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا).
أي كان شياطيننا فرحين بسيطرتهم علينا و كنّا نتبعهم مستسلمين، أمّا نحن فكنّا مستمتعين بمباهج الحياة ولذائذها غير متقيدين بشيء ولا ملتفتين إِلى سرعة زوالها، لما كان الشياطين يوسوسون به في آذاننا ويظهرونه في صور جميلة جذابة.
هنا تختلف آراء المفسّريين بشأن المقصود من كلمة «أجل»، هل هي نهاية عمر الإِنسان، أم يوم القيامة؟ ولكن الظاهر أنّ المقصود نهاية العمر لأنّ «الأجل» كثيراً ما استعمل في القرآن بهذا المعنى.
غير أنّ الله يخاطب التابعين والمتبوعين الفاسدين والمفسدين جميعاً: (قال النّار مثواكم خالدين فيها إِلاّ ما شاء الله).
إِنّ الجملة الإِستثنائية (إِلاّ ما شاء الله) إِمّا أن تكون إِشارة إِلى أن خلودهم في العذاب والعقاب، و في هذه الحالات لا يسلب القدرة من الله على تغيير
_____________________________
1 ـ «يوم» ظرف متعلق بجملة «يقول» المحذوفة فيكون أصل الجملة: (يوم يحشرهم جميعاً يقول).
[464]
الحكم، فهو قادر في أي وقت يشاء أن يغير ذلك، وإن أبقاه خالداً لجمع منهم.
وإمّا أن تكون إِشارة إِلى الذين لا يستحقون الخلود في العذاب، أو الجديرون بنيل العفو الإِلهي، فيجب إِستثناؤهم من الخلود في العذاب.
وفي الختام تقول الآية: (إِنّ ربك حكيم عليم)، فعقابه مبني على حساب دقيق، وكذلك عفوه، لأنّه عالم بمن يستحقهما.
الآية التّالية تشير إِلى سنّة إِلهية ثابتة بشأن هؤلاء الأشخاص، وتقرر أنّ هؤلاء الطغاة والظالمين سيكون وضعهم في الآخرة كما كانوا عليه في الدنيا يجر بعضهم بعضاً نحو التهلكة وسوء المصير والإِنحراف: (كذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون) وكما ذكرنا في البحوث الخاصّة بالمعاد فان يوم القيامة مشهد ردود الفعل في صور مكبرة، وما يوجد هناك إِنعكاس عن أعمالنا في هذه الدنيا.
جاء في تفسير علي بن إِبراهيم القمي عن الإِمام(عليه السلام) في معنى هذه الآية قال: «أي نولي كل من تولى أولياءهم فيكونون معهم يوم القيامة».
ومن الجدير بالملاحظة أنّ جميع هؤلاء قد وصفوا بالظلم في هذه الآية، ولا شك أنّ الظلم بمعناه الواسع يشملهم جميعاً، فأي ظلم أكبر من أن يخرج الإِنسان نفسه من ولاية الله ليداخل في ولاية المستكبرين ويتّبعهم فيكون في العالم الآخر تحت ولايتهم أيضاً.
ثمّ إِنّ هذا التعبير، وكذلك تعبير (بما كانوا يكسبون) يشيران إِلى أنّ هذا المصير السيء إِنّما هو بسبب أعمالهم، وهذه سنة إِلهية وقانون الخليقة القاضي بأنّ السائرين في الظلام لابدّ أن يسقطوا في هوة التعاسة والشقاء.
* * *
[465]
الآيات
يَـمَعْشَرَ الجِنِّ وَالاِْنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءَايَـتِى وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَـفِرِينَ(130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْم وَأَهْلُهَا غَـفِلُونَ(131) وَلِكُلٍّ دَرَجَـتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَـفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)
التّفسير
إِتمام الحجة:
ورد وصف مصير الظالمين من أتباع الشياطين يوم القيامة في الآيات السابقة ولكيلا يظن أحد أنّهم في حالة من الغفلة ارتكبوا ما ارتكبوه من إِثم، تبيّن هذه الآيات أن تحذيرهم قد تمّ بما فيه الكفاية وتمّت عليهم الحجة، لذلك يقال لهم يوم القيامة: (يا معشر الجن والإِنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا).
«معشر» من العدد «عشرة»، وبما أن العشرة تعتبر عدداً كاملا، فالمعشر هي
[466]
الجماعة الكاملة التي تضم مختلف الطوائف والأصناف، أمّا بشأن الرسل الذين بعثوا إِلى الجن هل كانوا منهم، أم من البشر؟ فهناك كلام بين المفسّرين، ولكن الذي يستفاد من آيات سورة الجن يدل بجلاء على أنّ الإِسلام والقرآن للجميع بما فيهم الجن، وأنّ نبي الإِسلام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى الجميع، ولكن هذا لا يمنع أن يكون لهم رسل وممثلون من جنسهم عهد إِليهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوتهم إِلى الإِسلام (سيأتي شرح ذلك بالتفصيل، وكذلك المعنى العلمي للجن في تفسير سورة الجن في الجزء 29 من القرآن الكريم).
ولكن ينبغي أن نعلم أنّ «منكم» لا تعني أن أنبياء كل جنس يكونون من الجنس نفسه، لأنّنا عندما نقول: «نفر منكم ...» يمكن أن يكون هؤلاء من طائفة واحدة أو من عدّة طوائف.
ثمّ تقول الآية: (قالوا شهدنا على أنفسنا) لأنّ يوم القيامة ليس يوم الكتمان، بل إِنّ دلائل كل شيء تكون بادية للعيان، وما من أحد يستطيع أن يخفي شيئاً، فالجميع يعترفون أمام هذا السؤال الإِلهي قائلين: إِنّنا نشهد ضد أنفسنا ونعترف أنّ الرسل قد جاؤونا وأبلغونا رسالاتك ولكنّنا خالفناها.
نعم ... لقد كانت أمامهم آيات ودلائل كثيرة من الله، وكان يميزون الخطأ من الصواب، إِلاّ أنّ الحياة الدنيا ببريقها ومظاهرها قد خدعتهم وأضلتهم: (وغرتهم الحياة الدنيا).
هذه الآية تدل بوضوح على أنّ العقبة الكبرى في طريق سعادة البشر هي الحبّ اللامحدود لعالم المادة والخضوع له بلا قيد ولا شرط، ذلك الحبّ الذي كبل الإِنسان بقيود الأسر ودفعه إِلى إِرتكاب كل ألوان الظلم والعدوان والإِجحاف والأنانية والطغيان.
مرّة أُخرى يؤكّد القرآن أنّهم شهدوا على أنفسهم بألسنتهم بأنّهم قد ساروا في طريق الكفر ووقفوا إِلى جانب منكري الله: (وشهدوا على أنفسهم أنّهم كانوا
[467]
كافرين).
الآية التّالية تعيد المضمون السابق بصورة قانون عام وسنة ثابتة، وهي: أنّ الله لا يأخذ الناس في المدن والمناطق المسكونة بظلمهم إِذا كانوا غافلين، إِلاّ بعد أن يرسل إِليهم الرسل لينبهوهم إِلى قبيح أعمالهم، ويحذروهم من مغبة أفعالهم: (ذلك أن لم يكن ربّك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون).
قد تعني «بظلم» أنّ الله لا يعاقب أحداً بسبب ظلمه وهو غافل عنه، وقبل أن يرسل الرسل، وقد تكون بمعنى أنّ الله لا يظلم أحداً بأن يعاقبه عمّا فعل وهو غافل، لأنّ معاقبتهم بهذه الصورة تعتبر ظلماً، والله أرفع من أن يظلم أحداً(1).
وتذكر الآية الثالثة خلاصة ما ينتظر هؤلاء من مصير وتقرر أنّ لكل من هؤلاء ـ الأخيار والأشرار، المطيعين والعصاة، طالبي العدالة والظالمين ـ درجات ومراتب يوم القيامة تبعاً لأعمالهم، وإِن ربك لا يغفل عن أعمالهم، بل يعلمها جميعاً، ويجزي كلا بقدر ما يستحق: (ولكل درجات ممّا عملوا وما ربّك بغافل عمّا يعملون).
هذه الآية تؤكّد مرّة أُخرى الحقيقة القائلة بأنّ جميع «الدّرجات» و«الدّركات» التي يستحقها الإِنسان إِنّما هي وليدة أعماله، لا غير.
