00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة آل عمران من آية 139 ـ 171 من ص ( 709 ـ آخر الكتاب ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيات

وَلاَ تَهِنُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ ءَامُنَواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّـالِمِينَ  (140)  وَلُِيمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَـافِرِين (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَـاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّـابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّونَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنُظرُون (143)

سبب النّزول

لقد وردت في سبب نزول هذه الآيات روايات مختلفة، ولكن يستفاد من مجموعها أن هذه الآيات تتبع الآيات السابقة التي كانت تدور حول غزوة «أُحد».

وفي الحقيقة تعتبر هذه الآيات تحليلاً ودراسة لنتائج غزوة «أُحد» وأسبابها

(709)

لكونها تمثل دروساً كبيرة للمسلمين، وهي في نفس الوقت تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتثبيت لأفئدتهم، لأن هذه الغزوة ـ كما أسلفنا ـ انتهت بسبب تجاهل بعض الرماة لأوامر النبي المشدّدة بالبقاء في الثغرة، بنكسة المسلمين، واستشهاد ثلة كبيرة من أعيانهم وأبطال الإسلام البارزين، ومن جملتهم «حمزة» عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقد حضر النبي مع جماعة من أصحابه في تلك الليلة، عند القتلى، وجلس عند كلّ واحد من الشهداء كرامة له وبكى عنده واستغفر له، ثمّ دفن جميع الشهداء عند «أُحد» في جو من الحزن العميق، فكان المسلمون بحاجة ـ في هذه اللحظات ـ إلى ما يمسح عنهم كآبة العزيمة ومرارة الإنكسار، ويقوي قلوبهم ويفيدهم درساً في نفس الوقت من نتائج النكسة وعبرها ـ فنزلت الآيات المذكورة هنا.

التّفسير

دراسة نتائج غزوة أُحد :

في الآية الأُولى من هذه الآيات حذر المسلمون من أن يعتريهم اليأس والفتور بسبب النكسة في معركة واحدة، وأن يتملكهم الحزن وييأسوا من النصر النهائي، قال سبحانه : (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين).

أجل، لا يحسن بهم أن يشعروا بالوهن أو يتملكهم الحزن لما حدث، فالرجال الواعون هم الذين يستفيدون الدروس من الهزائم كما يستفيدونها من الإنتصارات وهم الذين يتعرفون في ضوء النكسات على نقاط الضعف في أنفسهم أو مخططاتهم، ويقفون على مصدر الخطأ والهزيمة، ويسعون لتحقيق النصر النهائي بالقضاء على تلك الثغرات والنواقص والوهن المذكور في الآية، هو ـ كما في

(710)

اللغة ـ كلّ ضعف يصيب الجسم أو الروح أو يصيب الإرادة والإيمان.

على أن عبارة (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل. إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية.

ثمّ إنه سبحانه يقول : (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) و بذلك يعطي للمسلمين درساً آخر للوصول إلى النصر النهائي.

و«القرح» جرح يصيب البدن بسبب اصطدامه بشيء خارجي.

فيكون معنى الآية أن عزيمتكم لا ينبغي أن تكون أقل من عزيمة الأعداء، فهم رغم ما لحقهم من خسائر فادحة في الأرواح والأموال ـ في بدر ـ حيث قتل منهم سبعون، وجرح وأسر كثير، فإنهم لم يقعدوا عن منابذتكم ومقاتلتكم، ولم يصرفهم ذلك عن الخروج إلى محاربتكم، بل تلافوا في هذه المعركة ما فاتهم، وتداركوا هزيمتهم، فإذا أصبتم في هذه المعركة بهزيمة شديدة فإن عليكم أن لا تقعدوا حتّى تتلافوا ما فاتكم فـ (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله)، فلماذا الوهن ولماذا الحزن إذن ؟

ويذهب بعض المفسّرين إلى أن الآية تشير إلى الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد، ولكن هذا لا يستقيم لأن الجراح التي لحقت بالكفّار في أُحد لم تكن مثل الجراح التي لحقت بالمسلمين، هذا أولاً، وكذلك لا يتناسب مع الجملة اللاحقة التي سيأتي تفسيرها فيما بعد ثانياً، ألا وهي قوله سبحانه : (وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء).

ففي هذا القسم يشير سبحانه إلى واحدة من السنن الإلهية وهي أنه قد تحدث

(711)

في حياة البشر حوادث حلوة أو مرّة ولكنها غير باقية ولا ثابتة مطلقاً، فالإنتصارات والهزائم، والغالبية والمغلوبية، والقوّة والضعف كلّ ذلك يتغير ويتحول، وكلّ ذلك يزول ويتبدل، فلا ثبات ولا دوام لشيء منها، فيجب أن لا يتصور أحد أن الهزيمة فى معركة واحدة وما يتبعها من الآثار اُمور دائمة ثابتة باقية، بل لابدّ من الإنتفاع بسنة التحول، وذلك بتقييم أسباب الهزيمة وعواملها وتلافيها، وتحويل الهزيمة إلى إنتصار، فالحياة صعود ونزول، و أحداثها في تحول مستمر، وتبدل دائم ولا ثبات لشيء من أوضاعها وأحوالها. (وتلك أيام(1)نداولها بين الناس) لتتضح سنة التكامل من خلال ذلك.

ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نتيجة هذه الحوادث المؤلمة فيقول : (وليعلم الله الذين آمنوا) أي أن ذلك إنما هو لأجل أن يتميز المؤمنون حقّاً عن أدعياء الإيمان.

وبعبارة اُخرى : إذا لم تحدث الحوادث المؤلمة في حياة أُمة من الأُمم وتاريخها لم تتميز الصفوف ولم يتبين الخبيث والطيب، لأن الإنتصارات وحدها تخدع وتغري، وتصيب المنتصرين بالغفلة بينما تشكل الهزائم عامل يقظة للمستعدين المتهيئين، وتوجب ظهور القيم، وتعرف بها حقائق الرجال.

ثمّ إنه في قوله : (ويتخذ منكم شهداء) يشير إلى إحدى نتائج هذه الهزيمة المؤلمة، بأن هذه النتيجة كانت هي تقديمكم بعض الشهداء في هذه المعركة، فيجب أن تعلموا أن هذا الدين لم يصل إليكم بالهيّن، فلا يفلت منكم كذلك في المستقبل.

إن الأُمة التي لا تضحي في سبيل أهدافها المقدسة لا تعير تلك الأهداف أهميتها، ولا تعطيها قيمتها اللائقة، أما إذا ضحت في سبيل أهدافها فإنها هي

_____________________________

1 ـ «الأيام» جمع يوم يعبر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يطلق على فترات الإنتصارات الكبرى في حياة الشعوب، و «نداولها» من المداولة بمعنى إذا صار الشيء من بعض القوم إلى البعض الآخر.

(712)

وأجيالها القادمة كذلك ستعطي لتلك الأهداف الأهمية والقيمة اللازمة وستنظر إليها بعين الاحترام والإكبار.

ويمكن أن يكون المراد من «الشهداء» هنا هم الذين يشهدون، فيكون معنى قوله (ويتخذ منكم شهداء) أي أن يتخذ منكم بوقوع هذه الحادثة في حياتكم ـ شهوداً ـ لتعرفوا كيف أن عدم الإنضباط وعدم التقييد بالأوامر يؤدي إلى الهزيمة، وينتهي إلى النكسة المؤلمة.

وإن هؤلاء الشهود سيعلمون الأجيال اللاحقة دروس الإنتصار والهزيمة حتّى لا يكرروا الأخطاء، ولا تقع حوادث مشابهة.

ثمّ إنه تعالى يختم هذا الإستعراض للسنن والدروس والنتائج بقوله : (والله لا يحب الظالمين) فهو لا ينصرهم ولا يدافع عنهم، ولا يمكّنهم من المؤمنين الصالحين العاملين بتعاليم السماء الآخذين بسنن الله في الكون والحياة.

الحوادث المرة ميدان تربية :

أجل، إن لمعركة «أُحد» وما لحق بالمسلمين فيها من هزيمة نتائج وآثاراً، ومن نتائجها وآثارها الطبيعية أنها كشفت عن نقاط الضعف في الجماعة والثغرات الموجودة في كيانها، وهي وسيلة فعالة ومفيدة لغسل تلك العيوب والتخلّص من تلك النواقص والثغرات، ولهذا قال سبحانه : (وليمحص(1) الله الذين آمنوا) أي أن الله أراد ـ في هذه الواقعة ـ أن يتخلص المؤمنون من العيوب ويريهم ما هم مبتلون به من نقاط الضعف. إذ يجب لتحقيق الإنتصارات في المستقبل أن يمتحنوا في بوتقة الإختبار، ويزنوا فيها أنفسهم كما ـ قال الإمام علي (عليه السلام)  : «في تقلب الأحوال علم جواهر الرجال».

_____________________________

1 ـ «التمحيص» والمحص أصله : تخليص الشيء ممّا فيه من عيب.

(713)

ولهذا قد يكون لبعض الهزائم والنكسات من الأثر في صياغة المجتمعات الإنسانية وتربيتها ما يفوق أثر الإنتصارات الظاهرية.

والجدير بالذكر أن مؤلف تفسير المنار نقل عن اُستاذه مفتي مصر الأكبر الشيخ محمد عبده أنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فقال له : «رأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الخميس الماضية (غرة ذي القعدة سنة 1320) في الرؤيا منصرفاً مع أصحابه من أُحد وهو يقول : «لو خيّرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة» أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالإحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الإستعداد وتسديد النظر(1).

وأما نتيجة هذه التربية والصياغة التي يتلقاها المؤمنون فى خضم المحن والمصائب واتون الحوادث المرة فهو حصول القدرة الكافية لدحر الشرك والكفر دحراً ساحقاً وكاملاً. وإلى هذا أشار بقوله : (وليمحق(2) الكافرين).

فإن المؤمنين بعد أن تخلصوا ـ في دوامة الحوادث ـ من الشوائب يحصلون على القدرة الكافية للقضاء التدريجي على الشرك والكفر، وتطهير مجتمعهم من هذه الأقذار والشوائب، وهذا يعني أنه لابدّ أولاً من تطهير النفس ثمّ تطهير الغير. أي التطهر ثمّ التطهير.

وفي الحقيقة كما أن القمر ـ مع ما هو عليه من النور والبهاء الخاصين به ـ يفقد نوره شيئاً فشيئاً أمام وهج الشمس وبياض النهار حتّى يغيب في ظلمة المحاق فلا يعود يرى إلاّ عندما تنسحب الشمس من الأُفق، كذلك يأفل نجم الشرك وأهله وتتضاءل قوة الكفر وأشياعه كلّما ازداد صفاء المسلمين المؤمنين، وخلصوا من رواسب الضعف والإعوجاج والإنحراف.

_____________________________

1 ـ المنار : ج 4 ص 46.

2 ـ المحق : النقصان ومنه المحاق لآخر الشهر إذا انمحق الهلال وامتحق وقل ضياؤه.

(714)

فهناك علاقة متقابلة بين تمحيص المؤمنين وإرتقائهم في مدارج الخلوص والطهر، ومراتب الصفاء والتقوى، وبين إنزياح الكفر والشرك وإندثار معالمها وآثارهما عن ساحة الحياة الإجتماعية.

هذه هي الحقيقة الكبرى والخالدة التي يلخصها القرآن في هاتين الجملتين اللتين تشكل الأُولى منها المقدمة والثانية النتيجة.

ثمّ إنه يفيدنا القرآن درساً من واقعة «أُحد» في تصحيح خطأ فكري وقع فيه المسلمون فيقول : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) أي هل تظنون أنكم تنالون أوج السعادة المعنوية بمجرد إختياركم لاسم المسلم، أو بمجرد أنكم حملتم العقيدة الإسلامية في الفكر دون أن تطبقوا ما يتبعها من التعاليم ؟

لو كان الأمر كذلك لكان هيناً جداً، ولكن ليس كذلك حتماً، فإنه ما لم تطبق التعاليم التي تتبع تلك المعتقدات، في واقع الحياة العملية لم ينل أحد من تلك السعادة العظمى شيئاً.

وهنا بالذات يجب أن تتميز الصفوف، ويعرف المجاهدون الصابرون عن غيرهم.

مزاعم جوفاء

ثمّ إنه كان هناك جماعة من المسلمين ـ بعد معركة «بدر» واستشهاد فريق من أبطال الإسلام ـ يتمنون الموت في أحاديثهم ومجالسهم ويقولون : ليتنا نلنا الشهادة في «بدر»، ومن الطبيعي أن يكون بعض تلك الجماعة صادقين في تمنيهم والبعض الآخرون كاذبين يتظاهرون بهذه الأمنية، أو يجهلون حقيقة أنفسهم، ولكن لم يلبث هذا الوضع طويلاً، فسرعان ما وقعت معركة أُحد الرهيبة المؤلمة،

(715)

فقاتل المجاهدون الصادقون بشهامة وبسالة وصدق وكرعوا كؤوس الشهادة، وحققوا أمانيهم، ولكن الذين كانوا يتمنونها كذباً وتظاهراً ما إن رأوا علائم الهزيمة التي لحقت بالجيش الإسلامي في تلك الواقعة حتّى فروا خوفاً وجبناً، وظنا بنفوسهم وأرواحهم، تاركين الساحة للعدو الغاشم، فنزلت هذه الآية توبخهم وتعاتبهم إذ تقول : (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون)فلماذا فررتم وهربتم من الشيء الذي كنتم تتمنونه طويلاً وكيف يفر المرء من محبوبه، وهو يراه وينظر إليه ؟

دراسة سريعة لعلل الهزيمة في «أُحد» :

لقد مررنا في الآيات السابقة في هذا المقطع من الحديث على عبارات تكشف كلّ واحدة منها القناع عن واحدة من أسرار الهزيمة التي وقعت في معركة أُحد، وها نحن نشير إلى أهم وأبرز هذه العوامل التي تعاضدت فأدت إلى هذه النكسة المرة، والحاوية لكثير من العبر في نفس الوقت، وهذه العوامل هي :

1 ـ الخطأ في المحاسبة عند بعض المسلمين الحديثي العهد بالإسلام في فهم مفاهيمه وتعاليمه، حيث إنهم تصوروا أن إظهار الإيمان وحده يكفي لتحقيق الإنتصار، وإن الله ـ لذلك سينزل عليهم نصره، ويمدهم بالقوى الغيبية في جميع الميادين، ولهذا تناسوا وتجاهلوا السنن الإلهية في مجال الأسباب الطبيعية للإنتصار من إختيار الخطة الصحيحة، والإعداد القوى اللازمة، واليقظة القتالية.

2 ـ عدم الإنضباط العسكري ومخالفة أوامر النبي القائد المشددة للرماة بالبقاء في الثغر من الجبل، والذب عن ظهور المسلمين وقد كان هذا هو العامل الحقيقي المؤثر للهزيمة.

3 ـ حب الدنيا والحرص على الحطام الذي دفع بعض المسلمين الحديثي

(716)

العهد بالإسلام إلى الإنصراف إلى جمع الغنائم، وترك ملاحقة العدو، ووضع الأسلحة حتّى لا يتأخروا عن الآخرين في حيازة الغنائم، وكان هذا هو العامل الثالث لتلك النكسة الدامية التي علمتهم أن الجهاد في سبيل الله يستدعي نسيان جميع هذه الأُمور والتوجه بالكامل إلى الهدف.

