00989338131045
 
 
 
 
 
 

 سورة البقرة من آية 197 ـ 215 ( من ص 50 ـ 101 ) 

القسم : تفسير القرآن الكريم   ||   الكتاب : الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل (الجزء الثاني)   ||   تأليف : سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

الآيات

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوق وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرِ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَــأُوْلِي الاَْلْبَابِ(197)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِن رَّبِّكُمْ فَاِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَـات فَاذُكُرُواْ اللهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَيـكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّـآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(199)

التّفسير

خير الزّاد والمتاع :

تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحجّ وزيارة بيت الله الحرام وتقرّر طائفة من التشريعات الجديدة :

( 50 )

1 ـ تقول الآية (الحجّ أشهر معلومات)(1).

والمراد بهذه الأشهر : هي شوال، ذي القعدة، ذي الحجّة (شهر ذي الحجّة بكامله أو العشرة الأوائل منه) وهذه الأشهر تسمّى (أشهر الحجّ) لأنّ قسماً من أعمال الحجّ والعمرة لا يمكن الإتيان بها في غير هذه الأشهر، وقسماً آخر يجب الإتيان بها في اليوم التاسع إلى الثاني عشر من شهر ذي الحجّة، والسبب في أنّ القرآن الكريم لم يصرّح باسماء هذه الأشهر لأنّها معلومة للجميع وقد أكّد عليها القرآن الكريم بهذه الآية.

ثمّ أنّ هذه الآية تستبطن نفياً لأحد التقاليد الخرافيّة في الجاهليّة حيث كانوا يستبدلون هذه الأشهر بغيرها في حالة حدوث حرب بينهم فيقدّموا ويؤخّروا منها كيف ما شاؤوا، فالقرآن يقول : «إنّ هذه الأشهر معلومة ومعيّنة فلا يصحّ تقديمها وتأخيرها»(2).

2 ـ ثمّ تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحجّ وشرع بأداء مناسك الحجّ وتقول : (فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ).

(رفث) بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمّن ذكر بعض الاُمور القبيحة أعمّ من الاُمور الجنسيّة أو مقدّماتها، ثمّ بات كناية عن الجماع، ولكنّ البعض ذهبوا إلى أنّ مفردة (رَفَثَ) لا تطلق على هذا النوع من الكلام إلاّ في حضور النساء، فلو كان الحديث في غياب النساء فلا يسمّى بالرّفث(3).

وذهب البعض إلى أنّ الأصل في هذه الكلمة هو الميل العملي للنّساء من

_____________________________

1 ـ بما أن الحج ليس هو الأشهر نفسها، لذا ذهب المفسرون إلى وجود تقدير وهو : «أشهر الحج أشهر معلومات»، وذهب بعض إلى عدم وجود تقدير، واحتملوا أن الجملة كناية عن شدة ارتباط الحج بهذه الأشهر الخاصّة وكأنه هو هي.

2 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 293 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 160.

3 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 164.

( 51 )

المزاح واللّمس والتماس البدني الّذي ينتهي بالمقاربة الجنسيّة(1).

(فسوق) بمعنى الذّنب والخروج من طاعة الله،

و(جدال) تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنّزاع، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه، ومن هذا استعملت في الجدال بين اثنين، لأنّ كلّ منهما يشدّ الكلام ويحاول إثبات صحّة رأيه ونظره.

وعلى كلّ حال، ورد هذا الأمر للحجّاج في حرمة المقاربة مع الأزواج، وكذلك وجوب اجتناب الكذب والفحش (مع أنّ هذا العمل حرام أيضاً في غير مواضع الإحرام ولكنّه ورد النهي عنه في أعمال الحجّ بالخصوص ضمن المحرّمات الخمسة والعشرين على المحرم).

وكذلك من المحرّمات على المحرم في الحجّ هو الجدال والقسم بالله تعالى سواء كان على حقّ أم باطل، وهو قول (لا والله، بلى والله).

وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحجّ طاهرة من التمتّعات الجنسيّة وكذلك من الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك، لأنّها أجواء عباديّة تتطلّب الإخلاص وترك اللّذائذ الماديّة وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطّاهر قوّة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيداً عن عالم المادّة، وفي نفس الوقت تقوّي الاُلفة والإتحاد والإتّفاق والاُخوّة بين المسلمين بإجتناب كلّ ما ينافي هذه الاُمور.

وطبعاً لكلّ واحد من هذه الأحكام الشرعيّة شروح وشرائط مذكورة في كتب مناسك الحجّ الفقهيّة.

3 ـ بعد ذلك تعقّب الآية وتبيّن المسائل المعنويّة للحجّ وما يتعلّق بالإخلاص وتقول (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) .

_____________________________

1 ـ التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

( 52 )

وهذا أوّل لطف إلهي يناله الصالحون، فالمرحلة الأُولى من لذّة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأنّ ما يعمله في سبيل الله إنّما هو بعين الله، ويا لها لذّة.

وتضيف الآية : (وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى).

