[251]
الآيتان
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَـبِ يَشْتَرُونَ الضَّلَـلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيلَ(44) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَآئِكُمْ وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً(45)
التّفسير
في هذه الآيات يخاطب الله سبحانه نبيّه الكريم بعبارة حاكية عن التعجب والإِستغراب قائلا: (ألم تر إِلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل) أي عجيب أمر هؤلاء الذين أُتوا نصيباً من الكتاب السماوي، ولكنهم بدل أن يقوموا بهداية الآخرين وإِرشادهم في ضوء ما أوتوا من الهدى، فإِنّهم يشترون الضلالة لأنفسهم ويريدون أن تضلوا أنتم أيضاً.
وبهذا الطريق فإِنّ ما نزل لهدايتهم وهداية الآخرين تحول إِلى وسيلة لضلالهم وإضلال الآخرين بسوء نيّتهم، لأنّهم لم يكونوا أبداً بصدد الحقيقة، بل كانوا ينظرون إِلى كل شيء بمنظار النفاق والحسد والمادية السوداء.
ثمّ يقول سبحانه: إِنّ هؤلاء وإِن تظاهروا بمظهر الأصدقاء لكم إِلاّ أنّهم أعداؤكم الحقيقيون (والله أعلم بأعدائكم).
وأية عداوة أشدُّ وأكثر من أن يكرهوا هدايتكم ويخالفوا سعادتكم، تارة
[252]
باللسان وتارة عن طريق إِظهار النصح، وثالثة عن طريق الذم، ويجتهدون في تحقيق أهدافهم المشؤومة في كل ظرف وزمان بنحو خاص، وشكل معين.
ولكن لا تخافوا عداوتهم أبداً ولا تستوحشوا لمواقفهم المعادية فلستم وحدكم في الميدان، فكفاكم أنّ الله قائدكم ووليكم وناصركم: (وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً).
لأنّه لا يمكنهم أن يفعلوا شيئاً، فإذا تجاهلتم أحاديثهم ووساوسهم لم يبق أي مجال للخوف والقلق.
ثمّ إنّه يستفاد من عبارة: (أوتوا نصيباً من الكتاب) أنّ ما كان عندهم من الكتاب لم يكن كل ما في الكتاب السماوي «التوراة»، بل كان بعضه وقسماً منه، وهذا يتفق مع حقائق التاريخ المسلمة أيضاً، تلك الحقائق التي تؤكد ضياع أو تحريف أقسام من التوراة الحقيقية مع مضي الزمن.
* * *
[253]
الآية
مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرُ مُسْمَع وَرَعِنَا لَيَّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطْعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلا(46)
التّفسير
جانب آخر من أعمال اليهود:
تعقيباً على الآيات السابقة تشرح هذه الآية صفات جماعة من أعداء الإِسلام، وتشير إِلى جانب من أعمالهم ومواقفهم.
فتقول أوّلا: إِنّ أحد أعمال هذه الجماعة هو تحريف الحقائق، وتغيير حقيقة الأوامر الإِلهية: (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) أي أنّ جماعة من اليهود يحرفون الكلمات عن مواضعها.
وهذا التحريف قد يكون له جانب لفظي، وقد يكون له جانب معنوي وعملي.
أمّا العبارات اللاحقة فتفيد أن المراد من التحريف في المقام هو التحريف اللفظي وتغيير العبارة، لأنّه تعالى يقول بعد هذه الجملة: (ويقولون سمعنا
[254]
وعصينا)يعني بدل أن يقولوا «سمعنا وأطعنا» يقولون «سمعنا وعصينا» وهذا يشبه تماماً كلام من يقول مستهزءً: «منك الأمر ومنّا عدم السماع»، هذا والعبارات الاُخرى في هذه الآية خير شاهد على هذا القول.
ثمّ يشير إِلى قسم آخر من أحاديثهم العدائية المزيجة بروح التحدي والصلافة حيث يقول: إِنّهم يقولون: (واسمع غير مسمع) وبهذا الطريق يتوسل هذا الفريق للحفاظ على جماعة من المغفلين، ـ مضافاً إِلى سلاح تحريف الحقائق والخيانة في إبلاغ الكتب السماوية التي كانت تشكل الوسيلة الحقيقية لنجاة ذلك الفريق وشعبهم من مخالب الطغاة الظلمة مثل فرعون ـ يتوسلون بسلاح الإِستهزاء والسخرية الذي هو سلاح الأنانيين والمغرورين ووسيلة العتاة والمعاندين، وربّما استخدموا مضافاً إِلى كل ذلك عبارات كان المسلمون المخلصون يرددونها أمام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع تغييرات في معانيها تكميلا لإستهزائهم وسخريتهم، مثل جملة «راعنا» التي معناها «تفقدنا وأمهلنا» وكان المسلمون الصادقون في صدر الإِسلام ومطلع الدّعوة المحمّدية يرددونها أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليتمكنوا من سماع صوت النّبي وكلامه بنحو أفضل، ولكن هذا الفريق من اليهود كانوا يتوسلون بهذه الجملة لإِيذاء النّبي ويسيئون استخدامها ويكررونها أمام النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يقصدون منها معناها العبري الذي هو «سمعنا غير مسمع» أو «أسمعنا لا سمعت» أو معناه العربي الآخر، وهو ما يرجع إِلى الرعونة (1) الذي يعني الحمق، قصداً منهم إِلى أن عمل النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان ـ والعياذ بالله ـ خداع الناس واستغلال سذاجتهم.
وقد كان هذا كله بهدف إزاحة الحقائق عن محورها الأصلي بألسنتهم
____________________________
1 ـ راعنا إذا أُخذت مشتقة من مادة الرعي تكون بمعنى فعل الطلب من المراعاة والمراقبة، وبمعنى أمهلنا، وإذا أُخذت مشتقة من الرعونة تكون بمعنى «أخدعنا وأجعلنا حمقاء عندك»، يقولون ذلك على سبيل الإِستهزاء والسب، ولابدّ من الإِلتفات إِلى أن راعنا على الوجه الأوّل تكون بدون تشديد النون، وعلى الوجه الثاني بتشديد النون، ويستفاد من جملة من الروايات أن اليهود كانوا يتعمدون تشديد النون في راعنا ومد آخرها.
[255]
والطعن في الدين الحق، والشريعة الحقة: (ليا بألسنتهم وطعناً في الدين).
(واللي على وزن الحي بمعنى الفتل، مثل فتل الحبل وما شابهه، ويأتي أيضاً بمعنى التغيير والتحريف).
(ولو أنّهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيراً لهم وأقوم) أي أنّهم إِن سلكوا الطريق المستقيم وتركوا كل ذلك اللجاج والعناد، ومعاداة الحق، وسوء الأدب، والجرأة والقحة وقالوا: سمعنا كلام الله وأطعنا، فاستمع إِلى كلامنا وأمهلنا لكي ندرك الحقائق إِدراكاً كاملا، لكان ذلك من مصلحتهم، وكان في ذلك منفعتهم، وأكثر انسجاماً وتوافقاً مع العدل والمنطق والعدل والأدب.
(ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا).
أي أنّهم لن يتخلوا عن هذا السلوك الشائن بسرعة، كيف؟ وقد ابتعدوا عن رحمة الله بسبب ما هم عليه من كفر وتمرد وطغيان، وماتت أفئدتهم وتحجرت بحيث صار من المتعذر أن تخضع للحق، وأن تحيا من رقدتها بهذه السرعة، اللّهم إِلاّ بعضهم ممن يمتلك فؤاداً طاهراً وعقلا يقظاً، فهؤلاء هم المستعدون للقبول بالحقائق، والإِستماع إِلى نداء الحق والإِيمان به.
وقد اعتبر جماعة هذه الجملة من مغيبات القرآن وإِخباراته الغبيية، لأنّه ـ كما يخبر القرآن الكريم في هذه الآية ـ لم يؤمن من اليهود طوال التاريخ الإِسلامي ولم يذعن للحق اِلاّ جماعة قليله، وأمّا غيرهم ـ وهم الأكثرية الساحقة ـ فقد بقوا ـ وإِلى الآن ـ على عدائهم الشديد، وخصومتهم للإِسلام، ولم يزالوا يكيدون له المكائد، ويحيكون ضده المؤامرات.
* * *
[256]
الآية
يَـأيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَـبَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّنْ قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْنَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَـبَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولا(47)
التّفسير
مصير المعاندين:
تعقيباً على البحث السابق في الآية المتقدمة حول أهل الكتاب، وجه الخطاب في هذه الإية إليهم أنفسهم، إِذ قال سبحانه: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم) أي آمنوا بالقرآن الكريم الذي تجدونه موافقاً لما جاء في كتبكم من العلامات والبشائر، ولا شك أنّكم أولى من غيركم ـ ولديكم مثل هذه الأدلة والعلائم ـ بالإِيمان بهذا الدين الطاهر.
ثمّ إن الله سبحانه يهددهم بأنّ عليهم أن يخضعوا للحقّ ويذعنوا له قبل أن يُصابوا بإِحدى عقوبتين، الأُولى: أن تنمحي صورهم كاملة، وأن تذهب عنهم جوارحهم وأعضاؤهم التي يرون ويسمعون ويدركون بها الحق، كلّها ثمّ تقلب وجوههم إِلى خلف كما يقول سبحانه: (من قبل أن نطمس(1) وجوهاً فنردّها
____________________________
1 ـ الطمس هو إِزالة الأثر بالمحو، مثل أن نهدم بيتاً ثمّ نزيل أثره بالمرة ـ ولكنه يطلق ـ كناية ـ على ما فقد أثره وخاصيته.
[257]
على أدبارها).
ولعلّنا لسنا بحاجة إِلى أن نذكر بأنّ المراد من هذه العبارة هو تعطل عقولهم وحواسهم من حيث عدم رؤية حقائق الحياة وإدراكها، والإِنحراف عن الصراط المستقيم كما جاء في حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) من أنّ المراد: «نطمسها عن الهدى فنردّها على أدبارها في ضلالتها ذمّاً لها بأنّها لا تفلح أبداً»(1).