4 ـ الغرور الناشىء عن الإنتصار الساحق واللامع في معركة بدر إلى درجة أنه أنسى بعض المسلمين قوة العدو، وجعلهم يحتقرون تجهيزاته وطاقاته، ويستصغرون شأنه.

هذه هي بعض نقاط الضعف التي ينبغي أن تزول في مياه هذه النكسة المؤلمة الساخنة، وتتبخر في أتونها.

* * *

(717)

الآيتان

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّـاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْس أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَـاباً مُّؤَجّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّـاكِرِينَ (145)

سبب النّزول

إن الآية الأُولى من هاتين الآيتين ناظرة أيضاً إلى حادثة أُخرى من حوادث معركة «أُحد» وهي الصيحة التي ارتفعت فجأة في ذروة القتال بين المسلمين والوثنيين أن محمّداً قد قتل.

ولقد قارنت هذه الصيحة نفس اللحظة التي رمى فيها «عمرو بن قمئة الحارثي» النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحجر فكسر به رباعيته وشجه في وجهه، فسأل الدم، وغطى

(718)

وجهه الشريف(1) فقد كان العدو يريد في هذه اللحظة أن يقضي على رسول الله، ولكن «مصعب بن عمير» وهو من حملة الرايات في الجيش الإسلامي ذب عنه حتّى قتل دون النبي، فتوهم العدو أن النبي قد قتل، ولهذا صاح : إلاَّ أن محمّداً قد قتل، ليخبر الناس بذلك الأمر.

وقد كان لإنتشار هذا الخبر أثره الإيجابي فى معنويات الوثنيين بقدر ما ترك من الأثر السيء في نفوس المسلمين حيث تزعزعت روحيتهم وزلزلوا زلزالاً شديداً، فاضطرب جمع كبير منهم كانوا يشكلون أغلبية الجيش الإسلامي، وأسرعوا في الخروج من ميدان القتال، بل وفكر بعضهم أن يرتد عن الإسلام بمقتل النبي ويطلب الأمان من أقطاب المشركين، بينما كان هناك أقلية من المسلمين مثل الإمام علي (عليه السلام) وأبو دجانة وطلحة وآخرون، يصرون على الثبات والمقاومة ويدعون الناس إليه.

فقد جاء أنس بن النضر إلى ذلك الفريق الذي كان يفكر في الفرار وقال لهم : «يا قوم إن كان قد قتل محمّد فربّ محمّد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وموتوا على ما مات عليه» ثمّ شد بسيفه وحمل على الكفّار وقاتل حتّى قتل، ثمّ لم يمض وقت طويل حتّى تبين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قيد الحياة، وتبين على أثره خطأ ذلك الخبر أو كذبه، فنزلت الآية الأُولى ـ من الآيتين الحاضرتين ـ توبخ الذين لاذوا بالفرار بشدة.

التّفسير

لا لعبادة الشخصية وتقديس الفرد :

تعلّم الآية الأُولى من هاتين الآيتين حقيقة أُخرى للمسلمين استلهاماً من

_____________________________

1 ـ ولقد جاء في بعض كتب التاريخ أن هذه الإصابات لحقت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جراء هجمات أفراد عديدين من العدو.

(719)

أحداث معركة «أُحد» إذ تقول : (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) وهذه الحقيقة هي أن الإسلام ليس دين عبادة الشخصية حتّى إذا قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونال الشهادة في هذه المعركة ـ افتراضاً ـ ينتهي كلّ شيء ويسقط واجب الجهاد والنضال عن كاهل المسلمين، بل إن هذا الواجب مستمر، وعليهم أن يواصلوه لأن الإسلام لا ينتهي بموت النبي أو استشهاده، وهو الدين الحقّ الذي أنزل ليبقى خالداً إلى الأبد.

إن عبادة الشخصية وتقديس الفرد من أخطر ما يصيب أية حركة جهادية ويهددها بالسقوط والإنتهاء، فإن إرتباط الحركة أو الدين بشخص معين حتّى لو كان ذلك هو النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) معناه توقف كلّ الفعاليات وكلّ تقدّم بفقدانه وغيابه عن الساحة، وهذا النوع من الإرتباط هو أحد علائم النقص في الرشد الإجتماعي.

إنّ تركيز النبي وإصراره على مكافحة تقديس الفرد وعبادة الشخصية آية اُخرى من آيات صدقه، ودليلاً آخر يدل على حقانيته، لأن قيامه ودعوته لو كان لنفسه وبهدف تحقيق مصالحه الشخصية للزم أن يعمق في الأذهان والقلوب هذه الفكرة، ويزيد من توجيه الأنظار إلى نفسه وأن جميع الأشياء في هذا الدين مرتبطة بشخصه بحيث إذا غاب عنهم ذهب وانتهى كلّ شيء، ولكن القادة الصادقين كالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يفعلون مثل هذا أبداً، ولا يشجعون على مثل هذه الأفكار، بل يكافحونها بقوة، ويقولون : إن أهدافنا أعلى من أشخاصنا وهي لا تنتهي بموتنا وبغيابنا، ولهذا يقول القرآن الكريم : (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) ؟ وهو بذلك يستنكر ما دار في خلد البعض أو قد يدور من أن كلّ شيء في هذا الدين ينتهي بغياب النبي ـ القائدـ (صلى الله عليه وآله وسلم).

(720)

والجدير بالذكر أن القرآن استخدم للتعبير عن الردة إلى الجاهلية كلمة (انقلبتم على أعقابكم) و «الأعقاب» جمع عقب (وزان خشن) بمعنى مؤخرة القدم، فهو تعبير موح يصور التراجع إلى الوراء والإرتداد الواقعي، وهو أكثر إيحاءاً وأقوى تصويراً من لفظة الردة والرجوع والعودة، لأنه بمعنى السير القهقري.

ثمّ إنه سبحانه يقول : (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً) يعني أن العودة إلى الكفر والوثنية تضرّكم أنتم دون الله سبحانه، لأن أمثال هذا التراجع لا يعني سوى توقفكم في طريق الخير والسعي نحو السعادة الكاملة، بل فقدان كلّ ما حصلتموه من العزّة والكرامة والمجد بسرعة.

ثمّ إنه لما كان هناك ـ في معركة أُحد ـ أقلية استمرت على جهادها رغم الصعوبات، وإنتشار الخبر المفجع عن مقتل الرسول، كان من الطبيعي أن ينال صمودهم هذا وثباتهم التقدير اللائق، ولهذا قال سبحانه : (وسيجزي الله الشاكرين) وبذلك مدح القرآن الكريم استقامتهم وصمودهم، ووصفهم بالشاكرين لأنهم أحسنوا الإستفادة والإنتفاع بالنعم في سبيل الله، وهذا أفضل مصاديق الشكر.

إن الدرس الذي تعطيه هذه الآية في مكافحة عبادة الشخصية وتقديس الفرد هو أبلغ وأفضل درس لجميع المسلمين في جميع العصور والأزمنة، فعليهم جميعاً أن يتعلموا من القرآن أن لا يربطوا القضايا الإستراتيجية والأهداف العليا والمصيرية بالأشخاص، بل لابدّ أن يلتفوا حول الأُسس والمباديء الخالدة التي لا تفنى ولا تتغير، ولا تتأثر بتغير الأشخاص أو غيابهم عن الساحة بسبب الموت أو القتل حتّى لو كان ذلك هو النبيّ الأكرم، لكيلا تتوقف عجلة المسيرة عن الحركة، ولا يتعطل دولاب العمل عن الدوران، بل إن ذلك هو رمز الخلود في أي مبدأ وحركة أساساً.

(721)

وعلى هذا الأساس فإن جميع البرامج والتشكيلات المرتبطة بالأشخاص والقائمة بوجودهم الشخصي هي في الحقيقة برامج وتشكيلات غير سليمة ولا طبيعية، وهي معرضة للزوال والفناء في أية لحظة.

وممّا يؤسف له أن يكون أغلب التشكيلات الإسلامية اليوم من هذا القبيل، أي أنها قائمة بالأشخاص، ولذلك فهي سرعان ما تزول وتتهاوى وتتلاشى عندما يغيب الأشخاص بذواتهم عن الساحة.

إن على المسلمين أن يستلهموا من هذه الآية فيقيموا مؤسساتهم المتنوعة المختلفة بنحو يستفاد فيها من مواهب الأشخاص اللائقين الموهوبين دون أن يكون مصيرها مرتبطاً بمصيرهم حتّى لا تندثر بتغيرهم أو غيابهم.

ثمّ إن جماعة كثيرة من المسلمين اُرعبوا وزلزلوا لشائعة مقتل النبي في أُحد ـ كما أسلفنا ـ إلى درجة أنهم تركوا ساحة المعركة، وفروا بأنفسهم من الموت وحتّى أن بعضهم فكر في الردة عن الإسلام فكان قوله سبحانه : (وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً) وهو يكرر توبيخهم، وتنبيههم إلى أن الموت بيد الله، والفرار لا ينفع في الخلاص من الأجل الإلهي، فإذا صحّ أن النبي قتل في المعركة ونال الشهادة لم يكن ذلك إلاّ تحقيقاً لسنة إلهية، فلماذا خاف المسلمون وكفوا عن القتال ؟ ؟

ومن ناحية أُخرى أن الفرار من المعركة لا يدفع الأجل كما أن مواصلة القتال والبقاء في المعركة لا يقرب هو الآخر أجلاً، فالفرار من ميدان الجهاد حفاظاً على النفس لغو لا فائدة فيه.

وهناك بحث حول معنى الأجل، وأن منه حتمياً، ومنه معلقاً، والفرق بين النوعين سنوافيك به في تفسير الآية الثانية من سورة الأنعام بإذن الله تعالى.

وبعد عرض هذه الحقائق يعقب سبحانه على ما قال بقوله : (ومن يرد ثواب

(722)

الدنيا نؤته منها * ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) أي أن ما عمله الإنسان لا يضيع أبداً، فإن كان هدفه دنيوياً مادياً كما كان عليه بعض المقاتلين في «أُحد» فإنه سيحصل على ما يسعى إليه ويناله.

وأما إذا كان هدفه أسمى من ذلك، وصب جهوده في سبيل الحصول على الحياة الخالدة والفضائل الإنسانية بلغ إلى هدفه حتماً وأوتي ثواب الآخرة الذي هو أعظم من كلّ ثواب وأسمى من كلّ نتيجة، فلماذا إذن لا يصرف الإنسان جهوده، ويوظف ما أوتي من طاقات معنوية ومادية في الطريق الثاني وهو الطريق الخالد السامي ؟

وتأكيداً لهذه الحقيقة قال سبحانه : مرة أُخرى (وسنجزي الشاكرين).

والجدير بالتأمل أن الفعل في هذه العبارة جاء في الآية السابقة، بصيغة الغائب (سيجزي) وجاء هنا في صورة المتكلم «سنجزي» وهذا يفيد غاية التأكيد للوعد الإلهي بإعطاء الثواب لهم، فهو تدرج من الوعد العادي إلى الوعد المؤكد، فكأنّ الله يريد أن يقول ـ وببساطة ـ أنا ضامن لجزائهم وثوابهم.

ثمّ إنه جاء في تفسير «مجمع البيان» في ذيل هذه الآية عن الإمام الباقر (عليه السلام)أنه قال : إنه أصاب علياً (عليه السلام) يوم «أُحد» إحدى وستون جراحة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أمر أم سليم وأم عطية أن تداوياه، فقالتا إنا لا نعالج منه مكاناً إلاّ انفتق مكان آخر، وقد خفنا عليه، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل يمسحه بيده، ويقول : «إن رجلاً لقي هذا في الله فقد أبلى وأعذر» وكان القرح الذي يمسحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتئم، وقال علي (عليه السلام) : «الحمد الله إذ لم أفر ولم اُوَلِ الدبر» فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله تعالى : (وسيجزي الله الشاكرين) وقوله تعالى : (وسنجزي الشاكرين).

* * *

(723)

الآيات

وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىّ قَـاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَـافِرِينَ (147) فَـَاتَـهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَْخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الُْمحْسِنِينَ (148)

التّفسير

المجاهدون السابقون :

بعد استعراض حوادث معركة «أُحد» في الآيات السابقة، جاءت الآيات الحاضرة لتحث المسلمين على التضحية والثبات وتشجعهم وتثبتهم بذكر تضحيات من سبقوهم من أصحاب الرسل الماضين وأتباعهم المؤمنين الصادقين الأبطال، وتوبخ ضمناً أُولئك الذين فروا في «أُحد» وحدثوا أنفسهم بما حدثوا إذ

(724)

يقول سبحانه : في الآية الأُولى من هذه الآيات : (وكأين(1) من نبي قاتل معه ربيون(2) كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله) فأنصار الأنبياء إذا واجهوا المصاعب والجراحات والشدائد في قتالهم الأعداء لم يشعروا بالضعف والهوان أبداً، ولم يخضعوا للعدو أو يستسلموا له، ومن البديهي أن الله تعالى يحب مثل هؤلاء الأشخاص الذين يثبتون ويصبرون في القتال (وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين).

فهؤلاء عندما كانوا يواجهون المشاكل بسبب بعض الأخطاء أو العثرات وعدم الإنضباط لم يفكروا في الإستسلام للأمر الواقع، أو يحدثوا أنفسهم بالفرار أو الإرتداد عن الدين والعقيدة بل كانوا يتضرعون إلى الله يطلبون منه الصبر والثبات، والعون والمدد ويقولون (ربنا اغفر لنا ذنوبنا واسرافنا في أمرنا * وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين).

إنهم بمثل هذا التفكر الصحيح والعمل الصالح كانوا يحصلون على ثوابهم دون تأخير، وهو ثواب مزدوج، أما في الدنيا فالنصر والفتح، وأما في الآخرة فما أعد الله للمؤمنين المجاهدين الصادقين : (فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة).

ثمّ إنه سبحانه يعد هؤلاء ـ في نهاية هذه الآية ـ من المحسنين إذ يقول : (والله يحب المحسنين).

وبهذا النحو يبين القرآن درساً حياً للمسلمين الحديثي العهد بالإسلام، من

_____________________________

1 ـ «كأيّن» أي ما أكثر، ويقال أنها اسم مركب ـ أصلاً ـ من كاف التشبيه وأي الإستفهامية فظهرتا في صورة الكلمة الواحدة التي فقد عندها معنيا الجزئين، واكتسبت معنى جديداً هو «ما أكثر».

2 ـ «ربيون» جمع «ربى» وزان «على» يطلق على من اشتد إرتباطه بالله عزّوجلّ، ويكون مؤمناً عالماً، صامداً مخلصاً.

(725)

حياة الأُمم السابقة وسلوكهم مع أنبيائهم، وكيفية تعاملهم مع المشكلات الطارئة، وكيفية التغلب عليها، وهو درس من شأنه أن يربيهم ويعدّهم للحوادث المستقبلة، والمعارك القادمة.

