00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة الانعام من آية 54 ـ 79 من ( ص 303 ـ 354 )  

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الرابع)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

[303]

الآيتان

وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بَأَيَـتِنَا فَقُلْ سَلَـمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءَاً بِجَهَـلَة ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاْيَـتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْـمُجْرِمِينَ(55)

التّفسير

يرى بعض المفسّرين أنّ الآية نزلت بشأن الذين نهت الآيات السابقة عن طردهم وإِبعادهم، ويرى بعض آخر أنّها نزلت في فريق من المذنبين قدموا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: إِنّهم قد أذنبوا كثيراً، فسكت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت الآية.

ومهما يكن سبب نزول الآية، فالذي لا شك فيه أنّ معناها واسع وشامل، لأنّها تبدأ أوّلا بالطلب من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يطرد المذنبين مهما عظمت ذنوبهم، بل عليه أن يستقبلهم ويتقبلهم: (وإِذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم).

يحتمل أن يكون هذا السّلام من الله بوساطة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو أنّه من الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة، وهو ـ على كلا الإِحتمالين دليل على القبول والترحيب

[304]

والتفاهم والمحبّة.

ثمّ تقول الآية (كتب ربّكم على نفسه الرحمة).

«كتب» تأتي في كثير من الأحيان كناية عن الالزام والتعهد، إِذ إِنّ من نتائج الكتابة توكيد الأمر وثبوته.

وفي الجزء الأخير من الآية ـ وهو توضيح وتفيسر لرحمة الله ـ يتحدث بلهجة عاطفية: (أنّه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثمّ تاب من بعده وأصلح فأنّه غفور رحيم).

وقد سبق القول(1) أنّ «الجهالة» في مثل هذه المواضع تعني طغيان الشهوة وسيطرتها، والإِنسان بسبب هذه الأهواء المستفحلة، لا بسبب عدائه لله وللحق ـ يفقد المقدرة العقيلة والسيطرة على الشهوات، مثل هذا الشخص ـ وإِن كان عالماً بالذنب والحرمة ـ يسمى جاهلا، لأنّ علمه مستتر وراء حجب الأهواء والشهوات، وهذا الشخص مسؤول عن ذنوبه، ولكنّه يسعى لإِصلاح نفسه وجبران أخطائه لأنّ أفعاله لم تكن عن روح عداء وخصام.

تأمر الآية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يطرد أي شخص مؤمن مهما تكن طبقته وظروفه وعنصره، بل عليه أن ينظر إِلى الجميع بعين المساواة، وأن يحتضنهم ويعمل على إِصلاحهم حتى وإِن كانوا ملوثين بالذنوب.

الآية التّالية ومن أجل توكيد هذا الموضوع تشير إِلى أنّ الله سبحانه يوضح آياته وأوامره توضيحاً بيّناً لكي يتبيّن طريق الباحثين عنه والمطيعين له، كما يتبيّن طريق الآثمين المعاندين من أعداء الله: (وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين)(2).

_____________________________

1 ـ المجلد الثّالث من هذا التّفسير.

2 ـ جملة «ولتستبين» معطوفة في الواقع على جملة محذوفة تدرك بالقرينة، فيكون المعنى لتستبين سبيل المؤمنين المطيعين ولتستبين سبيل المجرمين.

[305]

من الواضح في هذه الآية أنّ «المجرم» ليس كل مذنب، لأنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)مكلّف في هذه الآية أن يتقبل المذنبين الذين يقبلون عليه، مهما يكن جرمهم الذي ارتكبوه عن جهل، وعليه فان المجرمين هنا هم أُولئك المذنبون المعاندون الذين لا يستسلمون للحق.

أي بعد هذه الدعوة العامّة إِلى الله، التي تشمل حتى المجرمين النادمين يتّضح بشكل كامل طريق المعاندين الذين لا يرجعون عن عنادهم.

* * *

[306]

الآيات

قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(56) قُلْ إِنِّى عَلَى بَيِّنَة مِّن رَّبِّى وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَـصِلِينَ(57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَاتَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الاَْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّـلِمِينَ(58)

التّفسير

الإِصرار العقيم:

ما يزال الخطاب في هذه الآيات موجهاً إِلى المشركين وعبدة الأصنام المعاندين ـ كدأب معظم آيات هذه السورة ـ يبدو من سياق هذه الآيات أنّهم دعوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى إِعتناق دينهم، الأمر الذي يستدعي نزول الآية: (قل إِنّي نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله)(1).

_____________________________

1 ـ إستعمال «الذين» التي هي للجمع المذكر العاقل، لا للإِشارة إِلى الأصنام، يدل على أنّ الكلام يجري وفق وجهة نظر المشركين.

[307]

جملة «نُهيتُ» التي وردت بصيغة الماضي ومبنية للمجهول تشير إِلى أنّ النهي عن عبادة الأصنام ليس أمراً جديداً، بل كان دائماً قائماً وسيبقى كذلك.

ثمّ بجملة (قل لا أتبع أهواءكم) يجيب بوضوح على إِصرارهم العقيم، بالنظر لأنّ عبادة الأصنام لا تتفق مع المنطق ولا مع الأدلة العقلية، لأنّ العقل يدرك بسهولة أن الإِنسان أشرف من الجماد، فكيف يمكن للإِنسان أن يخضع لأي مخلوق آخر فضلا عن المخلوق الأدني؟ هذا مع أنّ هذه الأصنام هي من صنع الإِنسان نفسه فكيف يتخذ الإِنسان ما خلقه بنفسه معبوداً يعبده ويلجأ إليه في كل مشاكله؟ وبناء على ذلك، فإِنّ منشأ عبادة الأصنام ليس سوى التقليد الأعمى والإتّباع المقيت للأهواء والشهوات.

وفي ختام الآية يؤكّد القرآن مرّة أُخرى على أنّه إِذا فعل ذلك (قد ضللت إِذاً وما أنا من المهتدين).

الآية التّالية تتضمّن جواباً آخر، وهو: (قل إِنّي على بيّنة من ربّي وكذبتم به).

«البيّنة» أصلا ما يفصل بين شيئين بحيث لا يكون بينهما تمازج أو اتصال، ثمّ أطلقت على الدليل والحجة الواضحة، لأنّها تفصل بين الحق والباطل.

وفي المصطلح الفقهي تطلق «البيّنة» على الشاهدين العدلين، غير أنّ معنى الكلمة اللغوي واسع جداً، وشهادة العدل واحد من تلك المعاني، وكذلك كانت المعجزة بيّنة لأنّها تفصل بين الحق والباطل، وإِذا قيل للآيات والأحكام الإِلهية بينات فلكونها من مصاديق الكلمة الواسعة.

وعليه، فرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمر في هذه الآية أن يقول: إِنّ دليلي في قضية عبادة الله ومحاربة الأصنام واضح وبيّن، وان تكذيبكم وإِنكاركم لا يقللان من صدق الدليل.

ثمّ يشير إِلى حجّة واهية أُخرى من حججهم، وهي أنّهم كانوا يقولون: إِن

[308]

كنت على حق فعلا فعجل بالعقاب الذي تتوعدنا به، فيقول لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (ما عندي ما تستعجلون به)، لأنّ الأعمال والأوامر كلها بيد الله: (إِن الحكم إِلاّ لله).

وبعد ذلك يقول مؤكداً: إِنّ الله هو الذي: (يقص الحق وهو خير الفاصلين).

بديهي أنّ القادر على أن يفصل بين الحق والباطل على خير وجه هو الذي يكون أعلم الجميع، ومن السهل عليه التمييز بين الحق والباطل، ثمّ تكون له القدرة الكافية على استخدام علمه، وهاتان الصفتان (العلم والقدرة) هما من صفات الذات الإِلهية اللامحدودة، وعليه فإنّه عزّ وجلّ خير من يقص الحق، أي يفصل الحق من الباطل.

الآية التّالية تأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهؤلاء الجماعة الملحاحة العنيدة الجاهلة: لو أن ما تطلبونه مني على عجل كان في سعتي وقدرتي، وأجبتكم إِليه لإنتهى الأمر، ولم يعد بيني وبينكم شيء: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم).

ولكيلا يظنوا أن عقابهم قد طواه النسيان، يقول في النهاية (والله أعلم بالظالمين) وسوف يعاقبهم في الوقت المناسب.

* * *

بحوث

هنا لابدّ من ذكر بعض النقاط:

1 ـ يستفاد من آيات القرآن أنّ كثيراً من الأُمم الماضية طلبوا مثل هذا الطلب من أنبيائهم، وهو: إِذا كنت صادقاً فيما تقول فلماذا لا ترسل علينا العقاب الذي تتوعدنا به؟

[309]

قوم نوح(عليه السلام) طلبوا منه ذلك (قالوا يا نوح قد جادلتنا فاكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصّادقين)(1) ونظير ذلك جاء على لسان قوم صالح(2)وكذلك فعل قوم عاد مع نبيّهم هود(3).

ويستفاد من سورة الإِسراء أنّ هذا الطلب قد تكرر لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنّهم قالوا له: إِننا لا نؤمن لك (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً)(4).

كان الدافع إِلى هذه الطلبات غير المعقولة السخرية والإِستهزاء، أو الرغبة في رؤية المعجزة، وفي كلتا الحالتين كان الطلب أحمقاً، إِذ في الحالة الثانية يكون تحقق الطلب سبباً في إِبادتهم، ولا يكون ثمّة مجال للإِستفادة من ظهور المعجزة، وفي الحالة الأُولى كان لدى الأنبياء أدلة بينة توفر ـ على الأقل ـ احتمال التصديق عند كل ناظر بصير، فكيف يمكن مع هذا الإِحتمال أن يطلب أحد القضاء على نفسه، أو أن لا يأخذ المسألة مأخذ الجد، غير أنّ التعصب والعناد بلاء عظيم يقفان بوجه كل فكر ومنطق.

2 ـ إِنّ معنى (إِن الحكم إِلاّ لله) واضح، أي أنّ كل أمر في عالم الخلق والتكوين وفي عالم الأحكام والتشريع بيد الله، وبناء على ذلك إِذا كان لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوم بمهمّة فذلك أيضاً بأمر من الله.

فإِذا أحيا المسيح(عليه السلام) ميتاً ـ مثلا ـ فهو بإِذن الله، وكذلك كل منصب ـ بما في ذلك القيادة الإِلهية والتحكيم والقضاء ـ إِذا أوكل إِلى أحد، فإِنّما هو بأمر الله تعالى.

ولكنّ الذي يؤسف له أنّ هذه الآية الواضحة استغلت على مدى التّأريخ، فمرّة تمسك بها الخوارج في قضية «الحكمين» التي أرادوها هم وأمثالهم في

_____________________________

1 ـ هود، 32.

2 ـ الاعراف، 77.

3 ـ الأعراف، 70.