هذه الآية أمرت بحمل الزاد. قيل : إن جماعة من أهل اليمن كانوا يحجّون دون أن يصحبوا معهم زاداً للطريق، قائلين : نحن ضيوف الله وطعامنا عليه. وهذه الفقرة من الآية أمرت بحمل الزاد، لأن الله سبحانه هيّأ للجميع طعامهم بالطرق الطبيعية.

والآية تشير في الوقت نفسه إلى مسألة معنوية هي زاد التقوى، فهناك حاجة إلى زاد من نوع آخر هو «التقوى».

والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحجّ المعنوي وتفتّح أبصارهم على ما في ساحة الحجّ من معان عميقة تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل و الأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد، وبمظاهر عظمة الله سبحانه ممّا لا يوجد في مكان آخر، ولابدّ للحاج أن يستلهم من هذه الساحه زاداً يعينه على مواصلة مسيرته نحو الله فيما بقي من عمره.

(واتقونِ يا أُولي الألباب)(1).

الحديث موجّه إلى أُولي الألباب والعقول، والتركيز عليهم بانتهاج التقوى لأنهم هم القادرون على التزوّد كما ينبغي من العطاء التربوي لمناسك الحجّ، والآخرون لا ينالون منها سوى المظاهر والقشور.

الآية التالية ترفع بعضالإشتباهات في مسألة الحجّ وتقول (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم).

_____________________________

1 ـ «الباب» جمع «لب»، ويقال للعقل الخالص «لب» أيضاً.

( 53 )

لقد كان التعامل الإقتصادي بكافّة ألوانه محضوراً في موسم الحجّ عند الجاهليّين، وكانوا يعتقدون ببطلان الحجّ إذا اقترن بالنّشاط الإقتصادي، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكّد أنّه لا مانع من التعامل الإقتصادي والتّجاري في موسم الحجّ، وتسمح بابتغاء فضل الله في هذا الموسم عن طريق العمل والكد.

وهذا النمط من التفكير كان سائداً في العصر الجاهلي ونجده كذلك في زماننا هذا وأنّ هذه العبادة العظيمة ـ يعني الحجّ ـ يجب أن تكون خالصة من أيّة شوائب ماديّة، ولكن بما أنّ سائر العاملين في هذا السبيل مضافاً إلى الناس الّذين يقصدون بيت الله من بعيد الدّيار يمكنهم أن يحلّوا الكثير من مشاكلهم الإقتصاديّة في سفر الحجّ هذا، ولهذا السبب أبطل القرآن الكريم هذا اللّون من التفكير، ويُحق لهؤلاء الأشخاص أن يأتوا بعبادة الحجّ ويؤدّوا مناسكه ضمن أداء خدماتهم الاُخرى ولا يكونوا في مضيقة من هذه الجهة، بل أنّ النصوص الإسلاميّة التي تتحدّث عن حكمة الحجّ تشير أيضاً إلى الجوانب الإقتصادية إضافة إلى الجوانب الأخلاقية والسياسية والثقافية، وتوضّح أنّ سفر المسلمين من كلِّ فجٍّ عميق إلى بيت الله الحرام لعقد مؤتمر الحجّ العظيم يستطيع أن يكون منطلقاً لتحرّك اقتصادي عامّ في المجتمعات الإسلامية. وذلك يتحقّق باجتماع الأدمغة الإقتصادية الإسلامية المفكّرة قبل أداء المناسك أو بعده لوضع أُسس اقتصاد سليم في المجتمعات الإسلامية يقوم على أساس التعاون والتبادل الإقتصادي بين أبناء الأُمّة الإسلامية، والإستغناء عن الأجانب والأعداء، وبلوغ المستوى الممكن اللائق من الإكتفاء الذاتي.

من هنا، فهذه المعاملات والمبادلات التجارية سبل لتقوية بنية المجتمع الإسلامي أمام أعداء الإسلام، ذلك لأنّ أيّ شعب من الشعوب لا يمكن أن ينال

( 54 )

استقلاله الكامل دون أن يقوم على أساس اقتصادي قوي، ولكن النشاط
الإقتصادي في موسم الحجّ ينبغي طبعاً أن ينضوي تحت الأبعاد العبادية والأخلاقية للحجّ، لا أن يقدّم ويهيمن عليها. وواضح أنّ الحجّاج لهم الوقت الكافي قبل أعمال الحجّ وبعده لمثل هذا النشاط.

يروي هشام بن الحكم أنّه سأل الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) عن العلّة الّتي لأجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت، فقال «... فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمّال... ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح...»(1)

ثمّ تعطف الآية الشريفة على ما تقدّم من مناسك الحجّ وتقول (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام وأذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالّين).

ثمّ تقول الآية في حديثها هذا : (ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس) فهذا المقطع يتضمّن أمراً بالإفاضة أي بالإندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرض منى.

ففي نهاية الآية تُعطي أمراً بالإستغفار والتوبة وتقول : (واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيم).

ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحجّ (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد 20 كيلومتراً تقريباً من مكّة ويجب على الحجّاج أن يقفوا في هذا المحل من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروب

_____________________________

1 ـ وسائل الشيعة، ج 8، كتاب الحجّ باب 1 من أبواب وجوب الحجّ، ح 18.