* * *
_____________________________
1 ـ في الحالة الأُولى فاعل «ظلم» هم الكافرون، وفي الحالة الثانية يكون نفي الظلم عن الله تعالى.
[468]
الآيات
وَرَبُّكَ الْغَنِىُّ ذُو الرَّحْمَهِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْم ءَاخَرِينَ(133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لاََت وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(134) قُلْ يَـقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَـقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّـلِمُونَ(135)
التّفسير
الآية الأُولى تستدل على ما سبق في الآيات التي مرّت بشأن عدم ظلم الله تعالى، وتؤكّد أنّ الله لا حاجة له بشيء وهو عطوف ورحيم، وعليه لا دافع له على أن يظلم أحداً أبداً، لأن من يظلم لابدّ أن يكون محتاجاً، أو أن يكون قاسي القلب فظاً: (وربّك الغني ذو الرحمة) كما أنّه لا حاجة له بطاعة البشر، ولا يخشى من ذنوبهم، بل إِنّه قادر على إزالة كل جماعة بشرية ووضع آخرين مكانها كما فعل بمن سبق تلك الجماعة: (إِن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم من يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين).
بناءاً على ذلك فهو غني لا حاجة به إِلى شيء، ورحيم، وقادر على كل شيء، فلا يمكن إِذن أن نتصوره ظالماً.
[469]
وإِذا أدركنا قدرته التي لا حدود لها يتّضح لنا أنّ ما وعده بشأن يوم القيامة والجزاء سوف يتحقق في موعده بدون أي تخلف: (إِنّ ما توعدون لآت).
كما أنّكم لا تستطيعون أن تخرجوا عن نطاق حكمه ولا أن تهربوا من قبضته العادلة:(وما أنتم بمعجزين)(1).
ثمّ يؤمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يهددهم: (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إِنّي عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إِنّه لا يفلح الظالمون).
هنا أيضاً نلاحظ أنّ كلمة «الكفر» استعيض عنها بكلمة «ظلم»، وهذا يعني أنّ الكفر وإِنكار الله نوع من الظلم الصريح، فهو ظلم بحق النفس، وظلم بحق المجتمع، ولما كان الظلم يناقض العدالة العامّة في عالم الوجود، فهو محكوم بالإِخفاق والهزيمة.
* * *
_____________________________
1 ـ «معجزين» من «أعجز» أي جعله عاجزاً، فالآية تقول: إنّكم لا تستطيعون أن تجعلوا الله عاجزاً عن بعث الناس وتحقيق العدالة، وبعبارة أُخرى: أنتم لا تستطيعون مقاومة قدرة الله.
[470]
الآية
وَجَعَلُواللهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالاَْنْعَـمِ نَصِيباً فَقَالُوا هَـذَا للهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ للهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ(136)
التّفسير
لإِقتلاع جذور الشرك وعبادة الأصنام من الاذهان يعود القرآن إِلى ذكر العادات والتقاليد والعبادات الخرافية السائدة بين المشركين، ويثبت في بيان واضح أنّها خرافية ولا أساس لها، فقد كان كفّار مكّة وسائر المشركين يخصصون لله سهماً من مزارعهم وأنعامهم، كما كانوا يخصصون سهماً منها لأصنامهم أيضاً، قائلين: هذا القسم يخص الله، وهذا القسم يخص شركاءنا أي الأصنام: (وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا).
على الرغم من أنّ الآية تشير إِلى نصيب الله فقط، ولكن العبارات التّالية تدل على أنّهم كانوا يخصصون نصيباً للأصنام أيضاً، جاء في بعض الرّوايات: أنّهم كانوا يصرفون ما يخصصونه لله على الأطفال والضيوف، والنصيب المخصص للأصنام من الزرع والأنعام كانوا يصرفونه على خدم الأصنام والقائمين على
[471]
معابدها والأضاحي وعلى أنفسهم أيضاً(1).
سبب اعتبارهم الأصنام شركاءهم يعود إِلى كونهم يرونها شريكة لهم في أموالهم وحياتهم.
وتعبير (ممّا ذرأ) أي ممّا خلق، يشير إِلى بطلان مزاعمهم، إِذ إِنّ كل أموالهم وما يملكون هو ممّا خلق الله فكيف يجعلون نصيباً منه لله ونصيباً منه للأصنام؟!
ثمّ تشير الآية إِلى واحد من أحكامهم العجيبة وهو الحكم بأنّ ما خصصوه لشركائهم لا يصل إِلى الله، ولكن ما خصصوه لله يصل إِلى شركائهم (فما كان لشركائهم فلا يصل إِلى الله وما كان لله فهو يصل إِلى شركائهم).
اختلف المفسّرون بشأن المقصود من هذه الآية، ولكن آراءهم كلها تدور حول حقيقة واحدة، هي أنّه إِذا أصاب نصيب الله ضرر على أثر حادثة قالوا: هذا لا أهمية له لأنّ الله لا حاجة به إِليه، ولكن إِذا أصاب الضرر نصيب أصنامهم عوضوا عنه من نصيب الله، قائلين: إِنّ الأصنام أشد حاجة إِليه.
كما أنّهم إِذا نفذ الماء المار بمزرعة الله إِلى مزرعة الأصنام قالوا: لا مانع من ذلك، فالله ليس محتاجاً، ولكن إِذا حدث العكس منعوا الماء المتسرب إِلى مزرعة الله، قائلين: إِنّ الأصنام أحوج!
وفي الختام تدين الآية هذه الخرافات فتقول: (ساء ما يحكمون).
إِنّ قبح عملهم ـ فضلا عن قبح عبادة الأصنام ـ يتبيّن في الأُمور التّالية.
1 ـ على الرغم من أنّ كل شيء هو من خلق الله، وملك له دون منازع، وأنّه هو الحاكم على كل الكائنات وهو مدبرها وحافظها فإِنّهم إِنّما كانوا يخصصون جانباً من ذلك كله لله، وكأنّهم هم المالكون الأصليون، وكأنّ حق التقسيم بيدهم، (إِنّ جملة (ممّا ذرأ) تشير إِلى هذا كما قلنا).
2 ـ لقد كانوا في هذا التقسيم يلزمون جانب الأصنام ويفضلون ما لها على ما
_____________________________
1 ـ تفسير المنار، ج 8، ص 122.
[472]
لله، لذلك لم يكونوا يهتمون بما يصيب نصيب الله من ضرر، ولكنّهم كانوا يجبرون كل ضرر يصيب نصيب الأصنام من نصيب الله، فكان هذا تحيزاً إِلى جانب الأصنام ضد الله!
3 ـ يتبيّن من بعض الرّوايات أنّهم كانوا يهتمون إِهتماماً كبيراً بحصة الأصنام، فقد كان خدم الأصنام والقائمون على معابدها وكذلك المشركون يأكلون من حصة الاوثان، بينما كانوا يخصصون حصة الله للأطفال وللضيوف، وتدل القرائن على أنّ الأغنام السمينة والمحاصيل الزارعية الجيدة كانت من نصيب الأصنام، أي لمصلحة السدنة الخاصّة.
كل هذا دل على أنّهم في هذا التقسيم لم يكونوا يعترفون لله حتى بمنزلة مساوية لمنزلة الأصنام.
فأي حكم أقبح وأدعى إِلى العار من أن يعتبر إِنسان قطعة من الحجر أو الخشب الذي لا قيمة له أرفع من خالق عالم الوجود، هل هناك هبوط فكريّ أحط من هذا؟
* * *
[473]
الآية
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِير مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَـدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَُهمْ وَلَوْ شَآءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137)
التّفسير
يشير القرآن في هذه الآية إِلى عمل قبيح آخر من أعمال عبدة الأصنام القبيحة وجرائمهم الشائنة، ويذكر أنّه كما ظهر لهم أنّ تقسيمهم الحصص بين الله والأصنام عمل حسن بحيث إِنه اعتبروا هذا العمل القبيح والخرافي، بل والمضحك، عملا محموداً، كذلك زين الشركاء قتل الأبناء في أعين الكثيرين من المشركين بحيث إِنّهم راحوا يعدون قتل الأولاد نوعاً من «الفخر» و«العبادة»: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم).