توضيح ذلك أنّ أهل الكتاب، وبخاصّة اليهود منهم، عندما أعرضوا عن الإِذعان بالحق رغم كل تلك العلائم والبراهين، وعاندوا تعنتاً واستكباراً وأظهروا مواقفهم المعاندة في أكثر من ساحة، صار العناد والزور طبيعتهم الثانية شيئاً فشيئاً، وكأن أفكارهم قد مسخت وكأن عيونهم قد عميت وآذانهم قد صمت، ومثل هؤلاء من الطبيعي أن يتقهقروا في طريق الحياة بدل أن يتقدموا، وأن يرتدوا على الأدبار بدل أن يتحركوا إِلى الأمام، وهذا هو جزاء كل من ينكر الحق عناداً وعتواً، وهذا في الحقيقة يشبه ما أشرنا اليه في مطلع سورة البقرة الآية (6).
وعلى هذا، فإِن المراد من «الطمس وعفو الأثر والرّد على العقب» في الآية الحاضرة هو المحو الفكري والروحي، والتأخر المعنوي.
وأمّا العقوبة الثانية التي هددهم الله بها فهي اللعن والطرد من رحمته تعالى إِذ قال: (أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت)(2).
وهنا يطرح سؤال وهو: ما الفرق بين هذين التهديدين، حتى يفصل بينهما بـ «أو»؟
____________________________
1 ـ مجمع البيان، ج 2، ص 55، في ذيل الآية الحاضرة.
2 ـ أصحاب السبت هم الذين ستأتي قصّتهم في سورة الأعراف عند تفسير الآيات (163 ـ 166) وهم جماعة من اليهود كانوا قد كلفوا بتعطيل العمل والكسب في يوم السبت، ولكنّهم اشتغلوا بالصيد في ذلك اليوم بالرغم من نهى نبيّهم، فتجاوزوا في الطغيان الحدّ، فابتلاهم الله بأشد العقوبات.
[258]
ذهب بعض المفسّرين إِلى أنّ التهديد الأوّل ينطوي على جانب معنوي، والتهديد الثّاني ينطوي على جانب ظاهري ومسخ جسمي، وذلك بقرينة أن الله قال في هذه الآية: (كما لعنا أصحاب السبت) ونحن نعلم أن أصحاب السبت ـ كما يتّضح من مراجعة الأعراف ـ قد مسخوا مسخاً ظاهرياً وجسدياً.
وذهب آخرون إِلى أن هذا اللعن والطرد من رحمة الله ينطوي أيضاً على جانب معنوي بفارق واحد، هو أنّ التهديد الأوّل إِشارة إِلى الإِنحراف والضلال والتقهقر الذي أصابهم، والتهديد الثّاني إِشارة إِلى معنى الهلاك والفناء (الذي هو أحد معاني اللعن).
خلاصة القول: إنّ أهل الكتاب بإِصرارهم على مخالفة الحق يسقطون ويتقهقرون أو يهلكون.
ثمّ إِنّ هنا سؤالا آخر هو: هل تحقق التهديد في شأن هؤلاء، أم لا؟
لا شك أنّ التهديد الأوّل قد تحقق في شأن كثير منهم، وأمّا التهديد الثّاني فقد تحقق في بعضهم، ولقد هلك كثير منهم في الحروب الإِسلامية، وذهبت شوكتهم وقدرتهم. وإِنّ تأريخ العالم ليشهد كيف تعرضوا بعد ذلك لكثير من الضغوطات في البلاد المختلفة، وفقدوا الكثير من أفرادهم وعناصرهم، وخسروا الكثير من طاقاتهم، ولا يزالون إِلى الآن يعيشون في ظروف صعبة وأحوال قاسية.
ثمّ إنّ الله يختم هذه الآية بقوله: (وكان أمر الله مفعولا) ليؤكّد هذه التهديدات، فإِنّه لا توجد قوّة في الأرض تستطيع أن تقف في وجه إِرادة الله ومشيئته.
* * *
[259]
الآية
إِنَّ اللهَ لاَيَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثمَاً عَظِيماً(48)
التّفسير
أرجى آيات القرآن:
الآية الحاضرة تعلن بصراحة أنّ جميع الذنوب والمعاصي قابلة للمغفرة والعفو، إِلا «الشرك» فإِنّه لا يغفر أبداً، إِلاّ أن يكف المشرك عن شركه ويتوب ويصير موحداً، وبعبارة أُخرى: ليس هناك أي ذنب قادر بوحده على إَزالة الإِيمان، كما ليس هناك أي عمل صالح قادر على خلاص الإِنسان إِذا كان مقروناً بالشرك (إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
إِنّ إرتباط هذه الآية بالآيات السابقة إِنّما هو من جهة أن اليهود والنصارى كانوا بشكل من الاشكال مشركين، كل طائفة بشكل معين، والقرآن ينذرهم ـ بهذه الآية ـ بأن يتركوا هذه العقيدة الفاسدة التي لا يشملها العفو والغفران، ثمّ يبيّن في خاتمة الآية دليل هذا الأمر إذ يقول: (ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً)(1).
____________________________
1 ـ الإِفتراء، مشتقة من مادة فرى على وزن (فرد) بمعنى القطع، وحيث أنّ قطع بعض أجزاء الشىء السالم يفسد ذلك الشيء ويخربه إستعمل في كل مخالفة، ومن جملة ذلك الشرك والكذب والتهمة.
[260]
وهذه الآية من الآيات التي تطمئن الموحدين إِلى رحمة الله ولطفه، لأنّ في هذه الآية قد بيّن سبحانه إمكان العفو عن جميع المعاصي والذنوب غير الشرك، فهي كما جاء في حديث عن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) أرجى آيات القرآن الكريم إذ قال: «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».
وهذه الآية ـ كما قال ابن عباس «ثماني آيات نزلت في سورة النساء، خير لهذه الأُمّة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت وعدّ منها هذه الآية»(1).
لأنّ هناك كثيرين يرتكبون المعاصي العظيمة ثمّ يقنطون من رحمة الله وغفرانه إِلى الأبد، فيتسبب قنوطهم في أن يسيروا بقية عمرهم في طريق المعصية والخطأ بنفس القوّة والإصرار، ولكن الأمل في عفو الله وغفرانه خير وسيلة رادعة بالنسبة إِلى هؤلاء، وخير مانع من تماديهم في المعصية والطغيان، وعلى هذا الأساس فإِنّ هذه الآية تهدف ـ في الحقيقة ـ إِلى مسألة تربوية.
فإِذا رأينا عصاة مجرمين (كما يقول بعض المفسّرين، ويعلم ذلك من الروايات المذكورة في ذيل هذه الآية) أمثال «وحشي» غلام هند وقاتل بطل الإِسلام حمزة بن عبدالمطلب عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمن مع نزول هذه الآية، وينتهي عن جرائمه وشقاوته، فإِن من الطبيعي أن يوجد ذلك مثل هذا الأمل لدي العصاة الآخرين، فلا ييأسوا من رحمة الله وغفرانه، ولا يتورطوا في المزيد من الذنوب والمعاصي.
ويمكن أن يقال: إِنّ هذه الآية من شأنها أن تشجع الناس في الوقت ذاته على الذنب وتغريهم بالمعصية، لما فيها من الوعد بالعفو عن «جميع الذنوب ما عدا الشرك».
ولكن لا شك أنّ المراد من الوعد بالعفو والمغفرة ليس هو الوعد المطلق من
____________________________
1 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 57.
[261]
كل قيد وشرط، بل يشمل الأشخاص الذين يظهرون من أنفسهم نوعاً من اللياقة والصلاح لمثل هذا العفو والغفران، وكما أشرنا إِلى ذلك في ما سبق، فإِن مشيئة الله ـ في هذه الآية والآيات المشابهة لها ـ بمعنى الحكمة الإِلهية، لأن مشئته تعالى لا تنفصل عن حكمته أبداً، ومن البديهي والمسلم أن حكمته لا تقتضي أن ينال أحد العفو الإِلهي من دون قابلية وصلاح لذلك.
وعلى هذا الأساس فإِن الجوانب والأبعاد التربوية البناءة في هذه الآية تفوق ـ بمراتب كثيرة ـ إِمكان سوء استخدام الوعد الموجود فيها.
أسباب مغفرة الذنوب:
ثمّ إنّ النقطة الجديرة بالإِنتباه إنّ هذه الآية لا ترتبط بمسألة التوبة، لأنّ التوبة والعودة عن الذنب تغسل جميع الذنوب والمعاصي حتى الشرك، بل المراد هو إمكان شمول العفو الإِلهي لمن لم يوفق للتوبة، يعني الذين يموتون قبل الندم من ذنوبهم، و بعد الندم وقبل جبران ما بدر منهم من الأعمال الطالحة بالأعمال الصالحة.
وتوضيح ذلك: أنّه يستفاد من آيات عديدة في القرآن الكريم أن وسائل التوصل إِلى العفو والمغفرة الإِلهية متعددة، ويمكن تلخيصها في خمسة أُمور:
1 ـ التوبة والعودة إِلى الله تعالى، المقرونة بالندم على الذنوب السابقة، والعزم على الإِجتناب عن الذنب والمعصية في المستقبل، وجبران وتلافي الأعمال الطالحة السالفة بالأعمال الصالحة (والآيات الدّالة على هذا المعنى كثيرة) ومن جملتها قوله سبحانه: (وهو الذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السيئات)(1).
2 ـ الأعمال الصّالحة المهمّة جدّاً والتي تسبب العفو عن الأعمال القبيحة
____________________________
1 ـ الشورى، 25.
[262]
كما يقول سبحانه: (إن الحسنات يذهبن السيئات)(1).
3 ـ الشّفاعة التي مرّ شرحها في المجلد الأول عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
4 ـ الإِجتناب عن المعاصي الكبيرة الذي يوجب العفو عن المعاصي الصغيرة كما مرّ شرحها عند تفسير الآيتين (31 و32) من هذه السورة.
5 ـ العفو الإِلهي الذي يشمل الأشخاص اللائقين له، كما مرّ بحثه في تفسير هذه الآية.