وقفات اُخرى عند هذه الآيات

ثمّ إن هناك في هذه الآيات نقاطاً هامة أُخرى جديرة بالتوجه والإلتفات نشير إليها فيما يلي :

1 ـ الصبر ـ كما أشرنا إليه سابقاً ـ يعني الثبات والصمود، ولهذا جاء في هذه الآية في مقابل «الضعف والإستكانة» كما ويدل على ذلك كون الصابرين في رديف المحسنين إذ قال في الآية الأُولى : (والله يحب الصابرين) وقال في الآية الثالثة (والله يحب المحسنين) وهو إشعار بأن الإحسان لا يمكن إلاّ بالثبات والصمود والصبر، لأن المحسن تواجهه آلاف المشاكل، فإذا لم يكن مزوداً بالصمود والصبر والثبات والإستقامة لم يمكنه الاستمرار في عمله، بل سرعان ما يتركه في خضم المشكلات.

2 ـ إن المجاهدين الحقيقيين هم الذين لا ينسبون الهزيمة إلى غيرهم، أو يسندونها إلى عوامل وأسباب خيالية ووهمية، بل يبحثون عنها في نفوسهم وذواتهم، ويحاولون ـ بصدق ـ التخلص منها من خلال تصحيح الأخطاء، وترميم الثغرات، بل لا يتلفظون بكلمة الهزيمة، إنما يعبرون عنها بالإسراف، والإفراط غير المبرر، تماماً على العكس منا اليوم حيث نسعى غالباً لأن نتجاهل هزائمنا بالمرة، وأن ننسبها إلى عوامل خارجية لا تمت إلى ذواتنا بصلة، ولا ترتبط بسلوكنا وأفكارنا، ولهذا فإننا لا نفكر في إصلاح الأخطاء، وإزالة نقاط ضعفنا.

3 ـ لقد عبرت الآية الثالثة عن الجزاء الدنيوي بثواب الدنيا، ولكنها عبرت

(726)

عن الجزاء الأخروي بحسن ثواب الآخرة، وهذه إشارة إلى أن ثواب الآخرة يختلف عن ثواب الدنيا إختلافاً كلياً، لأن ثواب الدنيا مهما يكن فهو ممزوج بالفناء والعدم، ويقترن ببعض المنغصات والمكروهات الذي هو من طبيعة الحياة الدنيا، في حين أن ثواب الآخرة حسن كلّه، إنه خير خالص لا فناء فيه ولا عناء، ولا إنقطاع فيه ولا إنتهاء، ولا كدورات فيه ولا منغصات، ولا متاعب ولا مزعجات.

* * *

(727)

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَـابِكُمْ فَتَنقَلِبوُاْ خَـاسِرِينَ (149) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّـاصِرِينَ (150)  سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَـاناً وَمَأْوَئهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّـالِمِينَ (151)

التّفسير

تحذيرات مكررة :

هذه الآيات ـ كسابقاتها ـ نزلت بعد معركة «أُحد» وبهدف تقويم وتحليل الحوادث التي وقعت أو لابست تلكم المعركة، ويشهد بهذا وضع هذه الآيات والآيات السابقة.

إن ما يبدو للنظر هو أن أعداء الإسلام أخذوا ـ بعد معركة أُحد ـ يسعون في إلقاء الفرقة في صفوف المسلمين ببث سلسلة من الدعايات المسمومة، والمغلفة أحياناً بلباس النصيحة، والتحرّق على ما آل إليه المسلمون، وكانوا بالإستفادة من

(728)

الأوضاع النفسية المتردية التي كان يمر بها جماعة من المسلمين، يحاولون زرع بذور النفور من الإسلام بينهم.

ولا يستبعد أن يكون اليهود والنصارى قد ساعدوا المنافقين في هذه الخطة الحاقدة، كما حدث في المعركة نفسها حيث كان لهم حظ في الترويج للشائعة التي أطلقت حول مقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدف إضعاف معنويات المقاتلين المسلمين.

الآية الأُولى من هذه الآيات تقول : (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على اعقابكم فتنقلبوا خاسرين) فهي تحذر المسلمين من إطاعة الكفّار وتقول : إن إطاعة الكفّار تعني العودة إلى الجاهلية بعد تلك الرحلة العظيمة في طريق التكامل المعنوي والمادي في ظل التعاليم الإسلامية.

إن إطاعة الكفّار في وساوسهم وتلقيناتهم، والإصغاء إلى دعاياتهم تعني العودة إلى النقطة الأُولى ألا وهي الكفر والفساد والسقوط في حضيض الإنحطاط، وفي هذه الصورة يكونون قد إرتكبوا إثماً كبيراً ستلازمهم تبعاته، وآثاره الشريرة، فأية خسارة أكبر من أن يستبدل الإنسان الإيمان بالكفر، والنور بالظلام، والهدى بالضلال والسعادة بالشقاء ؟ !

ثمّ إنه سبحانه يؤكد بأن لهم خير ناصر وولي وهو الله : (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين).

إنه الناصر الذي لا يغلب، بل لا تساوي قدرته أية قدرة، في حين ينهزم غيره من الموالي، ويندحر غيره من الأسياد.

ثمّ إنه سبحانه يشير إلى نموذج من نماذج التأييد الإلهي للمسلمين في أحرج الظروف، وأحلك المراحل إذ يقول : (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب).

ففي هذا المقطع من الآية يشير إلى نجاة المسلمين بعد معركة أُحد، وخلاصهم بأعجوبة، وهو بذلك ـ كما أسلفنا ـ يشير إلى واحد من موارد حماية الله للمسلمين

(729)

وغضبه على الكفّار، ويطمئن المسلمين إلى المستقبل ويزيد من ثقتهم بأنفسهم، ويؤمّلهم في التأييدات الإلهية القادمة.

فالوثنيون المكيون ـ كما سبق أن قلنا في قصة معركة أُحد ـ مع أنهم أحرزوا في تلك المعركة إنتصاراً ملفتاً للنظر، واستطاعوا أن يبددوا الجيش الإسلامي ولو ظاهراً، رأوا أن يعودوا إلى ساحة المعركة، ويأتوا على البقية الباقية من القوّة الإسلامية، بل ولم يترددوا مطلقاً في إغارة على المدينة المنورة، والقضاء على شخص النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان قد بلغهم عدم صحة الخبر بمقتله في تلك المعركة.

إلاّ أن الله سبحانه قد ألقى في قلوبهم رعباً عجيباً، وخوفاً بالغاً صرفهم عن نيتهم تلك.

على أن هذا الخوف الذي لم يكن له ما يبرره أبداً سوى أنه من خواص الكفر والوثنية والإعتقاد بالخرافة قد شمل وجودهم كلّه حتّى أنهم ـ كما نقرأ ذلك في الأحاديث ـ كانوا عند عودتهم من «أُحد» وإقترابهم من مكة أشبه ما يكونون بجيش منهزم مندحر، رغم ما قد حققوه من إنتصار شبه ساحق.

وهذا هو ما تلخصه الآية إذ تقول : (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب)أي أننا كما ألقينا الرعب في قلوب الكفّار في أعقاب معركة «أُحد» ورأيتم نموذجاً منه بأم أعينكم، سنلقي مثله في قلوب الذين كفروا فيما بعد، ولهذا ينبغي أن تطمئنوا إلى المستقبل، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ولا تهزكم ولا تزعزعكم شماتة شامت ووسوسة موسوس.

والجدير بالذكر أن الآية تعلل نشأة هذا الرعب الواقع في قلوب الكفّار كالتالي : (بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً).

لقد كانوا قوماً أهل خرافة، لا يتبعون دليلاً، ولا يلتمسون برهاناً، ولهذا كثيراً

(730)

ما كانت المحقرات من الأشياء تعظم في عيونهم وأفكارهم، فيتخذون الحجر والمدر والخشب معبودات وآلهة لهم، يضعفون أمام الحوادث ضعفاً عجيباً ويستكينون لها استكانة مذلة لأنهم سرعان ما يخطئون في حساباتهم وتقديراتهم، فإذا ما حدث حادث طفيف ـ في حياتهم ـ كما لو سمعوا مثلاً بأن المسلمين المهزومين عادوا مع جراحاتهم وجرحاهم إلى ساحة المعركة لملاحقة الأعداء، عظم ذلك في عيونهم وكبر فى نظرهم، وحسبوا له أعظم حساب، وخافوا من ذلك أشد الخوف، وهي بعينها الحالة التي يعاني منها المستكبرون في عالمنا الراهن وعصرنا الحاضر، حيث إننا نشاهد كيف يخافون من أصغر حادث، فيتصورون الذرة جبلاً والحبة قبة، وذلك لأنهم لا يركنون إلى ركن وثيق، ولم يختاروا لأنفسهم كهفاً حصيناً، من إيمان صحيح وعقيدة مستقيمة.

لقد ظلم هؤلاء الكافرون أنفسهم وظلموا مجتمعاتهم فـ  : (مأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) وما أسوأه من مثوى ومآل.

الإنتصار بسبب خوف العدو :

تفيد روايات كثيرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمتاز في جملة ما يمتاز به أنه كان ينتصر على أعدائه بسبب خوفهم وإلقاء الرعب في قلوبهم(1).

إن هذا الموضوع يشير ـ في نفس الوقت ـ إلى أحد عوامل الإنتصار في المعارك والحروب وخاصة في مثل هذا اليوم الذي تعتبر فيه معنويات المقاتلين من أهم الأُمور العسكرية، ومن أهم القضايا في شؤون التكتيك الحربي.

ولهذا فإن لمعنوية المقاتلين المرتفعة من التأثير في تحقيق النصر ما ليس

_____________________________

1 ـ راجع كتاب الخصال وتفسير مجمع البيان.

(731)

للسلاح من حيث الكمية والكيفية.

من هنا بالغ الإسلام في رفع معنويات المقاتلين، فمضى يقوي فيهم روح الإيمان والحبّ للجهاد، والإعتزاز بالشهادة، والإتكال على الله القادر المنان وبهذا بلغ بالمجاهدين المسلمين أعلى قمم الاستقامة والثبات، والشجاعة والبسالة في حين كان المشركون وعبدة الأوثان، الذين لم يكونوا يعتقدون إلاّ بأصنام صم بكم لا تضر ولا تنفع، ولا يؤمنون بمعاد وقيامة وحياة بعد الموت، كانوا يعانون من نفسية ضعيفة منهزمة مهزوزة، فكان هذا التفاوت بين النفسيتين هو أحد العوامل المؤثرة لإنتصار المسلمين عليهم.

* * *

(732)

الآيات

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـازَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُنَ عَلَى أَحَد وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَـابَكُمْ غَمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـابِكُمْ وَاللهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئفَةً مِّنكُمْ وَطَآئفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَـاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاَْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ الاَْمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاَْمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَـهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)

التّفسير

(733)

الهزيمة بعد الإنتصار :

قاتل المسلمون في المرحلة الأُولى من معركة «أُحد» بشجاعة خاصّة، ووقفوا وقفة رجل واحد فأحرزوا إنتصاراً سريعاً، وبددوا جيش العدو في أقرب وقت، فدب السرور والفرح في المعسكر الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه كما أسلفنا، إلاّ أنّ تجاهل فريق من الرماة لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المشددة بالبقاء عند ثغر الجبل والمحافظة عليه سبّب في أن تنقلب الآية.

فقد أقدم ذلك الفريق من الرماة الذين كلّفهم النبي القائد (صلى الله عليه وآله وسلم) بحراسة الثغر الموجود في جبل «عينين» بقيادة «عبدالله بن جبير» على ترك موقعهم المهم جداً عندما عرفوا بهزيمة قريش، واشتغال المسلمين بجمع الغنائم، وفسح هذا الأمر المجال لكمين من قريش في أن يهاجموا المسلمين من الخلف فيتحمل الجيش الإسلامي ضربة نكراء.

وعندما عاد المسلمون بعد تحمل خسائر عظيمة إلى المدينة كان يسأل أحدهم رفيقه : ألم يعدنا الله سبحانه بالفتح والنصر، فلماذا هزمنا في هذه المعركة ؟

فكانت الآيات الحاضرة جواباً على هذا السؤال، وتوضيحاً للعلل الحقيقية التي سببت تلك الهزيمة، وإليك فيما يلي تفسير جزئيات هذه الآيات وتفاصيلها :

قال سبحانه : (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم(1) بإذنه حتّى إذا(2) فشلتم).

ففي هذه العبارة يشير القرآن الكريم بل ويصرح بأن الله قد صدق وعده وأنزل النصر على المسلمين في بداية تلك المعركة، فقتلوا العدو، وفرقوا جمعهم ومزقوا شملهم ما داموا كانوا يتبعون تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتقيدون بأوامره، وما

_____________________________

1 ـ «الحس» القتل على وجه الإستئصال، وسمي القتل حساً لأنه يبطل الحس.

2 ـ «إذا» ليست هنا شرطية، بل بمعنى «حين».

(734)

داموا كانوا يتحلون بالثبات والإستقامة، فلم تلحق بهم الهزيمة إلاّ عندما وهنوا وتجاهلوا أوامر القيادة النبوية الدقيقة. وهذا يعنى أن عليهم أن لا يتوهموا بأن الوعد بالتأييد والنصر مطلق لا قيد له ولا شرط، بل كل الوعود الإلهية بالنصر مقيدة باتباع تعاليم الله بحذافيرها، والتمسك بأهدافها.

أما متى وعد الله المسلمين بالنصر في هذه المعركة، فهناك إحتمالان :

الأوّل : أن يكون المراد هو تلك الوعود العامة التي يعد الله بها المؤمنين دائماً حيث يخبرهم بأنّه سبحانه ينصرهم على الكافرين والأعداء.

الآخر : ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد وعد المسلمين بصراحة قبل أن يخوضوا معركة «أُحد» بأنهم منتصرون في تلك المعركة، ووعد النبي هو الوعد الإلهي بلا ريب.

ثمّ إنه سبحانه يقول : بعد بيان هذه الحقيقة حول النصر الإلهي (وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون).

ومن هذه العبارة التي هي إشارة إلى ما طرأ على وضع الرماة في جبل «عينين» يستفاد بوضوح بأن الرماة الذين كلفوا بحراسة الثغر قد إختلفوا فيما بينهم في ترك ذلك الثغر ومغادرة ذلك الموقع في الجبل فعصى فريق كبير منهم، (وهذا قد يستفاد من لفظة عصيتم التي تفيد أن الأغلبية والأكثرية من الرماة قد عصت وتجاهلت تأكيدات النبي بالبقاء هناك).

ولهذا يقول القرآن الكريم بأنّكم عصيتم من بعد ما أراكم النصر الساحق الذي كنتم تحبون، أي أنّكم بذلتم غاية الجهد لتحقيق النصر، ولكنكم وهنتم في حفظه، وتلك حقيقة ثابتة أبداً أن الحفاظ على الإنتصارات أصعب بكثير من تحقيقها.

أجل لقد إختلفتم فيما بينكم وتنازعتم في تلك اللحظات الحساسة البالغة الأهمية (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة).

ففي الوقت الذي كان البعض (وهم الأغلب كما قلنا) يفكرون في الغنائم وقد

(735)

سال لعابهم لها حتّى أنهم تركوا موقعهم الخطير في الجبل، بينما بقيت جماعة أُخرى قليلة مثل «عبدالله بن جبير» وبعض الرماة ثابتين في مكانهم يذبون عنه الأعداء ويطلبون الآخرة والثواب الإلهي العظيم.