«الشّركاء» هنا هم الأصنام، فقد كانوا أحياناً يقدمون أبناءهم قرابين لها، أو كانوا ينذرون أنّهم إِذا وهبوا ابناً يذبحونه قرباناً لأصنامهم، كما جاء في تاريخ عبدة الأصنام القدامى وعليه فان نسبة «التزيين» للأصنام تعود إِلى أن شدة تعلقهم بأصنامهم وحبهم لها كان يحدو بهم إِلى إِرتكاب هذه الجريمة النكراء، وإِستناداً إِلى هذا التّفسير، فإِنّ قتل الأولاد هذا لا علاقة له بوأد البنات أو قتل
[474]
الأولاد خشية الإِملاق.
يحتمل أيضاً أن يكون المقصود بتزيين الأصنام هذه الجريمة، هو أن القائمين على أمر الأصنام والمعابد هم الذين كانوا يحرضونهم على هذا العمل ويزينونه لهم، باعتبارهم الألسنة الداعية باسم الأصنام، فقد جاء في التّأريخ أنّ العرب كانوا إِذا عزموا على السفر أو الأعمال المهمّة، طلبوا الإِذن من «هبل» كبير أصنامهم، وذلك بأن يضربوا بالقداح، أي بأسهم الميسر، فقد كان هناك كيس معلق بجانب هبل فيه سهام كتب على مقابضها «افعل» أو «لا تفعل»، فكانوا يخلطون السهام ثمّ يسحبون واحداً منها، فما كتب عليه يكون هو الأمر الصادر من هبل، وبهذه الطريقة كانوا يتصورون أنّهم يكتشفون آراء أصنامهم، فلا يستبعد أنّهم في مسألة قتل أولادهم قرابين للأصنام كانوا يلجأون إِلى أولياء المعابد ليأتوهم بما تأمر به الأصنام.
هنالك أيضاً الإِحتمال القائل بأن وأد البنات ـ الذي كان سائداً، كما يقول التّأريخ بين قبائل بني تميم لرفع العار ـ كان أمراً صادراً عن الأصنام، فقد جاء في التّأريخ أنّ «النعمان بن المنذر» هاجم بعض العرب وأسر نساءهم وفيهن ابنة «قيس بن عاصم» ثمّ أقرّ الصلح بينهم وعادت كل امرأة إِلى عشيرتها، عدا ابنة قيس التي فضلت البقاء عند العدو لعلها تتزوج أحد شبانهم، فكان وقع هذا شديداً على قيس، فاقسم بالأصنام انّه إِذا رزق بابنة أُخرى فانه سوف يئدها حية، ثمّ لم يمض زمن طويل حتى أصبح هذا العمل الشائن سنّة بينهم، وباسم الدفاع عن العرض راحوا يرتكبون أفظع جريمة بقتلهم أولادهم الأبرياء(1).
وعليه، فإِنّ وأد البنات يمكن أن يكون مشمولا بمفهوم هذه الآية.
هنالك أيضاً إِحتمال آخر في تفسير هذه الآية وان لم يتطرق إِليه المفسّرون،
_____________________________
1 ـ يتصور بعض أنّ كلمة «أولاد» في الآية لا تنسجم مع هذا التّفسير، غير أنّ لهذه الكلمة معنى واسعاً يشمل الأبناء والبنات، وكما جاء في الآية (223) من سورة البقرة: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين).
[475]
وهو أنّ عرب الجاهلية كانوا على درجة من التقدير والإِحترام لأصنامهم بحيث إِنّهم كانوا يصرفون أموالهم الثمينة على تلك الأصنام وعلى خدامها المتنفذين الأثرياء، ويبقون هم في فقر مدقع إِلى الحد الذي كان يحملهم هذا الفقر والجوع على قتل بناتهم.
فهذا التعلق الشديد بالأصنام كان يزين لهم عملهم الشنيع ذاك.
ولكن التّفسير الأوّل، أي التضحية بأولادهم قرباناً للأصنام، أقرب إِلى نص الآية.
ثمّ يوضح القرآن أنّ نتيجة تلك الأفعال القبيحة هي أنّ الأصنام وخدامها ألقوا بالمشركين في مهاوي الهلاك، وشككوهم في دين الله، وحرموهم من الوصول إِلى الدين الحق: (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم).
ومع ذلك كله، فإِنّ الله قادر على أن يوقفهم عند حدهم بالإِكراه، ولكن الإِكراه خلاف سنة الله، إِنّ الله يريد أن يكون عباده أحراراً لكي يمهد أمامهم طريق التربية والتكامل، وليس في الإِكراه تربية ولا تكامل: (ولو شاء الله ما فعلوه).
ومادام هؤلاء منغمسين في أباطيلهم وخرافاتهم دون أن يدركوا شناعتها، بل الأدهى من ذلك أنّهم ينسبونها أحياناً إِلى الله، إِذن فاتركهم وإِتهاماتهم والتفت إِلى تربية القلوب المستعدة: (فذرهم وما يفترون).
* * *
[476]
الآيتان
وَقَالُوا هَـذِهِ أَنْعَـمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّيَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَـمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَـمٌ لاَّيَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(138) وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَـذِهِ الاَْنْعَـمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ(139)
التّفسير
تشير هذه الآيات إِلى بعض الأحكام الخرافية لعبدة الاوثان، والتي تدل على قصر نظرتهم وضيق تفكيرهم، وتكمل ما مر في الآيات السابقة.
تذكر في البداية أقوال المشركين بشأن من لهم الحق في نصيب الأصنام من زرع وأنعام، وتبيّن أنّهم كانوا يرون أنّها محرمة إِلاّ على طائفة معينة: (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إِلاّ من نشاء بزعمهم).
ومرادهم المتولّون أُمور الأصنام والمعابد، والمشركون كانوا يذهبون إِلى أنّ لهؤلاء وحدهم الحق في نصيب الأصنام.
[477]
يتّضح من هذا أنّ القسم الأوّل من الآية يشير إِلى كيفية تصرفهم فيما يخصصونه للأصنام من الزرع والأنعام.
«الحجر» هو المنع، ولعلها مأخوذة كما يقول الراغب الأصفهاني في «المفردات» من الحجر، وهو أنّ يبنى حول المكان بالحجارة ليمنع عما وراءه، وحجر إِسماعيل سمي بذلك لأنّه مفصول عن سائر أقسام المسجد الحرام بجدار من حجر، وعلى هذا الاعتبار يطلق على «العقل» اسم «الحجر»، أحياناً، لكونه يمنع المرء من إِرتكاب الأعمال القبيحة، وإِذا ما وضع أحد تحت رعاية أحد وحمايته قيل: إِنّه في حجره، والمحجور هو الممنوع من التصرف في ماله(1).
ثمّ تشير الآية إِلى واحدة أُخرى من خرافاتهم تقضى بمنع ركوب بعض الدواب: (وأنعام حرمت ظهورها).
الظاهر أنّها هي الحيوانات التي مرّ ذكرها في تفسير الآية (103) من سورة المائدة، وهي «السائبة» و «البحيرة» و«الحام» (انظر التفسير المذكور لمزيد من التوضيح).
ثمّ تشير إلى القسم الثّالث من الأحكام الباطلة فتقول: (وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها).
ولعلها إِشارة إِلى الحيوانات التي كانوا يذكرون أسماء أصنامهم عليها فقط عند ذبحها، أو هي المطايا التي كانوا يحرمون ركوبها للذهاب إِلى الحج، كما جاء ذلك في تفسير «مجمع البيان» و«التّفسير الكبير» و«المنار» و«القرطبي» نقلا عن بعض المفسّرين، وفي كلتا الحالتين كان الحكم خرافياً لا أساس له.
والأعجب من ذلك أنّهم لم يقنعوا بتلك الأحكام الفارغة، بل راحوا ينسبون إِلى الله كل ما يخطر لهم من كذب: (إِفتراء عليه).
وفي ختام الآية، وبعد ذكر تلك الأحكام المصطنعة، تقول إِنّ الله: (سيجزيهم
_____________________________
1 ـ «حجر» في هذه الآية وصفية، بمعنى محجور، ويستوي فيها المذكر والمؤنث.
[478]
بما كانوا يفترون).