4 ـ الإِسراء، 91.

[310]

حرب «صفين» فكانت «كلمة حق أُريد بها باطل» كما قال الإِمام علي(عليه السلام)، حتى أصبح شعارهم (لا حكم إِلاّ لله).

لقد كانوا من الجهل والبلاهة إِنّهم حسبوا أن من حكم بأمر الله والإِسلام في أمر من الأُمور يكون قد خالف (إِن الحكم إِلاّ لله) بينما كانوا يقرأون القرآن كثيراً، ولكن لا يفهمونه إِلاّ قليلا، فالقرآن نفسه في موضوع الإِحتكام العائلي يصرح بإِختيار حكم من جانب الزوجة وحكم من جانب الزوج: (فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها)(1).

واعتبر بعض آخر هذه الآية ـ كما يقول الفخر الرازي في تفسيره ـ دليلا على الجبرية، قائلين إِنّنا إِذا قبلنا بأنّ الأوامر في عالم الخلق بيد الله، فلا يبقى لأحد مجال للإِختيار.

ولكنّنا نعلم أنّ حرية إِرادة عباد الله وحرية إِختيارهم هي أيضاً، بأمر من الله الذي شاء أن يكونوا أحراراً في إِختيار ما يعملون، لكي يحملهم مسؤولية أعمالهم والتكاليف الملقاة على عواتقهم.

3 ـ «يقص» في اللغة ترد بمعنى القطع، وفي القاموس: «قص الشعر والظفر أي قطع منهما بالمقص أي المقراض»، وعلى هذا يكون معنى و(يقص الحق) إِنّ الله يقطع الحق عن الباطل ويفصل بينهما، ولذلك يتلوها بقوله: (هو خير الفاصلين)للتوكيد، فالفعل «يقص» هنا لا يعني سرد حكاية، كما ظن بعض المفسّرين.

* * *

_____________________________

1 ـ النساء، 35.

[311]

الآيات

وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِى ظُلُمَـتِ الاَْرْضِ وَلاَرَطْب وَلاَيَابِس إِلاَّ فِى كِتَـب مُّبِين(59) وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّـكُم بِالَّيْلِ ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كِنتُمْ تَعْمَلُونَ(60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ(61)ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَـهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَـسِبِينَ(62)

التّفسير

أسرار الغيب:

في هذه الآيات يدور الكلام حول علم الله وقدرته وسعة حكمه وأمره، وهي تشرح ما اجملته الآيات السابقة.

[312]

تشرع الآية في الكلام على علم الله فتقول: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمهاهو).

«مفاتح» جمع «مفتح» (بكسر الميم وفتح التاء) وهو المفتاح، أمّا إِذا كانت بفتح الميم فهي بمعنى الخزانة التي تختزن فيها الأشياء.

وعلى الأوّل يكون المعنى: إنّ جميع مفاتيح الغيب بيد الله.

وعلى الثّاني يكون المعنى: إنّ جميع خزائن الغيب بيد الله.

ويحتمل أن يكون المعنيان قد اجتمعا في عبارة واحدة، وكما هو ثابت في علم الأُصول، فإِن استعمال لفظة واحدة لعدة معان لا مانع منه، وعلى كل حال فهاتان الكلمتان متلازمتان، لأنّه حيثما كانت الخزانة كان المفتاح.

وأغلب الظن أنّ «مفاتح» بمعنى «مفاتيح» لا بمعنى «خزائن» لأنّ الهدف هو بيان علم الله، فتكون المفاتيح وسائل لمعرفة مختلف الذخائر وهو أنسب بالآية، وفي موضعين آخرين في القرآن ترد كلمة «مفاتح» بمعنى المفاتيح(1).

ثمّ لتوكيد ذلك أكثر يقول: (ويعلم ما في البرّ والبحر).

«البرّ» كل مكان واسع فسيح، وتطلق على اليابسة، «والبحر» كذلك تعني المحل الواسع الذي يتجمع فيه الماء، وتطلق على البحار والمحيطات وعلى الأنهر العظيمة أحياناً.

فالقول بأنّ الله يعلم ما في البر والبحر، كناية عن إِحاطته بكل شيء، وهذه الإِحاطة بما في البرّ والبحر إِنّما تمثل في الحقيقة جانباً من علمه الأوسع.

فهو عالم بحركة آلاف الملايين من الكائنات الحية، الكبيرة والصغيرة، في أعماق البحار.

وهو عالم بارتعاش أوراق الأشجار في كل غابة وجبل.

وهو عالم بمسيرة كل برعمة وتفتح أوراقها.

_____________________________

1 ـ (ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أُولي القوة) (القصص، 76) و(أو ما ملكتم مفاتحه) (النّور، 61).

[313]

وهو عالم بجريان النسيم في البوادي ومنعطفات الوديان.

وهو عالم بعدد خلايا جسم الإِنسان وكريات دمه.

وهو عالم بكل الحركات الغامضة في الإِلكترونات في قلب الذّرة.

وهو عالم بكل الأفكار التي تمرّ بتلافيف أدمغتنا حتى أعماق أرواحنا ... نعم أنّه عالم بكل ذلك على حدّ سواء.

لذلك فإِنّه يؤكّد ذلك مرّة أُخرى فيقول: (وما تسقط من ورقة إِلاّ يعلمها).

أي أنّه يعلم عدد الأوراق ولحظة إِنفصال كل ورقة عن غصنها وطيرانها في الهواء، حتى لحظة استقرارها على الأرض، كل هذا جلي أمام علم الله.

كذلك لا تختفي حبّة بين طيات التراب إِلاّ ويعلمها الله ويعلم كل تفاصيلها: (ولا حبّة في ظلمات الأرض).

التركيز هنا ـ في الحقيقة ـ على نقطتين حساستين لا يمكن أن يتوصل إِليهما الإِنسان حتى لو أمضى ملايين السنين من عمره يرتقي سلم الكمال في صنع أجهزته وأدواته المدهشة.

ترى من ذا الذي يستطيع أن يعرف كم تحمل الرياح معها في هبوبها على مختلف أصقاع الأرض في الليل والنهار، من أنواع البذور المنفصلة عن نباتاتها؟ وإِلى أين تحملها وتنشرها، أو تدسها في التراب حيث تبقى سنوات مختفية، حتى يتهيأ لها الماء فتنبت وتنمو؟

من ذا الذي يعلم كم من هذه البذور في كل أنحاء الدنيا تحمل عن طريق الإِنسان أو الحشرات في كل ساعة من نقطة إِلى نقطة أُخرى؟

أي دماغ الكتروني هذا الذي يستطيع أن يحصي عدد أوراق الشجر التي تسقط كل يوم من أشجار الغابات؟ انظر إِلى غابة من الغابات في الخريف، وخاصّة بعد مطر شديد أو ريح عاصفة، وتطلع إِلى مشهد سقوط الأوراق المتواصل البديع، عندئذ تتكشف لك هذه الحقيقة، وهي أنّ علوماً من هذا القبيل

[314]

لن تكون يوماً في متناول يد الإِنسان.

إِنّ سقوط الورقة ـ في الحقيقة ـ هو لحظة موتها، بينما سقوط البذرة في مكمنها من الأرض هو لحظة بدء حياتها، وما من أحد غير الله يعلم بنظام هذا الموت وهذه الحياة، وحتى أنّ كل خطوة تخطوها البذرة نحو حياتها وإِنبعاثها وتكاملها خلال اللحظات والساعات، جلية في علم الله.

إنّ لهذا الموضوع أثراً «فلسفياً» وآخر «تربوياً»:

أمّا أثره الفلسفي، فينفي رأي الذين يحصرَون علم الله بالكليات، ويعتقدون أنّه لا يعلم عن الجزئيات شيئاً، وفي الآية هنا تأكيد على أنّ الله يعلم الكليات والجزئيات كلها.

أمّا أثره التربوي فواضح، لأنّ الإِيمان بهذا العلم الواسع لله يقول للإِنسان: إِنّ جميع أسرار وجودك، وأعمالك، وأقوالك ونياتك، وأفكارك كلّها بيّنة أمام الله، فإِذا آمن الإِنسان حقّاً بهذا، فكيف يمكن له أن لا يكون رقيباً على نفسه ويسيطر على أعماله وأقواله ونياته!

وفي ختام الآية يقول تعالى: (ولا رطب ولا يابس إِلاّ في كتاب مبين).

تبيّن هذه العبارة القصيرة سعة علم الله اللامحدود وإحاطته بكل الكائنات بدون أي إِستثناء، إِذ أن «الرطب» و«اليابس» لا يقصد بهما المعنى اللغوي، بل هما كناية عن الشمول والعمومية.

وللمفسّرين آراء متعددة في معنى: «كتاب مبين»، ولكنّ الأقوى أنّه كناية عن علم الله الواسع، أي انّ كل الموجودات مسجلة في علم الله اللامحدود، كما أنّه تفسر بكونه «اللوح المحفوظ» نفسه، إِذ لا يستبعد أن يكون اللوح المحفوظ هو صفحة علم الله.

وثمّة احتمال آخر عن معنى «كتاب مبين» وهو أنّه عالم الخلق وسلسلة العلل والمعلولات التي كتب فيها كل شيء.

[315]

جاء فيما روي عن أهل البيت(عليهم السلام) أنّ «الورقة» الساقطة بمعنى الجنين الساقط، و«الحبّة» بمعنى الابن، و«ظلمات الأرض» بمعنى رحم الأُم، و«رطب»ما بقي حياً من النطفة، و«يابس» ما تلاشى من النطفة(1).

لا شك أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع الجمود على المعاني اللغوية للآية، إِذ إِنّ معنى «الورقة» و«الحبّة» و«ظلمات الأض» و«الرّطب» و«اليابس» معروف، ولكنّ أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بهذا التّفسير أرادوا أن يوسعوا من آفاق نظرة المسلمين إِلى القرآن، وأن لا ينحصروا في إِطار الألفاظ، بل يتوسعوا في نظرتهم حين توجد قرائن على هذا التوسع.

الرّواية أعلاه تشير إِلى أنّ معنى «الحبّة» لا ينحصر في بذور النباتات، بل يشمل أيضاً بذور النطف الإِنسانية.

في الآية الثانية ينتقل الكلام إِلى إِحاطة علم الله بأعمال الإِنسان وهو الهدف الأصلي وإِلى بيان قدرة الله القاهرة، لكي يستنتج الناس من هذا البحث الدروس التربوية اللازمة فتبدأ بالقول بأنّ الله هو الذي يقبض أرواحكم في الليل، ويعلم ما تعملون في النهار: (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار).

«توفى» تعني استرجع، فالقول بأنّ النوم هو استرجاع للروح يعود إِلى أنّ النوم أخو الموت، كما هو معروف، فالموت تعطيل كامل لجهاز الدماغ، وانقطاع تام في إِرتباط الروح بالجسد، بينما النوم تعطيل قسم من جهاز الدماغ وضعف في هذا الإِرتباط، وعليه فالنوم مرحلة صغيرة من مراحل الموت(2).