وهنا تغير مجرى الأُمور، وانعكست القضية فبدل الله الإنتصار إلى الهزيمة ليمتحنكم وينبهّكم، ويربّيكم : (ولقد صرفكم عنهم ليبتليكم).

ثمّ إن سبحانه غفر لكم كلّ ما صدر وبدر عنكم من عصيان وتجاهل لأوامر الرسول وما ترتب على ذلك من التبعات في حين كنتم تستحقون العقاب، وما ذلك إلاّ لأن الله لا يضن بنعمة على المؤمنين، ولا يبخل عليهم بموهبة (ولقد عفا عنكم، والله ذو فضل على المؤمنين).

أجل، إنه تعالى يحب المؤمنين، ولا يتركهم وشأنهم ولا يكلهم إلى أنفسهم إلاّ في بعض الأحيان ليتنبهوا، ويثوبوا إلى رشدهم فيزدادوا التصاقاً بالشريعة، وإهتماماً بالمسؤوليات، ويقظة وإحساساً.

ثمّ إنه سبحانه يذكر المسلمين بموقفهم في نهاية معركة «أُحد» فيقول : (إذ تصعدون(1) ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في اخراكم(2)) أي تذكروا إذ فررتم من المعركة، ورحتم تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل، تاركين رسول الله وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلاً : «إِليّ عباد الله ـ إِليّ عباد الله فإني رسول الله» وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبداً، ولا تلبون نداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم (فاثابكم غما بغم

_____________________________

1 ـ «تصعدون» من الإصعاد وهو ـ كما في المفردات للراغب ـ الأبعاد والمشي في الأرض سواء كان ذلك في صعود أو حدور في حين أن الصعود يعني الذهاب في المكان العالي، ولعلّ استعمال الإصعاد في الآية بدل الصعود لأن جماعة من الفارين صعدوا الجبل، وجماعة آخرين انتشروا في الصحراء.

2 ـ «أخراكم» بمعنى «ورائكم».

(736)

لِما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولِما أصاب جماعة منكم من الجراحات والإصابات ولِما بلغكم من شائعة قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولقد كان كلّ ذلك من نتائج مخالفتكم لأوامر القيادة النبوية، وتجاهلكم لتأكيداتها بالمحافظة على المواقع المناطة لكم.

ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الإنتصار (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم).

(والله خبير بما تعملون) فهو يعرف جيداً من ثبت منكم وأطاع، وكان مجاهداً واقعياً، ومن هرب وعصى، وعلى ذلك فليس لأحد أن يخدع نفسه، فيدعي خلاف ما صدر منه في تلك الحادثة، فإذا كنتم من الفريق الأول بحق وصدق فاشكروه سبحانه، وإن لم تكونوا كذلك فتوبوا إليه واستغفروه من ذنوبكم.

وساوس الجاهلية :

إتسمت الليلة التي تلت معركة «أُحد» بالقلق والإضطراب الشديدين، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرة أُخرى لإجتياح البقية الباقية من القوّة الإسلامية، والقضاء على من تبقى من المقاتلين المسلمين، ولعلّ بعض الأخبار كان قد نمّ إلى المسلمين عن إعتزام المشركين ونيتهم في العودة إلى ساحة القتال.

ولاشكّ أنهم لو عادوا لكان المسلمون يواجهون أحلك الظروف في تلك الموقعة.

بيد أنه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا

(737)

على الفرار من الميدان في «أُحد» فتابوا إلى الله، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم حول المستقبل، قد أخذهم نوم مريح، وغلبهم نعاس هانىء ولذيذ وهم في عدة الحرب، في الوقت الذي كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان، والجبناء يعانون من كابوس الأوهام والوساوس طوال الليل، ولم يذوقوا لذة النوم، فكانوا ـ من حيث لا يشعرون ولا يقصدون ـ يحرسون المؤمنين الحقيقين الذين كانوا يستريحون في تلك النومة الطارئة اللذيذة. وإلى هذا كلّه يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول : (ثمّ أنزل عليكم من بعد الغم امنة(1) نعاساً يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم).

أجل، إن المنافقين والجبناء وضعاف النفوس والإيمان لم يزرهم النوم ولا حتى النعاس في تلك الليلة خوفاً على نفوسهم، وعلى أرواحهم، وجرياً وراء الوساوس الشيطانية، والمخاوف التي هي من طبيعة ولوازم النفاق وضعف اليقين ووهن الإيمان، فيما ان المؤمنون الصادقون يستريحون في ذلك النعاس اللذيذ، وتلك النومة الطارئة الهانئة، وهذا هو أحد آثار الإيمان وثماره المهمة البارزة، فإن المؤمن يحظى بالراحة والطمأنينة حتّى في هذه الدنيا، على العكس من غير المؤمنين من الكفار أو المنافقين أو ضعاف الإيمان، فإنهم محرومون من الطمأنينة والراحة اللذيذة تلك.

ثمّ إن القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين أُولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار، إذ يقول : (يظنون بالله غير الحقّ ظن الجاهلية).

إنّهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية، وقبل
أن تبزغ عليهم شمس الإسلام، فقد كانوا يتصورون أن الله سيكذبهم وعده،

_____________________________

1 ـ الامنة أي الأمن والنعاس هو النوم الخفيف.

(738)

ويظنون أن وعود النبي غير محققة ولا صادقة، وكان يقول بعضهم للآخر : (هل لنا من الأمر من شيء) أي هل سيصيبنا النصر ونحن في هذه الحالة من السقوط والهزيمة، والمحنة والبلية ؟ إنهم كانوا يستبعدون أن ينزل عليهم نصر من الله بعد ما لقوا، أو كانوا يرون ذلك محالاً.

ولكن القرآن يجيبهم قائلاً (قل إن الأمر كلّه لله) أي كيف تستبعدون ذلك أو ترونه محالاً والأمر كلّه بيد الله، وهو قادر أن ينزل عليكم النصر متى وجدكم أهلاً لذلك.

على أنهم لم يظهروا كلّ ما كان يدور في خلدهم من ظنون وأوهام وهواجس خوفاً من أن يعدوا في صفوف الكفار : (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك).

وكأنهم كانوا يتصورون أن الهزيمة في «أُحد» من العلائم الدالة على بطلان الإسلام، ولذا كانوا يقولون : (لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا) أي لو كنا على حق لكسبنا المعركة، ولم نخسر كلّ هذه الأرواح والنفوس.

ولكن الله تعالى أجابهم وهو يشير في هذه الإجابة إلى مطلبين.

الأول : إن عليكم أن لا تتوهموا بأن الفرار من ساحة المعركة، وتجنب الصعاب يمكنه أن ينقذكم من الموت الذي هو قدر لكلّ إنسان ولهذا يقول سبحانه : (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتال إلى مضاجعهم) فإن الذين جاء أجلهم، وحان حين موتهم لابدّ أن يموتوا ولا محالة هم مقتولون حتّى لو كانوا في مضاجعهم.

وفي الأساس فإن كلّ أُمة استحقت الهزيمة لوهن أكثريتها، لابدّ أن تذوق الموت، ولا محالة يصيبها القتل، فالأجدر بها أن تموت في ساحات المعارك، وتحت ضربات السيوف، وهي تسطر ملاحم البطولة، وتخط أسطر البسالة، لا أن تموت خانعة، أو تقتل ذليلة على فراشها، وما أروع ما قاله الإمام علي إذ قال (عليه السلام) :

(739)

«لألف ضربة بالسيف أحب إليَّ من ميتة على فراش».

والثاني : إن هذه الحوادث لابدّ أن تقع حتّى يبدي كلّ واحد مكنون صدره، ومكتوم قلبه، فتتشخص الصفوف، وتتميز جواهر الرجال، هذا مضافاً إلى أن هذه الحوادث سبب لتربية الأشخاص شيئاً فشيئاً، ولتخليص نياتهم، وتقوية إيمانهم، وتطهير قلوبهم (وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم).

ثمّ يقول سبحانه : في ختام هذه الآية (والله عليم بذات الصدور) ولذلك فهو لا ينظر إلى أعمال الناس بل يمتحن قلوبهم، ليطهرها من كلّ ما تعلق بالنفوس والأفئدة من شوائب الشرك والنفاق، والشك والتردد.

* * *

(740)

الآية

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَـانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

التّفسير

الذنب ينتج ذنباً آخر :

هذه الآية ناظرة أيضاً إلى وقائع معركة «أُحد» ، وتقرر حقيقة أُخرى للمسلمين، وهي أن الذنوب والإنحرافات التي تصدر من الإنسان بسبب من وساوس الشيطان، تفرز آثاماً وذنوباً اُخرى بسبب وجود القابلية الحاصلة في النفس الإنسانية نتيجة الذنوب السابقة، والتي تمهد لذنوب مماثلة وآثام اُخرى، وإلاّ فإن القلوب والنفوس التي خلت وطهرت من آثار الذنوب السالفة لا تؤثر فيها الوساوس الشيطانية، ولا تتأثر بها، ولهذا قال سبحانه :

(إن الذين تولوا منكم يوم إلتقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ان الله غفور حليم).

(741)

وهكذا يعلمهم القرآن أن عليهم أن يضاعفوا الجهد في تربية نفوسهم وتطهير قلوبهم لتحقيق الإنتصار في المستقبل.

ويمكن أن يكون المقصود من الذنب الذي كسبوا هو حب الدنيا وجمع الغنائم، ومخالفة الرسول، وتجاهل أوامره في بحبوحة المعركة، أو ذنوب أُخرى كانوا قد إقترفوها قبل معركة «أُحد» أضعفت من طاقاتهم الإيمانية، وأضرت بالجانب المعنوي فيهم.

وقد نقل العلاّمة الطبرسي عن أبي القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يوم «أُحد» إلاّ ثلاث عشرة نفساً (فيكون عددهم مع النبي 14) خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وقد إختلف في الجميع إلاّ في علي وطلحة فانهما ثبتا ولم يفرا بإتفاق الجميع.

* * *

(742)

الآيات

يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الاَْرْضِ أَوَكَانُواْ غُزَّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لاَِ لَى اللهِ تُحْشَرُونَ (158)

التّفسير

استغلال المنافقين :

كانت حادثة «أُحد» تحظى بأهمية كبيرة من وجهة نظر المسلمين وذلك من جهتين :

أولاً : لأنها كانت تعتبر خير مرآة تعكس حقيقة المسلمين في تلك المرحلة، وتساعدهم على رؤية نقاط ضعفهم، فإصلاحها وإزالتها، ولهذا السبب ركز القرآن على أحداث هذه الواقعة وملابساتها وقضاياها ذلك التركيز الكبير وأولاها ذلكم

(743)

الإهتمام البالغ، فنحن نرى كيف نستفيد منها دروساً وعبراً كثيرة وكبيرة، في الآيات القادمة كما في الآيات السابقة.

ومن جهة أُخرى هيأت أحداث هذه الواقعة أرضية وفرصة مناسبة للمنافقين بأن يقوموا بمحاولاتهم التشويشية، ومن أجل هذا نزلت آيات عديدة لإبطال مفعول هذه المحاولات وتفشيل هذه المساعي الماكرة، من جملتها الآيات المذكورة أعلاه.

فهذه الآيات تتوجه بالخطاب أولاً إلى المؤمنين بهدف تحطيم جهود المنافقين ومحاولاتهم التخريبية، وتحذير المسلمين منهم فتقول : (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الأرض، أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).

هذه الكلمات وإن كانوا يطلقونها في ستار من التعاطف وتحت قناع الإشفاق، إلاّ أنهم لم يكونوا ـ في الحقيقة ـ يقصدون منها إلاّ تسميم روحية المسلمين، وإضعاف معنوياتهم، وزعزعة إيمانهم، فينبغي ألا تقعوا تحت تأثيرها، وتكرروا نظائرها من العبارات.

(ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم).

أنكم أيها المؤمنون إذا وقعتم تحت تأثير هذه الكلمات المضلة الغاوية، وكررتم نظائرها ستضعف روحيتكم أيضاً، وستمتنعون أيضاً عن الخروج إلى ميادين الجهاد والسفر والرحيل من أجل الله وفي سبيله، وحينئذ سيتحقق للمنافقين ما يصبون إليه، ولكن لا تفعلوا ذلك، وتقدموا إلى سوح الجهاد وميادين القتال بمعنوية عالية، وعزم أكيد ودون تردد ولا كلل، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب المنافقين المخذلين، أبداً.

ثمّ إن القرآن الكريم يرّد على خبث المنافقين وتسويلاتهم وتشويشاتهم

(744)

بثلاث أجوبة منطقية هي :

1 ـ إن الموت والحياة بيد الله على كلّ حال، وأن الخروج والحضور في ميدان القتال لا يغير من هذا الواقع شيئاً، وأن الله يعلم بأعمال عباده جميعها : (والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير).

2 ـ ثمّ إنكم حتّى إذا متم أو قتلتم، وبلغكم الموت المعجل ـ كما يحسب المنافقون ـ فإنكم لم تخسروا شيئاً، لأن رحمة الله وغفرانه أعظم وأعلى من كلّ ما تجمعه أيديكم أو يجمعه المنافقون مع الاستمرار في الحياة من الأموال والثروات (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون).

وأساساً لا تصحّ المقارنة بين هذين الأمرين فأين الثرى من الثريا، ولكنه أمر لا مفر منه عند مخاطبة تلك العقول المنحطة التي تفضل أياماً معدودة من الحياة الفانية وجفنة من الثروة الزائلة على عزة الجهاد وفخر الشهادة.

إنه ليس من سبيل أمام هؤلاء إلاّ أن يقال لهم : إن ما يحصل عليه المؤمنون عن طريق الشهادة أو الموت في سبيل الله، أفضل من كلّ ما يجمعه الكفّار من طريق حياتهم الموبوءة، المزيجة بالشهوات الرخيصة وعبادة المال والدنيا.

3 ـ وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فإن الموت لايعني الفناء والعدم حتّى يخشى منه هذه الخشية ويخاف منه هذا الخوف، ويستوحش منه هذا الاستيحاش، إنه نقلة من حياة إلى حياة أوسع وأعلى وأجل وأفضل، حياة مزيجة بالخلود موصوفة بالبقاء (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون).

إن الجدير بالملاحظة في هذه الآيات هو جعل الموت في اثناء السفر، في مصاف الشهادة في سبيل الله، لأن المراد بالسفر هنا هي تلك الأسفار التي يقوم بها الإنسان في سبيل الله ولأجل الله كالسفر وشد الرحال إلى ميادين القتال أو للعمل التبليغي، وذلك لأن الأسفار في تلك العصور كانت محفوفة بالمشاكل، ومقترنة

(745)

بالمصاعب والمتاعب، وكانت تلازم في الأغلب الأمراض التي تؤدي في أكثر الأحيان إلى الموت، ولذلك لم يكن ذلك الموت بأقل فضلاً من القتل والشهادة في ميادين الجهاد وسوح النضال.