( 55 )

الشمس فيشتغلوا بالعبادة والذكر، ثمّ الوقوف بـ (المشعر الحرام أو المزدلفة) حيث يبيتون هناك ليلة عيد الأضحى ويبقون هناك إلى قبل طلوع الشمس مشغولين بالدعاء والمناجاة مع الله تعالى، والثالث أرض (منى) وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام واداء مناسك العيد.

* * *

بحوث

1 ـ أول موقف للحجيج

تقدّم أنّ حجّاج بيت الله الحرام يتجّهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء مناسك الحجّ، وأوّل موقف يقفون فيه هو في «عرفات»، وهي صحراء واسعة تقع على بعد أربعة فراسخ من مكّة يقف فيها الحاج من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة حتّى غروب ذلك اليوم. وفي سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم قيل.: إنّ إبراهيم (عليه السلام)قال حين أراه جبرائيل مناسك الحجّ : «عرفت، عرفت».

وقيل إن هذه القصة وقعت لآدم وحواء، وقيل أيضاً أن آدم وحواء تعارفا في هذا المكان، وقيل أن حجاج بيت الله يتعارفون فيما بينهم في هذا المكان، وتفسيرات اُخرى(1)(2).

ولا يبعد أن تكون التسمية إشارة إلى حقيقة أُخرى أيضاً، وهي أن هذه الأرض المشرّفة التي تبدأ منها أُولى مراحل الحجّ محيط مناسب جدّاً لمعرفة الله

_____________________________

1 ـ ذكر الفخر الرازي هنا ثمانية أقوال في معنى «عرفات» (ج 5، ص 173 ـ 174).

2 ـ هناك بحث بين المفسرين في أن «عرفات» مفرد أو جمع لـ «عرفة». وقيل أن «عرفة» اسم زمان للأعمال في يوم التاسع من ذي الحجّة و «عرفات» اسم ذلك المكان (روح المعاني، ج 2، ص 87).

( 56 )

تعالى. و الحاجّ في هذا الموقف يشعر حقّاً بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.

الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمّعون بشكل واحد وبزيّ واحد، قد هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولاذوا بهذه الأرض المشرّفة المفعمة بذكريات الرسالات السماوية، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت الخليل ودعوة النبيّ الخاتِم، وصحبه المجاهدين. وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحية والإنقطاع إلى الله على مرّ التاريخ. كأنّ هذه الأرض نافذه تشرف على عالم ما وراء الطبيعة، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان، وينساق مع تسبيح الخليقة العام، بل يعود أيضاً إلى ذاته التي انفصل عنها زمناً طويلاً فيعرف نفسه، ويعرف أنّه ليس بذلك الكائن اللاهث ليل نهار وراء جمع الحطام والمتاع دون أن يرويه شيء، بل إنّه جوهر آخر كان يجهله قبل الوقوف في عرفات... نعم إنّها «عرفات» وما أجمل هذا الاسم ! وما أعمق مدلوله !

2 ـ المشعر الحرام ـ الموقف الثاني للحجيج

وبشأن تسمية «المشعر الحرام» بهذا الاسم قيل : إنّه مركز لشعائر الحجّ، ومعلم من معالم هذه العبادة العظيمة.

ومن المهمّ أن نفهم أنّ «المشعر» من مادة «الشعور»، ففي تلك الليلة التاريخية المثيرة «ليلة العاشر من ذي الحجّة» حيث حجّاج بيت الله الحرام قد أنهوا المرحله الاُولى من هذه الدورة التربوية في عرفات واندفعوا نحو المشعر الحرام ليقضوا ليلة يفترشون فيها الأرض ويلتحفون السماء، ضمن إطار أرض محدودة الأبعاد أشبه ما تكون ـ وهي تموج بآلاف الحجّاج ـ بأرض المحشر... في مثل هذه الظروف الزمانية والمكانية... وفي إطار الإلتزام بالإحرام وواجباته

( 57 )

ومحرّماته، تجيش في النفس الإنسانية «مشاعر» خاصّة تربط الإنسان بالملأ الأعلى وتحلق به في أبعاد جديدة سامية... ومن هنا كانت تلك الأرض مشعراً.

3 ـ درس الوحده والاتحاد

جاء في بعض الروايات الشريفة أن قبائل قريش كانت ترى لنفسها مكانة دينية خاصّة بين العرب، وكان أفرادها يسمّون أنفسهم «الحُمس»(1) ويرون أنّهم أبناء إبراهيم (عليه السلام) وسدنة الكعبة، ولذلك كانوا يترفّعون على بقية القبائل العربية. ومن هنا فإنهم تركوا الوقوف في عرفات لأنّها خارج الحرم المكّي، وما كانوا يودّون أن يحترموا أرضاً تقع خارج حرم مكّة، ظنّاً منهم أنّ ذلك يقلّل من شأنهم بين قبائل العرب، مع علمهم بأنّ الوقوف في عرفات من مناسك الحجّ الإبراهيمي(2).