نعم، إِذا أراد الإِنسان ـ بفكره الناقص القاصر ـ أن يضع القوانين والأحكام، فلا شك أنّ كل طائفة سوف تضع من القوانين ما ينسجم وأهواءهم ومطامعهم، فيحرمون على أنفسهم أنعم الله دون سبب، أو يحللون على أنفسهم أفعالهم القبيحة، وهذا هو سبب قولنا إِنّ الله وحده هو الذي يسنّ القوانين لأنّه يعلم كل شيء ويعرف دقائق الأُمور، وهو سبحانه بمعزل عن الأهواء.
الآية التّالية تشير إِلى حكم خرافي آخر بشأن لحوم الحيوانات، يقضي بأنّ حمل هذه الأنعام يختص بالذكور، وهو حرام على الزوجات، أمّا إِذا خرج ما في بطونها ميتاً، فكلهم شركاء فيه: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإِن يكن ميتة فهم فيه شركاء).
ولابدّ من الإِشارة إِلى أنّ (هذه الأنعام) هي الحيوانات التي ذكرناها من قبل.
يرى بعض المفسّرين أنّ عبارة (ما في بطون هذه الأنعام) تشمل لبن هذه الأنعام، ولكن عبارة (وإِن يكن ميتة) تبيّن أنّ المقصود هو الجنين الذي إِذا ولد حيّاً فهو للذكور، وإِنّ ولد ميتاً ـ وهو ما لم يكن مرغوباً عندهم ـ فهم جميعاً شركاء فيه بالتساوي.
هذا الحكم لا يقوم ـ أوّلا ـ على أي دليل، وهو ـ ثانياً ـ قبيح وبشع فيما يتعلق بالجنين الميت، لأنّ لحم الحيوان الميت يكون في الغالب فاسداً ومضراً، ثمّ هو ـ ثالثاً ـ نوع من التمييز بين الرجل والمرأة، بجعل الطيب للرجال فقط، وبجعل المرأة شريكة في الفاسد فقط.
ينهي القرآن هذا الحكم الجاهلي، ويقرر أنّ الله سوف يعاقبهم على هذه الأوصاف، (سيجزيهم وصفهم).
«الوصف» هنا يشير إِلى ما كانوا ينسبونه إِلى الله، كأنّ ينسبون إِليه تحريم
[479]
هذه اللحوم بالرغم من أنّ المقصود هو الصفة أو الحالة التي تستولي على المذنب على أثر تكرار، الإِثم وتجعله مستحقاً للعقاب، وختاماً تقول: (إِنّه حكيم عليم).
فهو عليم بأعمالهم وأقوالهم وإِتهاماتهم الكاذبة، كما أنّه يعاقبهم وفق حساب وحكمة.
* * *
[480]
الآية
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَـدَهُمْ سَفَهَا بِغَيْرِ عِلْم وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَآءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ(140)
التّفسير
تعقيباً على الآيات السابقة التي تحدثت عن بعض الأحكام التافهة والتقاليد القبيحة في عصر الجاهلية الشائن، كقتل الأبناء قرباناً للأصنام، ووأد البنات خشية العار، وتحريم بعض نعم الله الحلال، تدين هذه الآية كل تلك الأعمال بشدة، في سبعة تعبيرات وفي جمل قصيرة نافذة توضح حالهم.
ففي البداية تقول: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم)، فعملهم وصف هنا بأنّه خسران بالمنظار الإِنساني والأخلاقي، وبالمنظار العاطفي والإِجتماعي، والخسارة الكبرى هي الخسارة المعنوية في العالم الآخر. فهذه الآية تعتبر عملهم أوّلا «خسراناً» ثمّ «سفاهة» وخفة عقل، ثمّ «جهلا» وكل صفة من هذه الصفات الثلاث كافية لإِظهار قبح أعمالهم، فأي عقل يجيز للأب أن يقتل أولاده بيده؟ أو ليس هذا من السفاهة وخفة العقل أن يفعل هذا ثمّ لا يخجل من فعلته، بل يعتبرها نوعاً من الفخر والعبادة؟ أي علم يجيز للإِنسان أن يعتبر هذه الأعمال قانوناً إِجتماعياً؟
[481]
من هنا نفهم ما قاله ابن عباس بشأن ضرورة قراءة سورة الأنعام لمن شاء أن يدرك مدى تخلف الأقوام الجاهليين.
ثمّ يذكر القرآن أنّ هؤلاء قد حرموا على أنفسهم ما رزقهم الله وأحله لهم وكذبوا على الله ونسبوا هذه الحرمة له سبحانه: (وحرموا ما رزقهم الله إِفتراء على الله).
في هذه العبارة إِدانة أُخرى لأعمالهم، فهم ـ أوّلا ـ حرموا على أنفسهم النعمة التي «رزقهم» إِيّاها وأباحها لهم وكانت ضرورية لحياتهم، فنقضوا بذلك قانون الله.
وهم ـ ثانياً ـ «افتروا» على الله قائلين إِنّه هو الذي أمر بذلك.
في ختام الآية وفي جملتين قصيرتين إِدانة أُخرى لهم، فهم: (قد ضلّوا)، ثمّ إِنّهم لم يسلكوا يوماً الطريق المستقيم: (وما كانوا مهتدين).
* * *
[482]
الآية
وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّـت مَّعْرُوشَـت وَغَيْرَ مَعْرُوشَـت وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَـبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـبِه كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ(141)
التّفسير
درسٌ عظيمٌ عَلى دَربِ التَوحيد:
لقد جاءَت الإِشارة في هذه الآية إِلى عدّة مواضيع، كلُ واحد منها متفرعٌ عن الآخر، ونتيجة عنه.
فهو تعالى يقول أوَّلا: إِنَّ الله تعالى هو الذي خلق أنواع البساتين والمزارع الحاوية على أنواع الأشجار والنباتات، فمنها ما يعتمد في موقفه على الأعمدة والعروش حيث تحمل ما لذّ وطاب من الفواكه والثمار، وتخلب بمنظرها الساحر العيون والالباب، ومنها ما لا يحتاج إِلى عريش، بل هو قائم على سوقه يلقي بظلاله الوارفة على رؤوس الآدميّين، ويسدّ بثماره المتنوعة حاجة الإِنسان إِلى الغذاء: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات).
[483]
لقد ذهب المفسّرون في تفسير كلمة «معروش» و«غير معروش» إِلى ثلاثة إِحتمالات:
1 ـ ما أشرنا إِليه قبل قليل، فالمعروش هو الأشجار والنباتات التي لا تقوم على سوقها بل تحتاج إِلى عروش وسُقف، وغير المعروش هو الأشجار والنباتات التي تقومُ على سوقها ولا تحتاج إِلى عروش وسُقف، (لأنَّ العرشَ يَدلُّ على ارتفاع في شيء، ولهذا يُقال لسقفِ البيت عرش، ويقال للسرير المرتفع عرش).
2 ـ إِنّ المراد من «المعروش» هو الأشجار المنزلية وما يزرعه الناس ويُحفَظ بواسطة الحيطان في البساتين، ومن «غير المعروش» الأشجار البرّية والنباتات الصحراوية والجبلية وما ينبت في الغابات.
3 ـ «المعروش» هو ما يقوم على ساقه من الأشجار أو يرتفع على الأرض، و«غير المعروش» هو الأشجار التي تمتد على الأرض.
ولكن يبدو أنّ المعنى الأوّل أنسب، هنا، ولعلّ ذكر «المعروشات» في مطلع الحديث إِنّما هو لأجل بنيان هذا النوع من الأشجار وتركيبها العجيب، فإِنّ نظرة عابرة إِلى شجرة الكرم وقضبان العنب وسيقانها الملتوية العجيبة، والمزوّدة بكلاليب ومقابض خاصّة، وكيفية التفافها بكل شيء حتى تستطيع أن تنمو، وتثمر، خير شاهد على هذا الزعم.
ثمّ إِنّ الآية تشير إِلى نوعين من البساتين والمزارع إِذ تقول: (والنخيل والزرع).
وذكر هذين النوعين بالخصوص إِنّما هو لأهميتهما الخاصّة في حياة البشر، ودورهما في نظامه الغذائي (ولابدّ أن تعرفَ أن الجنّة كما تطلَق على البستان، كذلك تطلَق على الأرض التي غّطاها الزرع).