وأما ما إحتمله بعض المفسّرين من أن الأسفار المذكورة في هذه الآية هي الأسفار التجارية فهو بعيد جداً عن معنى الآية، لأن الكفّار لم يتأسفوا قط لهذا الأمر بل كان هذا هو نفسه وسيلة من وسائل الحصول على الثروة وتكريسها، هذا مضافاً إلى أن هذا الموضوع لم يكن له أي تأثير في إضعاف روحية المسلمين بعد معركة أُحد، كما وان عدم تنسيق المسلمين مع الكفّار في هذا المورد لم يوجد ولم يسبب أية حسرة للكفّار، ولهذا فإن الظاهر هو أن المراد من الموت في أثناء السفر في هذه الآية هو الموت في السفر الذي يكون بهدف الجهاد في سبيل الله، أو لغرض القيام بغير ذلك من البرامج الإسلامية.

* * *

(746)

الآيتان

فَبَِما رَحْمَة مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)إِن يَنصُرْكُمْ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

التّفسير

الأمر بالعفو العام :

هذه الآية وإن كانت تتضمن سلسلة من التعاليم الكلية الموجهة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتشتمل من حيث المحتوى على برامج كلية وأساسية، ولكنها من حيث النزول ترتبط بواقعة «أُحد» لأنه بعد رجوع المسلمين من «أُحد» أحاط الأشخاص الذين فروا من المعركة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهروا له الندامة من فعلتهم وموقفهم، وطلبوا منه العفو.

(747)

فأصدر الله سبحانه إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمره بأن يعفو عنهم، ويتجاوز عن سيئهم ويستقبل المخطئين التائبين منهم بصدر رحب.

إذ قال تعالى : (فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) ولقد أشير في هذه الآية ـ قبل أي شيء ـ إلى واحدة من المزايا الأخلاقية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ألا وهي اللين مع الناس والرحمة بهم، وخلوه من الفظاظة والخشونة.

«الفظَّ» ـ في اللغة ـ هو الغليظ الجافي الخشن الكلام، و «غليظ القلب» هو قاسي الفؤاد الذي لا تلمس منه رحمة، ولا يحس منه لين.

وهاتان الكلمتان وان كانتا بمعنى واحد هو الخشونة، إلاّ أن الغالب استعمال الأُولى في الخشونة الكلامية، واستعمال الثانية في الخشونة العملية والسلوكية، وبهذا يشير سبحانه إلى ما كان يتحلى به الرسول الأعظم من لين ولطف تجاه المذنبين والجاهلين.

ثمّ إنه سبحانه يأمر نبيه بأن يعفو عنهم إذ يقول : (فاعف عنهم واستغفر لهم).

وهذا الكلام يعني أنه سبحانه يطلب منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتنازل عن حقه لهم إذ تفرقوا عنه في أحلك الظروف، وسببوا له تلك المصائب والمتاعب في تلك المعركة، وأنه يشفع لهم لدى نبيه بأن يتجاوز عنهم، وأن يشفع هو بدوره لهم عند الله ويطلب المغفرة لهم منه سبحانه.

وبتعبير آخر أنه سبحانه يطلب من نبيه أن يعفو عنهم فيما بينه وبينهم، وأما ما بين الله وبينهم فهو سبحانه يغفر لهم ذلك. وقد فعل الرسول الكريم ما أمره به ربه وعفى عنهم جميعاً.

ومن الواضح أن هذا المقام كان من الموارد التي تتطلب حتماً العفو والمغفرة، واللطف واللين، ولو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل غير ذلك لكان يؤدي ذلك إلى إنفضاض

(748)

الناس من حوله، وتفرقهم عنه، إذ أن الجماعة رغم أنها أُصيبت بالهزيمة النكراء، وتحملت ما تحملت من القتلى والجرحى، وكانوا هم السبب فى ذلك، إلاّ أنهم أحوج ما يكونون إلى العطف واللطف وإلى اللين والعفو، وإلى البلاسم التي تبل جراحاتهم، وإلى المراهم التي تهدىء خواطرهم، حتّى يتهيأوا بعد شفائها واستعادة معنوياتهم إلى مواجهة أحداث المستقبل، وتحمل المسؤوليات القادمة.

إن في هذه الآية إشارة صريحة إلى إحدى أهم الصفات التي يجب توفرها في أية قيادة، ألا وهي العفو واللين تجاه المتخلفين التائبين، والعصاة النادمين، والمتمردين العائدين، ومن البديهي أن الذي يتصدى للقيادة لو خلى عن هذه الخصلة الهامة، وافتقر إلى روح السماحة، وافتقد صفة اللين، وعامل من حوله بالخشونة والعنف والفظاظة فسرعان ما يواجه الهزيمة، وسرعان ما تصاب مشاريعه وبرامجه بنكسات ماحقة، تبدد جهوده، وتذري مساعيه أدراج الرياح، إذ يتفرق الناس من حوله، فلا يمكنه القيام بمهام القيادة ومسؤولياتها الجسيمة، ولهذا قال الإمام أميرالمؤمنين مشيراً إلى هذه الخصلة القيادية الحساسة «آلة الرياسة سعة الصدر».

الأمر بالمشاورة :

بعد إصدار الأمر بالعفو العام يأمر الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يشاور المسلمين في الأمر ويقف على وجهات نظرهم، وذلك إحياءاً لشخصيتهم، ولِبث الروح الجديدة في كيانهم الفكري والروحي اللذين أصابهما الفتور بعد الذي حدث.

على أن هذا الأمر للنبي بمشاورة المسلمين إنما هو لأجل أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما أسلفنا ـ قد استشار المسلمين قبل الدخول في معركة «أُحد» في كيفية مواجهة العدو واستقر رأي الأغلبية منهم على التعسكر عند جبل «أُحد» فكان ما كان من

(749)

المكروه ووقع ما وقع من البلاء، وهنا كان كثيرون يتصورون بأن على النبي أن لا يشاور بعد ذلك أحداً، وأن عليه أن يتصرف كما يرى هو، ولكن القرآن الكريم جاء يرد على هذا التصور، ويجيب على هذا النوع من التفكير ويأمر النبي بأن يعيد المشاورة إذ يقول (وشاورهم في الأمر) لأن المشاورة وإن لم تنفع في بعض المواضع، فإنها نافعة على العموم، بل إن نتائجها المفيدة الكثيرة لو قيست إلى بعض النتائج السلبية وغير المفيدة تبدو أكثر اضعافاً كما وأن أثرها في صياغة الأفراد والجماعات وإنماء شخصيتهم من الأهمية بحيث يغطي على نقاط ضعفها، بل هو أبرز آثارها وأهم فوائدها الذي لا يمكن ولا يجوز التغاضي عنه.

والآن نرى في أي المواضيع كان يشاور الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه ؟

صحيح أن كلمة «الأمر» في قوله تعالى (وشاورهم في الأمر) ذات مفهوم واسع يشمل جميع الأُمور، ولكن من المسلم أيضاً أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يشاور الناس في الأحكام الإلهية مطلقاً، بل كان في هذا المجال يتبع الوحي فقط.

وعلى هذا الأساس كانت المشاورة في كيفية تنفيذ التعاليم والأحكام الإلهية على أرض الواقع.

وبعبارة أُخرى : إن النبي لم يشاور أحداً في التقنين، بل كان يشاور في كيفية التطبيق ويطلب وجهة نظر المسلمين في ذلك.

ولهذا عندما كان يقترح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً ـ أحياناً ـ بادره المسلمون بهذا السؤال : هل هذا حكم إلهي لا يجوز إبداء الرأي فيه، أو أنه يرتبط بكيفية التطبيق والتنفيذ ؟ فإذا كان من النوع الثاني، أدلى الناس فيه بآرائهم، وأما إذا كان من النوع الأول لم يكن منهم تجاهه سوى التسليم والتفويض.

ففي يوم بدر جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال «الحباب ابن المنذر» : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا

(750)

نتأخر عنه أم هو الرأي و الحرب والمكيدة ؟ فقال : «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال : يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتّى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثمّ نغور ما وراءه إلى آخر ما قال... فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «لقد أشرت بالرأي» وعمل برأيه(1).

أهمية المشاورة في نظر الإسلام :

لقد حظيت مسألة المشاورة بأهمية خاصة في نظر الإسلام، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم أنه كان يملك ـ بغض النظر عن الوحي الإلهي ـ قدرة فكرية كبيرة تؤهله لتسيير الأُمور وتصريفها دون حاجة إلى مشاورة أحد، إلاّ أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كيما يُشعر المسلمين بأهمية المشاورة وفوائدها حتّى يتخذوها ركناً أساسياً في برامجهم وحتّى ينمي فيهم قواهم العقلية والفكرية نجده يشاور أصحابه في أُمور المسلمين العامة التي تتعلق بتنفيذ القوانين والأحكام الإلهية (لا أصل الأحكام والتشريعات التي مدارها الوحي) ويقيم لآراء مشيريه أهمية خاصة ويعطيها قيمتها اللائقة بها، حتّى أنه كان ـ أحياناً ـ ينصرف عن الأخذ برأي نفسه احتراماً لهم ولآرائهم كما فعل ذلك في «أُحد»، ويمكن القول بأن هذا الأمر بالذات كان أحد العوامل المؤثرة وراء نجاح الرسول الأكرم في تحقيق أهدافه الإسلامية العليا.

والحقّ أن أية أُمة أقامت إدارة شؤونها على أساس من الشورى والمشاورة، قل خطأها، وندر عثارها، على العكس من الأفراد الذين يعانون من استبداد الرأي، ويرون أنفسهم في غنى عن نصح الناصحين ورأي الآخرين فإنهم إلى العثار أقرب، ومن الصواب والرشد أبعد، مهما تمتعوا بسديد الرأي، وقوي التفكير.

هذا مضافاً إلى أن الاستبداد في الرأي يقضي على الشخصية في الجمهور،

_____________________________

1 ـ تفسير المنار : ج 4 ص 200.

(751)

ويوقف حركة الفكر وتقدمه، ويميت المواهب المستعدة بل يأتي عليها، وبهذا الطريق تهدر أعظم طاقات الأمة الإنسانية.

ومضافاً أيضاً إلى أن الذي يشاور الآخرين في أُموره وأعماله إذا حقق نجاحاً قل أن يتعرض لحسد الحاسدين، لأن الآخرين يرون أنفسهم شركاء في تحقيق ذلك الإنتصار والنجاح، وليس من المتعارف أن يحسد الإنسان نفسه على نجاح حققه، أو إنتصار أحرزه.

وأما إذا أصابته نكسة لم تلمه ألسن الناس، ولم يتعرض لسهام نقدهم وإعتراضهم، لأن الإنسان لا يعترض على عمل نفسه، ولا ينقد فعل ذاته، بل سيشاطرونه الألم، ويتعاطفون معه، ويشاركونه في التبعات.

كلّ ذلك لأنهم شاركوه في الرأي وشاطروه في التخطيط، ولم يكن متفرداً في العمل، ولا مستبداً في الرأي.

ثمّ إن هناك فائده أُخرى للمشاورة وهي أن المشاورة خير محك لمعرفة الآخرين، والتعرف على ما يكنونه للمستشير من حب أو كراهية، وولاء أو عداء، ولا ريب في أن هذه المعرفة ممّا يمهد سبيل النجاح، ولعلّ استشارات النبي الأكرم ـ مع ما كان يتمتع به من قوة فكرية وعقلية جبارة ـ كانت لهذه الأسباب مجتمعة.

لقد ورد حث شديد وتأكيد ليس فوقه تأكيد على سنة المشاورة، وفي الأحاديث والأخبار الإسلامية ففي حديث منقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال :

«ما شقى عبد قط بمشورة ولا سعد باستغناء رأي»(1).

كما ونقرأ في كلمات الإمام علي (عليه السلام) قوله :

«من استبد برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»(2).

_____________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي.

2 ـ نهج البلاغة ـ الحكمة 161.

(752)

ونقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً أنه قال :

«إذا كان اُمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاؤكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خيرٌ لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاؤكم، ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها»(1).

مع من تشاور ؟

من المسلم أن للمشورة أهلاً، فلا يصح أن يستشار كلّ من هب ودب، فرب مشيرين يعانون من نقاط ضعف، توجب مشورتهم فساد الأمر، وضياع الجهود، وفشل العمل، والتأخر والسقوط.

فعن علي (عليه السلام) أنه قال في هذا الصدد «لا تدخلن في مشورتك» :

1 ـ بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك بالفقر.

2 ـ ولا جباناً يضعفك عن الأُمور.

3 ـ ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور(2).

وظيفة المشير :

كما تأكد الحث في الإسلام على المشاورة فقد أكدت النصوص على المشيرين أيضاً بأن لا يألوا جهداً في النصح، ولا يدخروا في هذا السبيل خيراً، وتعتبر خيانة المشير للمستشير من الذنوب الكبيرة، بل وتذهب أبعد من ذلك حيث لا تفرق في هذا الحكم بين المسلم والكافر، يعني أنه لا يحق لمن تكفل تقديم النصح والمشورة أن يخون من استشاره، فلا يدله على ما هو الصحيح في

_____________________________

1 ـ تفسير أبي الفتوح الرازي.

2 ـ نهج البلاغة كتابه (عليه السلام) وعهده لمالك الأشتر.

(753)

نظره، مسلماً كان ذلك المستشير أو كافراً.

في رسالة الحقوق عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه قال : «وحق المستشير إن علمت له رأياً أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من يعلم، وحق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه»(1).

شورى عمر بن الخطاب

عندما بلغ جماعة من علماء أهل السنة ومفسريهم إلى هذه الآية (آية الشورى) أشاروا إلى شورى عمر السداسية لإختيار الخليفة الثالث، وحاولوا عبر بيان مفصل تطبيق مفاد هذه الآية وروايات المشاورة على تلك العملية والفكرة.

والكلام المفصل حول هذه المسألة وإن كان من مهمة الكتب الإعتقادية، إلاّ أنه لابدّ من الإشارة هنا إلى بعض النقاط بصورة مختصرة وسريعة :

أولاً : إن إنتخاب الخليفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجب أن يكون فقط من جانب الله، لأن الخليفة يجب أن يتمتع على غرار النبي ـ بصفات ومؤهلات كالعصمة وما شاكل ذلك وهي أُمور لا يمكن الوقوف والإطلاع عليها إلاّ من قبل الله سبحانه.

وبتعبير آخر : كما أن تعيين النبي لا يمكن أن يكون بالمشاورة والشورى فكذلك إنتخاب الإمام لا يمكن أن يكون بالشورى.

ثانياً : إن الشورى السداسية المذكورة لم تنطبق بالمرة على معايير الشورى وموازين المشاورة، لأن الشورى التي ذهب إليها عمر إن كان المراد منها مشاورة المسلمين عامة، فماذا يعني تخصيصها بستة أنفار ؟

وإن كان الهدف منها مشاورة العقلاء والمفكرين وأهل الرأي من الأُمة فهم لا ينحصرون في هؤلاء الستة، إذ هناك شخصيات ناضجة أمثال سلمان الذي كان

_____________________________

1 ـ تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 405.

(754)

مستشاراً شخصياً للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومثل أبي ذر والمقداد وابن عباس، وغيرهم ممن قد نحوا عن هذه الشورى.

وعلى هذا الأساس فإن حصر هذه الشورى بالأنفار الستة المعينين يجعل هذا الإجتماع والشورى أقرب إلى التحزب السياسي منه إلى التجمع الشوروي.