الآية الكريمة تبطل كلّ هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجّاج جميعاً في عرفات، ثمّ التحرك منها نحو المشعر الحرام، ومن ثمّ الإتجاه إلى مِنى دون أن يكون لأحد امتياز على آخر (ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس).

الإفاضة التي تأمر بها الآية هي الإفاضة من المشعر الحرام إلى مِنى، لأنّها جاءت بعد ذكر الإفاضة من عرفات إلى المشعر،ومسبوقة بـ «ثمّ» التي تفيد الترتّب الزماني، ويكون مدلول الآيتين معاً الأمر بالوقوف الجماعي بعرفات، ثمّ الإفاضة منها إلى المشعر الحرام، ومن ثمّ إلى مِنى.

(واستغفروا الله).

والأمر بالإستغفار في اختتام الآية حثّ على ترك تلك الأوهام والأفكار

_____________________________

1 ـ الحُمس : هم الأفراد المتمسّكون بالدين.

2 ـ سيرة ابن هشام، ج 1، ص 211 و 212.

( 58 )

الجاهلية، والإتجاه نحو تعلّم دروس الحجّ في المساواة، و (إنّ الله غفور رحيم).

4 ـ ارتباط الآيات

قد يتساءل أحد عن الرّابطة بين قوله تعالى (ابتغاء فضل الله) و مسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها إلى المشعر الحرام وثمّ إلى مِنى الّتي وردت الآية الشريفة منضمّة بعضها إلى بعض.

يمكن أن تكون الرّابطة هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ السعي المادي والإقتصادي إذا كان لله ومن أجل الحياة الشريفة فيكون هذا نوع من العبادة حال مناسك الحجّ، أو أنّ حركة وانتقال الحجّاج من مكّة إلى عرفات ومنها إلى المواقف الاُخرى يستلزم عادةً نفقات وخدمات كبيرة، فلو كان كلّ نوع من العلم والكسب في هذه الأيّام محرّم على الحجّاج فمن الواضح أنّهم سيقعون في حرج ومشقّة، فلهذا ذكرت الآية الشريفة هذه العبارات منضمّة ومتتالية.

أو يقال أن المفهوم منها هو أنّ الآية تحذّر الحجّاج أن لا يُنسيكم العمل والكسب وسائر الفعاليّات الإقتصادية ذكر الله والتوجّه إليه وإدراك عظمته في هذه المواقف الشريفة.

* * *

( 59 )

الآيـات

فَإِذَا قَضَيْتُم مَّناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ ءَابآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاَْخِرَةِ مِنْ خَلاق (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنةً وَفي الاَْخِرَةِ حَسَنةً وَقِنا عَذَابَ النَّارِ  (201)  أُوْلَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُواْ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)

سبب النّزول

في حديث الإمام الباقر (عليه السلام) : إنّ الجاهليّين كانوا يعقدون الإجتماعات بعد موسم الحجّ يذكرون فيها مفاخرهم الموهومة الموروثة من آبائهم ويمجّدون أسلافهم.

والقرآن الكريم يؤكّد في هذه الآيات أعلاه أنّ على المسلمين أن يذكروا الله تعالى ونعمه السّابغة بدل الخوض في تلك الأباطيل والأوهام والإفتخارات الوهميّة(1).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 297.

( 60 )

ومثله ما أورده سائر المفسّرين عن ابن عبّاس وغيره أنّ أهل الجاهلية كانوا يعقدون مجالساً بعد الحجّ للتّفاخر بآبائهم وذكر مفاخرهم أو أنّهم يجتمعون في الأسواق كسوق (عكاظ، ذي المجاز، مجنّة) لم تكن هذه الأسواق مراكزاً تجاريّة فحسب، بل أماكن لتلك المجالس الباطلة التي يجتمع فيها النّاس ويذكرون مفاخر أسلافهم(1).

التّفسير

الحجّ رمز وحدة المسلمين :

هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلّقة بالحجّ في الآيات السابقة، فالبرغم من أنّ أعراب الجاهلية ورثوا مناسك الحجّ بوسائط عديدة من إبراهيم الخليل (عليه السلام)ولكنّهم خلطوا هذه العبادة العظيمة والبناءة والّتي تُعتبر ولادة ثانية لحجّاج بيت الله الحرام بالخرافات الكثيرة بحيث أنها خرجت من شكلها الأصلي ونُسخت وتحوّلت إلى وسيلة للتفرقة والنّفاق.

الآية الاُولى من الآيات محل البحث تقول (فإذا قضيتم مناسككم فإذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً).

إنّ العزّة والعظمة يكملان بالإرتباط في الله تعالى لا بالإرتباط الوهمي بالأسلاف، وليس المراد من هذه العبارة أنّكم اُذكروا أسلافكم وأذكروا الله كذلك، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنّكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض الخصال والمواهب الحميدة، فلماذا لا تذكرون الله تعالى ربّ السموات والأرض والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات

_____________________________

1 ـ روح المعاني، ج 2، ص 89 ـ والقرطبي، ج 2، ص 803 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 183 ـ تفسير في ظلال القرآن، ج 1، ص 289 ـ تفسير البرهان، ج 1، ص 203.