ثمّ إِنّه تعالى يضيف قائلا: إِنَّ هذه الأشجار مختلفة ومتنوعة من حيث الثمر
[484]
والطعم. فمع أنّ جميعَها ينبت من أرض واحدة ويسقى بماء واحد فإِن لكل واحدة منها رائحة خاصّة، ونكهة معينة، وخاصية تختص بها، ولا توجد في غيرها: (مختلفاً أُكُلُه)(1).
ثمّ يُشير سبحانه إِلى قسمَين آخرين من الثمار عظيمَي الفائدة، جَليلَي النفع في مجال التغذية البشرية إِذ يقول: (والزيتون والرّمان).
إِن إِختيار هاتين بالذِكر من بين أشجار كثيرة إِنّما هو لأجل أن هاتين الشجرتين: (شجرة الزيتون وشجرة الرمان) رغم تشابههما من حيث الظاهر والمظهر تختلفان اختلافاً شاسعاً من حيث الثمرة، ومن حيث الخاصية الغذائية، ولهذا عقَّب على قولَه ذلك بهاتين الكلمتين: (متشابهاً، وغير متشابِه)(2).
وَبعد ذكر كلّ هذه النِعَم المتنوّعة يقولُ سبحانه: (كُلُوا من ثمره إِذا أثمَر، وآتوا حَقَه يومَ حصادِه).
ثمّ ينهى في نهاية المطاف عن الإِسراف إِذ يقول تعالى: (ولا تسرفوا إِنّه لا يحبّ المسرفين).
«الإِسراف» تجاوز حدّ الاعتدال في كل فعل يفعله الإِنسان. وهذه الجملة يمكن أن تكون إِشارة إِلى عدم الإِسراف في الأكل، أو عدم الإِسراف في الإِنفاق والبذل، لأنَّ البعض قد يسرف في البذل والإِنفاق إِلى درجة أنّه يهبُ كلَ ما عنده إِلى هذا وذاك، فيقع هو وأبناؤه وأهلُه في عسر وفقر وحرمان!!
بحوث
1 ـ إِرتباط هذه الآية بالآيات السابقة
في الآيات السابقة من هذه السورة جرى حديثٌ عن الأحكام الخرافية التي
_____________________________
1 ـ الأكل: بضم الألف وضم أو سكون الكاف يعني ما يُؤكَل.
2 ـ تقدم لنا توضيح في هذا المجال عند تفسير الآية (99) من نفس هذه السورة.
[485]
كانت سائدة بين الوثنيين، الذين كانوا يجعلون نصيباً من الزرع والأنعام لله، وكانوا يعتقدون بأنّ ذلك النصيب يجب أن يُصرَفَ على نحو خاص، كانوا يُحرِّمونَ ركوب بعض الأنعام، ويقدّمون أولادهم قرابين إِلى بعض الأصنام والأوثان!!
إِنَّ الآية الحاضرِة، والآية اللاحقة تحملان رَدّاً على جميع هذه الأحكام والمقررات الخرافيّة الجاهلية إِذ تقولان بصراحة، إِنّ الله تعالى هو خالق جميع هذه النِعم، فهو الذي أنشأ جميع هذه الأشجار والأنعام والزروع، كما أنّه هو الذي أمر بالإِنتفاع بها، وعدم الإِسراف فيها، وعلى هذا الأساس فليس لغيره أي حق لا في «التحريم»، ولا في «التحليل».
2 ـ ماذا تعني جُملَة
(إِذا أثمر) مع ذكر «ثمره» قبل ذلك؟ فقد وقع فيه كلام بين المفسّرين، ولكن الظاهر أن هذه الجملة تهدف إِلى تقرير وبيان أنّ بمجرد ظهور الثمار على هذه الأشجار، وظهور سنابل القمح، والحبوب في الزرع يجوز الإِنتفاع بها حتى إِذا لم يُعطَ منها حقوق الفقراء بعدُ، وإِنما يجب إِيتاء هذا الحق لأهله حين حصاد الزرع، وقطاف الثمر (يوم الحصاد) كما يقول تعالى: (وآتوا حقّه يوم حصاده).
3 ـ ما هو المراد من الحقّ الذي يجب إِعطاؤه؟
يرى البعض أنّها هي الزّكاة الواجبة المفروضة، أي عشر أو نصف عشر المحصول البالغ حدّ النصاب الشرعي.
بيد أنه مع الإِلتفات إِلى أنّ هذه السورة قد نزلت في مكّة، وأن حكم الزّكاة نزل في السنة الثانية من الهجرة أو بعد ذلك في المدينة المنورة، يبدو مثل هذا الأِحتمال بعيداً.
[486]
وقد عُرّفَ هذا الحق في روايات عَديدة وصلتنا من أهل البيت(عليهم السلام)، وكذا في روايات عديدة وردت في مصادر أهل السنة بغير الزّكاة.
وجاء فيها أنّ المراد منه هو يُعطى من المحصول إِلى الفقير عند حضوره عملية الحصاد أو القطاف، وليس له حدُّ معَين ثابت(1).
وفي هذه الحالة، هل هذا الحكم وجوبي أم استحبابي؟
يرى البعض أنه حكم وجوبي، أي أنَّ إِعطاء هذا الحق كان واجباً على المسلمين قبل تشريع حكم «الزّكاة» ولكنّه نسِخ بعد نزول آية الزّكاة، فحلّت الزّكاة بحدودها الخاصّة محل ذلك الحق.
ولكن يُستفاد من أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) أن هذا الحكم لم ينسَخ، بل هو باق في صورة الحكم الإِستحبابي، وهذا يعني أنه يُستحبُّ الآن إِعطاء شيء من المحاصيل الزراعية إِلى من يحضر عند حصادها وقطافها من الفقراء.
4 ـ يمكن أن يكون التعبير بكلمة «يوم» إِشارة إِلى أنه يُحَبّذ أن يوقَع حصاد الزرع، وقطاف الثمر في النهار حتى اذا حضر الفقراء يعطي إِليهم شيء منها، لا في الليل كما يفعل بعض البخلاء لكيلا يعرفُ أحدٌ بهم.
وقد أكّدت الرّوايات الواصلةُ إِلينا من أهل البيت(عليهم السلام) على هذا الأمر أيضاً(2).
* * *
_____________________________
1 ـ الأحاديث المذكورة ذكرها صاحب الوسائل في كتاب الزّكاة في أبواب زكاة الغلات في الباب 13، والبيهقي في كتاب السنن، ج 4، ص 132.
2 ـ راجع بهذا الصدد كتاب وسائل الشيعة كتاب الزّكاة، أبواب زكاة الغلات، باب كراهة الحصاد والجذاذ بالليل، ج 6، ص 136.
[487]
الآيات
وَمِنَ الاَْنْعَـمِ حَمُولَةً وَفَرْشَاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهَ وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَتِ الشَّيْطَـنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ(142) ثَمَـنِيَةَ أَزْوَج مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الاُْنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُْنثَيَيْنِ نَبِّئُونِى بِعِلْم إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ(143) وَمِنَ الاِْبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الاُْنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُْنثَيَيْنِ أُمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّـكُمُ اللهُ بِهَـذَا فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْم إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ(144)
التّفسير
إِنَّ هذه الآيات ـ كما أشَرنا إِلى ذلك ـ بصدد إِبطال أحكام خرافيّة جاهليّة كان المشركون يدينون بها في مجال الزراعة والأنعام.
ففي الآية المتقدمة جرى الحديث حول أنواع المزروعات والثمار التي
[488]
أنشأها الله، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول الحيوانات المحلّلة اللحم، وما تؤديه من خدمات، وما يأتي منها من منافع.
يقول أوّلا: إِنّ الله هو الذي خلق لكم حيوانات كبيرة للحمل والنقل، وأُخرى صغيرة: (ومن الأنعام حمولة وفرشاً)(1).
و«حمولة» جمع وليس لها مفرد ـ كما قال علماء اللغة ـ وتعني الحيوانات الكبيرة التي تستخدم للحمل والنقل كالإِبل والفرس ونظائرها.
و«فرش» هو بنفس المعنى المتعارف، ولكن فُسِّر هنا بالغنم وما يشابهه من الحيوانات الصغيرة، والظاهر أنّ العلة في ذلك هو أنّ هذا النوع من الأنعام لصغرها واقترابها من الأرض كالفراش في مقابل الأنعام والحيوانات الكبيرة الجثة ـ التي تقوم بعملية الحمل والنقل، كالإِبل ـ فعند ما نشاهد قطعياً من الاغنام وهي مشغولة بالرعي في الصحاري والمراعي بدت لنا وكأنّها فرش ممدودة على الأرض، في حين أن قطيع الإِبل لا يكون له مثل هذا المنظر.