وأمّا إذا كان المراد من حصر المشيرين في هؤلاء الستة هو جعلها في أصحاب الكلمة والنفوذ حتّى تنفذ قراراتهم ولا يخالفها أحد من الأُمة، ولا يتمرد عليها أحد من الناس فإنه لم يكن موقفاً صائباً أيضاً، لأن ثمة شخصيات من أصحاب الكلمة والنفوذ أمثال سعد بن عبادة الذي كان يرأس في حينه الأنصار بدون منازع، وأبي ذر الغفاري أكبر شخصية مسموعة الكلمة في قبيلة «غفار»، قد أُقصيت من حلبة الشورى ؟

ثالثاً : نحن نعلم أنه قد اشترط في هذه الشورى شروط صعبة وقاسية إلى درجة أنه هدد المخالفون والمعارضون بالموت، في حين لا يوجد لمثل هذه الشروط في سنة الشورى التي سنها الإسلام أي مكان، ولا أي أثر، فكيف تنطبق على هذه الشورى ؟

مرحلة القرار الأخير !

بقدر ما يجب على المستشير أن يتخذ جانب الرفق واللين في المشورة مع مستشاريه، يجب عليه أن يكون حاسماً وحازماً في إتخاذ القرار الأخير.

وعلى هذا يجب التخلص من أي تردد، أو استماع إلى الآراء المتشتتة بعد استكمال مراحل المشاورة واتضاح نتيجتها، ويجب إتخاذ القرار الأخير بصرامة وحسم، وهذا هو ما يعبر عنه بالعزم في قوله سبحانه في هذا السياق إذ يقول : (وإذا عزمت فتوكل على الله).

(755)

إن الجدير بالتأمل هو أن مسألة المشاورة ذكرت في الآية الحاضرة بصيغة الجمع «وشاورهم» ولكن إتخاذ القرار الأخير جعل من وظيفة الرسول الكريم خاصة إذا جاء بصيغة المفرد «عزمت».

إن الإختلاف في التعبير إشارة إلى نكتة مهمة وهي أن تقليب وجوه الأمر، ودراسة القضية الإجتماعية من جميع جوانبها وأطرافها يجب أن تتم بصورة جماعية، وأما عندما يتم التصديق على شيء فإن إجراءه وإبرازه في صورة القرار القطعي يجب أن يوكل إلى إرادة واحدة، وإلاّ وقع الهرج والمرج، ودبت الفوضى في الأُمة لأن التنفيذ بوساطة قادة متعددين من دون الإنطلاق من قيادة واحدة متمركزة سيواجه الإختلاف، ويؤول إلى النكسة والهزيمة، ولهذا تتم المشاورات في عالمنا الراهن بصورة جماعية، ولكن إجراء نتائجها تناط إلى الدول والأجهزه التي تدار وتعمل تحت إشراف شخص واحد، وفرد معين لا متعددين.

والموضوع المهم الآخر الذي تشير إليه الجملة السابقة (فإذا عزمت فتوكل على الله) هو أن إتخاذ القرار الأخير يجب أن يقترن بالتوكل على الله، بمعنى أن عليكم أن تستمدوا العون من الله القادر المطلق ولا تنسوه في الوقت الذي تهيئون فيه الأسباب العادية والوسائل المادية للأمر.

على أن التوكل لا يعني بالمرة أن يتجاهل الإنسان الأسباب المادية والوسائل العادية للنصر والتي جعلها الله سبحانه في عالم المادة، ومكن الإنسان الأخذ بها، فقد روي في حديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأعرابي حضر عند النبي وقد ترك ناقته سادرة في الصحراء دون أن يعقلها حتّى لا تفر أو تضل، ظناً بأن هذا من التوكل على الله «أعقلها وتوكل».

أجل ليس المراد من التوكل هو هذا المفهوم الخاطىء، بل المراد منه هو أن لا ينحصر الإنسان في حصار هذا العالم المادي، وفي حدود قدرته الضيقة،

(756)

فلا ينطلق قدماً إلى الأمام، بل يعلّق أمله ـ إلى جانب الأخذ بالأسباب ـ على عناية الله وحمايته ولطفه ومنّه.

ولاريب أن مثل هذه الإلتفاتة تهب للإنسان استقراراً نفسياً عالياً، وطاقة روحية فعالة، ومعنوية تتضائل أمامها كلّ الصعاب والمشاق، وتتحطم عندها كلّ أمواج المشكلات العاتية، أو تنزاح أمامها كلّ الأهوال (وسوف نشرح بإسهاب إن شاء الله مسألة التوكل وكيفية العلاقة بينها وبين الإستفادة من وسائل العالم المادي في ذيل قوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً)(1).

ثمّ إنه سبحانه وتعالى يأمر المؤمنين في ختام الآية أن يتوكلوا على الله فحسب لأنه تعالى يحب المتوكلين إذ يقول : (إن الله يحب المتوكلين).

هذا ويستفاد من هذه الآية أن التوكل يجب أن يكون بعد التشاور، وبعد الأخذ والإستفاده من جميع الإمكانيات المتاحة للإنسان حتماً.

نتيجة التوكل وثمرته :

بعد أن يحث الباري سبحانه وتعالى عباده على أن يتوكلوا عليه، يبين في هذه الآية ـ التي هي مكملة للآية السابقة ـ نتيجة التوكل وثمرته وفائدته العظمى فيقول : (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) وهو بهذا يشير إلى أن قدرة الله فوق كلّ القدرات، فإذا أراد بعبد خيراً وأراد نصره وتأييده والدفاع عنه لم يكن في مقدور أية قوة في الأرض ـ مهما عظمت ـ أن تتغلب عليه، فمن كان ـ هكذا ـ منبع كلّ الإنتصارات، وجب التوكل عليه، واستمداد العون منه.

فهذه الآية تتضمن ترغيباً للمؤمنين بأن يتكلوا على الله وقدرته التي لا تقهر،

_____________________________

1 ـ الطلاق : 3.

(757)

مضافاً إلى تهيئة كلّ الوسائل الظاهرية، والأسباب العادية.

والكلام في الآية السابقة موجه إلى شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر له في الحقيقة ولكنه في هذه الآية موجه إلى جميع المؤمنين وكأنها تقول لهم : إن عليهم أن يتوكلوا على الله كما يفعل النبي، ولهذا يختم هذه الآية بقوله : (وعلى الله فليتوكل المؤمنون).

ولايخفى أن تأييد الله للمؤمنين أو عدم تأييده ليس من غير حساب، فهو يتم بناءً على أهليتهم لذلك.

فمن أعرض عن تعاليم الله، وغفل عن تحصيل المقومات المادية والمعنوية وتقاعس عن إعداد القوى العادية اللازمة لم يشمله التأييد الإلهي مطلقاً، على العكس من الذين استعدوا لمواجهة الأعداء بصفوف متراصة ونيات خالصة وعزائم راسخة، مهيئين كلّ الوسائل اللازمة للمواجهة، فإن تأييد الله سيشمل هؤلاء، وستكون يد الله معهم حتّى تحقيق الإنتصار.

* * *

(758)

الآية

وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (161)

التّفسير

الخيانة ممنوعة مطلقاً :

بالنظر إلى الآية السابقة التي نزلت بعد الآيات المتعلقة بوقعة «أُحد» وبالنظر إلى رواية نقلها جمع من مفسري الصدر الأول، تعتبر هذه الآية رداً على بعض التعللات الواهية التي تمسك بها بعض المقاتلين، وتوضيح ذلك هو : إن بعض الرماة عندما أرادوا ترك مواقعهم الحساسة في الجبل لغرض جمع الغنائم، أمرهم قائدهم بالبقاء فيها، لأن الرسول لن يحرمهم من الغنائم، ولكن تلك الجماعة الطامعة في حطام الدنيا إعتذرت لذلك بعذر يخفي حقيقتهم الواقعية، إذ قالوا : نخشى أن يتجاهلنا النبي عند تقسيم الغنائم فلا يقسم لنا، قالوا هذا وأقبلوا على جمع الغنائم تاركين مواقعهم التي كلفهم الرسول بحراستها فوقع ما وقع من عظائم الأُمور وجلائل المصائب.

(759)

فجاء القرآن يرد على زعمهم وتصورهم هذا فقال : (وما كان لنبي أن يغل(1))أي أنكم تصورتم وظننتم أن النبي يخونكم، والحال أنه ليس لنبي أن يغل ويخون أحداً.

إن الله سبحانه ينزه في هذه الآية جميع الأنبياء والرسل من الخيانة، ويقول إن هذا الأمر لا يصلح ـ أساساً ـ للأنبياء، ولا يتناسب أساساً مع مقامهم العظيم.

يعني أن الخيانة لا تتناسب مع النبوة، فإذا كان النبي خائناً لم يمكن الوثوق به في أداء الرسالة وتبليغ الأحكام الإلهية.

وغير خفي أن هذه الآية تنفي عن الأنبياء مطلق الخيانة سواء الخيانة في قسمة الغنائم أو حفظ أمانات الناس وودائعهم، أو أخذ الوحي وتبليغه للعباد.

ومن العجيب أن يثق أحد بأمانة النبي في الحفاظ على وحي الله، وتبليغه وأدائه، ثمّ يحتمل ـ والعياذ بالله ـ أن يخون النبي في غنائم الحرب، أو يقضي بما ليس بحق، ويحكم بما ليس بعدل، ويحرم أهلها منها من غير سبب.

إن من الوضوح بمكان أن الخيانة محظورة على كلّ أحد، نبياً كان أو غير نبي، ولكن حيث إن الكلام هنا يدور حول إعتذار تلك الجماعة المتمردة وتصوراتهم الخاطئة حول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك تتحدث الآية عن الأنبياء أولاً، ثمّ تقول : (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) أي أن كلّ من يخون سيأتي يوم القيامة وهو يحمل على كتفه وثيقة خيانته، أو يصحبه معه إلى المحشر، وهكذا يفتضح أمام الجميع، وتنكشف أوراقه وتعرف خيانته.

قال بعض المفسّرين أن المراد من حمل الخيانة على الظهر أو استصحاب ما

_____________________________

1 ـ الغلول : تعني الخيانة، وأصله تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر، وهو الماء الذي يتسلل ويتسرب فيما بين الشجر ويدخل فيه، ويطلق الغليل على ما يقاسيه الإنسان في داخله من العطش ومن شدة الوجد والغيظ، لهذا السبب.

(760)

غلّ يوم القيامة ليس هو أنه يحمل كلّ ذلك حملاً أو يستصحبه استصحاباً حقيقياً معه يوم القيامة، بل المراد هو أنه يتحمل مسؤولية ذلك، ولكن بالنظر إلى مسألة «تجسم الأعمال» في يوم القيامة لا يبقى أي مبرر ولا أي داع لهذا التفسير، بل ـ وكما يدلّ عليه ظاهر الآية ويشهد به ـ يأتي الخائن وهو يحمل عين ما غل كوثيقة حية تشهد على خيانته وغلوله، أو يستصحبها معه.

(ثمّ توفى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) يعني أن الناس يجدون عين أعمالهم هناك، ولهذا فهم لا يظلمون لأنه يصل إلى كلّ أحد نفس ما كسبه خيراً كان أو شراً.

ولقد أثّرت الآية السابقة، والأحاديث التي صدرت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تذم الخيانة والغلول في نفوس المسلمين وخلقهم تأثيراً عجيباً حتّى أنهم ـ نتيجة لهذه التربية ـ لم يصدر عنهم أقل خيانة ولا أدنى غلول في غنائم الحرب أو الأموال العامة، إلى درجة أنهم كانوا يأتون بالغنائم الغالية الثمن الصغيرة الحجم التي كان من السهل إخفاؤها إلى النبي، أو القادة من بعده دون أي تصرف فيها، الأمر الذي يدعو إلى الدهشة والإكبار والعجب.

فقد كان هؤلاء نفس أُولئك العرب القساة، الجفاة، المغيرون، السلابون قطاع الطرق في الجاهلية، وقد أصبحوا الآن ـ في ظل التربية الإسلامية ـ في قمة الصلاح والأمانة، وفي ذروة الإستقامة والطهر، والتُقى وكأنهم يرون مشاهد القيامة بأم أعينهم، كيف يقدم الخائنون في الأموال والأمانات إلى المحشر وهم يحملون على أكتافهم وظهورهم ما غلوه وخانوه.

أجل لقد كان هذا الإيمان يحذرهم من الخيانة، بل يصرفهم حتّى عن التفكير فيها.

كتب الطبري في تاريخه أنه لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض

(761)

 (الغنائم) أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ما يعد له ما عندنا ولا يقاربه فقالوا : هل أخذت منه شيئاً ؟ فقال : «أما والله لولا الله ما آتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأناً، فقالوا من أنت ؟ فقال : و الله لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ تاريخ الطبري : ج 3 ص 128.

(762)

الآيتان

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَن بَآءَ بِسَخط مِّنَ اللهِ وَمَأْوَئهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَـاتٌ عِندَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرُ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)

التّفسير

المتخلفون عن الجهاد :

تضمنت الآيات السابقة الحديث عن شتى جوانب معركة «أُحد» وملابساتها ونتائجها، وقد جاء الآن دور المنافقين وضعاف الإيمان من المسلمين الذين تقاعسوا عن الحضور في «أُحد» تبعاً للمنافقين، لأننا نقرأ في الأحاديث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أمر بالتحرك إلى «أُحد» تخلف جماعة من المنافقين عن التوجه إلى الميدان بحجة أنه لن يقع قتال، وتبعهم في ذلك بعض المسلمين من ضعاف الإيمان، فنزل قوله تعالى (افمن اتبع رضوان الله) ولبى نداء النبي واتبع أمره بالخروج (كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير).

ثمّ يقول تعالى : (هم درجات عند الله) أي أن لكل واحد منهم درجة بنفسه ومكانة عند الله، وهو إشارة إلى أنه لا يختلف المنافقون عن المجاهدين فقط، بل إن لكلّ فرد من أفراد هذين الطائفتين درجة خاصة تناسب مدى تضحيته وتفانيه

(763)

في سبيل الله أو مدى نفاقه وعدائه لله تعالى، وتبدأ هذه الدرجات من الصفر وتستمر إلى خارج حدود التصوّر.

هذا وقد نقل في رواية عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنه قال : «الدرجة ما بين السماء والأرض»(1).

وجاء في حديث آخر «إن أهل الجنة ليرون أهل عليين كما يرى النجم في أُفق السماء»(2) بيد أننا يجب أن نعلم أن «الدرجة» تطلق عادة على تلك الوسيلة التي يرتقي بها الإنسان ويصعد إلى مكان مرتفع، في حين أن الدرجات التي يستخدمها الإنسان للنزول من مكان مرتفع إلى مكان منخفض تسمى «دركاً» ولهذا جاء في شأن الأنبياء (عليهم السلام) في سورة البقرة الآية 253 (ورفع بعضهم درجات) وجاء في حقّ المنافقين في سورة النساء الآية 145 (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) ولكن حيث كان البحث في الآية الحاضرة حول كلا الفريقين غلب جانب المؤمنين، فكان التعبير بالدرجة دون غيرها إذ قيل (هم درجات عند الله).