( 61 )

وصفات الجلال والجمال.

أمّا المراد من (ذكر الله) في هذه الآية فهناك أقوال كثيرة بين المفسّرين، ولكنّ الظاهر أنّها تشمل جميع الأذكار الإلهيّة بعد أداء مناسك الحجّ، وفي الحقيقة أنّه يجب شكر الله تعالى على جميع نعمه وخاصّة نعمة الإيمان والهداية إلى هذه العبادة العظيمة، فتكتمل الآثار التربويّة للحجّ بذكر الله.

بعد ذلك يوضّح القرآن طبيعة مجموعتين من الناس وطريقة تفكيرهم.. مجموعة لا تفكّر إلاّ بمصالحها الماديّة ولا تتجّه في الدعاء إلى الله إلاّ من هذه المنطلقات الماديّة فتقول (فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق)(1).

والمجموعة الثانية تتحدّث عنهم الآية بقولها (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).

وهذه الفقرات من الآيات محل البحث تشير إلى هاتين الطائفتين وأنّ الناس في هذه العبادة العظيمة على نوعين، فبعض لا يفكر إلاّ بالمنافع الماديّة الدنيويّة ولا يريد من الله سواها، فمن البديهي أنّه يبقى له شيء في الآخرة.

ولكنّ الطائفة الثانية اتسّعت آفاقهم الفكريّة فاتجّهوا إلى طلب السّعادة في الدنيا باعتبارها مقدّمة لتكاملهم المعنوي وطلب السّعادة في الآخرة، فهذه الآية الكريمة توضّح في الحقيقة منطق الإسلام في المسائل الماديّة والمعنويّة وتدين الغارقين في الماديّات كما تدين المنعزلين عن الحياة.

أمّا ما المراد من (الحسنة) ؟ فهناك تفاسير مختلفه لها، فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير الحسنة : (إنّها السّعة في الرّزق والمعاش وحس الخلق

_____________________________

1 ـ «خلاق» كما يقول الراغب تعني الفضائل الأخلاقية التي يكتسبها، وهنا على قول الطبرسي أنها تعني النصيب (الذي هو نتيجة الفضائل الأخلاقية).

( 62 )

في الدنيا ورضوان الله والجنّة في الآخرة)(1).

ولكنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّها تتضمّن معنى العلم والعبادة في الدنيا والجنّة في الآخرة، أو المال في الدنيا والجنّة في الآخرة، أو الزوجة الصالحة في الدنيا والجنّة في الآخرة، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المعاني (من أوتي قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه واُخراه فقد أُوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووُقي عذاب النار)(2).

وواضح أنّ تفسير الحسنة هذا له مفهوم واسع بحيث يشمل جميع المواهب الماديّة والمعنويّة، وما ورد في الرواية أعلاه أو في كلمات المفسّرين فهو بيان لأبرز المصاديق لا حصر الحسنة بهذه المصاديق، فما تصوّره بعض المفسّرين من أنّ الحسنة الواردة في الآية بصورة المفرد النكرة لا تشمل على كلّ خير، ولهذا وقع الإختلاف في مصداقها بين المفسّرين(3)، إنّما هو إشتباه محض، لأنّ المفرد النكرة تارة يأتي بمعنى الجنس ومورد الآية ظاهراً من هذا القبيل، فالمؤمنون ـ كما ذهب إليه بعض المفسّرين ـ يطلبون من الله تعالى أصل الحسنة بدون أن ينتخبوا لها مصداقاً من المصاديق، بل يوكلون هذا الأمر إلى مشيئته وإرادته وفضله تعالى(4).

وفي آخر آية إشارة إلى الطائفة الثانية (الّذين طلبوا من الله الحسنة في الدنيا والآخرة) فتقول (اُولئك لهم نصيب ممّا كسبوا والله سريع الحساب).

وفي الحقيقة هذه الآية تقع في النقطة المقابلة للجملة الأخيرة من الآية السابقة (وما له في الآخرة من خلاق).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 297.

2 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 298.

3 ـ التفسير الكبير، ج 5، ص 189.

4 ـ في ظلال القرآن، ج 1، ص 290.

( 63 )

واحتمل البعض أنّها تتعلّق بكلا الطائفتين، فالطائفة الاُولى يتمتّعون بالنعم والمواهب الدنيويّة، والطائفة الثانية يتمتّعون بخير الدنيا والآخرة كما ورد ما يشبه هذه الآيات في سورة الإسراء الآية 18 إلى 20 حيث يقول : (من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنم يصليها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فاُولئك كان سعيهم مشكوراً كُلاٍّ نمدُّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربّك وما كان عطاء ربّك محظوراً).

ولكنّ التفسير الأوّل منسجم مع الآيات مورد البحث أكثر.

عبارة (نصيب) مع أنّها جاءت بصورة نكرة، ولكنّ القرائن تدلّ على أنّ النكرة هنا لبيان العظمة، والتعبير بقوله (ممّا كسبوا) ليست إشارة إلى قلّة النصيب والثواب والجزاء، لأنّه من الممكن أن تكون (من) ابتدائيّة لا تبعيضيّة.