«جرحتم» من «جرح» وهي هنا بمعنى الإِكتساب، أي أنّكم تعيشون تحت ظل قدرة الله وعلمه ليلا ونهاراً، وانّ الذي يعلم بإِنفلاق الحبّة ونموها في باطن الأرض، ويعلم بسقوط أوراق الأشجار وموتها في أي مكان وزمان، يعلم

_____________________________

1 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 528.

2 ـ هناك شرح أوفى لهذا في المجلد الثاني.

[316]

بأعمالكم أيضاً.

ثمّ يقول: إِنّ نظام النوم واليقظة هذا يتكرر،فأنتم تنامون في الليل (ثمّ يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى)(1) أي ثمّ يوقظكم في النهار .. وتستمر هذه العملية حتى نهاية حياتكم.

ويبيّن القرآن النتيجه النهائية لهذا المبحث بالشكل التالي: (ثمّ إِليه مرجعكم ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون).

وفي الآية الثّالثة توضيح أكثر لإِحاطة علم الله بأعمال عباده وحفظها بكل دقة ليوم الحساب، بعد أن يسجلها مراقبون مرسلون لإِحصاء أعمالهم: (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة).

سبق أن قلنا إِنّ «القاهر» هو المتسلط الغالب المهيمن الذي لا تقف أمامه أية قوّة، ويرى بعضهم هذه الكلمة تستعمل حيث يكون المقهور عاقلا.

أمّا كلمة «الغالب» فليست فيها هذه الخصوصية، فهي عامّة واسعة المعنى.

«حفظة» جمع «حافظ» وهم هنا الملائكة الموكّلون بحفظ أعمال الناس، كما جاء في سورة الإِنفطار، الآيات 10 ـ 13: (إن عليكم لحافظين كراماً كاتبين يعلمون ما تفعلون).

ويرى بعض المفسّرين أنّهم لا يحفظون أعمال الإِنسان، بل هم مأمورون بحفظ الإِنسان نفسه من الحوادث والبلايا حتى يحين أجله المعين، ويعتبرون (حتى إِذا جاء أحدكم الموت) بعد «حفظة» قرينة تدل على ذلك، كما يمكن اعتبار الآية (11) من سورة الرعد دليلا عليه كذلك(2).

ولكنّ بالتدقيق في مجموع الآية التي نحن بصددها نتبيّن أنّ القصد من الحفظ هنا هو حفظ الأعمال، أمّا بشأن الملائكة الموكّلين بحفظ الناس فسوف

_____________________________

1 ـ الضمير في «فيه» يعود على «النهار» و«يبعثكم» بمعنى يوقظكم وينهضكم، و«أجل مسمى» هو العمر المحدد لكل فرد.

2 ـ تفسير الميزان، ج 7، ص 134.

[317]

نشرحه بإِذن الله عند تفسير سورة الرعد.

ثمّ يبيّن القرآن الكريم أن حفظ الأعمال يستمر حتى نهاية الأعمار وحلول الموت: (حتى إِذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا).

وتبيّن الآية في النهاية أنّ هؤلاء الملائكة لا يقصرون ولا يفرطون في مهمتهم، فلا يتقدمون لحظة ولا يتأخرون في موعد قبض الروح.

ويحتمل أيضاً أنّ هذه الصفة ترتبط بالملائكة الذين يحفظون حساب أعمال البشر، فهم في حفظهم للحساب لا يصدر منهم أدنى تقصير أو قصور، والآية تركز على هذا القسم بالذات.

في الآية الاخيرة يشير القرآن الكريم إِلى آخر مراحل عمل الإِنسان، فيقول: (ثمّ ردّوا إِلى الله مولاهم الحق) أي عادوا إِلى الله بعد أنّ طووا مرحلة حياتهم، واختتم ملفهم الحاوي على كل شيء.

وفي تلك المحكمة يكون النظر في القضايا وإِصدار الأحكام بيد الله: (ألا له الحكم).

وعلى الرغم من كل تلك الأعمال والملفّات المتراكمة عن أفراد البشر طوال تاريخهم الصاخب فانّ الله سريع في النظر فيها: (وهو أسرع الحاسبين).

لقد جاء في بعض الرّوايات: «إِنّه سبحانه يحاسب جميع عباده في مقدار حلب شاة» أي أنّ ذلك لا يتجاوز فترة حلب شاة(1).

وكما قلنا في تفسير الآية (202) من سورة البقرة، إِنّ إِجراء الحساب من السرعة بحيث إِنّه يمكن أن يتمّ في لحظة واحدة بالنسبة للجميع، بل إِن ذكر فترة حلب شاة في الرواية المذكورة يقصد منه بيان قصر الزمن اللازم لذلك، وعلى هذا نقرأ في رواية أُخرى: «إِن الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 313.

[318]

البصر»(1).

والدليل على ذلك هو ما ذكرناه في تفسير هذه الآية، وهو أنّ أعمال الإِنسان تؤثر في وجوده وفي وجود الكائنات المحيطة به، تماماً مثل الماكنة التي تسجل مقدار حركتها في عداد متصل بها.

وبتعبير أوضح، لو كانت هناك أجهزة دقيقة جداً لاستطاعت أن تسجّل في عين الإِنسان عدد النظرات الآثمة، وعلى الألسنة عدد الأكاذيب والإِفتراءات والتهم والطعون التي اقترفتها، أي أن كل عضو من أعضاء الجسم فيه ـ بالإِضافة إِلى روحه ـ جهاز حاسب يكشف الحساب في لحظة واحدة.

وإِذا جاء في بعض الرّوايات أنّ محاسبة المسؤولين والأغنياء تطول يوم القيامة فإِن هذا لا يعني في الواقع طول زمن الحساب، بل هو طول زمن المحاسبة عليهم، إِذ لابدّ لهم من الإِجابة على الأسئلة الكثيرة التي تلقى عليهم بشأن الأعمال التي ارتكبوها، أي أن ثقل مسؤولياتهم ولزوم إِجابتهم على الأسئلة لإِتمام الحجّة عليهم هي التي تطيل زمن محاكمتهم.

يؤلف مجموع هذه الآيات درساً تربوياً كاملا لعباد الله في إِحاطة علمه تعالى بأصغر ذرات هذا العالم وبأكبرها وقدرته وقهره لعباده ومعرفته بجميع أعمال البشر، وقيام كتبة أُمناء بحفظ أعمال الناس وقبض أرواحهم في لحظات معينة بالنسبة لكل منهم، وبعثهم يوم القيامة، ومن ثمّ محاسبتهم محاسبة دقيقة وسريعة.

كيف يمكن أن يؤمن الشخص بمجموع هذه المسائل ثمّ لا يراقب أعماله، يظلم دون وازع، ويكذب ويفتري ويعتدي على الآخرين؟

هل يجتمع كل هذا مع الإِيمان والاعتقاد على صعيد واحد؟

* * *

_____________________________

1 ـ المصدر نفسه، ج 1، ص 298.

[319]

الآيتان

قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَـتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنّْ أَنجَـنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْشَّـكِرِينَ(63) قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْب ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ(64)

التّفسير

النّور الّذي يضيء في الظّلام:

مرّة أُخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغلّ بهم إِلى أعماق فطرتهم، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد، فيقول للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قل لهم: (قُل مَن يُنجّيكُم مِنْ ظُلمات البرِّ وَالبَحر)؟

إِنّ الظلام يكون حسياً أحياناً ومعنوياً أحياناً أُخرى، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النّور إِنقطاعاً تاماً، أو يضعف بحيث لا يرى شيء، أو يرى بالجهد الجهيد، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة، الجهل ... الإِضطرابات الإِجتماعية والإِقتصادية والفكرية، والإِنحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السئية، أو التي تجر إِلى التعاسة والشقاء ... كلّها ظلام.

[320]

إِنّ الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات، فهجوم الكثير من الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام، أنّ لكل امرىء ذكرياته عن هذه الحالات، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها الأشباح المرعبة، فيستولي الخوف والهلع على العامّة من الناس.

الظلام من العدم، والإِنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه، ولهذا نراه يخاف الظلام.

وإِذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة، كأن يكون الإِنسان مسافراً في البحر، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار، لأنّ الإِنسان في مثل هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه، وهكذا لو كان في ليلة حالكة الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة، في مثل هذه اللحظات ينسى الإِنسان كل شيء ولا يعود يتذكر شيئاً سوى نفسه، والنّور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إَزالة ما يعتوره من بلاء وضيق، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة الله، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات: (تدعونه تضرعاً وخفية).

وتعقدون ـ وأنتم في تلك الحالة ـ عهداً وميثاقاً على أنفسكم، وتقولون: (لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين).

ثمّ تأمر الآية النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أنّ الله سوف ينجيهم من هذه ومن غيرها من الأخطار، وقد فعل ذلك من قبل مراراً، ولكنّهم بعد زوال الخطر عنهم يعودون إِلى طريق الشرك والكفر: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثمّ أنتم تشركون).

[321]

ملاحظات

هنا لابدّ من الإِلتفات إِلى عدّة نقاط:

1 ـ لعل ذكر «التضرع» وهو الدعاء علانية، و«الخفية» هي الدّعاء في السرّ، إِشارة إِلى أنّ المصائب تختلف، فالتي لم تصل مرحلة شديدة قد تستدعي الدعاء خفية، وعندما تكون شديدة تحمل المرء على أن يرفع يديه بالدعاء جهراً، وقد يصاحب ذلك البكاء والصراخ، أي أنّ الله يحل مشاكلكم خفيفها وشديدها.

2 ـ يرى بعضهم أنّ الآية تشير إِلى أربع حالات نفسية في الإِنسان، كل واحدة منها ردة فعل معينة لظهور المشاكل: حالة «الدعاء» وحالة «التضرع» وحالة «الإِخلاص» وحالة «تقديم الشكر عند النجاة من الأخطار».

ولكنّ الذي يؤسف له أن هذه الحالات تمر ببعض الناس مروراً خاطفاً وكأنّه ا حالات إِضطرارية في مواجهة الأخطار والمشاكل، وبما أنّها ليست مصحوبة بالوعي والإِدراك، فأنّه ا تخفت وتنطفىء بمجرّد إِنتهاء الأزمة.

وبناء على ذلك، فإِن هذه الحالات، وان تكن خاطفة، تستطيع أن تكون دليلا على معرفة الله لمن عسر عليه ادراك الدلائل الأُخرى.

3 ـ «الكرب» في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها، وكذلك تعني العقدة المحكمة الشد في حبل الدلو، ثمّ أطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن التي تقلب قلب الإِنسان وتثقل عليه كالعقدة.