ثمّ إِنّ تقابلَ «الحمولة» لـ«الفرش» أيضاً يؤيد هذا المعنى.
وقد ذهبَ بعض المفسّرين إِلى إِحتمال آخر أيضاً، وهو أن المراد من هذه الكلمة هي الفُرُش التي يتخذها الناس من هذه الأنعام والحيوانات، يعني أن الكثير من هذه الحيوانات تستخدم للحمل والنقل، كما يُستفاد منها في صنع الفُرُش. ولكن الإِحتمال الأوّل أقرب إِلى معنى الآية.
ثمّ إِنّ الآية الشريفة تخلص إِلى القول بأنه لمّا كانت جميع هذه الانعام قد خلقها الله تعالى وحكمها بيده، فإِنّه يأمركم قائلا: (كُلُوا ممّا رزقكم الله).
أمّا أنّه لماذا لا يقول: كُلُوا من هذه الأنعام والحيوانات، بل يقول: (كلوا ممّا رزقكم الله)؟ فلأن الحيوانات المحلّلة اللحم لا تنحصر في ما ذكر في هذه الآيات، بل هناك حيوانات أُخرى محلّلَة اللحم أيضاً ولكنّها لم تُذكر في الآياتِ
_____________________________
1 ـ الواو في صدر الآية هي واو العاطفة وما بعدها عطف على الجنات في الآية السابقة.
[489]
السابقةِ.
ولتأكيد هذا الكلام وإبطال أحكام المشركين الخرافية يقول: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إِنّه لكم عدوٌ مبين) فهو الذي أعلن الحرب على آدم منذ بداية الخلق.
وهذه العبارة إِشارة إِلى أن هذه الأحكام والمقررات العارية عن الدليل، والتي تنبع فقط من الهوى والجهل، ما هي إِلاّ وساوس شيطانية من شأنها أن تبعدكم عن الحق خطوةً فخطوةً، وتؤدي بكم إلى متاهات الحيرة والضلالة.
هذا وقد مرّ توضيح أكثر لهذه العبارة عند تفسير الآية (168) من سورة البقرة.
الآية الثانية تبيّن قسماً من الحيوانات المحلّلة اللحم، وبعض الأنعام التي يستفاد منها في النقل، كما يستفاد منها في تغذية البشر وطعامهم أيضاً فيقول: إِنّ الله خلق لكم ثمانية أزواج من الأنعام: زوجين من الغنم (ذكر وأُنثى)، وزوجين من المعز: (ثمانية أزواج(1) من الضأن اثنين ومن المعز اثنين).
وبعد ذكر هذه الأزواج الأربعة يأمر تعالى نَبيّهُ فُوراً بأن يسألهم بصراحة: هل أن الله حرمّ الذكور منها أم الاناث: (قل ءَآلذكرين حرّمَ أم الأُنثيين)؟! أم أنّه حرّم عليهم ما في بطون الإناث من الأغنام، أم ما في بطون الإِناث من المعز؟: (أمّا اشتملت عليه أرحام الأُنثيين)؟!
ثمّ يضيف قائلا: إِذا كنتم صادقين في أنّ الله حرّم شيئاً ممّا تدعونه، وكان لديكم ما يدلّ على تحريم أي واحد من هذه الأنعام فهاتوا دليلكم على ذلك:
_____________________________
1 ـ أزواج جمع «زوج» تعني في اللغة ما يقابل الفرد، ولكن يجب الإِنتباه إِلى أنّه ربّما يراد منه مجموع الذكر والأُثنى، وربّما يطلق على كل واحد من الزوجين، ولهذا يُطلق على الذكر والأُنثى معاً: زوجين، واستعمال لفظ الأزواج الثمانية في الآية إِشارة إِلى الذكور الأربعة من الأصناف الأربعة، والإِناث الأربع من تلك الأصناف.
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من الأزواج الثمانية في الآية: الأليف من تلك الأصناف الأربعة وما يقابلها من الوحشي، أي الذكر والأنثى من الغنم الأليف، والذكر والأُنثى من الغنم الوحشي، وهكذا ... فتكون الأزواج حينئذ الأزواج حينئذ ثمانية.
[490]
(نِبئوني بعلم إن كنتم صادقين).
ثمَ في الآية اللاحقة يبيّن الأزواج الأربعة الأُخرى من الأنعام التي خلقها الله للبشر، إِذ يقول: وخلق من الإِبل ذكراً وأُنثى، ومن البقر ذكراً وأُنثى، فأي واحد من هذه الأزواج حرّم الله عليكم: الذكور منها أم الإِناث؟ أم ما في بطون الإِناث من الإِبل والبقر: (ومن الإِبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءَآلذكرين حرّم أم الأُنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأُنثيين)؟!
وحيث أن الحكم بتحليل هذه الأنعام وتحريمها إِنّما هو بيد الله خالقها وخالق البشر وخالق العالم كله، من هنا يتوجَّب على كلّ مَن يَدّعي تحليل أو تحريم شيء منها، إِمّا أن يثبت ذلك عن طريق شهادة العقل، وإِمّا أن يكون قد أُوحي له بذلك، أو يكون حاضراً عند النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عند صدور هذا الحكم منه.
ولقد صرّح في الآية السابقة بأنّه لم يكن لدى المشركين أي دليل علميّ أو عقليّ على تحريم هذه الأنعام، وحيث أنّهم لو يَدّعوا أيضاً نزول الوحي عليهم، أو النبوة، فعلى هذا يبقى الإِحتمال الثالث فقط، وهو أن يدّعوا أنّهم حضروا عند أنبياء الله ورسله يوم أصدروا هذه الأحكام، ولهذا يقوم الله لهم في مقام الإِحتجاج عليهم: هل حضرتم عند الأنبياء وشهدتم أمر الله لهم بتحليل أو تحريم شيء من هذه الأنعام: (أم كنتم شهداء إِذ وصّاكم الله بها)؟!
وحيث إِنّ الجواب على هذا السؤال هو الآخر بالنفي والسَلب، يثبت أنّهم ما كانوا يمتلكون في هذا المجال إِلاّ الإِفتراء، ولا يستندون إِلاّ إِلى الكذب.
ولهذا يضيف في نهاية الآية قائلا: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً، ليضلّ الناس بغير علم، إِنَّ الله لا يَهدي القوم الظالمين)(1).
فُيستفاد من هذه الآية أن الإِفتراء على الله من أكبر الذنوب والآثام، إِنّه ظلم
_____________________________
1 ـ ثمّة إِحتمالات عديدة حول ما هو متعلق بالجار والمجرور في قوله: «بغير علم»، ولكن لا يبعد أن يكون هذا الظرف متعلقاً بفعل: «يضل» يعني أنّهم بسبب جهلهم يضلون الناس.
[491]
لله تعالى ولمقامه الربويّ العظيم، وظلم لعباد الله، وظلم النفس، وللتعبير بـ«أظلم» في مثل هذه الموارد كما قلنا سابقاً، جانب نسبيّ، وعلى هذا فلا مانع من استعمال نفس هذا التعبير بالنسبة إِلى بعض الذنوب الكبيرة الأُخرى.
كما ويُستفاد من هذه الآية أيضاً أن الهداية والإِضلال الإلهيين لا يكونان بالجبر، بل إِن لهما مقدمات وعللا تبدأ من الإِنسان نفسه وتتحقق بفعله هو، فعندما يعمد أحدٌ بإِختياره إِلى ممارسة الظلم والجور يحرمه الله حينئذ من عنايته وحمايته، ويتركه يضيع في متاهات الحيرة والضلالة.
* * *
[492]
الآية
قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْلَحْمَ خِنزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلاَعَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(145)
التّفسير
بعض الحيوانات المحرّمة:
ثمّ إِنّه تعالى ـ بهدف تمييز المحرمات الإِلهية عن البِدِع التي أحدثها المشركون وأدخلوها في الدين الحق ـ أمر نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية بأن يقول لهم بكل صراحة، ومن دون إِجمال أو إِبهام: (لا أجد في ما أُوحي إِليّ) من الشريعة أيَ شيء من الأطعمة يكون (محرماً على طاعِم يَطعمُه) من ذكر أو أُنثى، وصغير أو كبير.