هذا ونكرر تذكيرنا بأن العفو الإِلهي مشروط ومقيد بالمشيئة الإِلهية، ولا يكون قضية مطلقة دون أي قيد أو شرط، بل تشمل هذه المشيئة والإِرادة خصوص الأشخاص الذين يثبتون بصورة عملية لياقتهم وصلاحيتهم لهذه الهبة الإِلهية بنحو من الأنحاء.
ومن هنا يتّضح لماذا لا يكون الشرك ممّا يشمله العفو والغفران الإِلهي، فالسبب في ذلك هو: إنّ المشرك قد قطع صلته بالله بصورة كاملة، وارتكب ما يخالف كل الشرائع والأديان والقوانين الطبيعية والنّواميس الكونية.
* * *
____________________________
1 ـ هود، 114.
[263]
الآيتان
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللهُ يُزَكِّى مَنْ يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلا(49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً(50)
سبب النّزول
روي في كثير من التفاسير في ذيل هذه الآية أنّ اليهود والنصارى كانوا يرون لأنفسهم أُموراً وامتيازات، فهم ـ كما نرى ذلك في آيات القرآن الكريم عند الحكاية عنهم ـ كانوا يقولون: (نحن أبناء الله) وربّما قالوا: (لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً أو نصارى) (الآية (18) من سورة المائدة، والآية (111) من سورة البقرة) فنزلت هذه الآيات تبطل هذه التصورات والمزاعم.
التّفسير
تزكية النفس(1):
قال تعالى في الآية الأُولى من الآيتين الحاضرتين: (ألم تر إلى الذين يزكّون
____________________________
1 ـ يزكّون من مادة «تزكية» بمعنى تطهير، وتأتي احياناً بمعنى التربية والتنمية، ففي الحقيقة اذا كانت التزكية مقترنة بالعمل فإنّها تعتبر امراً محموداً، وإلاّ لو كانت مجرّد ادّعاء وكلام فارغ فهي مذمومة.
[264]
أنفسهم) وفي هذه إشارة إلى إحدى الصفات الذميمة التي قد يبتلى بها كثير من الأفراد والشعوب، إنّها صفة مدح الذات وتزكية النفس، وادعاء الفضيلة لها.
ثمّ يقول سبحانه: (بل الله يزكي من يشاء) فهو وحده الذي يمدح الأشخاص ويزكيهم طبقاً لما يتوفر عندهم من مؤهلات وخصال حسنة دون زيادة أو نقصان، وعلى أساس من الحكمة والمشئية البالغة، وليس اعتباطاً أو عبثاً. ولذلك فهو لا يظلم أحداً مقدار فتيل: (ولا يظلمون فتيلا)(1).
وفي الحقيقة أنّ الفضيلة هي ما يعتبرها الله سبحانه فضيلة لا ما يدعيه الإشخاص لأنفسهم انطلاقاً من أنانيتهم، فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم.
إِن هذا الخطاب وإِن كان موجهاً إِلى اليهود والنصارى الذين يدعون لأنفسهم بعض الفضائل دونما دليل، ويعتبرون أنفسهم شعوباً مختارة فيقولون أحياناً: (لن تمسّنا النّار إلاّ أيّاماً معدودة)(2) ويقولون تارة أُخرى: (نحن أبناء الله وأحباؤه)(3) إلا أنّ مفهومه لا يختص بقوم دون قوم، وجماعة دون جماعة، بل يشمل كل الأشخاص أو الأُمم المصابة بمثل هذا المرض الوبي، وهذه الصفة الذميمة.
إِنّ القرآن يخاطب جميع المسلمين في (سورة النجم ـ الآية 32) فيقول: (فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).
إِنّ مصدر هذا العمل هو الإِعجاب بالنفس والغرور، والعجب الذي يتجلى شيئاً فشيئاً في صورة امتداح الذات وتزكية النفس، بينما ينتهي في نهاية المطاف إِلى التكبر والإِستعلاء على الآخرين.
إِنّ هذه العادة الفاسدة ـ مع الأسف ـ من العادات الشائعة بين كثير من
____________________________
1 ـ الفتيل في اللغة بمعنى الخيط الدقيق الموجود بين شقي نواة التمر، ويأتي كناية عن الأشياء الصغيرة والدقيقة جداً، وأصله من مادة «فتل» بمعنى البرم.
2 ـ البقره، 80.
3 ـ المائدة، 18.
[265]
الشعوب والفئات والأشخاص، وهي مصدر الكثير من المآسي الإِجتماعية والحروب وحالات الإِستعلاء والاستعمار.
إِنّ التاريخ يرينا كيف أن بعض الأمم في العالم كانت تزعم تفوقها على الشعوب والأُمم الاُخرى تحت وطأة هذا الشعور والإِحساس الكاذب، ولهذا كانت تمنح لنفسها الحق في أن تستعبد الآخرين، وتتخذهم لأنفسها خولا وعبيداً.
لقد كان العرب الجاهليون مع كل التخلف والإِنحطاط والفقر الشامل الذي كانوا يعانون منه، يرون أنفسهم «العنصر الأعلى» بل وكانت هذه الحالة سائدة حتى بين قبائلهم حيث كان بعض القبائل يرى نفسه الأفضل والأعلى.
ولقد تسبب الإِحساس بالتفوق لدى العنصر الألماني والإِسرائيلي في وقوع الحروب العالمية أو الحروب المحلية.
ولقد كان اليهود والنصارى في صدر الإِسلام يعانون ـ أيضاً ـ من هذا الإِحساس والشعور الخاطىء وهذا الوهم، ولهذا كانوا يستثقلون الخضوع أمام حقائق الإِسلام، ولهذا السبب شدد القرآن الكريم النكير ـ في الآية اللاحقة الثانية ـ على هذا التصور وشجب هذا الوهم، وهم التفوق العنصري، ويعتبره نوعاً من الكذب على الله والإِفتراء عليه سبحانه، ومعصية كبرى وذنباً بيّناً إِذ يقول سبحانه: (انظر كيف يفترون على الله الكذب، وكفى به اثماً مبيناً) أي أنظر كيف أن هذه الجماعة بافتعالها لهذه الفضائل وادعائها لنفسها من ناحية، ونسبتها إِلى الله من ناحية أُخرى، تكذب على الله، ولو لم يكن لهذه الجماعة أي ذنب إلاّ هذا لكفى في عقوبتهم.
يقول الإِمام علي(عليه السلام) في حديثه المعروف لـ «همام» الذي يذكر فيه صفات المتقين:
«لا يرضون من أعمالهم القليل، ولا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متهمون، ومن
[266]
أعمالهم مشتفقون إِذا زكى أحد منهم خاف ممّا يقال له فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربّي أعلم بي من نفسي، اللّهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني أفضل ما يظنون، واغفرلي ما لا يعلمون».
* * *
[267]
الآيتان
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَـبِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّـغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـؤُلاَءِ أَهْدَىْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلا(51) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً(52)
سبب النّزول
قال كثير من المفسّرين ـ في شأن نزول الآيتين الحاضرتين: أنّه بعد معركة «أُحد» توجه أحد أقطاب اليهود وهو «كعب بن الأشرف» مع سبعين شخصاً من اليهود إِلى مكّة للتحالف مع مشركي مكّة ضد رسول الإِسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) ونقض ما كان بينهم وبين رسول الله من الحلف.
فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش، فقال أهل مكّة: أنكم أهل كتاب ومحمّد صاحب كتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكر منكم، فإِن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين (وأشاروا إِليها) وآمن بهما، ففعل.
ثمّ إقترح كعب بن الأشرف على أهل مكّة قائلا: يا أهل مكّة ليجيء منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فنلصق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ هذا البيت لنجهدن على
[268]
قتال محمّد، ففعلوا ذلك.
فلمّا فرغوا قال أبوسفيان لكعب: إِنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقاً وأقرب إِلى الحقّ، نحن أم محمّد؟
قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء (وهي الناقة العظيمة السنام) ونسقيهم الماء، ونقرى الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمرّ بيت ربّنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمّد فارق دين آبائه، وقاطع الرحم، وفارق الحرم، وديننا القديم، ودين محمّد الحديث.
فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد.
فأنزل الله تعالى الآيات الحاضرة إِجابة لهم ورداً عليهم:
التّفسير
المداهنون:
إِن الآية الأُولى من الآيتين الحاضرتين تعكس ـ بملاحظة ـ ما ذكر في سبب النزول قريباً ـ صفة أُخرى من صفات اليهود الذميمة، وهي أنّهم لأجل الوصول إِلى أهدافهم كانوا يداهنون كل جماعة من الجماعات، حتى أنّهم لكي يستقطبوا المشركين سجدوا لأصنامهم، وتجاهلوا كل ما قرؤوه في كتبهم، أو عملوا به حول صفات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وعظمة الإِسلام، بل وذهبوا ـ بغية إِرضاء المشركين ـ إِلى ترجيح عقيدة الوثنيين بما فيها من خرافات وتفاهات وفضائح على الإِسلام الحنيف، مع أنّ اليهود كانوا من أهل الكتاب، وكانت المشتركات بينهم وبين الإِسلام تفوق بدرجات كبيرة ما يجمعهم مع الوثنيين، ولهذا يقول سبحانه في هذه الآية مستغرباً: (ألم تر إلى الذين أتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت) وهي الأصنام؟
ولكنّهم لا يقتنعون بهذا، ولا يقفون عند هذا الحدّ، بل: (ويقولون للذين كفروا هؤلاءِ أهدى من الذين آمنوا سبيلا).
[269]
الجبت والطّاغوت:
استعملت لفظة «الجبت» في هذه الآية من القرآن الكريم خاصّة، وهو اسم جامد لا تعريف له في اللغة العربية، ويقال أنّه يعني «السّحر» أو «السّاحر» أو «الشّيطان» بلغة أهل الحبشة، ثمّ دخل في اللغة العربية واستعمل بهذا المعنى، أو بمعنى الصنم أو أي معبود غير الله في هذه اللغة، ويقال: أنه في الأصل «جبس» ثمّ أبدل «س» إِلى «ت».