أمّا التعبير بقوله (كَسَب) في جملة (ممّا كسبوا) فتعني ـ كما ذهب إليه كثير من المفسّرين ـ الدّعاء لطلب خير الدنيا والآخرة، فاختيار هذا التعبير قد يكون إشارة إلى نكتة لطيفة وهو أنّ الدعاء بذاته يعتبر من أفضل العبادات والأعمال، ومن خلال التحقيق في عشرات الآيات الواردة في القرآن المجيد في مادّة «كسب» ومشتقاتها يُستفاد جيّداً أنّ هذه المفردة تستعمل أيضاً لغير الأعمال الجسميّة أيضاً، أي الأعمال القلبيّة والروحيّة كما ورد في الآية 225 من سورة البقرة (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم).

فلا عجب أن يكون الدّعاء إذاً نوع من الكسب والإكتساب وخاصّةً إذا لم يكن الدعاء باللّسان فقط بل مقترن بجميع وجود الإنسان.

أمّا جملة (والله سريع الحساب) الواردة في الفقرة الأخيرة من الآية فإنّها تشير إلى سرعة حساب الله تعالى لعباده، فإنّه يُجازي بالثواب والعقاب نقداً وبدون تأخير، فقد ورد في الحديث الشريف (إنّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم

( 64 )

في مقدار لمح البصر)(1).

وهذا لأنّ علم الله ليس كعلم المخلوقات المحدود حيث يشغلها موضوع عن موضوع آخر.

إضافة إلى ذلك أنّ محاسبة الله لاينبغي أن تستلزم زماناً، لأنّ أعمالنا ذات آثار باقية في جسم وروح الموجودات المحيطة بنا وفي الأرض وأمواج الهواء، فالإنسان يشبه من هذه الجهة السّيارات المجهّزة بقياس السرعة والمسافة حيث تقرأ فيها كلّ لحظة مقدار عملها وسيرها ولا يحتاج بعدها إلى كتاب لحساب المسافات الّتي طوتها السيّارة طيلة عمرها.

* * *

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 298، ذيل الآية.

( 65 )

الآية

واذْكُرُوا اللهَ فِي أيَّام مَعْدُودات فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْن فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْه، لِمَنْ اتقى واتَقُوا اللهَ واعلَمُوا أَنَكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

التّفسير

آخر كلام عن الحجّ :

هذه الآية في الحقيقة آخر آية وردت في بيان مناسك الحجّ وإبطال السّنن الجاهليّة في المفاخرات الموهومة بالنسبة للأسلاف فتوصي المسلمين (بعد مراسم العيد) أن يذكروا الله تعالى (واذكروا الله في أيّام معدودات).

ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذا الأمر بقرينة الآيات السابقة ناضرة إلى الأيّام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الّتي تسمّى بلسان الروايات (أيّام التشريق) ويتّضح من اسم هذه الأيّام أنّها فترة إشراق الرّوح الإنسانية في ظل تلك المناسك العظيمة.

وفي الآية 28 من سورة الحجّ ورد الأمر بذكر الله في (أيّام معلومات)وهنا

( 66 )

وردت عبارة في (أيّام معدودات) فالمعروف هو أنّ الأيّام المعلومات تعني العشرة الأيّام من بداية ذي الحجّة، وأما (أيّام معدودات) فالمراد بها أيّام التشريق المذكورة آنفاً، ولكنّ بعض المفسّرين أورد احتمالات اُخرى غير ذلك في شرح الآية 28 من سورة الحجّ، وسيأتي في شرح الآية 28 من سورة الحجّ(1).

أمّا المراد من (أذكار) فقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة أنّها تعني تلاوة التكبيرات التالية بعد خمسة عشر صلاة في هذه الأيّام (ابتداءً من صلاة الظهر من يوم العيد حتّى صلاة الصبح من اليوم الثالث العشر) وهي (الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام).

ثمّ تشير الآية إلى هذا الحكم الشرعي (فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه لمن اتّقى) وهذا التعبير بالحقيقة إشارة إلى نوع من التخيير في أداء ذكر الله بين يومين أو ثلاثة أيّام.

وجملة (لمن أتّقى) ظاهراً قيد للتعجيل في اليومين، أي لا إثم على من تعجّل واختار اليومين أو الثلاثة، وهذا التعجيل يختص بمثل هؤلاء الأشخاص.

وجاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المراد من التقوى هنا هي تجنّب الصيد، أي أنّ الأشخاص حين الإحرام يجب عليهم تجنّب الصيد أو جميع تروك الإحرام، فيمكنهم البقاء بعد عيد الأضحى يومين في منى ولأداء مناسكهم وذكر الله تعالى، أمّا من لم يتّق فيجب عليه البقاء ثلاثة أيّام هناك لأداء المراسم العباديّة وذكر الله تعالى.

_____________________________

1 ـ بالرغم من أن «أيام» جمع «يوم» وهو مذكر، إلاّ أنه وصف بـ «معلومات» و «معدودات» بصيغة المؤنث، وقيل أن ذلك لأن الأيّام مركبة من ساعات، ولعلّه إشارة إلى أنكم ينبغي أن تذكروا الله طيلة ساعات هذه الأيّام.