اللّهم (إِلاَّ) عدّة أشياء، الأوّل: (أن يكون مَيتةً).
(أو) يكون (دماً مسفوحاً) وهو ما خرج من الذبيحة عند التزكية بالقدر المتعارف (لا الدّماء التي تبقى في جسم الذبيحة في عروقها الشعرية الدقيقة، بعد
[493]
خروج قدر كبير منها بعد الذبح).
(أو لحم خنزير).
لأنّ جميعَ هذه الأشياء رِجس ومنشأٌ لمختلف الأضرار (فإِنَّه رِجس).
إِنّ الضَمير في «فإِنّه» وإِن كان ضمير الإِفراد، إِلاّ أنَّه يرجع ـ حسبَ ما يذهب إِليه أكثُر المفسّرين ـ إِلى الأقسام الثلاثة المذكورة في الآية (الميتة، الدم، لحم الخنزير) فيكون معنى الجملة الأخيرة هي: فإِنَّ كلَ ما ذُكِر رجس(1). وهذا هو المناسِب لظاهر الآية وهو عودة الضمير إِلى جميع تلك الأقسام، إِذ لا شك في أن الميتة والدم هما أيضاً رجس كلحم الخنزير.
ثمّ أشار تعالى إِلى نوع رابع فقال: (أو فسقاً أُهِلَّ به لغيرِ الله)(2) أي التي لم يذكر اسم الله عليها عند ذبحها.
والجدير بالتأمل أنّه ذكرت لفظة «فسقاً» بدلا عن كلمة «الحيوان».
و«الفسق» كما أسلفنا يعني الخروج عن طاعة الله وعن رسم العبودية، ولهذا يُطلق على كل معصية عنوان الفسق.
وأمّا ذكر هذه اللفظة في هذا المورد في مقابل الرجس الذي أُطلق على الموارد الثلاثة المذكورة سابقاً، فيمكن أن يكون إِشارة إِلى أنّ اللحوم المحرمة على نوعين:
اللحوم المحرّمة لخباثتها بحيث تنفر منها الطباع، وتوجب أضراراً جسدية، ويطلق عليها وصف الرجس (أي النجس).
اللحوم التي لا تعدّ من الخبائث، ولا تستتبع أضراراً جسميّة وصحيّة، ولكنّها ـ من الناحية الأخلاقية والمعنوية ـ تدلُّ على الإِبتعاد عن الله وعن جادة التوحيد،
_____________________________
1 ـ وفي الحقيقة يكون معنى كلمة «فإنه» هو «فإن ما ذُكِرَ».
2 ـ «أُهِلَّ» أصله «الإِهلال»، وهو مأخوذ في الأصل من الهلال، والإِهلال يعني رفع الصَوت عند رؤية الهلال، ثمّ استعمل لكل صوت رفيع، كما أنه يطلق على بكاء الصبي عند الولادة الإِستهلال، وحيث أنّهم كانوا يذكرون أسماء أصنامهم بصوت عال عند ذبح الأنعام عبِرّ عن فعلهم هذا بالإِهلال.
[494]
ولهذا حُرّمت أيضاً.
وعلى هذا الأساس لا يجب أن نتوقع أن تنطوي اللحوم المحرمة دائماً على أضرار صحيّة، بل ربّما حُرّمت لأجل أضرارها المعنوية والأخلاقية، ومن هنا يتضح أنّ الشروط الإِسلامية المقرَّرة في الذبح على نوعين أيضاً:
بعضها ـ مثل قطع الأوداج الأربعة، وخروج القدر المتعارف من دم الذبيحة ـ لها جانب صحِّي.
وبعضها الآخر ـ مثل توجيه مقاديم الذبيحة نحو القبلة عند الذبح، وذكر اسم الله عنده، وكون الذابح مسلماً ـ لها جانب معنويّ.
ثمّ إِنّه سبحانه استثنى ـ في آخر الآية ـ من اضطر إِلى تناول شيء ممّا ذكر من اللحوم المحرَّمة، كما لو لم يجد أيّ طعام آخر وتوقفت حياته على تناول شيء من تلك اللحوم، إِذ قال: (فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد فإِنَّ ربّك غفُورٌ رحيمٌ)(1) يعني أنّ من اضطرّ إِلى أكل شيء ممّا ذكرِ من المنهيّات فلا إثم عليه، بشرط أن يكون للحفاظ على حياته، لا للذة، ولا مستحلاًّ لما حرّمه الله، أو متجاوزاً حدّ الضرورة، ففي هذه الصورة (فان ربّك غفور رحيم).
وإِنّما اشترِطَ هذان الشرطان لكي لا يتذرع المضطرون بهذه الإِباحة فيتعدّوا حدودَ ما قرَّره الله بحجة الإِضطرار، ويتخذوا من ذلك ذريعة لتجاهل حِمى القوانين الإِليهة.
ولكنّنا نقرأ في بعض الأحاديث الواردة عن آل البيت(عليهم السلام)، مثل الحديث المنقول عن الإِمام الصادق(عليه السلام): «الباغي:الظالم، والعادي: الغاصب»(2).
كما نقرأ في حديث آخر منقول عن الإِمام(عليه السلام) أنّه قال: «الباغي: الخارج على
_____________________________
1 ـ «الباغي» من «البَغْي» وهو يعني الطلب، «والعادي» من «العَدْو» وهو يعني التجاوز.
2 ـ بحار الأنوار، ج 65، ص 136 و137.
[495]
الإِمام، والعادي: اللص»(1).
هذه الرّوايات ونظائرها تشير إِلى أنّ الإِضطرار إِلى تناول اللحوم المحرمة يتفق عادة في الأسفار، فإِذا أقدم أحد على السَفَر في سبيل الظلم أو الغصب أو السرقة ثمّ فَقَد الطعامَ الحلال في خلال السفر لم يجز له تناول اللحوم المحرّمة، وإِن كانت وظيفته ـ للحفاظ على حياته من التلف ـ هو التناول من تلك اللحوم، ولكنّه يعاقب على إِثمه هذا، لأنّه أوجد بنفسه المقدمات لمثل هذا السَفَر الحرام، وعلى كلِ حال فإِنَّ هذه الرّوايات تنسجم مع المفهومِ الكليّ للآية انسجاماً كاملا.
جوابٌ على سؤال:
وهنا ويطرح سؤال هو: كيف حُصِرَت جميع المحرمات الإِلهية ـ في مجال الأطعمة ـ في أربعة أشياء، مع أنّنا نعلم بأنّ الأطعمة المحرمة لا تنحصر في هذه الأشياء، مثل لحوم الحيوانات المفترسة، ولحوم الحيوانات البحرية (إِلاّ ما كان له فلس من الأسماك) وما شابه، فهذه كلّها حرام، في حين لم يجيء في الآية أيُ ذكر عن تلك اللحوم، بل حصرت المحرمات في هذه الأشياء الأربعة؟!
قال البعض في مقام الإِجابة على هذا السؤال، بأنَّ هذه الآيات نزلت في مكّة وحكم الأطعمة المحرمة الأُخرى لم ينزل بعدُ.
غير أنّ هذه الإِجابة تبدو غير صحيحة، والشاهد على ذلك أنّ نفس هذا التعبير أو نظيره قد ورد في السُوَر المدنية مثل الآية (173) من سورة البقرة.
والظاهر أنّ هذه الآية ناظرة ـ فقط ـ إِلى نفي الأحكام الخرافية التي كانت شائعة وسائدة في أوساط المشركين، فالحصر «حصر إِضافي» لا حقيقيّ.
وبعبارة أُخرى: كأنَّ الآية تقول: المحرمات الإِلهية هذه، وليس ما نسجته أوهامُكم.
_____________________________
1 ـ بحار الأنوار، ج 65، ص 136 و137.
[496]
ولكي تتضح هذه الحقيقة لا بأس بأنّ نضرب لذلك مثلا.
يسألنا أحد: لها جاء الحسن والحسين كلاهما، فنجيب: كلا بل جاء الحسن فقط، لا شك أننا هنا نريد نفي مجيء الشخص الثاني (أي الحسين) ولكن لا مانع من أن يكون آخرون ـ ممن لم يكونوا محور حوارنا أصلا ـ قد جاؤوا أيضاً، وهذا هو ما يسمى بالحصر الإضافي (أو النسبيّ).