لذلك فإِنّ ذكر «الكرب» بما له من المعنى الواسع الذي يشمل أنواع المشاكل والأزمات بعد ذكر (ظلمات البرّ والبحر) والتي تشمل جانباً من المشاكل فقط، يعتبر من قبيل ذكر مفهوم عام بعد بيان مفهوم خاص (تأمل بدقة).

وهذا يجدر بنا أنّ نذكر حديثاً تورده بعض التفاسير في هذه الآية:

روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «خير الدعاء الخفي وخير الرزق ما يكفي» (لا الثروات الضخمة التي هي حصيلة حرمان الآخرين، وتكون عبئاً على كاهل

[322]

الإِنسان)، وروي أيضاً أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مرّ بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال: «إِنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، وإِنّما تدعون سميعاً قريباً»(1).

يستفاد من هذا الحديث أنّ خير الدعاء ما كان خفياً مقترناً بتوجه وإِخلاص.

* * *

_____________________________

1 ـ تفسير مجمع البيان ونور الثقلين في تفسير الآية.

[323]

الآية

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيعَاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الاْيَـتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65)

التّفسير

ألوان العذاب:

في الآيات السابقة التي تتضمن بيان التوحيد الفطري تتجلى محبّة الله لعباده، وحنوه عليهم عند الشّدائد والصعاب، واستجابته لدعواتهم.

وفي هذه الآية تركيز على التهديد بعذاب الله وعقابه، من أجل إِكمال طرق التربية والتهذيب، أي أنّ الله وهو أرحم الراحمين وملجأ اللاجئين، قهار منتقم مقابل الطغاة العصاة، ففي هذه الآية يؤمر الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بتهديد المجرمين بثلاثة أنواع من العقاب: عذاب من فوق، وعذاب من تحت، وعقاب يتمثل في اختلاف الكلمة والحرب وإِراقة الدماء: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض).

وفي الختام تقول الآية: (انظُر كيف نصرف الآيات لعلّهم يفقهون)، أي انظر كيف نوضح لهم المعالم والدلائل على أمل أن يفهموا الحقائق ويعودا إِلى الله.

[324]

بحوث

هنا أيضاً لابدّ من الإِشارة إِلى بعض النقاط:

1 ـ هنالك اختلاف بين المفسّريين بشأن المقصود من العذاب من فوق ومن تحت، ويظهر أنّ لهاتين الكلمتين معاني واسعة، فهما تشملان الجهتين الماديتين من السماء ومن الأرض كالصواعق والأمطار الغزيرة والعواصف المدمّرة التي يأتي من فوق، والزلازل والإِنشقاقات الأرضية المدمرة وفيضانات الأنهر والبحار من تحت.

كذلك تشمل الآلام والمصائب التي ينزلها بعض الحكام والطبقات المتسلطة في المجتمع على رؤوس الشعوب، وكذلك الآلام والعذاب الذي يسببه بعض الموظّفين الذين لا يعرفون واجبهم للناس ممّا قد لا يقل عما يسببه الحكام والطّبقات العليا من المجتمع.

وكذلك يحتمل أن تشمل أسلحة الحرب المخيفة في عصرنا التي تبيد حياة البشر بشكل وحشي من الأرض والجو، وتحيل المدن خلال مدّة قصيرة إِلى ركام وأنقاض عن طريق القصف الجوي والهجوم الارضي وزرع الألغام والغواصات المدمّرة داخل البحار.

2 ـ «يلبسكم» من «اللبس» بفتح اللام بمعنى الإِختلاط والإِمتزاج، لا من «اللبس» بضم اللام بمعنى إِرتداء الملابس، وعلى ذلك يكون معنى الآية: إِنّه قادر على أن يجعل منكم جماعات مختلفة تختلط بعض ببعض.

يستنتج من هذا التعبير أنّ مسألة اختلاف الكلمة والتفرق في المجتمع لا تقل خطورتها عن العذاب السماوي والصواعق والزلازل، وهو في الحقيقة كذلك، بل قد يكون الخراب الناشىء من اختلاف الكلمة والتفرق أحياناً أشد وطأة ودماراً من الزلازل والصواعق، كثيراً ما نلاحظ أنّ دولا عامرة يصيبها الفناء بسبب النفاق والتفرقة، وهذه الكلمة تحذير لجميع مسلمي العالم!

[325]

هنالك أيضاً احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو - أنّ الله قد أشار ـ إِلى جانب العذاب السماوي والأرضي ـ إِلى لونين آخرين من العذاب: أحدهما: اختلاف العقيدة والفكر (وهو في الواقع مثل العذاب النازل من فوق)، والآخر: هو الإِختلاف في العمل والسلوك الإِجتماعي الذي يؤدي إِلى الحروب وإِراقة الدماء (وهو أشبه بالعذاب الآتي من تحت).

وعليه، فالآية تشير إِلى أربعة ألوان من العذاب الطبيعي، ولونين من العذاب الإِجتماعي.

3 ـ لابدّ من الإِنتباه إِلى أن قوله تعالى: (أويلبسكم شيعاً)(1)، لايعني أنّ الله يبتلي الناس ـ بدون مبرر ـ بالنفاق والإِختلاف، بل إِنّ ذلك نتيجة سوء أعمالهم وغرورهم وأنانياتهم، والانغماس في منافعهم الشخصية، ممّا يثير روح النفاق والتفرقة بينهم، وما نسبة ذلك إِلى الله إِلاّ لأنّه جعل تلك الآثار من نتائج تلك الأعمال.

4 ـ على الرّغم من أنّ الخطاب في هذه الآية موجه إِلى المشركين وعبدة الأصنام، فإنّنا نستنتج أنّ المجتمع المشرك والمنحرف عن طريق التوحيد وعبادة الله، يصاب بظلم الطبقات العليا، وظلم الطبقات الدنيا المتهاونة في واجباتها، كما تقع البشرية بين براثن الإِختلاف العقائدية والمخاصمات الدموية في المجتمع، كما هو حال المجتمعات المعاصرة التي تعبد أوثان الصناعة والثروة، فهي رهين مصائب لا فكاك لها من مخالبها.

بعض الشعوب المسلمة تتحدث عن التوحيد وعبادة الله بأقوالها، ولكنّها بأفعالها مشركة تعبد الأصنام. إن مصائر شعوب كهذه لا يختلف عن مصائر المشركين. وقد يكون حديث الإِمام الباقر(عليه السلام): «كل هذا في أهل القبلة» إِشارة إِلى هذا الإِختلاف بين المسلمين، فعندما ينحرف المسلمون عن طريق التوحيد،

_____________________________

1 ـ «شيعاً» جمع «شيعة» بمعنى الجماعة.

[326]

تأخذ الأنانية وحبّ الذات مكان الأُخوة الإِسلامية، وتتغلب المصالح الشخصية على المصلحة العامّة، ولا يفكر الفرد إِلاّ بنفسه وينسى الناس أوامر الله ونواهيه، فيحيق بهم ما أحاق بأُولئك.

* * *

[327]

الآيتان

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل(66)لِّكُلِّ نَبَإ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(67)

التّفسير

تكمل هاتان الآيتان البحث الذي جرى في الآيات السابقة عن الدعوة إِلى الله والمعاد وحقائق الإِسلام والخشية من عقاب الله.

الآية الأُولى: تخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ قومه ـ أي قريش وأهل مكّة ـ لم يصدقوا ما يقول مع أنّه صدق وحق وتؤكّده الأدلة العقلية المختلفة والفطرية: (وكذب به قومك وهو الحق)(1) ثمّ يصدر الأمر إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): (قل لست عليكم بوكيل) أي إِنّما أنا رسول ولست أضمن قبولكم.

في الآيات الكثيرة المشابهة لهذه الآية (كالآيات 107 ـ الأنعام، 108 ـ يونس، 41 ـ الزمر، 6 ـ الشورى) يتبيّن أنّ المقصود من «وكيل» في هذه المواضع هو المسؤول عن الهداية العملية للأفراد والضامن لهم ـ لذلك فإنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول لهم في هذه الآية: إِنّ الأمر يعود إِليكم، فأنتم الذين يجب أن تتخذوا القرار

_____________________________

1 ـ الضمير في «به» يرجعه بعضهم إِلى القرآن، ويرجعه آخرون إِلى العذاب الذي ورد في الآيات السابقة، ولكنّ الظاهر إنّه يرجع إِلى كل هذه وإلى تعاليم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) التي كذبوا بها، وتؤكّد ذلك الآية التّالية.

[328]

النهائي في قبول الحقيقة أو ردّها، فما أنا إِلاّ رسول أُبلغ رسالة الله.

وفي الآية التّالية القصيرة ذات المعنى العميق تحذير لهم، ودعوة إِلى إِختيار الطريق الصحيح، (ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون)(1) أي أنّ كل خبر أخبركم به الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الدنيا أو في الآخرة موضع ومقر، وسوف يتحقق في موعده المقرر، وعندئذ ستعرفون ذلك.

* * *

_____________________________

1 ـ قد يكون «المستقر» المصدر الميمي بمعنى «الإِستقرار» أو اسماً لمكان وزمان بمعنى مكان الإِستقرار، بالمعنى الأوّل يكون إِخباراً عن تحقيق وعد الله، وبالمعنى الثاني الإِخبار عن مكان تحققه وزمانه.

[329]

الآيتان

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيث غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـنُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ(68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْء وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(69)

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان عن الإِمام الباقر(عليه السلام) أنّه عند ما نزلت الآية الأُولى ونهي المسلمون عن مجالسة الكفار والذين كانوا يسخرون من آيات الله، قال فريق من المسلمين إِذا كان علينا أن نلتزم بهذا النهي في كل مكان فإنّه يمتنع علينا الذهاب إِلى المسجد الحرام والطواف به (وذلك لأنّ أُولئك كانوا منتشرين في أطراف المسجد ولا يفتأون يتناولون الآيات القرآنية بالكلام الباطل، فحيثما نتوقف في أرجاء المسجد ثمّة احتمال أن يصل كلامهم الى مسامعنا). عندئذ نزلت الآية الثانية تأمر المسلمين في مثل هذه الحالات أن ينصحوهم ويهدوهم ويرشدوهم قدر إِمكانهم.

إِنّ ورود سبب نزول لهذه الآية لا يتعارض ـ كما قلنا من قبل ـ مع نزول

[330]

السورة كلها مرّة واحدة، إِذ من المحتمل أن تكون هناك حوادث مختلفة في حياة المسلمين، فتنزل سورة واحدة تختص كل مجموعة من آياتها ببعض تلك الحوادث.

التّفسير

إِجتناب مجالس أهل الباطل:

بما أنّ المواضيع التي تتطرق إِليها هذه السورة تتناول حال المشركين وعبدة الأصنام، فهاتان الآيتان تبحثان موضوع آخر من المواضيع التي تتعلق بهم، ففي البداية تقول للرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإِذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره)(1).