وأمّا لفظة «الطّاغوت» فقد استعملت في ثمانية موارد من القرآن الكريم، وهي ـ كما قلنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير لدى الحديث عن الآية (256) من سورة البقرة ـ صيغة مبالغة(1) من مادة الطغيان، بمعنى التعدي وتجاوز الحدّ، ويطلق على كل شيء موجب لتجاوز الحدّ (ومنها الأصنام) ولهذا يسمى الشيطان، والصنم والحاكم الجبار المتكبر، وكل معبود سوى الله، وكل مسيرة تنتهي إِلى غير الحق، طاغوتاً.
هذا هو المعنى الكلي لهاتين اللفظتين.
أمّا المراد منهما في الآية المبحوثة الآن، فذهب المفسرون فيه مذاهب شتى.
فقال البعض بأنّهما اسمان لصنمين سجد لهم اليهود في القصّة السابقة.
وقال آخرون: الجبت هنا هو الصنم، والطّاغوت هم عبدة الأصنام، أو حماتها الذين كانوا يمثلون تراجمة الأصنام الذين كانوا يتكلمون بالتكذيب عنها ليخدعوا الناس(2)، وهذا المعنى أوفق لما جاء في سبب النزول وتفسير الآية، لأنّ اليهود سجدوا للأصنام كما خضعوا أمام عبدتها الوثنيين أيضاً.
ثمّ إنّه سبحانه بيّن ـ في الآية الثانية ـ مصير أمثال هؤلاء المداهنين قائلا: (أُولئك الذي لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً).
____________________________
1 ـ تفسير المنار، ج 3، ص 35، وذهب البعض إِلى أنه مصدر استعمل بالمعنى الوصفي وصيغة المبالغة.
2 ـ تفسير التبيان، وتفسير روح المعاني.
[270]
إِنّ اليهود ـ كما تقول هذه الآية ـ لم يحصلوا من مداهنتهم الفاضحة على نتيجة، بل انهزموا في النهاية، وتحققت نبوءة القرآن الكريم في شأنهم.
إِن الآيات الحاضرة وإِن كانت قد نزلت في شأن جماعة خاصّة، ولكنها لا تختص بهم حتماً، بل تشمل كل الأشخاص المداهنين المصلحيين (الانتهازيين) الذين يضحّون بشخصيتهم ومكانتهم، بل وإِيمانهم ومعتقداتهم في سبيل الوصول إِلى مآربهم السافلة وأغراضهم الدنيئة.
فإنّ هؤلاء أبعد ما يكونون عن رحمة الله في الدنيا والآخرة، وغالباً مايؤول أمرهم إِلى الهزيمة والفشل.
إِنّ الجدير بالإِنتباه هو أنّ هذه الحالة أو الصفة الذميمة المذكورة لا تزال باقية على قوّتها عند هؤلاء القوم، فإِنا نجد كيف أنهم لا يمتنعون عن أي مداهنة مهما كانت الشروط للوصول إِلى أهدافهم، ولهذا ظلوا يعانون من هزائمهم المنكرة طول تاريخهم الماضي والحاضر.
* * *
[271]
الآيات
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّيُوْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً(53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَـهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـهُم مُّلْكاً عَظِيماً(54) فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً(55)
التّفسير
في تفسير الآيتين السابقتين قلنا أنّ اليهود عمدوا ـ لإِرضاء الوثنيين في مكّة واستقطابهم ـ إِلى الشهادة بأنّ وثنية قريش أفضل من توحيد المسلمين، بل وعمدوا عملياً إِلى السجود أمام الأصنام، وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه أن حكمهم هذا لا قيمة له لوجهين.
1 ـ إِنّ اليهود ليس لهم ـ من جهة المكانة الإِجتماعية ـ تلك القيمة التي نؤهلهم للقضاء بين الناس والحكم في أُمورهم، ولم يفوض الناس إِليهم حق الحكم والقضاء بينهم أبداً ليكون لهم مثل هذا العمل: (أم لهم نصيب من الملك)؟
هذا مضافاً إِلى أنّهم لا يمتلكون أية قابلية وأهلية للحكومة المادية والمعنوية على الناس، لأن روح الإِستئثار قد استحكم في كيانهم بقوّة إِلى درجة أنّهم إذا حصلوا على مثل هذه المكانة لم يعطوا لأحد حقّه، بل خصّوا كل شيء
[272]
بأنفسهم دون غيرهم (فإِذاً لا يؤتون الناس نقيراً)(1).
فبالنظر إِلى أنّ هذه الأحكام التي يطلقها اليهود صادرة عن مثل هذه النفسية المريضة التي تسعى دائماً إِلى الإِستئثار بكل شيء لأنفسهم أو لغيرهم ممن يعملون لصالحهم، على المسلمين أن لا يتأثروا بأمثال هذه الأحاديث والأحكام وأن لا يقلقوا لها.
2 ـ إِنّ هذه الأحكام الباطلة ناشئة من حسدهم البغيض للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المكرمين، ولهذا تفقد أية قيمة، إنّهم إِذ خسروا مقام النبوة والحكومة بظلمهم وكفرهم، لذلك لا يحبّون أن يناط هذا المقام الإِلهي إِلى أي أحد من الناس، ولذا يحسدون النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الذين شملتهم هذه الموهبة الإِلهية وأُعطوا ذلك المقام الكريم وذلك المنصب الجليل، ولأجل هذا يحاولون بإِطلاق تلك الأحكام الباطلة وتلك المزاعم السخيفة أن يخففوا من لهيب الحسد في كيانهم: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).
ثمّ أن الله سبحانه يقول معقباً على هذا: ولماذا تتعجبون من إِعطائنا النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبني هاشم ذلك المنصب الجليل وذلك المقام الرفيع، وقد أعطاكم الله سبحانه وأعطى ال إِبراهيم الكتاب السماوي والعلم والحكمة والملك العريض (مثل ملك موسى و سليمان وداود) ولكنّكم ـ مع الأسف ـ أسأتم خلافتهم ففقدتم تلكم النعم المادية والمعنوية القيمة بسبب قسوتكم وشروركم: (فقد آتينا آل إِبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً).
والمراد من الناس في قوله: (أم يحسدون الناس) ـ كما أسلفنا ـ هم رسول الله وأهل بيته(عليهم السلام)، لإِطلاق لفظة الناس على جماعة من الناس، وأمّا إِطلاقها على شخص واحد (هو النّبي خاصّة) فلا يصح ما لم تكن هناك قرينة على إِرادة
____________________________
1 ـ «النقير» مشتقة من مادة النقر (وزن فقر) الدق في شيء بحيث يوجد فيه ثقباً واشتق منه المنقار، وقال بعض: النقير وقبَة صغيرة جدّاً في ظهر النّواة ويضرب به المثل في الشيء الطفيف.
[273]
الواحد فقط(1).
هذا مضافاً إِلى أنّ كلمة آل إِبراهيم قرينة أُخرى على أنّ المراد من «الناس» هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)، لأنّه يستفاد ـ من قرينة المقابلة ـ أنّنا إِذا أعطينا لبني هاشم مثل هذا المقام ومثل هذه المكانة ـ فلا داعي للعجب ـ فقد أعطينا لآل إِبراهيم أيضاً تلك المقامات المعنوية والمادية بسبب أهليتهم وقابليتهم.
وقد جاء التصريح في روايات متعددة وردت في مصادر الشيعة والسنة بأنّ المراد من «الناس» هم أهل بيت النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد روي عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في ذيل هذه الآية أنّه قال في تفسير الآية: «جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمّة فكيف يقرّون في آل إِبراهيم وينكرونه في آل محمّد»(2)؟
وفي رواية أُخرى عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) يجيب الإِمام على من يسأل عن المحسودين في هذه الآية قائلا: «نحن محسودون»(3).
وروي في الدّر المنثور عن ابن منذر والطبراني عن ابن عباس أنّه قال في هذه الآية: «نحن الناس دون الناس».
ثمّ قال القرآن الكريم في الآية اللاحقة: (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيراً). أي أنّ من الناس آنذاك من آمن بالكتاب الذي نزل على آل إِبراهيم، ومنهم من لم يكتف بعدم الإِيمان بذلك الكتاب، بل صدّ الآخرين عن الإِيمان وحال دون انتشاره، أُولئك كفاهم نار جهنم المشتعلة عذاباً وعقوبة.
وسينتهي إِلى نفس هذا المصير كل من كفر بالقرآن الكريم الذي نزل على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
* * *
____________________________
1 ـ الناس اسم جمع ويؤيد ذلك ضمير الجمع الراجع إليه في الآية.
2 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 376، وقد جاء في تفسير روح المعاني حديث مشابه لهذا الحديث في المضمون (روح المعاني، ج 5، ص 52).
3 ـ المصدر السابق.
[274]
دور الحسد في الجرائم:
«الحسد» يعني تمني زوال النعمة عن الآخرين سواء وصلت تلك النعمة إِلى الحسود، أم لم تصل إِليه، وعلى هذا الأساس تنصب جهود الحسود على فناء ما لدى الآخرين وزواله عنهم أم تمني ذلك، لا أن تنتقل تلك النعمة إليه.
إِن الحسد منشأ للكثير من المآسي والمتاعب الإِجتماعية، من ذلك.
1 ـ إِنّ الحاسد يصرف كل أو جلّ طاقاته البدنية والفكرية ـ التي يجب أن تصرف في ترشيد الأهداف الإِجتماعية ـ في طريق الهدم والتحطيم لما هو قائم، ولهذا فهو يبدد طاقاته الشخصية والطاقات الإِجتماعية معاً.
2 ـ إِنّ الحسد هو الدافع لكثير من الجرائم في هذا العالم، فلو أنّنا درسنا العلل الأصلية وراء جرائم القتل والسرقة والعدوان وما شابه ذلك لرأينا ـ بوضوح ـ أنّ أكثر هذه العلل تنشأ من الحسد، ولعلّه لهذا السبب شُبّه الحسد بشرارة من النار يمكنها أن تهدد كيان الحاسد أو المجتمع الذي يعيش في وسطه بالخطر، وتعرضه للضرر.