ثمّ يقول سبحانه في ختام هذه الآية (والله بصير بما يعملون) أي أنه سبحانه عالم بأعمالهم جميعاً فهم يعلم جيداً من يستحق أية درجة من الدرجات، بحيث تليق بنيته وإيمانه وعلمه.

مع أُسلوب تربوي قرآني مؤثر

هناك الكثير من الحقائق المتعلقة والمرتبطة بالقضايا الدينية أو الخلقية أو الإجتماعية، يطرحها القرآن الكريم في قالب التساؤل والإستفهام تاركاً للسامع ـ وبعد أن يضعه أمام كلا جانبي القضية ـ أن يختار هو بمعونة من فكره، وإنطلاقا من تحليله وتقويمه.

_____________________________

1 ـ نور الثقلين : ج 1 ص 406.

2 ـ تفسير مجمع البيان عند تفسير الآية.

(764)

إن لهذا الأُسلوب ـ الذي لابدّ أن نسميه بالأُسلوب التربوي غير المباشر ـ أثراً بالغاً في تحقيق الأهداف المرجوة من البرامج التربوية وتأثيرها فيمن يراد توجيههم وتربيتهم، وذلك لأن الإنسان ـ في الأغلب ـ يهتم أكثر بما توصل إليه بنفسه من النتائج والأفكار والآراء وما إنتهى إليه بفكره من التفاسير والتحاليل في القضايا المختلفة، فإذا طرحت عليه قضية بصورة قطعية وصبغة جازمة، قاومها أحياناً، ولعله ينظر إليها كما ينظر إلى أية فكرة غريبة.

ولكن عندما يطرح عليه الأمر في صورة التساؤل الذين يطلب منه الجواب عليه حسب قناعته الشخصية ثمّ يسمع ذلك الجواب من أعماق ضميره وفؤاده، فإنه لا يسعه حينئذ أن يقاوم هذا الجواب ويعاديه، بل ينظر إليه نظر العارف به، ولن تعود لديه ـ حينئذ ـ تلك الفكرة الغريبة البعيدة، بل تكون الفكرة القريبة إلى قلبه، المأنوسة إلى فؤاده.

إن هذا الأُسلوب من التوجيه والإرشاد مؤثر غاية لتأثير خاصة مع المعاندين، وكذا الأطفال والناشئين.

ولقد استفاد القرآن الكريم من هذا الأُسلوب التربوي الرائع المؤثر في مواضع عديدة نذكر منها بعض النماذج :

1 ـ (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)(1).

2 ـ (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون)(2).

3 ـ(قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور)(3).

* * *

_____________________________

1 ـ الزمر : 9.

2 ـ الأنعام : 50.

3 ـ الرعد : 16.

(765)

الآية

لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَـاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلال مُّبِين (164)

التّفسير

النعمة الإلهية الكبرى :

في هذه الآية يدور الحديث حول أكبر النعم الإلهية، ألا وهي نعمة «بعثة الرسول الأكرم والنبي الخاتم» (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو في الحقيقة إجابة قوية على التساؤل الذي خالج بعض الأذهان من الحديثي العهد بالإسلام بعد «معركة أُحد» وهو : لماذا لحق بنا ما لحق، ولماذا أصبنا بما أصبنا به ؟ فيجيبهم القرآن الكريم بقوله : (لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) أي إذا كنتم قد تحملتم كلّ هذه الخسائر، وأصبتم بكلّ هذه المصائب، فإن عليكم أن لا تنسوا أن الله قد أنعم عليكم بأكبر نعمة، ألا وهي بعثه نبي يقوم بهدايتكم وتربيتكم، وينقذكم من الضلالات وينجيكم من المتاهات، فمهما تحملتم في سبيل الحفاظ على هذه

(766)

النعمة العظمى والموهبة الكبرى، ومهما كلفكم ذلك من ثمن، فهو ضئيل إلى جانبها، وحقير بالنسبة إليها.

والجدير بالإهتمام ـ في المقام ـ هو أن هذه النعمة قد شرع ذكرها بكلمة «منّ» التي قد لا تبدو جميلة ولا مستحسنة في بادىء الأمر، ولكننا عندما نراجع مادة هذه اللفظة وأصلها اللغوي يتضح لنا الأمر غاية الوضوح، وتوضيحه هو : ان المن ـ كما قال الراغب في مفرداته : هو ما يوزن به، ولذلك أطلق على النعمة الثقيلة : المنة، ويقال ذلك إذا كان ذلك بالفعل، فيقال : منَّ فلان على فلان إذا أثقله بالنعمة الجميلة الثمينة وهو حسن لا بأس فيه، أما إذا عظّم أحد ـ في القول والإدعاء ـ ما قام به من حقير الخدمات والأفعال والصنائع فهو في غاية القبح.

وعلى هذا فإن المن المستقبح هو الذي يكون استعظاماً للصنائع والنعم في القول، أما المنة المستحسنة فهي بذل النعم الكبرى والصنائع العظيمة.

أما تخصيص المؤمنين بالذكر في هذه الآية في حين أن الهدف من بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)هو هداية عموم البشر، فلأن المؤمنين هم الذين سيستفيدون ـ بالنتيجة والمآل ـ من هذه النعمة العظمى فهم الذين يستأثرون بآثارها عملاً دون غيرهم.

ثمّ إن الله سبحانه يقول : (من أنفسهم) أن إحدى مميزات هذا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنه من نفس الجنس والنوع البشري، لا من جنس الملائكة وما شابهها، وذلك لكي يدرك كلّ إحتياجات البشر بصورة دقيقة، ولا يكون غريباً عنها، غير عارف بها، وحتّى يلمس آلام إلانسان وآماله، ومشكلاته ومصائبه، ومتطلبات الحياة ومسائلها، ثمّ يقوم بما يجب أن يقوم به من التربية والتوجيه على ضوء هذه المعرفة.

هذا مضافاً إلى أن القسط الأكبر من برامج الأنبياء التربوية يتكون من تبليغهم

(767)

العملي بمعنى أن أعمالهم تعتبر أفضل مثل، وخير وسيلة تربوية للآخرين، لأن التبليغ بلسان العمل أشد تأثيراً، وأقوى أثراً من التبليغ بأية وسيلة أُخرى، وهذا إنما يمكن إذا كان المبلّغ من نوع البشر وجنسه بخصائصه، ومواصفاته الجسمية، وبذات غرائزه وبنائه الروحي.

فإذا كان الأنبياء من جنس الملائكة ـ مثلاً ـ كان للبشر الذين أرسل الأنبياء إليهم أن يقولوا : إذا كان الأنبياء لا يعصون أبداً، فلأجل أنهم من الملائكة ليست في طبائعهم الشهوات والغرائز، ولا الغضب ولا الحاجة.

وهكذا كانت رسالة الأنبياء ومهمتهم تتعطل وتفقد تأثيرها، ولا تحقق أغراضها.

ولهذا أختير الأنبياء من جنس البشر ومن فصيلة الإنسان بغرائزه، وإحتياجاته، ليمكنهم أن يكونوا أسوة لغيرهم من البشر، وقدوة لسواهم من بني الإنسان.

ثمّ إن الله سبحانه يقول واصفاً مهمات هذا النبي العظيم : (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) أي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوم بثلاثة أُمور في حقّهم :

1 ـ تلاوة آيات الله على مسامعهم، وإيقافهم على هذه الآيات والكلمات الإلهية.

2 ـ تعليمهم بمعنى إدخال هذه الحقائق في أعماق ضمائرهم وقلوبهم.

3 ـ تزكية نفوسهم، وتنمية قابلياتهم الخلقية، ومواهبهم الإنسانية.

ولكن حيث إن الهدف الأصلي هو «التربية» لذلك قدمت على «التعليم» مع أن الحال ـ من حيث الترتيب الطبيعي ـ تقتضي تقديم التعليم على التربية.

إن الذين يبتعدون عن الحقائق الإنسانية بالمرة، ليس من السهل إخضاعهم

(768)

للتربية، فلابدّ أولاً من إسماعهم آيات الله مدة من الزمن حتّى تذهب عنهم الوحشة التي وقعوا فريسة لها من قبل، ليتسنى حينئذ إدخالهم في مرحلة التعليم، ثمّ يمكن اقتطاف ثمار التربية بعد ذلك.

ثم إن هناك إحتمالاً آخر في تفسير الآية وهو أن المقصود من التزكية هو التنقية من رواسب الجاهلية والشرك، ومن بقايا العقائد الباطلة والأفكار الخرافية، والأخلاق الحيوانية القبيحة لأن الضمير الإنساني ما دام لم يطهر من الأدران والرواسب لم يمكن إعداده وتهيئته لتعليم الكتاب الإلهي، والحكمة والعلم الواقعيين، تماماً مثل اللوحة التي لا تقبل الألوان والنقوش الجميلة ما لم تنظف من النقوش القبيحة أولاً.

ولهذا السبب قدمت التزكية فى الآية الحاضرة على تعليم الكتاب والحكمة التي يراد بها معارف الإسلام العالمية، ومفاهيمه السامية.

متى تعرف قيمة البعثة النبوية ؟

إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله : (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

وكأن القرآن يخاطبهم قائلاً : إرجعوا إلى الوراء وانظروا إلى ما كنتم عليه من سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، وكيف صرتم ؟ ؟

إن الجدير بالتأمل هو وصف القرآن الكريم للعهد الجاهلي بقوله : (ضلال مبين)لأن للضلال أنواعاً وأصنافاً : فمن الضلال ما لايمكن معه للإنسان أن يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب بسهولة، ومن الضلال ما يكون بحيث لو

(769)

رجع الإنسان إلى نفسه أدنى رجوع، وتمتع بأقل قدر من الإدراك والشعور إهتدى إلى الصواب وأدرك الخطأ فوراً.

ولقد كان الناس وخاصة سكان الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة، ومجيء الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإسلام في ضلال مبين، فقد كان الشقاء والجهل، وغير ذلك من حالات الإنحطاط والسقوط والفساد سائداً في كلّ أرجاء المعمورة في ذلك العصر، وهو أمر لم يكن خافياً على أحد.

* * *

(770)

الآية

أَوَلَمَّآ أَصَـابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلّ ِ شَىْء قَدِيرٌ (165)

التّفسير

دراسة أُخرى لمعركة أُحد :

هذه الآية تتضمن دراسة أُخرى وتقييماً آخر لمعركة أُحد وتوضيح ذلك : إن بعض المسلمين كانوا يعانون من حزن عميق وقلق بالغ لنتائج أُحد، وكانوا لا يكتمون حزنهم وقلقهم هذا بل طالما كرروه وأظهروه على ألسنتهم، فذكرهم الله ـ في هذه الآية ـ بثلاث نقاط هي :

1 ـ يجب أن لا تقلقوا لنتائج معركة معيَّنة، بل عليكم أن تحاسبوا كلّ قضايا المجابهة مع العدو، وتزنوا المسألة من جميع أطرافها فلو أنه أصابتكم على أيدي أعدائكم في هذه المعركة مصيبة فإنكم قد أصبتم أعداءكم ضعفها في معركة اُخرى (معركة بدر) لأنهم قتلوا من المسلمين في معركة «أُحد» سبعين ولم يأسروا أحداً بينما قتل المسلمون من المشركين في معركة «بدر» سبعين وأسروا سبعين (أو لما

(771)

أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها).

وعبارة (قد أصبتم مثليها) هي في الحقيقة بمثابة إجابة مقدمة على سؤال.

2 ـ أنتم تقولون. هذه المصيبة كيف أصابتنا ؟ (قلتم أنى هذا) ولكن «قل» أيها النبي : (هو من عند أنفسكم) أي هو نابع من مواقفكم في تلك المعركة، فابحثوا عن أسباب الهزيمة في أنفسكم.

فأنتم الذين خالفتم أمر الرسول، وتركتم الجبل ذلك الموقع الخطير.

وأنتم الذين لم تحسموا المعركة، ولم تذهبوا إلى نهايتها، بل انصرفتم إلى جمع الغنائم بعد إنتصار محدود.

وأنتم الذين تركتم ساحة المعركة وفررتم ولم تصمدوا عندما باغتكم العدو من الخلف، ومن ناحية الجبل الذي تركتم حراسته.

فكلّ هذه العيوب والذنوب، وكلّ هذا الوهن هو الذي سبب تلك الهزيمة النكراء، وأدى إلى قتل تلك المجموعة الكبيرة من المسلمين.

3 ـ يجب أن لا تقلقوا للمستقبل لأن الله قادر على كلّ شيء، فإذا أصلحتم أنفسكم، وأزلتم النواقص، وتخلصتم ممّا تعانون منه من نقاط الضعف شملكم تأييده، وأنزل عليكم نصره (إن الله على كلّ شيء قدير).

* * *

(772)

الآيتان

وَمَآ أَصَـابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالُوْاْ قَـاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئذ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَـانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)

التّفسير

لابد أن تتميز الصفوف :

تنوه الآيتان الحاضرتان بحقيقة هامة هي أن أية مصيبة (كتلك التي وقعت في أُحد) مضافاً إلى أنها لم تكن دون سبب وعلة، فإنها خير وسيلة لتمييز صفوف المجاهدين الحقيقيين عن المنافقين أو ضعفاء الإيمان، ولذلك جاء في القسم الأول من الآية الأُولى (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) أي أن ما أصابكم يوم تقاتل المسلمون والمشركون فهو بإذن الله ومشيئته وإرادته لأن لكلّ ظاهرة في عالم الكون المخلوق لله سبحانه سبباً خاصّاً وعلّة معيّنة.

(773)

وأساساً أن هذا العالم عالم مقنن يجري وفق قانون الأسباب والمسببات، وهذه حقيقة ثابتة لا تتغير.

وعلى هذا الأساس إذا وهنت جماعة في الحرب، وتعلقت بالدنيا وحطامها، والثروة وجواذبها، وتجاهلت أوامر قائدها المحنك الرؤوف كانت محكومة بالهزيمة والفشل، وهذا هو المقصود من إذن الله، فإذن الله ومشيئته هي تلك القوانين التي أرساها في عالم الكون ودنيا البشر.

ثمّ يقول سبحانه في المقطع التالي من الآية : (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا).

إنه إشارة إلى أثر آخر من آثار هذه الحرب وهو تمييز المؤمنين عن المنافقين، وفرز أقوياء الإيمان عن ضعفاء الإيمان.

وعلى العموم فقد تميز المسلمون ـ في معركة أُحد ـ في طوائف ثلاث :

الطائفة الأُولى : وهم قلة، قد ثبتوا أمام العدو في تلك الموقعة حتّى آخر لحظه، حتّى قضى بعض وجرح بعض وتحمل أشد الآلام.

الطائفة الثانية : هم الذين زلزلوا، ووقعوا فريسة الإضطراب ولم يمكنهم الثبات حتّى آخر لحظة، ففروا من الميدان.

الطائفة الثالثة : وهم جماعة المنافقين الذين رجعوا من منتصف الطريق وأحجموا عن المشاركة والإسهام في القتال بحجج وأعذار واهية، وعادوا إلى المدينة، وهم عبدالله بن أبي سلول، وثلائمائة شخص من أعوانه وأنصاره وجماعته.