على الرغم من أنّ الكلام هنا موجه إِلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إِلاّ أنّه لا يقتصر عليه وحده، بل هو موجه إِلى المسلمين كافة، إِنّ فلسفة هذا الحكم واضحة، إِذ لو اشترك المسلمون في مجالسهم، لاستمر المشركون في خوضهم في آيات الله بالباطل نكاية بالمسلمين واستهزاء بكلام الله ولكنّ المسلمين إِذا مروا دون أن يبالوا بهم، فسيكفّون عن ذلك ويغيرون الحديث إِلى أُمور أُخرى، لأنّهم كانوا يتقصدون إِيذاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين.

ثمّ تخاطب الآية رسول الله مؤكّدة أهمية الموضوع: (وإمّا ينسينّك الشيطان فلا تقعد(2) بعد الذكرى مع القوم الظالمين) أي إِذا أنساك الشيطان هذا الأمر وجلست مع هؤلاء القوم سهواً، فعليك ـ حالما تنتبه ـ أن تنهض فوراً وتترك مجالسة الظالمين.

_____________________________

1 ـ «الخوض» كما يقول الراغب الأصفهاني في «مفرداته» هو الدخول في الماء والمرور فيه، ثمّ إستعير للورود في أُمور أُخرى، وأكثر ما ترد في القرآن بشأن الدخول في موضوع باطل ما أساس له.

2 ـ غني عن القول بأن (لا تقعد) لا تعني النهي عن مجرّد الجلوس مع هؤلاء، بل تعني النهي عن معاشرتهم في جميع حالات الجلوس والوقوف أو المسير.

[331]

سؤالان:

هنا يبرز سؤالان:

الأوّل: هل يمكن للشّيطان أن يتسلط على النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويسبب له النسيان؟ وبعبارة أُخرى، كيف يمكن للنّبي مع عصمته وكونه مصوناً عن الخطأ حتى في الموضوعات أن يخطىء وأن ينسى؟

في الإِجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنّ الخطاب في الآية وإن يكن موجهاً إِلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يتحدث في الواقع مع اتباعه الذين يمكن أن ينسوا فيساهموا في إِجتماعات المشركين الآثمة، فهؤلاء عليهم حال إِنتباههم إِلى ذلك أن يتركوا المكان، أنّ مثل هذا الأسلوب كثير الحدوث في حياتنا اليومية وموجود في مختلف آداب العالم، فأنت قد توجه الخطاب إِلى أحدهم ولكنّ هدفك هو أن يسمع الآخرون ذلك كما يقول المثل: إِياكِ أعني واسمعي يا جارة.

هناك مفسّرون آخرون مثل الطبرسي في مجمع البيان وأبي الفتوح في تفسيره المعروف يوردون جواباً آخر عن هذا السؤال خلاصته: إنّ السهو والنسيان في قضايا الأحكام ومقام حمل الرسالة من جانب الله غير جائزين بالنسبة للأنبياء، أمّا في الحالات التي لا تؤدي إِلى ضلال الناس فجائزان، إِلاّ أنّ هذا الجواب لا يتفق مع ما هو مشهور عند متكلمينا من أن الأنبياء والأئمّة معصومون عن الخطأ ومصونون عن النسيان، لا في قضايا الأحكام وحدها، بل حتى في القضايا العادية أيضاً.

السؤال الثّاني: يعتبر بعض علماء أهل السنة هذه الآية دليلا على عدم جواز التقية الدينية للقادة الدينيين، وذلك لأنّ الآية تصرّح بالنهي عن اللجؤ إِلى التقية أمام الأعداء وتأمر بترك مجلسهم.

والجواب على هذا الإِعتراض واضح، فالشيعة لا يقولون بوجوب التقية دائماً، بل إِنّ التقية في بعض الأحيان حرام، إِنّما ينحصر وجوبها في الظروف التي

[332]

تكون فيها للتقية وكتمان الحق منافع أكبر من منافع إِظهاره، أو تكون سبباً في دفع خطر أو ضرر كبير.

الآية التّالية فيها إِستثناء واحد، فإِذا اشترك بعض المتقين في جلسات هؤلاء المشركين لكي ينهوهم عن المنكر على أمل أن يؤدي ذلك إِلى انصراف أُولئك عن الاثم، فلا مانع من ذلك، وأنّ آثام أُولئك لا تسجل على هؤلاء، لأنّ قصدهم هو الخدمة والقيام بالواجب: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلّهم يتقون).

وهنالك تفسير آخر لهذه الآية، والذي قلناه أكثر إِنسجاماً مع ظاهر الآية ومع سبب النّزول.

وينبغي أن نعلم ـ في الوقت نفسه ـ إِنّ الذين لهم أن يستفيدوا من هذا الإِستثناء هم الذين تنطبق عليهم شروط الآية، فيكونون متميزين بالتقوى، وبعدم التأثر بهم، وبالقدرة على التأثير فيهم.

سبق في تفسير الآية (140) من سورة النساء أن تطرقنا إِلى هذا الموضوع وذكرنا مسائل أُخرى أيضاً.

* * *

[333]

الآية

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وغَرَّتْهُمُ الْحَيوةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللهِ وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْل لاَّيُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ(70)

التّفسير

الذين اتّخذوا الدّين لعباً:

هذه الآية تواصل ما بحثته الآية السابقة، وتأمر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدع أُولئك الذين يستهينون بأمر دينهم، ويتخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهباً لهم ويغترون بالدنيا وبمتاعها المادي: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا).

بديهي أنّ الأمر بترك هؤلاء لا يتعارض مع قضية الجهاد، فللجهاد شروط، ولإِهمال الكفار شروط أُخرى، وكل واحد من هذين الحالين يجب أن يتحقق في ظروفه الخاصّة، قد يستلزم الأمر ـ أحياناً ـ دفع المناوئين عن طريق عدم

[334]

الإِعتناء بهم، وفي أحيان أُخرى قد يقتضي الأمر الجهاد والتوسل بالسلاح، أمّا القول بأنّ آيات الجهاد قد نسخت هذه الآية فغير صحيح.

وتشير هذه الآية إِلى أنّ سلوكهم الحياتي من حيث المحتوى أجوف وواه، فهم يطلقون اسم الدين على بعض الأعمال التي هي أشبه بلعب الأطفال ومجمون الكبار، فهؤلاء غير جديرين بالمناقشة والمباحثة، وعليه يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يعرض عنهم ولا يعتني بدينهم الفارغ.

يتضح ممّا قلنا أنَّ «دينهم» يعني «دين الشرك وعبادة الأصنام» الذي كانوا يدينون به، أمّا القول بأنّ المقصود هو «الدين الحق» وإِنّ إِضافة الدين إِليهم يستند إِلى كون الدين فطرياً، فيبدو بعيد الإِحتمال.

والإِحتمال الآخر في تفسير الآية هو أن القرآن يشير إِلى جمع من الكفار الذين كانوا يتعاملون مع دينهم كألعوبة وملهاة، ولم ينظروا أبداً إِلى الدين كأمر جاد يستوجب إِمعان الفكر والتأمل، أي أنّهم كانوا لايؤمنون حقيقة حتى في معتقدات شركهم، ولم يقيموا وزنا حتى لدينهم الذي لا أساس له.

على كل حال فالآية لا تخص الكفار وحدهم، بل هي تشمل جميع الذين يتخذون من الأحكام الإِلهية ومن المقدسات وسائل للتلهي وملء الفراغ وبلوغ الأهداف المادية الشخصية، أُولئك الذين يجعلون الدين آلة الدنيا، والأحكام الإِلهية العوبة أغراضهم الخاصّة.

ثمّ يؤمر الرّسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينبّههم إِلى أعمالهم هذه وإِلى أنّ هناك يوماً لابدّ لهم أن يستسلموا فيه لنتائج أعمالهم ولن يجدوا من ذلك مفراً: (وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت)(1).

_____________________________

1 ـ «البسل» هو حفظ الشيء ومنعه بالقوة والقهر، والإِبسال حمل المرء على التسليم، كما تطلق الكلمة على الحرمان من الثواب، أو أخذ الرهائن، والجيش الباسل بمعنى القاهر الذي يحمل العدو على التسليم، والمعنى في الآية هو تسليم المرء وخضوعه لأعماله السيئة.

[335]

يوم لا شفيع ينفع ولا ولي سوى الله: (ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع).

إِنّهم يؤمنذ في حال صعبة مؤلمة يرزحون في قيود أعمالهم بحيث إِنّهم يرتضون أن يدفعوا أية غرامة (إِن كان عندهم ما يدفعونه) ولكنّها لن تقبل منهم: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها)(1).

ذلك لأنّهم يكونون بين مخالب أعمالهم، ولا فدية تنجيهم، ولا توبة تنفعهم بعد أن فات الأوان: (أُولئك الذين أبسلوا بما كسبوا).

ثمّ يشار إِلى جانب ممّا سيصيبهم من العذاب الأليم بسبب إعراضهم عن الحق والحقيقة: (لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون).

إِنّهم يتعذّبون بالماء الحريق من الداخل، ويكتوون بنار الجحيم.

يجدر الإِنتباه هنا إِلى أن جملة (أُولئك الذين أبسلوا بما كسبوا) هي بمثابة السبب الذي يمنع من قبول الغرامة ومن قبول أي شفيع وولي، أي أن عقابهم ليس لعلة خارجية بحيث يمكن دفعها بشكل من الأشكال، بل ينبع من داخل الذات وسلوكها وأعمالها، إِنّهم أسرى أعمالهم القبيحة، لذلك لا مفر لهم، لأنّ فرار المرء من أعماله وآثارها إِنّما هو فرار من ذاته، وهو غير ممكن.

غير أنّنا لابدّ أن نعلم أنّ هذه الحالة من الشدّة والصعوبة وإِنعدام طريق العودة ورفض الشفاعة إِنّما تكون بحق الذين أصروا على كفرهم واستمروا عليه، كما يتبيّن من عبارة: (بما كانوا يكفرون) (الفعل المضارع يفيد الاستمرارية).

* * *

_____________________________

1 ـ «العدل» بمعنى «المعادل» وهو ما يدفع جزاءاً وغرامة لقاء التحرر، وهو أشبه في الواقع بما يفتدى به.

[336]

الآيتان

قُلْ أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَنَا اللهُ كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْـطِينُ فِى الاَْرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَـبٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـلَمِينَ(71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(72)

التّفسير

كان المشركون يصرّون على دعوة المسلمين إِلى العودة إِلى الكفر وعبادة الأصنام، فنزلت هذه الآية تأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالردّ عليهم ردّاً يدحض رأيهم ويفند دعوتهم في جواب بصيغة الإِستفهام الإِستنكاري: أتريدون منّا أن نشرك مع الله ما لا يملك لنا نفعاً فنعبده لذلك، ولا يملك لنا ضرراً فنخافه؟!: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرّنا).