يقول أحد العلماء: إنّ الحسد من أخطر الصفات، ويجب أن يعتبر من أعدى أعداء السعادة، فيجب أن يجتهد الإِنسان لدفعه والتخلص منه.
إِنّ المجتمعات التي تتألف من الحاسدين الضيقي النظرة مجتمعات متأخرة متخلفة، والحساد ـ في الأغلب ـ عناصر قلقة وأفراد مرضى يعانون من متاعب وآلام جسدية وعصبية، وذلك قد أصبح من المسلم اليوم أن أكثر الأمراض والآلام الجسدية تنشأ من علل نفسية، فإِّننا نلاحظ الآن بحوثاً مفصلة في الطب حول الأمراض التي تختص بمثل هذه.
هذا والجدير بالذكر ورود التأكيد على هذه المسألة في أحاديث أئمّة الدين وقادة الإِسلام، ففي رواية عن الإِمام علي(عليه السلام) نقرأ قوله: «صحة الجسد من قلّة الحسد» و«العجب لغفلة الحساد عن سلامة الأجساد».
[275]
بل ووردت روايات تصرح بأن الحسد يضرّ بالحاسد قبل أن يضرّ بالمحسود، بل ويؤدي إِلى القتل والموت تدريجاً.
4 ـ إِنّ الحسد يعدّـ من الناحية المعنوية ـ من علائم ضعف الشخصية وعقدة الحقارة، ومن دلائل الجهل وقصر النظر وقلّة الإِيمان، لأنّ الحاسد ـ في الحقيقة ـ يرى نفسه أعجز وأقل من أن يبلغ ما بلغه المحسود من المكانة أو أعلى من ذلك، ولهذا يسعى الحاسد إِلى أن يرجع المحسود إِلى الوراء، هذا مضافاً إِلى أنّه بعمله يعترض على حكمة الله سبحانه واهب جميع النعم وجميع المواهب، وعلى إِعطائه سبحانه النعم إِلى من تفضل بها عليه من الناس، ولهذا جاء في الحديث الشريف عن الإِمام الصادق(عليه السلام) «الحسد أصله من عمى القلب والجحود لفضل الله تعالى، وهما جناحان للكفر، وبالحسد وقع ابن آدم في حسرة الأبد، وهلك مهلكاً لا ينجو منه أبداً»(1).
فهذا هو القرآن الكريم يصرّح بأنّ أوّل جريمة قتل اُرتكبت في الأرض كان منشؤها الحسد(2).
وجاء في نهج البلاغة عن الإِمام علي(عليه السلام) أنّه قال: «إِنّ الحسد يأكل الإِيمان كما تأكل النار الحطب»(3) وذلك لأنّ الحاسد يزداد سوء ظنه بالله وبحكمته وعدالته شيئاً فشيئاً، وهذا الأمر يؤدي به إِلى الخروج عن جادة الإِيمان.
إِنّ آثار الحسد وأضراره المادية والمعنوية وتبعاته الفردية والإِجتماعية كثيرة جدّاً، وما ذكرناه إِنّما هو في الحقيقة جدول سريع عن بعض هذه الآثار والمضار.
* * *
____________________________
1 ـ متسدرك الوسائل، ج 2، ص 327.
2 ـ المائدة، 27.
3 ـ نهج البلاغة، الخطبة 86.
[276]
الآيتان
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَيَـتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَـهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لَيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً(56) والَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلحَِـتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاّ ظَلِيلا(57)
التّفسير
تعقيباً على الآيات السابقة شرحت هاتان الآيتان مصير المؤمنين والكافرين.
فالآية الأُولى تقول: (إِنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نُصليهم(1) ناراً كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إِنّ الله كان عزيزاً حكيماً).
وعلّة تبديل الجلود ـ على الظاهر ـ هي أنّه عندما تنضج الجلود يخف الإِحساس بالألم لدى الإِنسان، ولكي لا تتخفف عقوبتها وعذابها وليحس
____________________________
1 ـ «نصليهم» من مادة «الصلى» بمعنى الإِلقاء في النار، والإِشتواء بالنّار، أو التدفؤ بالنار، و«نضجت» من مادة «نضج» بمعنى أدركت شيها، وصارت مشوية.
[277]
الإِنسان بالألم إحساساً كاملا، تبدل الجلود، وتأتي مكان الجلود الناضجة جلود جديدة، وما هذا إلاّ نتيجة الإِصرار على تجاهل الأوامر الإِلهية، ومخالفة الحق والعدل، والإِعراض عن طاعة الله.
ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية: (إِنّ الله كان عزيزاً حكيماً) أي أنّه قادر بعزّته أن يوقع هذه العقوبات بالعصاة، وأنّه لا يفعل ذلك اعتباطاً، بل عن حكمة وعلى أساس الجزاء على المعصية.
ثمّ يقول سبحانه في الآية الثانية: (والذين آمنوا وعملوا الصّالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا)(1).
أي أنّنا نعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأنّ ندخلهم جنّات تجري من تحت أشجارها الانهار والسواقي يعيشون فيها حياة خالدة، هذا مضافاً إلى ما يعطون من أزواج مطهّرات يسيريحون إليهن، ويجدون في كنفهن لذة الروح والجسد، وينعمون تحت ظلال خالدة بدل الظلال الزائلة، لا تؤذيهم الرياح اللافحة كما لا يؤذيهم الزمهرير أبداً.
بحث عن الآية:
من الأُمور الجديرة بالإِهتمام والمستفادة من المقايسة بين هاتين الآيتين هو عموم الرحمة الإِلهية وسبق رحمته على غضبه، لأنّ في الآية الأُولى ذكرت عقوبة الكفار مبدوءة بكلمة «سوف» في حين بدأ الوعد الإِلهي للمؤمنين بـ «السين» «سندخلهم»، ومن المعلوم استعمال سوف في اللغة العربية في المستقبل البعيد، واستعمال السين في المستقبل القريب، مع أننا نرى أنّ كلتا الآيتين
____________________________
1 ـ «الظليل» من مادة «الظل» بمعنى الفيء، واستعمل هنا للتأكيد، لأن معناه الظل المظلل أو الظل الظليل وهو كناية عن غاية الراحة والدعة والرفاه.
[278]
ترتبطان بالعالم الآخر، وجزاء المؤمنين وعقوبة الكافرين في ذلك العالم ـ من الناحية الفاصلة الزمانية ـ بالنسبة إلينا سواء.
فيكون الإِختلاف والتفاوت بين التعبيرين للإِشارة إِلى سرعة وسعة الرحمة الإِلهية، وبعد ومحدودية الغضب الإِلهي، وهو يشابه نفس العبارة التي نرددها في الأدعية وهي: «يا من سبقت رحمته غضبه».
سؤال:
من الممكن أن يعترض معترض هنا قائلا بأنّ الآية الحاضرة تقول: إِنّنا كلّما نضجت جلود العصاة الكفرة بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العقوبة الإِلهية، في حين أنّ الجلود العاصية هي الجلود الأصلية، فيكون تعذيب الجلود الجديدة مخالفاً للعدل الإِلهي، فكيف ذلك؟
جواب:
لقد طرح هذا السؤال بعينه من قبل ابن أبي العوجاء الرجل المادي المعروف على الإِمام الصّادق(عليه السلام) حيث قال بعد تلاوة هذه الآية «وما ذنب الغير»؟ يعني ما ذنب الجلود الجديدة؟ فردّ الإِمام على هذا السؤال بجواب مختصر في غاية العمق حيث قال: «هي هي وهي غيرها» يعني أنّ الجلود الجديدة هي نفس الجلود السابقة في حين أنّها غيرها.
فقال ابن أبي العوجاء الذي كان يعلم أنّ في هذة العبارة القصيرة سرّاً: مثل لي في ذلك شيئاً من أمر الدنيا.
فقال الإِمام(عليه السلام): «أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها، ثمّ ردها في ملبنها، فهي هي، وهي غيرها»(1).
ويستفاد من هذه الرّواية أن الجلود الجديدة تتألف من نفس عناصر الجلود القديمة، أي أن العناصر هي ذات العناصر وإن اختلف التركيب.
____________________________
1 ـ مجالس، للشّيخ الطّوسي(رحمه الله)، والإِحتجاج، للطّبرسي(رحمه الله).
[279]
ثمّ إنّه لابدّ الإِلتفات إِلى أن الثواب والعقاب يرتبطان ـ في الحقيقة ـ بروح الإِنسان وقوّة إِدراكه، والجسم ـ دائماً ـ وسيلة لإنتقال الثواب والعذاب إِلى روح الإِنسان.
* * *
[280]
الآية
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الاَْمَـنَـتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعَا بَصِيراً(58)
سبب النّزول
وروي في تفسير مجمع البيان وتفاسير إسلامية أُخرى إنّ هذه الآية نزلت عندما دخل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة المكرمة منتصراً فاتحاً، فاستحضر عثمان بن طلحة وكان سادن الكعبة فطلب منه مفتاح الكعبة المعظمة، ليطهرها من الأصنام والأوثان الموضوعة فيها، فلمّا فرغ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك سأله العباس أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين منصب السقاية ومنصب السدانة الذي له في العرب شان وشاو مجيد (والظاهر أنّ العباس أراد أن يستفيد من نفوذ ومكانة ابن أخيه الإِجتماعية والسياسية لمصلحته الشخصية)، ولكن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فعل خلاف ذلك، فإِنّه بعد ما طهر الكعبة من الأصنام والأوثان، أمر علياً(عليه السلام) أن يردّ المفتاح إِلى «عثمان بن طلحة» ففعل ذلك وهو يتلو الآية الحاضرة: (إِنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إِلى أهلها ...)(1).
____________________________
1 ـ ذهب بعض المفسرين إِلى أن الآية الحاضرة قبل فتح مكّة، وأنّ ما ذكر في سبب النزول ليس بصحيح، ولكن ما ذكر في سبب النزول صح أم لا، فإنّه لا يؤثر في القانون المهم المستفاد من الآية.