( 67 )

وذهب البعض إلى أنّ جملة (لا إثم عليه) إشارة إلى نفي كلّ إثم وذنب عن زوّار بيت الله الحرام، أي أنّ الحاج بعد أداء مناسكه عن ايمان وإخلاص ووعي يُغفر له ما تقدّم من ذنبه وتزول رواسب المعاصي وأدران الذنوب من قلبه ونفسه، ويخرج من هذه العبادة التربويّة خالصاً طاهراً نقيّاً.

فمع أنّ هذا المعنى صحيح بذاته، إلاّ أنّ ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأوّل أكثر.

وفي نهاية الآية نلاحظ أمراً كليّاً بالتّقوى حيث تقول الآية (واتّقوا الله واعلموا أنّكم إليه تُحشرون).

فعلى أحد هذين التفسيرين المذكورين آنفاً يمكن أن تكون هذه الجملة إشارة إلى أنّ المناسك الروحانيّة في الحجّ تطهّر الإنسان من الذنوب السّابقة كيوم ولدته اُمّه، ولكن عليكم تقوى الله والحذر من الوقوع في الذنب مرّة اُخرى.

* * *

( 68 )

الآيـات

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بالإْثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)

سبب النّزول

ذُكر في سبب نزول هذه الآيات أمران :

1 ـ أنّ هذه الآيات نزلت في (الأخنس بن شريف) وكان رجلاً وسيماً عذب البيان يتظاهر بالإسلام وحبّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان كلّما جلس عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أقسم بالله على إيمانه وحبّه للرّسول، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يغدق عليه من لطفه وحبّه كما هو مأمورٌ به، ولكنّ هذا الشخص كان منافقاً في الباطن وفي حادثة نزاع بينه وبين بعض المسلمين هجم عليهم وقتل أحشامهم وأباد زرعهم (وبهذا أظهر ما في باطنه من النّفاق)(1).

_____________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي وغيره من التفاسير.

( 69 )

2 ـ ومن المفسّرين من نقل عن ابن عباس أنّ الآية المذكورة نزلت في سريّه (الرجيع) حيث بعث رسول الله مجموعة من الدعاة إلى القبائل المتوطنّة أطراف المدينة، فدبّرت لهم مؤامرة لئيمة استشهدوا فيها(1).

ولكنّ سبب النّزول الأوّل أكثر انسجاماً مع مضمون الآيات، وعلى أيّ حال فالدرس الّذي تقدّمه الآية عام وشامل.

التّفسير

مصير المفسدين في الأرض :

الآية الاُولى تشير إلى بعض المنافقين حيث تقول (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام).

(ألد) تأتي بمعنى ذو العداوة الشديدة، وأصلها من (لديد) التي يراد بها طرفي الرقبة وكناية عن الشخص الّذي يغلب الأعداء من كلّ جانب، و (خصام) لها معنىً مصدري وهو الخصومة والعداوة.

ثمّ تضيف الآية التالية بعض العلامات الباطنيّة لعداوة مثل هذا الإنسان وهي : (وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).

أجل، فإنّ الله سبحانه وتعالى يفضح هؤلاء ويكشف سريرتهم، لأنّ هؤلاء لو كانوا صادقين في إيمانهم وإظهارهم المحبّة لما أفسدوا في الأرض مطلقاً ولما اعتدوا على مزارع الناس وأغنامهم بدون رحمة أو شفقة، فبالرّغم من أنّ ظاهرهم المحبّة الخالصة إلاّ أنّهم في الباطن أشدّ الناس قساوة ووحشيّة.

واحتمل كثير من المفسّرين أنّ المراد بقوله (إذا تولّى) أي إذا حكم، لأنّ

_____________________________

1 ـ تفسير أبو الفتوح، ج 2، ص 140، قلّما روى هذا السبب النّزول.

( 70 )

التولّي من الولاية بمعنى الحكومة، فيكون معنى الولاية حينئذ أنّ المنافقين إذا حكموا في الأرض أهلكوا الحرث والنسل وأشاعوا الظلم بين عباد الله، وبسبب ظلمهم وجورهم تهلك الماشية وتتعرّض أموال ونفوس الناس للخطر(1).

(حرث) بمعنى الزّراعة، (نسل) بمعنى الأولاد، وتُطلق أيضاً على أولاد الإنسان وغير الإنسان، فعلى هذا يكون إهلاك الحرث والنسل بمعنى إتلاف كلّ الموجودات الحيّة أعمّ من الأحياء النباتيّة والحيوانيّة والإنسانيّة.

وذُكر لمعنى الحرث والنسل تفاسير اُخرى منها : أنّ المراد بالحرث هو النساء بقرينة الآية الشريفة (نساؤكم حرث لكم)(2) والمراد بالنسل هم الأولاد، أو يكون المراد من الحرث هنا الدين والعقيدة والنسل الناس (وهذا التفسير هو الوارد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) المذكور في مجمع البيان).