هذه الآية تشير إِلى أنّ أفعال الإِنسان تنشأ عادة عن دافعين، فهي إِمّا أن تهدف إِلى استجلاب منفعة (مادية كانت أم معنوية)، وأمّا إِلى دفع ضرر (مادياً كان أم معنوياً). فكيف يقدم الإِنسان على أمر ليس فيه أي من هذين العاملين؟

[337]

ثمّ يأتي باستدلال آخر على المشركين، فيقول: إِذا عدنا إِلى عبادة الأصنام، بعد الهداية الإِلهية نكون قد رجعنا القهقري، وهذا يناقض قانون التكامل الذي هو قانون حياتي عام: (ونردّ على أعقابنا بعد إِذ هدانا الله)(1).

ثمّ يضرب مثلا لتوضيح الأمر، فيقول: إِنّ الرجوع عن التوحيد إِلى الشرك أشبه بالذي أغوته الشياطين (أو غيلان البوادي التي كان عرب الجاهلية يعتقدون أنّه ا تكمن في منعطفات الطرق وتغوي السابلة وتضلهم عن الطريق) فتاه عن مقصده وظل حيراناً في الباديّة: (كالذين استهوته الشياطين في الأرض حيران)بينما له رفاق يرشدونه إِلى الصراط السوي المستقيم وينادونه: هلم إِلينا، ولكنّه من الحيرة والتيه بحيث لا يسمع النداء، أو إنّه غير قادر على اتخاذ القرار: (له أصحاب يدعونه إِلى الهدى ائتنا)(2).

وفي الختام يؤمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: إِنّ الهداية من الله وليس لنا إِلاّ أن نسلم لأمر الله ربّ العالمين: (قل إِنّ هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لربّ العالمين).

وهذا دليل آخر على رفض دين المشركين، إِذ التسليم لا يكون إِلاّ لخالق الكون ومالكه وربّ عالم الوجود، لا الأصنام التي لا دور لها في إِيجاد هذا العالم وإِدارته.

سؤال:

يبرز هنا هذا السؤال: لم يكن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة من أتباع دين المشركين فكيف تقول الآية: (نردّ على أعقابنا) ونحن نعلم أنّه لم يسجد قط

_____________________________

1 ـ «أعقاب» جمع «عقب» وهو مؤخر الرجل، ورجع على عقبه بمعنى انثنى راجعاً، وهو هنا كناية عن الإِنحراف عن الهدف، وهو ما يطلق عليه اليوم اسم «الرجعية».

2 ـ «إستهوته» من «الهوى» وهو ميل النفس إِلى الشهوة، واستهوته بمعنى حملته على إتباع الهوى، و«الحيرة» هي التردد في الأمر، وفي الأصل: الجيئة والذهاب، فالآية تشير إِلى الذين يذهبون من الإِيمان إِلى الشرك مستلهمين تحركاتهم من الشيطان.

[338]

لصنم، إِذ لم يرد هذا في جميع التواريخ التي كتبت عنه، بل أن مقام العصمة لا يمكن أن يسمح بحدوثه؟

الجواب:

في الحقيقة تعتبر هذه الآية ممّا جاء على لسان جميع المسلمين، لا على لسان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحده، ولذلك جاءت الضمائر فيها بصيغة الجمع.

الآية التّالية، تواصل شرح الدعوة الإِلهية قائلة: إِنّنا فضلا عن التوحيد، فقد أمرنا بإِقامة الصّلاة وبتقوى الله: (وان أقيموا الصّلاة واتقوه).

وفي الختام يشار إِلى المعاد وإِلى أنّ الناس إِلى الله يرجعون: (وهو الذي إِليه تحشرون).

هذه الآيات القصار تكشف عن البرنامج الذي يدعو اليه الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم)والمتألف من أربعة مبادىء، تبدأ بالتوحيد وتنتهي بالمعاد، وبينهما مرحلتان متوسطتان هما: تقوية الإِرتباط بالله، والإِتقاء من كل ذنب.

* * *

[339]

الآية

وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ عَـلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(73)

التّفسير

هذه الآية دليل على ما جاء في الآية السابقة، وعلى ضرورة التسليم لله وإِتّباع رسوله، لذلك تقول: (هو الذي خلق السموات والأرض بالحق).

إِنّ مبدأ عالم الوجود هو وحده الجدير بالعبادة، وهو وحده الذي يجب الخضوع والتسليم له، لأنّه خلق الأشياء لمقاصد حقّة.

المقصود من (الحق» في الآية هو الأهداف والنتائج والمنافع والحكم، أي أنّ كل مخلوق قد خلق لهدف وغاية ومصلحة، وهذه الآيه تشبه الموضوع الذي تتناوله الآية (77) من سورة ص التي جاء فيها: (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا).

ثمّ يقول: إِنّه فضلا عن كونه مبدع عالم الوجود، فان يوم القيامة أيضاً يقوم بأمره، وإِذا ما أصدر أمره بقيام ذلك اليوم فإنّه يتحقق فوراً: (ويوم يقول كن

[340]

فيكون)(1).

يحتمل بعضهم أنّ هذه العبارة تشير إِلى مبدأ الخلق وإِيجاد عالم الوجود، حيث خلق كل شيء بأمر الله، ولكن بالنظر لأنّ الفعل «يقول» مضارع، وهناك قبل هذه الآية إِشارة إِلى أصل الخلق، وكذلك بالرجوع إِلى الآيات التّالية، يمكن القول بأنّ هذه العبارة تخص البعث ويوم القيامة.

سبق في تفسير الآية (117) من سورة البقرة في المجلد الأوّل أن قلنا إِنّ (كن فيكون) لا تعني إِصدار أمر لفظي لشيء أن يكون فيكون، بل تعني إِنّه إِذا شاء خلق شيء، فإنّ إرادته تتحقق دون حاجة الى وجود أي عامل آخر، فإذا شاء أن يتحقق الشيء فهو يتحقق فوراً. وإِذا شاء أن يتحقق تدريجياً فإنّ خطّة تحققه التدريجي تبدأ.

ثمّ يضيف: أنّ ما يقوله الله هو الحق، أي أنّه مثلما كان مبدأ الخلق ذا أهداف ونتائج ومصالح، كذلك سيكون يوم القيامة: (قوله الحق).

وفي ذلك اليوم الذي ينفخ فيه في صور ويبعث الناس يوم القيامة، يكون الحكم والملك لله: (وله الملك يوم ينفخ في الصور).

حكومة الله على عالم الوجود ومالكيته له قائمتان منذ بداية الخلق حتى نهايته وفي يوم القيامة، ولا يختص ذلك بيوم القيامة وحده، لكن هناك عوامل وأسباباً تؤثر في مسار هذه الدنيا وتقدمها نحو أهدافها، لذلك قد يغفل الإِنسان أحياناً عن وجود الله وراء هذه الأسباب والعوامل، أمّا في ذلك اليوم الذي تتعطل فيه جميع الأسباب والعوامل، فإِنّ حكومة الله ومالكيته تكونان أجلى وأوضح من أي وقت سابق، كما جاء في آية أُخرى: (لمن الملك اليوم لله الواحد

_____________________________

1 ـ يختلف المفسّرون في متعلق الظرف «يوم»، فبعض يعلقه بجملة «خلق» وبعض يعلقه بجملة «اذكروا» المحذوفة، ولكن لا يستبعد أن يكون متعلقاً بجملة «يكون»، فيصبح المعنى: يكون يوم القيامة يوم يقول له كن.

[341]

القهار)(1).

فيما يتعلق بماهية «الصور» وكيف ينفخ فيه إِسرافيل فتموت الأحياء، ثمّ يعيد النفخ في الصور فيعود الجميع إِلى الحياة ويبدأ يوم القيامة ـ سوف نشرح ذلك إِن شاء الله ـ في تفسير الآية (68) من سورة الزمر.

وفي ختام الآية إِشارة إِلى ثلاث من صفات الله تعالى، فهو: (عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير).

ترد هذه الصفات غالباً في الآيات التي تخص يوم القيامة، أي أنّه بمقتضى صفة العلم المطلق عالم بأعمال عباده، وبمقتضى قدرته وحكمته يجازي كلا بما يستحقه.

* * *

_____________________________

1 ـ غافر، 16.

[342]

الآية

وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ لاَِبِيهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً ءَالِهَةً إِنِّى أَرَكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلَـل مُّبِين(74)

التّفسير

لما كانت هذه السورة تحارب الشرك وعبادة الأصنام ويدور فيها الكلام أكثر ما يدور على المشركين وعبدة الأصنام، وتستخدم مختلف الأساليب لإِيقاظهم، فهي تستخدم هنا حكاية إِبراهيم بطل التوحيد، وتشير إِلى منطقه القوي في تحطيم الأصنام ضمن بضع آيات.

من الجدير بالإِنتباه أنّ القرآن في كثير من بحوثه عن التوحيد ومحاربة عبادة الأصنام يستند إِلى هذه الحقيقة، لأنّ إِبراهيم(عليه السلام) كان يحظى باحترام الأقوام كافة، وعلى الأخص مشركي العرب.

يقول: إِنّ إِبراهيم وبخ أباه (عمّه) قائلا: أتختار هذه الأصنام الحقيرة التي لا حياة فيها آلهة للعبادة: (وإِذ قال إِبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة إِنّي أراك وقومك في ضلال مبين) وأي ضلال أشد وأضح من أن يجعل الإِنسان ما يخلقه بيده إِلهاً يعبده، ويتخذ من كائن جامد لا روح فيه ولا إِحساس ملجأ يفزع إِليه ويبحث عن حل مشاكله عنده.

[343]

هل كان آزر أبا إبراهيم؟

تطلق كلمة «الأب» في العربية على الوالد غالباً، ولكنّها قد تطلق أيضاً على الجد من جهة الأُمّ وعلى العم، وكذلك على المربي والمعلم والذين يساهمون بشكل ما في تربية الإِنسان، ولكنّها إذا جاءت مطلقة فانّها تعني الوالد ما لم تكن هناك قرينة تدلّ على غير ذلك.