[281]
التّفسير
قانونان إسلاميان مهمان:
الآية الحاضرة وإِنّ نزلت ـ كالكثير من الآيات ـ في مورد خاص، إِلاّ أن من البديهي أنّها تتضمّن حكماً عامّاً وشاملا للجميع، فهي تقول بصراحة: (إِنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إِلى أهلها).
ومن الواضح أنّ للأمانة معنىً وسيعاً يشمل كلّ شيء مادي ومعنوي، ويجب على كل مسلم ـ بصريح هذه الآية ـ أن لا يخون أحداً في أية أمانة دون استثناء، سواء كان صاحب الأمانة مسلماً أو غير مسلم، وهذا هو في الواقع إِحدى المواد في «الميثاق الاسلامي لحقوق الإِنسان» التي يتساوى تجاهها كل أفراد البشر.
والجدير بالذكر أنّ الأمانة المذكورة في سبب النزول لم تكن مجرد أمانة مادية، ومن جانب آخر كان صاحبها المؤدى إِليه تلك الأمانة مشركاً.
ثمّ إنّه سبحانه يشير ـ في القسم الثّاني من الآية ـ إِلى قانون مهم آخر، وهو مسألة «العدالة في الحكومة» فيقول: (وإِذا حكمتم بين النّاس فاحكموا بالعدل)أي إِنّ الله يوصيكم أيضاً أن تلتزموا جانب العدالة في القضاء والحكم بين الناس، فتحكموا بعدل.
ثمّ قال سبحانه تأكيداً لهذين التعليمين: (إِنّ الله نعمّا يعظكم به).
ثمّ يقول مؤكداً ذلك أيضاً: (إِنّ الله كان سميعاً بصيراً) فهو يراقب أعمالكم وهو يسمع أحاديثكم ويرى أفعالكم.
إنّ هذا القانون هو الآخر قانون كلّي وعام، ويشمل كل نوع من القضاء والحكومة، سواء في الأُمور الكبيرة والأُمور الصغيرة، إِلى درجة أنّنا نقرأ في الأحاديث الإِسلامية أنّ صبين ترافعا إِلى الإِمام الحسن بن علي في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أيَّ الخطين أجود، فبصر به عليّ(عليه السلام) فقال: «يا بني اُنظر
[282]
كيف تحكم فإِن هذا حكم والله سائلك عنه يوم القيامة»(1).
إنّ هذين القانونين المهمّين (حفظ الأمانة، والعدالة في الحكم والحكومة) يمثلان قاعدة المجتمع الإِنساني السليم، ولا يستقيم أمر مجتمع، سواءاً كان مادياً أو إلهياً من دون تنفيذ وإجراء هذين الأصلين.
فالأصل الأوّل يقول: إِنّ الأموال والثروات والمناصب والمسؤوليات والمهام والرساميل الإِنسانية والثقافات والتراث والمخلفات التاريخية، كلها أمانات إِلهية سلمت بأيدي أشخاص مختلفين في المجتمع، والجميع مكلّفون أن يحفظوا هذه الأمانات، ويجتهدوا في تسليمها إِلى أصحابها الأصليين، ولا يخونوا فيها أبداً.
ومن جهة أُخرى حيث إنّ الإِجتماعات تلازم التصادمات والإِحتكاكات في المصالح والمنافع، ولهذا يتطلب الحل والفصل على أساس من الحكومة العادلة والقضاء العادل حتى يزول وينمحي كل أنواع التمييز الظالم من الحياة الإِجتماعية.
وكما أسلفنا فإنّ الأمانة لا تنحصر في الأموال التي يودعها الناس ـ بعضهم عند بعض ـ بل العلماء في المجتمع هم أيضاً مستأمنون يجب عليهم أن لا يكتموا الحقائق، بل حتى أبناء الإِنسان وأولاده أمانات إِلهية لدى الآباء والأُمهات فلا يفرطوا في تربيتهم، ولا يقصروا في تأديبهم وتعليمهم، وإِلاّ كان ذلك خيانة في الأمانة الإِلهية التي أمر الله بأدائها، بل وفوق ذلك كلّه الوجود الإِنساني، فهو وجميع الطاقات المودوعة فيه «أمانات الله» التي يجب على الإِنسان أن يجتهد في المحافظة عليها، كما عليه أن يحافظ على صحّة جسمه وسلامة روحه، ويحافظ على طاقة الشباب الفياضة، وفكره، ولا يفرط فيها، ولهذا لا يجوز له أن ينتحر أو يلحق الضرر بنفسه، حتى أنّه يستفاد من بعض الأحايث والنصوص
____________________________
1 ـ تفسسير مجمع البيان، ج 3، ص 64.
[283]
الإِسلامية إنّ علوم الإِمامة وأسرارها وودائعها التي يسلمها كل إِمام إِلى الإِمام الذي بعده داخلة في هذه الآية أيضاً(1).
والجدير بالذكر، إنّ مسألة «أداء الأمانة» قدمت في هذه الآية على مسألة «العدالة» ولعلّ ذلك لأجل أنّ مسألة العدل في القضاء والحكم مترتبة دائماً على الخيانة، لأنّ الاصل هو أن أمناء بالأصالة، فإذا انحرف شخص أو أشخاص عن هذا الأصل وصل الدور إلى العدالة لتوّفقهم على مسؤولياتهم وتعرفهم بوظائفهم.
* * *
أهميّة الأمانة والعدل في الإِسلام:
لقد ورد تأكيد كبير على هذه المسألة في المصادر الإِسلامية إِلى درجة أنّنا قلّما نجد مثله في مورد غيره من الأحكام والمسائل، والأحاديث القصيرة التالية توضح هذه الحقيقة:
1 ـ عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال:
«لا تنظروا إِلى طول ركوع الرجل وسجوده فإِن ذلك شيء اعتاده فلو تركه استوحش، ولكن انظروا إِلى صدق حديثه وأَداء أمانته»(2).
2 ـ جاء في حديث آخر عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أنّه قال:
«إن عليّاً إنّما بلغ ما بلغ به عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بصدق الحديث وأداء الأمانة»(3).
3 ـ روي في حديث آخر عن الإِمام الصّادق(عليه السلام) أيضاً قال لأحد أصحابه:
«أعلم أن ضارب علي بالسيف وقاتله لو ائتمنني واستنصحني واستشارني ثمّ قبلت ذلك منه لأديت إِليه الأمانة»(4).
____________________________
1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 496.
2 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 496.
3 ـ المصدر السابق.
4 ـ المصدر السابق.
[284]
4 ـ وفي روايات مروية في مصادر الشيعة والسنة عن النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)نلاحظ هذا الحديث السّاطع:
«آية المنافق ثلاث: إِذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»(1).
5 ـ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام):
«سوي بين أخصمين في لحظك ولفظك»(2).
* * *
____________________________
1 ـ صحيح الترمذي والنسائي بناء على نقل المنار وقد ورد نفس هذا المضمون في سفينة البحار أيضاً.
2 ـ مجمع البيان، ج 3، ص 64.
[285]
الآية
يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَـزَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا(59)
التّفسير
هذه الآية وبعض الآيات اللاحقة تبحث عن واحدة من أهم المسائل الإِسلامية، ألا وهي مسألة القيادة، وتعيين القادة والمراجع الحقيقيين للمسلمين في مختلف المسائل الدينية والإِجتماعية.
فهي تأمر المؤمنين ـ أوّلا ـ بأن يطيعوا الله، ومن البديهي أنّه يجب أن تنتهي جميع الطاعات ـ عند الفرد المؤمن ـ إِلى طاعة الله سبحانه، وكل قيادة وولاية يجب أن تنبع من ولاية الله سبحانه وذاته المقدسة تعالى وتكون حسب أمره ومشيئته، لأنّه الحاكم والمالك التكويني لهذا العالم، وكلّ حاكمية ومالكية يجب أن تكون بإِذنه وبأمره: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله).
وفي المرحلة الثّانية تأمر باتّباع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإطاعته، وهو النّبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ولا ينطلق من الهوس، والنّبي الذي هو خليفة الله بين الناس، وكلامه كلام الله، وقد أعطي هذا المقام من جانب الله سبحانه، ولهذا تكون
[286]
إطاعة الله ممّا تقتضيه خالقيته وحاكمية ذاته المقدسة، ولكن إطاعة النّبي واتّباع أمره ناشىء من أمر الله. وبعبارة أُخرى فإِنّ الله واجب الإِطاعة بالذات والنّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)واجب الإِطاعة بالعرض، ولعل تكرار «أطيعوا» في هذه الآية للإِشارة إِلى مثل هذا الفرق بين الطاعتين (وأطيعوا الرّسول).
وفي المرحلة الثانية يأمر سبحانه بإِطاعة أولي الأمر القائمين من صلب المجتمع الإِسلامي، والذين يحفظون للناس أمر دينهم ودنياهم.
من هم أولوا الأمر؟
ثمّة كلام كثير بين المفسّرين في المقصود من أُولي الأمر في هذه الآية، ويمكن تلخيص أوجه النظر في هذا المجال في مايلي:
1 ـ ذهب جماعة من المفسّري أهل السنّة إِلى أنّ المراد من «أُولي الأمر» هم الأمراء والحكام في كل زمان ومكان، ولم يستثن من هؤلاء أحداً، فتكون نتيجة هذا الرأي هي: إِنّ على المسلمين أن يطيعوا كل حكومة وسلطة مهما كان شكلها حتى إِذا كانت حكومة المغول، ودولتهم الجائرة.
2 ـ ذهب البعض من المفسّرين ـ مثل صاحب تفسير المنار وصاحب تفسير في ظلال القرآن وآخرون ـ إِلى أنّ المراد من «أُولي الأمر» ممثلو كافة طبقات الأمة، من الحكام والقادة والعلماء وأصحاب المناصب في شتى مجالات حياة الناس، ولكن لا تجب طاعة هؤلاء بشكل مطلق وبدون قيد أو شرط، بل هي مشروطة بأن لا تكون على خلاف الأحكام والمقررات الإِسلامية.