نعم، لابدّ من الإِنتباه إِلى نقطة مهمّة، وهي أنّ ظاهرَ الحصر عادةً ـ الحصرُ الحقيقي إِلاّ في الموارد التي يوجد فيها قرائن صارفة عن مدلول الظاهر مثل ما نحن فيه الآن.
* * *
[497]
الآيتان
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُر وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْم ذَلِكَ جَزَيْنَـهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَـدِقُونَ(146)فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَة وَسِعَة وَلاَيُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الُْمجْرِمِينَ(147)
التّفسير
ما حُرِّم على اليهود:
في الآيات السابقة حُصِرت المحرمات من الحيوان في أربعة، غير أنَّ هاتين الآيتين تشيران إِلى بعض ما حرم على اليهود ليتبيّن أن أحكام الوثنيين الخرافية والمجهولة لا تنطبق لا على أحكام الإِسلام، ولا على دين اليهود (بل ولا على دين المسيح الذي يتبع في أكثر أحكامه الدين اليهودي).
ثمّ إِنّه قد صُرِح في هذه الآيات أن هذا النوع من المحرمات على اليهود كان له طابع المعاقبة وصفة المجازاة، ولو أنّ اليهود لم يرتكبوا الجنايات والمخالفات لما حُرِّم عليهم هذه الأُمور، وعلى هذا الأساس لسائل أن يسأل الوثنيين: من أين
[498]
أتيتم بهذه الأحكام المصطنعة؟
ولهذا يقول سبحانه في البداية: (وعلى الذين هادُوا حَرّمنا كلَ ذي ظُفُر).
و«الظُفر» هو في الأصل المخلب، ولكنّه يُطَلق أيضاً على ظلف الحيوانات من ذوات الأظلاف (من الحيوانات التي لها أظلاف غير منفرجة الأصابع كالحصان لا كالغنم والبقر التي لها أظلاف منفرجة) لأنّ أظلافها تشبه الظُفر، كما أنّه يُطلق على خف البعير الذي يكون منتهاه مثل الظفر، ولا يكون فيه إِنشِقاق وإِنفراج مثل إِنفراج الأصابع.
وعلى هذا الأساس فإِنّ المستفاد من الآية المبحوثة هو أنّ جميع الحيوانات التي لا تكون ذات أظلاف ـ دواباً كانت أو طيوراً ـ كانت محرَّمة على اليهود.
ويستفاد هذا المعنى ـ على نحو الإِجمال أيضاً ـ من سفر اللاويين من التّوراة الحاضرة الإصحاح 11 حيث يقول:
«وأمر الربّ موسى وهارون: أوصيا بني إِسرائيل: هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع بهائم الارض: تأكلون كل حيوان مشقوق الظّلف ومجتر، أمّا الحيوانات المجترة فقط ذو المشقوقة الظلف فقط، فلا تأكلوا منها، فالجمل غير طاهر لكم لأنّه مجتر ولكنّه غير مشقوق الظلف»(1).
كما أنّه يمكن أن يستفاد من العبارة التّالية في الآية المبحوثة التي تحدثت عن خصوص البقر والغنم فقط حرمة لحم البعير على اليهود بصورة كلية أيضاً. (تأمل بدقّة).
ثمّ يقول سبحانه: (ومِنَ البَقَر والغَنَم حَرَّمنا عليهم شحومهما).
ثمّ يستثني بعد هذا ثلاثة موارد: أوّلها الشحوم الموجودة في موضوع الظهر من هذين الحيوانين إِذ يقول: (إِلاّ ما حملت ظهورُهما).
_____________________________
1 ـ الكتاب المقدس، سفر اللاّويين، الاصحاح 11،ص 142.
[499]
وثانياً: الشّحوم الموجودة على جنبيها، أو بين أمعائها: (أو الحوايا)(1).
وثالثاً: الشحوم التي امتزجت بالعظم والتصقت به (أو ما اختلط بعظم).
ولكنّه صرّح في آخر الآية بأنّ هذه الأُمور لم تكن محرّمة على اليهود ـ في الحقيقة ـ ولكنّهم بسبب ظلمهم وبغيهم حُرمُوا ـ بحكم الله وأمره ـ من هذه اللحوم ولشحوم التي كانوا يحبُّونها (ذلك جزيناهم ببغيهم).
ويضيف ـ لتأكيد هذه الحقيقة ـ قوله: (وإِنّا لصادقون) وإِن ما نقوله هو عين الحقيقة.
بحثان
1 ـ ماذا كان يقترف بنو إِسرائيل؟
لابدّ أن نرى هنا أي ظلم كان يقترفه بنو إِسرائيل أوجب أن يحرّم الله تعالى عليهم هذه النِعم التي كانوا يحبّونها؟!
هناك مذاهب متباينة للمفسّرين في هذا الصعيد، ولكن ما يستفاد من الآية (160 و161) من سورة النساء، هو أنّ علّة التحريم المذكور كان عدة أُمور:
ظلمهم للضعفاء، ومعارضتهم للأنبياء، ومنعهم من هداية الناس، وأكل الربا، وأكل أموال الناس بالباطل، إِذ يقول:
(فبظلم مِنَ الذين هادُوا حَرّمْنا عليهم طيّبات أُحِلَّت لهم، وبصدِّهم عن سَبيل الله كثيراً وأخذِهِمُ الرَّبا، وَقد نهوا عَنه وأكلهم أموالَ الناس بالباطِل).
2 ـ ما معنى «إنّا لصادقون»؟
إِنّ عبارة (وإِنّا لصادقون) التي جاءت في آخر الآية يمكن أن تكون إِشارة إِلى هذه النقطة وهي: أنّ الصدق والحق في مسألة تحريم هذه الأطعمة هو ما قلناه لا ما قاله اليهود في بعض كلامهم، وهو أنّ تحريم هذه الأطعمة واللحوم إِنّما
_____________________________
1 ـ «الحوايا» جمع «حاوية» وهي مجموعة ما يوجد في بطن الحيوان والتي تكون على هئية كرة تتضمّن الأمعاء.
[500]
كان من جانب إِسرائيل (يعقوب)، لأن يعقوب ـ كما جاء في الآية (93) من سورة آل عمران ـ لم يحكم بحرمة هذه الأشياء أبداً، وليس هذا سوى تهمة ألصقتها اليهود به.
* * *
ولما كان عنادُ اليهود المشركين أمراً بيّناً، وكان من المحتمل أن يتصلّبوا ويتمادوا في تكذيب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أمرَ الله تعالى نبيّه في الآية الاُخرى أنّهم إِن كذّبوه يقول لهم: إِنّ ربّكم ذو رحمة واسعة فهو لا يسارع إِلى عقوبتكم ومجازاتكم، بل يمهلكم لعلكم تؤوبون إِليه، وترجعون عن معصيتكم، وتندمون من أفعالكم وتعودون إِلى الله، (فإِنّ كذّبوك فقل رَبّكُم ذو رَحمة واسعة).
ولكن اِذا أساؤوا فهم أو استخدام هذا الإمهال الإِلهي، واستمروا في كيل التهم فيجب أن يعلموا أنّ عقاب الله إِيّاهم حتميّ لا مناص منه، وسوف يصيبهم غضبه في المآل: (ولا يُرَدُّ بأسُه عن القوم المجرمين).
إِنَّ هذه الآية تكشف ـ بوضوح ـ عن عظمة التعاليم القرآنية، فإِنّه بعد شرح وبيان كل هذه المخالفات التي ارتكبها اليهود والمشركون لا يعمد إِلى التهديد بالعذاب فوراً، بل يترك طريق الرجعة مفتوحاً، وذلك بذكر عبارات تفيض بالحب مثل قوله: «ربّكم» «ذو رحمة» «واسعة» أوّلا. حتى إِذا كان هناك أدنى استعداد للرجوع والإِنابة في نفوسهم شوّقتهم هذه العباراتُ العاطفية على العودة إلى لطريق المستقيم.
ولكن حتى لا تبعث سعة الرحمة الإِلهية هذه على التمادي في غيهم، وتتسبّب في تزايد جرأتهم وطغيانهم، وحتى يكفوا على العناد واللجاج هدّدهم في آخر جملة من الآية بالعقوبة الحتمية.
* * *