فلو لم تقع حادثة أُحد لما تميزت هذه الصفوف مطلقاً، ولما إتضح الأمر بمثل هذا الإتضاح أبداً، ولما تبين كلّ شخص بقسماته الحقيقية، وملامحه الواقعية وصفاته الخاصة به، وبالتالي كان يمكن أن يتصور الجميع ـ في مقام الإدعاء ـ أنهم

(774)

مؤمنون واقعيون، وأنهم الأمثلة الكاملة للصالحين.

وفي الحقيقة ـ تتضمن الآية الإشارة إلى أمرين :

الأول : العلة الفاعلية للهزيمة.

الثاني : العلة الغائية (والنتيجة النهائية) لها.

على أن هناك نقطة يلزم التنويه بها وهي أن الآية الحاضرة تقول : (وليعلم الذين نافقوا) ولم تقل «ليعلم المنافقين».

وبتعبير آخر : جاء ذكر النفاق بصيغة الفعل، ولم يأت بصورة «الوصف» وهو ـ لعلّه ـ لأجل أن النفاق لم يكن قد حصل في الجميع في شكل الصفة الثابتة اللازمة ولهذا نقرأ في التاريخ أن بعضهم قد وفق للتوبة وهدي إليها فيما بعد، وإلتحق بصف المؤمنين الصادقين، ثمّ إن القرآن الكريم يستعرض حواراً قد وقع بين بعض المسلمين، والمنافقين قبل المعركة بالشكل التالي : (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا) فإن بعض المسلمين «وهو عبدالله بن عمر بن حزام على ما نقل عن ابن عباس) عندما رأى إنسحاب عبدالله بن أبي سلول وإنفصالهم عن الجيش الإسلامي، وإعتزامهم العودة إلى المدينة قال : تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا عن حريمكم وأنفسكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله.

ولكنهم تعللوا، واعتذروا بأعذار واهية إذ قالوا : (لو نعلم قتالاً لاتبعناكم) أي إننا نظن أن الأمر ينتهي بلا قتال فلا حاجة لوجودنا معكم.

وبناءً على تفسير آخر قال المنافقون : لو أننا كنا نعتبر هذا قتالاً معقولاً لتعاونا معكم ولاتبعناكم، ولكننا لا نعتبر هذا قتالاً بل نوعاً من الإنتحار والمغامرة الإنتحارية لعدم التكافؤ بين قوى الكفر وقوى الإسلام، الأمر الذي يعني أن قتالهم أمر غير عقلائي، خاصة أن الجيش الإسلامي قد استقر في مكان غير مناسب ونقطة غير مؤاتية ولا ملائمة.

(775)

وعلى كلّ حال فإن هذه كانت مجرد اعتذارات وتعللات، لأن الحرب كانت حتمية الوقوع، ولأن المسلمين إنتصروا في بداية المعركة، وأما ما لحق بهم من الهزيمة والإنكسار فلم يكن إلاّ بسبب أخطاء ومخالفات إرتكبوها هم أنفسهم بحيث لولاها لما وقعت بهم هزيمة، ولذا يقول الله سبحانه : (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان) (أي أنهم يكذبون)، هذا مضافاً إلى أنه يستفاد من هذه الجملة (أي أقرب) أن للإيمان والكفر درجات ترتبط باعتقاد الإنسان وأسلوب عمله وسلوكه.

ثمّ علل سبحانه ما ذكره عنهم بقوله : (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم)أي أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون، ويبدون من القول خلاف ما يكتمون من الاعتقاد والنية، فإنهم لإصرارهم على إقتراحهم بالقتال داخل أسوار المدينة، أو رهبة من ضربات العدو، أو لعدم حبهم للإسلام إحجموا عن الإسهام في تلك المعركة، وامتنعوا عن المضي إلى أُحد في صحبة المسلمين، (والله أعلم بما يكتمون)فإن الله يعلم جيداً ما يخفونه ويضمرونه من النوايا، وسيكشف عن نواياهم للمسلمين في هذه الدنيا، كما سيعاقبهم ويحاسبهم على مواقفهم ونواياهم الشريرة في الآخرة.

* * *

(776)

الآية

الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُواْ قُلْ فَادْرَءُواْ عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ (168)

التّفسير

مزاعم المنافقين الباطلة :

لم يكتف المنافقون بإنصرافهم عن الإسهام مع المؤمنين في القتال، والسعي في إضعاف الروح المعنوية للآخرين، بل عمدوا إلى لوم المقاتلين المجاهدين بعد عودتهم من المعركة، وبعد ما لحق بهم ما لحق قائلين (لو اطاعونا ما قتلوا).

فيرد عليهم القرآن الكريم في الآية الحاضرة قائلاً (الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو اطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين).

يعني أنكم بكلامكم هذا تريدون الإدعاء بأنكم مطلعون على عالم الغيب. وإنكم عارفون بالمستقبل وحوادثه، فإذا كنتم صادقين في ذلك فادفعوا عن أنفسكم الموت، لأنكم ـ طبقاً لهذا الإدعاء ـ ينبغي أن تعرفوا علة موتكم، وتقدرون على تجنبها، وتحاشيها، وإبطال مفعولها.

(777)

إفرضوا أنكم لم تقتلوا في ساحات الجهاد والشرف، فهل يمكنكم أن تضمنوا لأنفسكم سناً طويلاً، وعمراً خالداً ؟ ؟ هل يمكنكم أن تمنعوا الموت عن أنفسكم أبداً ودائماً ؟ ؟

فإذا لم يمكنكم تحاشي الموت ـ هذه النهاية المحتّمة لكل نفس ـ فلماذا تموتون في الفراش بذل وهوان، ولا تختارون الشهادة والموت بشرف وعز في ساحات الجهاد ضد أعداء الله وأعداء الرسالة ؟ ؟

ثمّ إن الآية الحاضرة تتضمن نقطة أُخرى يجب الإنتباه إليها وهي :

لقد عبّر القرآن عن المؤمنين في هذه الآية بأنهم إخوان للمنافقين في حين لم يكن المؤمنون إخواناً للمنافقين إطلاقاً، فما هذه الأنواع من الملامة والتوبيخ للمنافقين ؟ فيكون المعنى هو : إنكم أيها المنافقون كنتم تعتبرون المؤمنين إخواناً لكم فكيف تركتم نصرتهم في هذه اللحظات الخطيرة ؟ ولهذا أردف سبحانه هذه الكلمة (لإخوانهم) بكلمة «الذين قعدوا» أي تقاعسوا عن المشاركة في المعركة.

فهل يصحّ أن يدعي الإنسان إخوته لآخر ثمّ يخذله حين يحتاج إلى نصره وتأييده ويقعد عنه حين يحتاج إلى حمايته ؟ !

* * *

(778)

الآيات

وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتَا بَلْ أَحْيَآءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَـاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِّنَ اللهِ وَفَضْل وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمؤْمِنِينَ (171)

التّفسير

الحياة الخالدة :

يرى بعض المفسرين أن الآيات الحاضرة نزلت في شهداء «أُحد» ويرى آخرون أنها نزلت في شهداء «بدر»، ولكن الحقّ هو أن إرتباط هذه الآيات بما قبلها من الآيات يكشف عن أنها نزلت في أعقاب حادثة «أُحد»، وإن كان محتواها، ومضمونها يعم حتّى شهداء «بدر» الذين كانوا 14 شهيداً ولهذا روي عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنه قال : إنها تتناول قتلى بدر وأُحد معاً(1).

_____________________________

1 ـ تفسير العياشي حسبما نقله تفسير نور الثقلين : ج 1 ص 406.

(779)

وقد روى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال اطلع إليهم (أي أرواح شهداء أُحد وهي في الجنة) ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا من أين يسألوا قالوا : يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّة أُخرى فقال تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون قالوا : فتقرىء نبينا السلام وتبلغهم ما نحن فيه من كرامة فلا يحزنوا «فنزلت هذه الآيات»(1).

وعلى كلّ حال فإن الذي يبدو للنظر هو أن بعض ضعاف الإيمان كانوا ـ في مجالسهم وندواتهم بعد حادثة أُحد ـ يظهرون الأسف على شهداء أُحد، وكيف أنهم ماتوا وفنوا، وخاصة عندما كانت تتجدد عليهم النعمة فيتأسفون لغياب اُولئك القتلى في تلك المواقع، وكانوا يحدثون أنفسهم قائلين كيف ننعم بهذه النعم والمواهب وإخواننا وأبناءنا رهن القبور لا يصيبهم ما أصابنا من الخير، ولا يمكنهم أن يحظوا بما حظينا به من النعيم ؟ ؟.

وقد كانت هذه الكلمات ـ مضافاً إلى بطلانها ومخالفتها للواقع ـ تسبب إضعاف الروح المعنوية لدى ذوي الشهداء.

فجاءت الآيات الحاضرة لتفند كلّ هذه التصورات، وتذكر بمكانة الشهداء السامية، ومقامهم الرفيع وتقول : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً).

والخطاب ـ هنا ـ متوجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة حتّى يحسب الآخرون حسابهم.

ثمّ يقول سبحانه معقباً على العبارة السابقة (بل أحياء عند ربهم يرزقون).

والمقصود من الحياة في الآية هي «الحياة البرزخية» في عالم ما بعد الموت، لا الحياة الجسمانية والمادية، وإن لم تختص الحياة البرزخية بالشهداء فللكثير

_____________________________

1 ـ الدر المنثور : ج 2 ص 95 ـ 96.

(780)

من الناس حياة برزخية أيضاً(1) ولكن حيث أن حياة الشهداء من النمط الرفيع جداً، ومن النحو المقرون بأنواع النعم المعنوية، هذا مضافاً إلى أنها هي محط البحث والحديث في هذا السياق القرآني لذلك خصوا بالذكر وخصت حياتهم بالإشارة في هذه الآية، دون سواهم ودون غيرها أيضاً.

إن حياتهم البرزخية محفوفة بالنعم والمواهب المعنوية العظيمة وكأن حياة الآخرين من البرزخيين بما فيها لا تكاد تكون شيئاً يذكر بالنسبة إليها.

ثمّ إن الآية التالية تشير إلى بعض مزايا حياة الشهداء البرزخية، وما يكتنفها ويلازمها من عظيم البركات من خلال الإشارة إلى عظيم إبتهاجهم بما أوتوا هناك فتقول : (فرحين بما آتاهم الله من فضله).

ثمّ إن السبب الآخر لإبتهاجهم ومسرتهم هو ما يجدونه ويلقونه من عظيم الثواب ورفيع الدرجات الذي ينتظر إخوانهم المجاهدين الذين لم ينالوا شرف الشهادة في المعركة إذيقول القرآن :(ويستبشرون بالذين لم يلحقوابهم من خلفهم).

ثمّ يردف هذا بقوله : (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يعني أن الشهداء يحسون هناك وفي ضوء ما يرونه أن إخوانهم المجاهدين لن يكون عليهم أي خوف ممّا تركوه في الدنيا، ولا أي حزن من الآخرة ووقائعها الرهيبة.

على أنه من الممكن أن يكون لهذه العبارة تفسير آخر هو أن الشهداء بالإضافة إلى سرورهم وفرحهم لما يشاهدونه من الدرجات والمراتب الرفيعة لإخوانهم الذين لم ينالوا شرف الشهادة ولم يلحقوا بهم، لا يشعرون هم أنفسهم بأي خوف من المستقبل ولا أي حزن من الماضي(2).

_____________________________

1 ـ ينقسم أصحاب الحياة البرزخية ـ حسبما يذهب إليه بعض المحققين ـ إلى نوعين الصالحون جداً، والطالحون جداً.

2 ـ الضمائر في «لاخوف عليهم ولا هم يحزنون» حسب التفسير الأول تعود إلى المجاهدين الباقين على قيد الحياة الذين لم يلحقوا بالشهداء، وعلى التفسير الثاني تعود إلى الشهداء أنفسهم.

(781)

ثمّ إنه سبحانه يقول : (يستبشرون(1) بنعمة من الله وفضل).

وهذه الآية ـ في الحقيقة ـ مزيد تأكيد وتوضيح حول البشائر التي يتلقاها الشهداء بعد قتلهم واستشهادهم.،

فهم فرحون ومسرورون من ناحيتين :

الأُولى : من جهة النعم والمواهب الإلهية التي يتلقونها، لا بها فقط بل لما يتلقونه من الفضل الإلهي الذي هو التصعيد المتزايد المستمر للنعم الذي يشمل الشهداء أيضاً.

والثانية : من جهة أنهم يرون أن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين... لا أجر الشهداء الذين نالوا شرف الشهادة، ولا أجر المجاهدين الصادقين الذين لم ينالوا ذلك الشرف رغم اشتراكهم في المعركة : (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين)أجل، إنهم يرون بأم أعينهم ما كانوا يوعدون به ويسمعون بآذانهم.

إنها فرحة مضاعفة.

شهادة على بقاء الروح

تعد الآيات الحاضرة من جملة الآيات القرآنية ذات الدلالة الصريحة على بقاء الروح.

فهذه الآيات تتحدث عن حياة الشهداء بعد الموت والقتل. وما يحتمله البعض من أن المراد بهذه الحياة هو معنى مجازي، وأن المقصود هو بقاء اسمهم، وخلود آثارهم، وأعمالهم وجهودهم بعيد جداً عن معنى الآية، وغير منسجم بالمرّة مع أي واحد من العبارات الواردة في الآيات الحاضرة، سواء تلك التي

_____________________________

1 ـ الإستبشار يعني الإبتهاج والسرور الحاصل بسبب تلقي بشارة أو مشاهدة نعمة للنفس أو للغير من الأحبة. وليست بمعنى التبشير والإبشار.

(782)

تصرح بأن الشهداء يرزقون، أو التي تتحدث عن سرورهم من نواح مختلفة، هذا مضافاً إلى أن الآيات الحاضرة دليل بيّن وبرهان واضح على مسألة «البرزخ» والنعم البرزخية التي سيأتي الحديث عنها وشرحها عند تفسير قوله سبحانه : (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)(1) إن شاء الله.

أجر الشهداء

لقد قيل عن الشهداء ومكانتهم وأهمية مقامهم الكثير الكثير، فكلّ الأمم، وكلّ الشعوب تحترم شهداءها وتقيم لهم وزناً خاصّاً ولكن ما يوليه الإسلام للشهداء في سبيل الله من الإحترام وما يعطيهم من المقام لا مثيل له أصلاً، وهذه حقيقة لا مبالغة فيها، فإن الحديث التالي نموذج واضح من هذا الإحترام العظيم، الذى يوليه الإسلام الحنيف للذين استشهدوا في سبيل الله، وفي ظل هذه التعاليم استطاعت تلك الجماعة المحدودة المتخلفة أن تكتسب تلكم القوّة العظيمة الهائلة التي استطاعت بها أن تركع أمامها أعظم الإمبراطوريات، بل وتدحر أعظم العروش.

وإليك هذا الحديث :

عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال : بينما أميرالمؤمنين يخطب ويحضهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال : يا أميرالمؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله فقال : كنت رديف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عمّا سألتني عنه فقال :

الغزاة إذا هموا بالغزو كتب الله لهم براءة من النار.

 




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 22215851

  • التاريخ : 3/02/2025 - 22:35

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net