3 ـ ذهبت جماعة أُخرى إِلى أنّ المراد من «أُولي الأمر» هم القادة المعنويون والفكريون، أي العلماء والمفكرون العدول العارفون بمحتويات الكتاب والسنة معرفة كاملة.
4 ـ وذهب بعض مفسّري أهل السنة إِلى أنّ المراد من هذه الكلمة هم
[287]
«الخلفاء الأربعة» الذين شغلوا دست الخلافة بعد رسول الله خاصّة ولا تشمل غيرهم، وعلى هذا لا يكون لأُولي الأمر أي وجود خارجى في الأعصر الاُخرى.
5 ـ يفسر بعض المفسّرين «أُولي الأمر» بصحابة الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم).
6 ـ هناك احتمال آخر يقول ـ في تفسير أُولي الأمر ـ إِنّ المراد منه هم القادة العسكريون المسلمون، وأمراء الجيش والسرايا.
7 ـ ذهب كلّ مفسّري الشيعة بالإِتفاق إِلى أنّ المراد من «أولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون(عليهم السلام) الذين أُنيطت إليهم قيادة الأمة الإِسلامية المادية والمعنوية في جميع حقول الحياة من جانب الله سبحانه والنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا تشمل غيرهم، اللّهم إِلاّ الذي يتقلد منصباً من قبلهم، ويتولى أمراً في إِدارة المجتمع الإِسلامي من جانبهم ـ فإِنّه يجب طاعته أيضاً إِذا توفرت فيه شروط معينة، ولا تجب طاعته لكونه من أُولي الأمر، بل لكونه نائباً لأُولي الأمر ووكيلا من قبلهم.
والآن لنستعرض التفاسير المذكورة أعلاه باختصار:
لا شك أنّ التّفسير الأوّل لا يناسب مفهوم الآية وروح التعاليم الإِسلامية بحال، إِذ لا يمكن أن تقترن طاعة كل حكومة ـ مهما كانت طبيعتها ـ ومن دون قيد أو شرط بإِطاعتة الله والنّبي، ولهذا تصدى كبار علماء السنة لنفي هذا الرأي والتّفسير مضافاً إِلى علماء الشيعة.
وكذا التّفسير الثّاني: فإِنّه لا يناسب إِطلاق الآية الشريفة، لأنّ الآية توجب إِطاعة أُولي الأمر من دون قيد أو شرط.
وهكذا التّفسير الثّالث، يعني تفسير «أُولي الأمر» بالعلماء والعدول والعارفين بالكتاب والسنة، فهو لا يناسب إِطلاق الآية، لأنّ لإِطاعة العلماء وإتباعهم شروطاً من جملتها أن لا يكون كلامهم على خلاف الكتاب والسنة، وعلى هذا لو ارتكبوا خطأ (لكونهم عرضة للخطأ وغير معصومين) أو انحرفوا
[288]
عن جادة الحقّ لأي سبب آخر لم تجب طاعتهم، في حين توجب الآية الحاضرة إِطاعة أُولي الأمر بنحو مطلق كإِطاعة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا مضافاً إِلى أنّ إِطاعة العلماء إِنّما هي في الأحكام التي يستفيدونها من الكتاب والسنة، وعلى هذا لا تكون إِطاعتهم شيئاً غير إِطاعة الله وإِطاعة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا حاجة إِلى ذكرها بصورة مستقلة.
وأمّا التّفسير الرّابع (وهو حصر عنوان أُولي الأمر بالخلفاء الأربعة الأوائل) فمؤداه عدم وجود مصداق لأُولي الأمر بين المسلمين في هذا الزمان هذا مضافاً إِلى عدم وجود دليل على مثل هذا التخصيص.
والتّفسير الخامس والسّادس: يعنيان تخصيص هذا العنوان بالصحابة أو القادة العسكريين المسلمين، ويرد عليها نفس الإِشكال الوارد على التّفسير الرّابع، يعني أنّه لا يوجد أي دليل على مثل هذا التخصيص أيضاً.
وقد أراد جماعة من مفسّري السنة مثل «محمّد عبده» العالم المصري المعروف ـ تبعاً لبعض ما قاله المفسّر المعروف الفخر الرازي ـ أن يقبل بالإِحتمال الثّاني (القاضي بأنّ أُولي الأمر هم ممثلو مختلف طبقات المجتمع الإِسلامي من العلماء والحكام وغير هؤلاء من طبقات وفئات المجتمع الإِسلامي) مشروطاً ببعض الشروط ومقيداً ببعض القيود، مثل أن يكونوا مسلمين (كما يستفاد من كلمة «منكم» في الآية) وأن لا يكون حكمهم على خلاف الكتاب والسنة، وأن يحكموا عن اختيار لا جبر ولا قهر، وأن يحكموا وفق مصالح المسلمين، وأن يتحدثوا في مسائل يحقّ لهم التدخل فيها (لا مثل العبادات التي لها قوانين وأحكام ثابتة في الإِسلام) وأن لا يكون قد ورد في الحكم الذي أصدروه نص خاص من الشرع، وأن يكونوا ـ فوق كل هذا ـ متفقين في الرأي والحكم.
وحيث إنّ هؤلاء يعتقدون أن مجموع الأُمّة أو مجموع ممثليها لا تخطأ ولا تجتمع على خطأ، ـ وبعبارة أُخرى ـ أن مجموع الأُمّة معصومة (أو أنّ الأُمّة
[289]
بوصفها معصومة) تكون نتيجة هذه الشروط وجوب إِطاعة مثل هذا الحكم بشكل مطلق ومن دون قيد أو شرط تماماً مثل إِطاعة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) (ومؤدى هذا الكلام هو حجّية الإِجماع). ولكن ترد على هذا التّفسير أيضاً إِشكالات واعتراضات عديدة وهي:
أوّلا: إِنّ الإِتفاق في الرأي في المسائل الإِجتماعية قلّما يتفق وقلّما يتحقق، وعلى هذا فإن هذا الرأي يستلزم وجود حالة من الفوضى والإِنتظام في أغلب شؤون المسلمين وبصورة دائمة.
وأمّا إِذا أراد هؤلاء قبول رأي الأكثرية فيرد عليه: إِنّ الأكثرية لا تكون معصومة أبداً، ولهذا لا تجب إِطاعتها بنحو مطلق.
ثانياً: لقد ثبت في علم الأُصول، أنّه ليس هناك أي دليل على عصمة مجموع الأُمّة من دون وجود الإِمام المعصوم بينهم.
ثالثاً: إِنّ أحد الشرائط التي يذكرها أنصار هذا التّفسير هو أن لا يكون حكم هؤلاء «أي أُولوا الأمر» على خلاف الكتاب والسنة، فيجب حينئذ أن نرى من الذي يشخّص أن هذا الحكم مخالف للكتاب والسنة أو لا، لا شك أن ذلك من مسؤولية المجتهدين والفقهاء العارفين بالكتاب والسنة، ويعني هذا إِنّ إِطاعة أُولي الأمر لا يجوز بدون إِجازة المجتهدين والعلماء، بل تلزم أن تكون إِطاعة العلماء أعلى من إِطاعة أولي الأمر، وهذا لا يناسب ولا يوافق ظاهر الآية الشريفة.
صحيح أن هؤلاء اعتبروا العلماء جزءً من أُولي الأمر «ولكن الحقيقة أن العلماء والمجتهدين ـ وفق هذا التّفسير ـ اعترف بهم على أنّهم المراقبون والمراجع العليا من بقية ممثلي مختلف فئات الأُمّة، لا أنّهم في مستوى بقية الممثلين المذكورين، لأنّ على العلماء والفقهاء أن يشرفوا على أعمال الآخرين ويشخصوا موافقتها للكتاب والسنة، وبهذا يكون العلماء مراجع عُليا لهم، وهذا لا
[290]
يناسب التّفسير المذكور ولا يوافقه.
وعلى هذا الأساس يواجه التّفسير الحاضر (أي الثّاني) إِشكالات ومآخذ من وجهات عديدة.
فيبقى تفسير واحد سليماً من جميع الإِعتراضات السابقة وهو التّفسير السّابع: (وهو تفسير أُولي الأمر بالأئمّة المعصومين(عليهم السلام) لموافقة هذا التّفسير لإطلاق وجوب الإِطاعة المستفاد من الآية المبحوثة هنا، لأن مقام «العصمة» يحفظ الإِمام من كلّ معصية ويصونه عن كل خطأ، وبهذا الطريق يكون أمره ـ مثل أمر الرّسول ـ واجب الإِطاعة من دون قيد أو شرط، وينبغي أن يوضع في مستوى إِطاعته(صلى الله عليه وآله وسلم)، بل وإِلى درجة أنها تعطف على إِطاعة الرّسول من دون تكرار «أطيعوا».
والجدير بالإِنتباه إِلى أنّ بعض العلماء المعروفين من أهل السنة، ومنهم المفسر المعروف الفخر الرازي اعترف بهذه الحقيقة في مطلع حديثه عند تفسير هذه الآية حيث قال: «إِنّ الله تعالى أمر بطاعة أُولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بإطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ أن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إِقدامه على الخطأ قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه، فهذا يفضي إِلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت إِن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ».
وأضاف قائلا: «ذلك المعصوم إمّا مجموع الأُمّة أو بعض الأُمّة، ولا يجوز أن يكون بعض الأُمّة لأن إِيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم، ونحن عاجزون عن الوصول إِليهم، وإِذا كان الأمر كذلك علمنا أنّ المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأُمّة، ولمّا بطل هذا وجب أن يكون ذلك
[291]
المعصوم الذي هو المراد بقوله: «وأولي الأمر» هم أهل الحل والعقد ومن الاُمّة (أي الأُمّة كلها وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأُمّة حجّة)(1).