فهل الرجل الذي تشير إِليه الآية (آزر) هو والد إِبراهيم؟ أيجوز أن يكون عابد الأصنام وصانعها والد نبي من أُولي العزم؟ ألا يكون للوراثة من هذا الوالد تأثير سيء في أبنائه؟

بعض مفسّري أهل السنّة يجيب بالإِيجاب على السؤال الأوّل، ويعتبر آزر والد إِبراهيم الحقيقي، أمّا المفسّرون الشيعة فيجمعون على أن آزر ليس والد إِبراهيم، بل قال بعضهم: إِنّه كان جدّه لأُمّه، وقال أكثرهم: إِنّه كان عمه، وهم في ذلك يستندون إِلى القرائن التّالية:

1 ـ لم يرد في كتب التّأريخ أنّ أبا إِبراهيم هو آزر، بل يقول التّأريخ إِنّ اسم أبيه هو «تارخ» وهذا ما ورد أيضاً في العهدين القديم والجديد، والذين يعتبرون آزر والد إِبراهيم يستندون إِلى تعليلات لا يمكن قبولها من ذلك أنّهم يقولون: إِنّ اسم والد إِبراهيم هو تارخ ولقبه آزر، وهذا القول لا تسنده الوثائق التّأريخية.

أو يقولون: إِنّ «آزر» اسم صنم كان أبو إِبراهيم يعبده، وهذا القول لا يأتلف مع هذه الآية التي تقول أن أباه كان آزر، إِلاّ إذا قدرنا جملة أو كلمة، وهذا أيضاً خلاف الظاهر.

2 - يقول القرآن: (ما كان للنّبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى...) ثمّ لكيلا يتخذ أحد من استغفار إِبراهيم لآزر حجّة يقول: (وما كان استغفار إِبراهيم لأبيه إِلاّ عن موعدة وعدها إِياه فلمّا تبيّن أنّه عدو لله

[344]

تبرأ منه)(1) وذلك لأنّ إِبراهيم كان قد وعد آزر أن يستغفر له: (سأستغفر لك ربّي)(2) بأمل رجوعه عن عبادة الأصنام، ولكنّه عندما رآه مصمماً على عبادة الأصنام ومعانداً، ترك الإِستغفار له.

يتّضح من هذه الآية بجلاء أن إِبراهيم بعد أن يئس من آزر، لم يعد يطلب له المغفرة ولم يكن يليق به أن يفعل.

كل القرائن تدل على أنّ هذه الحوادث وقعت عندما كان إِبراهيم شاباً، يعيش في بابل ويحارب عبدة الأصنام.

ولكن آيات أُخرى في القرآن تشير إِلى أن إِبراهيم في أواخر عمره، وبعد الإِنتهاء من بناء الكعبة، طلب المغفرة لأبيه (في هذه الآيات ـ كما سيأتي ـ لم تستعمل كلمة «أب» بل استعملت كلمة «والد» الصريحة في المعنى) حيث يقول: (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إِسماعيل وإِسحاق إِنّ ربّي لسميع الدعاء ... ربّنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)(3).

إِذا جمعنا هذه الآية مع آية سورة التوبة التي تنهي المسلمين عن الاستغفار للمشركين وتنفي ذلك عن إِبراهيم، إِلاّ لفترة محدودة ولهدف مقدس، تبيّن لنا بجلاء أنّ المقصود من «أب» في الآية المذكورة ليس «الوالد»، بل هو العم أو الجد من جانب الأُمّ أو ما إِلى ذلك، وبعبارة أُخرى: إِنّ «والد» تعطي معنى الأُبوة المباشرة، بينما «أب» لا تفيد ذلك.

وقد وردت في القرآن كلمة «أب» بمعنى العم، كما في الآية (133) من سورة البقرة: (قالوا نعبد الهك وإِله أبائك إِبراهيم وإِسماعيل وإِسحاق إِلهاً واحداً)والضمير في «قالوا» يعود على أبناء يعقوب، وكان إِسماعيل عم يعقوب،

_____________________________

1 ـ التوبه، 113 و114.

2 ـ مريم، 47.

3 ـ إِبراهيم، الآيتان 39 و41.

[345]

لا أباه.

3 ـ وهناك روايات إِسلامية مختلفة تؤكّد هذا الأمر، فقد جاء في حديث معروف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «لم يزل ينقلني الله من أصلاب الطاهرين إِلى أرحام المطهرات حتى أخرجني في عالمكم هذا لم يدنسني بدنس الجاهلية»(1).

ولا شك أن أقبح أدناس الجاهلية هو الشرك وعبادة الأوثان، أما القائلون أنّ أقبحها هو الزنا فلا يقوم على قولهم دليل. خاصّة وانّ القرآن يقول: (إِنّما المشركون نَجس)(2).

الطبري، وهو من علماء أهل السنة، ينقل في تفسيره «جامع البيان» عن المفسّر المعروف «مجاهد» أنّه قال: لم يكن آزر والد إِبراهيم(3).

الآلوسي في «روح المعاني» يؤكّد عند تفسير هذه الآية أنّ الشيعة ليسوا وحدهم الذين يعتقدون أن آزر لم يكن والد إِبراهيم، بل إِن كثيراً من علماء المذاهب الأُخرى يرون أن آزر اسم عم إِبراهيم(4).

والسيوطي العالم السني المعروف، نقل في كتابه «مسالك الحنفاء» عن أسرار التنزيل للفخر الرازي أن والدي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأجداده لم يكونوا مشركين أبداً. مستدلا على ذلك بالحديث الذي نقلنا آنفاً، ثمّ يستند السيوطي نفسه إِلى مجموعتين من الرّوايات.

الأُولى: تقول إِنّ آباء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأجداده حتى آدم كان كل واحد منهم أفضل أهل زمانه (وينقل أمثال هذه الرّوايات عن «صحيح البخاري» و«دلائل النبوة» للبيهقي وغيرهما من المصادر).

_____________________________

1 ـ يورد هذا الحديث كثيرون من مفسّري الشيعة والسنة، كالمرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» والنيسابوري في تفسير «غرائب القرآن» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» والآلوسي في تفسير «روح المعاني».

2 ـ التوبة، 28.

3 ـ «جامع البيان»، ج 7، ص 158.

4 ـ تفسير «روح المعاني»، ج 7، ص 169.

[346]

والثّانية: هي التي تقول: إِنّه في كل عصر وزمان كان هناك أُناس من الموحدين الذين يعبدون الله، ثمّ يجمع بين هاتين المجموعتين من الرّوايات ويستنتج أنّ أجداد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، بما فيهم والد إِبراهيم، كانوا حتماً من الموحدين(1).

يتبيّن من هذا أنّ التّفسير المذكور لهذه الآية مبني على وجود قرائن واضحة من القرآن نفسه ومن مختلف الرّوايات الإِسلامية، وليس تفسيراً مبنياً على الرأي الشخصي فقط، كما يقول بعض مفسّري أهل السنة، مثل صاحب «المنار».

* * *

_____________________________

1 ـ «مسالك الحنفاء»، ص 17 كما جاء في هامش «بحار الأنوار»، 15، 18 أو بعدها، الطبعة الجديدة.

[347]

الآيات

وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَءَا كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الاَْفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَءَا الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبِّى لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ(77) فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّى هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يَـقَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78)إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)

التّفسير

أدلة التوحيد في السموات:

على أثر الكره الذي كان يحمله إِبراهيم للأوثان وطلبه من آزر أن يترك عبادة الأصنام، تشير هذه الآيات إِلى نضال إِبراهيم المنطقي مع مختلف عبدة الأصنام، وتبيّن كيفية توصله إِلى أصل التوحيد عن طريق الاستدلال العقلي الواضح.

[348]

تبيّن أولا أنّ الله كما عرّف إِبراهيم على أضرار عبادة الأصنام عرّفه على مالكية الله وسلطته المطلقة على السموات والأرض: (وكذلك نرى إِبراهيم ملكوت السموات والأرض)(1).

«الملكوت» من «ملك» بمعنى المالكية والحكم و«الواو» و«التاء» أُضيفتا للتوكيد والمبالغة، فالمقصود من الكلمة هنا حكومة الله المطلقة على عالم الوجود برمته.

ولعل هذه الآية إِجمال للتفصيل الوارد في الآيات التّالية بشأن الكواكب والقمر والشمس وإِدراك أنّها من المخلوقات لدى مشاهدة أُفولها.

أي أنّ القرآن بدأ بذكر مجمل تلك الحالات، ثمّ أخذ يفصلها، وبهذا يتّضح المقصود من إِراءة ملكوت السموات والأرض لإِبراهيم(عليه السلام).

كما أنّه في الختام يقول إِنّ الهدف من ذلك هو أن يصبح إِبراهيم من أهل اليقين: (وليكون من الموقنين).

لا شك أنّ إِبراهيم كان موقناً يقيناً استدلالياً وفطرياً بواحدانية الله، ولكنّه بدراسة أسرار الخلق بلغ يقينه حد الكمال، كما أنّه كان مؤمناً بالمعاد ويوم القيامة، ولكنّه بمشاهدة الطيور المذبوحة التي عادت إِليها الحياة بلغ إِيمانه مرحلة «عين اليقين».

الآيات التّالية تشرح هذا المعنى، وتبيّن استدلال إِبراهيم من أُفول الكواكب والشمس على عدم الوهيتها، فعندما غطى ستار الليل المظلم العالم كلّه، ظهر أمام بصره كوكب لامع، فنادى إِبراهيم: هذا ربّي! ولكنّه إِذ رآه يغرب، قال: لا أحبّ الذين يغربون: (فلما جن الليل رأى كوكباً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لا أُحبّ الأفلين).

_____________________________

1 ـ وعلى هذا، هناك محذوف مقدار في الآية يدل عليه ما في الآيات السابقة، فيكون مضمون الآية: كما أرينا إبراهيم قبح ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام كذلك نرى إِبراهيم ملكوت السموات والأرض (تأمل بدقة).

[349]

ومرّة أُخرى رفع عينيه إِلى السماء فلاح له قرص القمر الفضي ذو الإِشعاع واللمعان الجذاب على أديم السماء، فصاح ثانية: هذا ربّي: ولكنّ مصير القمر لم يكن بأفضل من مصير الكوكب قبله، فقد أخفى وجهه خلف طيات الأُفق.

هنا قال إِبراهيم: إِذا لم يرشدني ربّي إِلى الطريق الموصل إِليه فسأكون في عداد التائهين (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربّي فلمّا أفل قال لئن لم يهدني ربّي لأكونن من القوم الضالين).

عند ذاك كان الليل قد انقضى، وراح يجمع أطراف أستاره المظلمة هارباً من كبد السماء، بينما راحت الشمس تطل من المشرق وتلقي بأشعتها الجميلة كنسيج ذهبي تنشره على الجبل والوادي والصحراء، وما أن وقعت عين إِبراهيم الباحث عن الحقيقة على قرص الشمس الساطع صاح: هذا ربّي فإِنّه أكبر وأقوى ضوءاً، ولكنّه إِذ رآها كذلك تغرب وتختفي في جوف الليل البهيم أعلن إِبراهيم قراره النهائي قائلا: يا قوم! لقد سئمت كل هذه المعبودات المصطنعة التي تجعلونها شريكة لله: (فلمّا رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلمّا أفلت قال يا قوم إِنّي بريء ممّا تشركون).