وهكذ نرى الفخر الرازي مع ما نعهد منه من كثيرة الإِشكال في مختلف المسائل العلمية، قد قبل دلالة هذه الآية على أنّ أُولي الأمر يجب أن يكونوا معصومين، غاية ما في الأمر حيث أنّه لم يكن عارفاً بمذهب أهل البيت النبوي(عليهم السلام) وأئمّة هذا المذهب تجاهل إحتمال أن يكون «أُولي الأمر» أشخاصاً معنيين من الامة، فاضطر إِلى تفسير «أُولي الإمر» بمجموع الاُمّة (أو ممثلي عموم فئات الاُمّة)، في حين أن هذا الإِحتمال لا يمكن القبول به، لأن أُولي الأمر ـ كما قلنا في ما سبق ـ يجب أن يكونوا قادة المجتمع الإِسلامي، وتتمّ الحكومة الإِسلامية والحكم بين المسلمين بهم، ونعلم أنه لا يمكن لا في الحكومة الجماعية (المتألفة من مجموعة الأُمّة) بل ولا من ممثلي فئاتها أن يتحقق إِجتماع واتفاق في الرأي مطلقاً، لأنّ الحصول على إِجماع من جانب الاُمّة جميعاً أو من جانب ممثليها في مختلف المسائل الإِجتماعية والسياسية والثقافية والخلقية والإِقتصادية، لا يتيسر ولا يتحقق في الأغلب، كما أنّ إتّباع الأكثرية ـ كذلك ـ لا يعد إِتّباعاً لأُولي الأمر، ولهذا يلزم من كلام الرازي ومن تبعه من العلماء المعاصرين أن تتعطل مسألة إِطاعة «أُولي الأمر»، أو تصير مسألة نادرة واستثنائية جداً... .
ومن كل ما قلناه نستنتج أنّ الآية الشريفة تثبت قيادة وولاية الأئمّة المعصومين الذين يشكلون نخبة من الأُمّة الإِسلامية (تأمل).
أجوبة على أسئلة:
ثمّ إنّ هناك اعتراضات ومآخذ على هذا التّفسير (السّابع) يجدر طرحها هنا
____________________________
1 ـ التّفسير الكبير للفخر الرازي، ج 10، ص 144، طبعة مصر، عام 1357.
[292]
بتجرّد وموضوعية:
1 ـ إِذا كان المراد من «أُولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون، فإِنّ ذلك لا يناسب مع كلمة «أُولي» التي هي بصيغة الجمع، لأنّ الإِمام المعصوم في كل عصر، شخص واحد لا أكثر.
والجواب على هذا السؤال: أنّ الإِمام المعصوم وإِن كان في كل عصر شخصاً واحداً لا أكثر، إِلاّ أنّ الأئمة المتعددين في الأعصر المختلفة يشكلون جماعة، ونحن نعلم أنّ الآية لا تحدد وظيفة الناس في عصر واحد.
2 ـ إِنّ أُولي الأمر ـ بهذا المعنى ـ لم يكونوا في عصر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف أمر القرآن الكريم بإِطاعتهم؟
إِنّ الجواب على هذا السؤال يتّضح أيضاً من الكلام السابق، لأنّ الآية لا تنحصر (أو لا تعني) زماناً خاصاً، بل توضح وتبيّن وظيفة المسلمين وواجبهم في جميع العصور والقرون.
وبعبارة أُخرى، يمكن أن نقول أن أُولي الأمر في زمان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان شخص النّبي بالذات، لأن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان له منصبان منصب «الرسالة» الذي أشير إليه في الآية المذكورة تحت عنوان (أطيعوا الرّسول) والآخر منصب «قيادة الأُمّة الإِسلامية» الذي ذكره القرآن الكريم تحت عنوان (أُولي الأمر).
وعلى هذا يكون القائد وولي الأمر المعصوم في عهد النّبي هو النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو مضافاً إِلى ما له من منصب الرسالة وإبلاغ الأحكام الإِسلامية، له منصب قيادة الأُمّة وولاية أمرها، ولعل عدم تكرار جملة (وأطيعوا» بين (الرّسول» و«أُولي الأمر» لا يخلوا عن الإِشارة إِلى هذه النقطة.
وبعبارة أُخرى إِن منصب «الرسالة» ومنصب «أولي الأمر» منصبان مختلفان اجتمعا في شخص رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن المنصب الثّاني فقط يتوفر في كل إمام على حدة، فللإِمام منصب اولي الأمر فقط.
[293]
3 ـ إِذا كان المقصود من «أُولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون، فلماذا أشار سبحانه في ذيل الآية إِلى مسألة التنازع والإِختلاف بين المسلمين إذ قال: (فإِن تنازعتم في شيء فردّوه إِلى الله والرّسول إِن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) فإِنّنا لا نشاهد هنا أي حديث عن «أُولي الأمر» بل أشير إِلى الله تعالى (كتاب الله ـ القرآن) والنّبي (السنة) كمرجع يجب أن يرجع إِليه المسلمون عند الإِختلاف والتنازع.
في الإِجابة على هذا الإِشكال يجب أن نقول:
أوّلا: إِنّ هذا الإِشكال لا يختص بالتّفسير الشّيعي لهذه الآية، بل يردّ على بقية التفاسير أيضاً، إِذا أمعنا النظر قليلا.
وثانياً: لا شك أنّ المراد من الإِختلاف والتنازع في العبارة الحاضرة هو الإِختلاف والتنازع في الأحكام، لا في المسائل المتعلقة بجزئيات الحكومة والقيادة الإسلامية، لأنّه في هذه المسائل يجب إِطاعة أُولي الأمر (كما صرّح بذلك في الجملة الأُولى من الآية المبحوثة هنا).
وعلى هذا فالمراد من الإِختلاف هو الإِختلاف في الأحكام والقوانين الكلية الإِسلامية التي يعود أمر تشريعها إِلى الله سبحانه ونبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّنا نعلم أنّ الإِمام مجرّد منفذ للأحكام الإِلهية وليس مشرعاً، ولا ناسخاً لشيء من تلك الأحكام، وإِنّما عليه فقط أن يطبق الأحكام والأوامر الإِلهية والسنة النّبوية في حياة الأمة، ولهذا جاء في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) إِنّهم قالوا: «إِذا بلغكم عنّا ما يخالف كتاب الله وسنة نبيّه فاضربوه عرض الحائط ولا تقبلوه» أي يستحيل أن نقول ما يخالف كتاب الله وسنة نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى هذا فإِنّ أوّل مرجع يرجع إِليه المسلمون لحل خلافاتهم في الأحكام الإِسلامية هو الله سبحانه والنّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يوحى إِليه، وإِذا ما بيّن الأئمّة المعصومون أحكاماً، فإِنّ تلك الأحكام ليست سوى اقتباس من كتاب الله، أو هي
[294]
من العلوم التي وصلت إِليهم من النّبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبهذا تتّضح علّة عدم ذكر أُولي الأمر إِلى جانب المرجع في حلّ الإِختلاف في الأحكام المذكورة في هذا الجزء من الآية(1).
شهادة الأحاديث:
هذا وقد وردت في المصادر الإِسلامية أيضاً أحاديث تؤيد تفسير «أُولي الأمر» بأئمّة أهل البيت(عليهم السلام) منها:
1 ـ ما كتبه المفسّر الإِسلامي المعروف أبو حيان الأندلسي المغربي (المتوفي عام 756) في تفسيره البحر المحيط: من أنّ هذه الآية نزلت في حقّ علي(عليه السلام)وأهل بيته(2).
2 ـ روى العالم السني أبوبكر بن مؤمن الشيرازي في رسالة الإِعتقاد (حسب نقل الكاشي في المناقب) عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في علي(عليه السلام) عند ما خلفه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة (في غزوة تبوك) فقال علي(عليه السلام): يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):
«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال أخلفني في قومي وأصلح فقال عز وجل: (وأولي الأمر منكم)(3).
3 ـ وروى الشيخ سليمان الحنفي القندوزي وهو من أعلام أهل السنة المشهورين في كتابه «ينابيع المودة» من كتاب «المناقب» عن «سليم بن قيس
____________________________
1 ـ وإِذا رأيناه سبحانه يرجع الأُمّة في حلّ بعض إختلافاتها إِلى أُولي الأمر في الآية (83) من هذه السورة فالمراد منه ليس هو الإِختلاف في الأحكام والقوانين الإِسلامية الكلية، بل هو ـ كما سيأتي في تفسير هذه الآية ـ الإِختلاف في المسائل المتعلقة بطريقة تطبيق الأحكام الإِسلامية، وسيأتي شرح مفصل في هذا المجال عند تفسير الآية بإِذن الله.
2 ـ البحر المحيط، ج 3، طبعة مصر، ص 425.
3 ـ إحقاق الحق، ج 3، ص 425.
[295]
الهلالي» قال سمعت علياً صلوات الله عليه يقول: أتاه، رجل فقال أرني أدنى ما يكون به العبد مؤمناً، وأدنى ما يكون به العبد كافراً، وأدنى ما يكون به العبد ضالا فقال: قد سألت فافهم الجواب ... وأمّا أدنى ما يكون العبد به ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك وتعالى وشاهده على عباده الذي أمر الله عزّ وجلّ عباده بطاعته وفرض ولايته. قلت: يا أمير المؤمنين. صفهم لي. قال: الذين قرنهم الله تعالى: بنفسه وبنبيّه فقال: (يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأُولي الأمر منكم).
فقلت له: جعلني الله فداك أوضح لي؟ فقال: الذين قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في مواضع وفي آخر خطبة يوم قبضه الله عز وجل إِليه: «إِنّي تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما: كتاب الله عز وجل وعترتي أهل بيتي»(1).
4 ـ وكذلك كتب نفس العالم في كتاب «ينابيع المودة»: وفي المناقب في تفسير مجاهد: إِنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علي(عليه السلام)(2).
5 ـ رويت أحاديث كثيرة في مصادر الشيعة مثل كتاب الكافي وتفسير العياشي وكتب الصدوق ومصنفاته وغيرها تشهد جميعها بأنّ المراد من «أُولي الأمر» هم الأئمّة المعصومون، حتى أن بعضها ذكرت أسماء الأئمّة(عليهم السلام) واحداً واحداً(3).
* * *
____________________________
1 ـ ينابيع المودة طبعة النجف الأشرف (الطبعة السابعة ص 136 ـ 137).
2 ـ ينابيع المودة النجف، ص 134.
3 ـ راجع تفسير البرهان، ج 1، تفسير الآية.
|