الآن بعد أن عرفت أنّ وراء هذه المخلوقات المتغيرة المحدودة الخاضعة لقوانين الطبيعة إِلهاً قادراً وحاكماً على نظام الكائنات، فاني أتجه إِلى الذي خلق السموات والأرض، وفي إِيماني هذا لن أشرك به أحداً، فاني موحد ولست مشركاً: (إِنّي وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين).

* * *

للمفسّرين كلام كثير في تفسير هذه الآية والآيات التّالية بشأن ما دفع

[350]

بإِبراهيم الموحد العابد لله الواحد، أن يشير إِلى كوكب في السماء ويقول: هذا ربّي؟ ومن بين آراء المفسّرين الكثيرة نقف عند تفسيرين قد اختار كلا منهما عدد من كبار المفسّرين، كما أنّهما مدعومان بشواهد من المصادر الحديثية:

الأوّل: يقول إِنّ إِبراهيم كان يريد شخصياً أن يفكر في معرفة الله وأن يعثر على المعبود الذي كان يجده بفطرته النقية في أعماق ذاته، إنّه كان يعرف الله بنور فطرته ودليل العقل الإِجمالي إِذ إِنّ كل تعبيراته تدل على أنّه لم يكن يشك أبداً في وجوده، ولكنّه كان يبحث عن مصداقه الحقيقي، بل لقد كان يعلم بمصداقه الحقيقي أيضاً، ولكنّه كان يريد أن يصل عن طريق الاستدلال العقلي الأوضح إِلى مرحلة «حق اليقين».

وقد وقعت له هذه الحوادث قبل نبوته، ويحتمل أن تكون في أوّل بلوغه أو قبيل ذلك.

نقرأ في بعض التواريخ والرّوايات أنّ هذه كانت المرّة الأُولى التي يرنو فيها إِبراهيم بنظره إِلى السماء وإِلى كواكبها الساطعة، لأن أُمّه كانت منذ طفولته قد أخفته في غار خوفاً عليه من بطش نمرود الجبار وجلاوزته.

غير أنّ هذا الإِحتمال يبدو بعيداً، إِذ يصعب أن نتصور إِنساناً يعيش سنوات طويلة في بطن غار ولا يخطو خارجه، ولو مرّة، في ليلة ظلماء، فلعل الذي قوى هذا الإِحتمال في نظر بعض المفسّرين هو تعبير (رأى كوكباً) الذي يوحي بأنه لم يكن قد رأى كوكباً حتى ذلك الحين، ولكن هذا التعبير لا يحمل في الواقع مثل هذا المفهوم، بل المقصود هو أنّه، وإِن كان قد رأى الكواكب والشمس والقمر مرات حتى ذلك الوقت، فقد ألقى الأوّل مرّة نظرة فاحصة مستطلعة إِلى هذه الظواهر. وكان يفكر في مغزى بزوغها وأُفولها ونفي الأُلوهية عنها، في الحقيقة كان إِبراهيم قد رآها مراراً، ولكن لا بتلك النظرة.

لذلك فإِنه عندما يقول: (هذا ربّي) لا يقولها قاطعاً جازماً، بل يقولها من باب

[351]

الفرض والإِحتمال حتى يفكر في الأمر، وهذا يشبه تماماً حالنا ونحن نحاول أن نعثر على سبب حادثة ما، فنقلب مختلف الإِحتمالات والإِفتراضات على وجوهها واحدة واحدة، ونستقصي لوازم كل فرضية حتى نعثر على العلة الحقيقية، وهذا لا يكون كفراً، بل ولا حتى دليلا على عدم الإِيمان، بل هو طريق لتحقيق أكثر ولمعرفة أفضل، للوصول إِلى مراحل أعلى من الإِيمان، كما فعل إِبراهيم في مسألة «المعاد» إِذ قام بمزيد من الدراسة يوصل إِلى مرحلة الشهود والإِطمئنان.

جاء في تفسير العياشي عن محمّد بن مسلم عن الإِمام الباقر أو الصادق(عليهما السلام)أنّه قال: «إِنّما كان إِبراهيم طالباً لربّه، ولم يبلغ كفراً، وانّه من فكر من الناس في مثل ذلك فإِنه بمنزلته»(1).

وهنالك روايتان أُخريان يذكرهما تفسير نورالثقلين بهذا الشأن.

أمّا التّفسير الثّاني فيقول: إِن إِبراهيم كان يقول هذا الكلام أثناء مخاطبته عبدة النجوم والشمس، ويحتمل أن يكون ذلك بعد مخاصماته الشديدة في بابل مع عبدة الأوثان وخروجه منها إِلى الشام، حيث التقى بهؤلاء الأقوام، وإِبراهيم الذي كان قد خبر عناد الأقوام الجاهلة في بابل وخطأ تفكيرهم، أراد أن يجلب إِليه إِنتباه عبدة الكواكب والشمس والقمر، فأظهر في البداية أنّه معهم وقال لهم: إِنكم تقولون: إِنّ كوكب الزهرة هذا هو ربّي، حسناً، فلنر ما يحصل لهذا الإِعتقاد في النهاية، ولم يمض وقت طويل حتى أختفى وجه الكوكب النير خلف ستار الأُفق المظلم، عندئذ إِتّخذ إِبراهيم من هذا الأُفول سلاحاً يواجههم به فقال: أنا لا يمكنني أن أتقبل معبوداً كهذا.

وعليه، فإِنّ عبارة (هذا ربّي) تعني: هذا ما تعتقدون أنّه ربّي، أو أنّه قالها بلهجة الإِستفهام: «هذا ربّي؟».

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 738.

[352]

ويؤيد هذا التّفسير أيضاً رواية في «نور الثقلين» وتفاسير أُخرى عن كتاب «عيون أخبار الرضا(عليه السلام)».

كيفية استدلال إِبراهيم على التوحيد:

هنا يبرز هذا السؤال: كيف استطاع إِبراهيم أن يستدل من غروب الشمس والقمر والكواكب على عدم ربوبيتها؟

يمكن أن يكون هذا الاستدلال من طرق ثلاثة:

1 ـ إِنّ الله المربي، كما يستفاد من كلمة «رب» لابدّ أن يكون دائماً قريباً من مخلوقاته وأن لا ينفصل عنهم لحظة واحدة، وعليه لا يجوز لكائن يغرب ويختفي ساعات طويلة، بنوره وبركته وتنقطع صلته كلياً عن الكائنات الأُخرى، أن يكون ربّاً وإِلهاً.

2 ـ إِنّ كائناً يغرب ويبزغ ويخضع للقوانين الطبيعية، لا يمكن أن يحكم على هذه القوانين ويملكها؟ إنّه هو نفسه مخلوق ضعيف يخضع لأوامرها وغير قادر على أدنى إِنحراف عنها ...

3 ـ إِنّ الكائن المتحرك لا يمكن إِلاّ يكون كائناً حادثاً، فقد أثبتت الفلسفة أنّ الحركة دليل على الحدوث، لأنّ الحركة ذاتها نوع من الوجود الحادث، وأن ما يكون في معرض الحوادث، أي يكون ذا حركة، لا يمكن أن يكون كائناً أزلياً وأبدياً (تأمل بدقّة).

* * *

ملاحظات

هنا لابدّ من الإِنتباه إِلى النقاط التّالية:

[353]

1 ـ في الآية الأُولى من الآيات التي نحن بصددها، كلمة «كذلك ...» تلفت النظر، وهي تعني: إنّنا مثلما أوضحنا ـ عقلا ـ أضرار عبادة الأصنام لإِبراهيم، كذلك نريه مالكية الله للسماوات والأرض وحكمه عليها، يقول بعض المفسّرين: ذلك يعني: إِنّنا كما أريناك قدرة الله وحكمه على السموات، أريناها لإِبراهيم أيضاً لكي يزداد معرفة بالله.

2 ـ أصل «الجن» ستر الشيء عن الحاسة، فمعنى الآية هو: عندما ستر الليل ملامح الكائنات عن إِبراهيم ... وإِطلاق كلمة «مجنون» على المخبول لإِسدال ستار على عقله، وإِطلاق «الجن» على الكائنات غير المرئية جاء من هذا الباب، وكذلك الجنين لإِختفائه عن الأنظار في رحم أُمه، و«الجنّة» هي البستان التي أُختفت أرضها تحت أغصان الأشجار، وقيل للقلب «الجنان» لإِستتاره في الصدر، أو لأنّه يخفي أسرار الإِنسان.

3 ـ وبشأن تعيين الكوكب الذي رآه إِبراهيم، ذهب المفسّرون مذاهب شتى، غير أنّ معظمهم يراه «الزهرة» أو «المشتري» ويذكر التّأريخ أنّ القدامى كانوا يعبدون هذين الكوكبين من بين آلهتهم، أمّا الحديث المنقول عن الإِمام الرضا(عليه السلام)في «عيون الأخبار» فيقول: إِنّ ذلك الكوكب كان «الزهرة»، وهذا ما جاء أيضاً في تفسير علي بن إِبراهيم عن الإِمام الصادق(عليه السلام)(1).

يقول بعض المفسّرين أنّ أهالي كلدة وبابل شرعوا في محاربة عبدة الأصنام، وراحوا يختارون السيارات باعتبار كل واحدة منها تمثل إِلهاً لنوع من أنواع الأشياء من ذلك أنّهم اعتبروا «المريخ» إِله الحرب، و«المشتري» إِله العدل والعلم، و«عطارد» إِله الوزراء و«الشمس» ملك الآلهة جميعاً(2).

4 ـ «بازغ» من «بزغ» وبزغه: شقه وأسال دمه، ولذلك تطلق على عمل

_____________________________

1 ـ تفسير نورالثقلين، ج 1، ص 735 و737.

2 ـ تفسير أبي الفتوح، ج 4، ص 467 ـ الهامش ـ .

[354]

البيطار في الجراحة، وإِطلاق هذه الكلمة على طلوع الشمس أو القمر تعبير بليغ يحمل أجمل صور التشبيه، فالشمس والقمر عند الطلوع يشقان الظلام، ويسكبان عند الأُفق إِحمرار الشفق الذي ليس ببعيد الشبه عن الدم المسفوح.

5 ـ «فطر» من «الفطور» بمعنى الشق، ولعل إِطلاق هذه الكلمة على خلق السماء والأرض ناشىء ـ كما قلنا في تفسير الآية (14) من هذا السورة ـ من كون العالم كان في اليوم الأوّل حسبما يقول العلم اليوم ـ كتلة واحدة، ثمّ تشققت وظهرت الكرات والإِجرام السماوية الواحدة بعد الأُخرى (انظر تفسير الآية المذكورة لمزيد من الإِيضاح).

6 ـ «الحنيف» هو الخالص، كما جاء في تفسير الآية (67) من سورة آل عمران.

* * *




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22216243

  • التاريخ : 3/02/2025 - 22:46

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net