وعلى كلّ حال فإنّ التعبير (يهلك الحرث والنسل) كلام مختصر وجامع لكلّ المصاديق حيث يشمل الإفساد والتخريب بالنسبة للأموال والنفوس في المجتمع البشري.

والآية الاُخرى تُضيف (وإذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم)(3) فتشتعل في قلبه نيران التعصّب واللّجاج وتجرّه إلى المعصية والإثم.

فمثل هذا الشخص لا يستمع إلى نصيحة النّاصحين ولايهتم للإنذارات الإلهيّة، بل يستمر على عناده وإرتكابه للآثام والمنكرات مغروراً، فلا يكون جزاءه إلاّ النار، ولذلك يقول في نهاية الآية (فحسبه جهنّم وبئس المهاد).

_____________________________

1 ـ تفسير الميزان، ج 2 ، ص 96 ـ وكذلك اُشير إلى هذا البحث في ذيل هذه الآية في تفسير مجمع البيان وأبو الفتوح الرازي، ولكن هذا الرأي لا يناسب سبب النّزول، وإن كان مفهوم الآية واسعاً.

2 ـ البقرة، 233.

3 ـ العزة في مقابل الذلّة في الأصل. ولكن هنا ورد بمعنى الغرور والنخوة، (روح المعاني) والراغب يرى أنها بمعنى عدم المغلوبية في الأصل، ومجازاً تأتي بمعنى الغرور.

( 71 )

وفي الحقيقة أنّ هذه هي أحد الصّفات القبيحة والذّميمة للمنافقين حيث أنّهم لا يستسلمون للحقّ بسبب التعصّب والتحجّر وقساوة القلب، وهذه الصفات الذّميمة تبلغ بصاحبه إلى أعلا درجات الإثم، فمن البديهي أنّ مثل هذه الأخشاب اليابسة المنحرفة لا تستقيم إلاّ بنار جهنّم.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الله عزّوجلّ وصف هؤلاء الأشخاص بخمس صفات في الآيات المذكورة آنفاً، الاُولى : أنّ كلامهم يخدع الإنسان، الثانية : أنّ قلوبهم ملوّثة ومظلمة، الثالثة : أنّهم ألدّ الأعداء، الرّابعة : أنّهم إذا سنحت الفرصة فلا يرحمون أحداً من الإنسان والحيوان والزرع، الخامسة : أنّهم وبسبب الغرور والتكبّر لا يقبلون أيّة نصيحة.

* * *

( 72 )

الآيـة

وَمِن النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ (207)

سبب النّزول

روى «الثعلبي» مفسّر أهل السنّة المعروف في تفسيره أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا أراد الهجرة إلى المدينة خلّف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه وأداء الودائع التي كانت عنده وأمره ليلة خروجه من الدّار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه وقال له : اتّشح ببردي الحضرمي الأخضر ونم على فراشي وإنّه لا يصل منهم إليك مكروه إن شاء الله تعالى. ففعل ذلك علي، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة انزلا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه.

فنزلا فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبرئيل يُنادي بخّ بخّ

( 73 )

مَن مثلك يا علي يُباهي الله تبارك وتعالى بك الملائكة، فأنزل الله على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي الآية.

ولهذا سُمّيت هذه اللّيلة التاريخية بليلة المبيت، ويقول ابن عباس نزلت الآية في علي حين هرب رسول الله من المشركين إلى الغار مع أبي بكر ونام علي على فراش النبي.

ويقول (أبو جعفر الإسكافي) كما جاء في شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد المجلّد (3) الصفحة (270) «إنّ حديث الفراش قد ثبت بالتواتر فلا يجحده إلاّ مجنون أو غير مخالط لأهل الملّة»(1).

التّفسير

التضحيّة الكبرى في دولة الهجرة التاريخيّة :

بالرّغم من أنّ الآية محل البحث تتعلّق كما ورد في سبب النزول بحادثة هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتضحية الإمام علي ومبيته على فراش النبي، ولكنّ مفهومها ومحتواها الكلّي ـ كما في سائر الآيات القرآنية ـ عامٌّ وشامل، وفي الحقيقة أنّها تقع في النقطة المقابلة للآيات السابقة الّتي تتحدّث عن المنافقين.

تقول الآية(ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد).

الطائفة السّابقة الّتي تحدّثنا عنها هي مجموعة من الأشخاص المعنادين والمغرورين والأنانيّين الّذين يحاولون أن يحقّقوا لهم بين المجتمع عزّة وكرامة

_____________________________

1 ـ ذكر صاحب الغدير : ج 2 ص 44 و 55 أنّ ليلة المبيت رواها الغزالي في إحياء العلوم : ج 3 ص 238، والصفوي في نزهة المجالس : ج 2 ص 209، وابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمّة، والسبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرة الخواص : ص 21، ومسند أحمد : ج 1 ص 48 وتاريخ الطبري : ج 2 ص 99 ـ 101، وابن هشام في السيرة : ج 2 ص 291، والحلبي في السيرة : ج 2 ص 29، وتاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 29.

( 74 )

عن طريق النفاق ويتظاهرون بالإيمان بأقوالهم بينما أعمالهم ليس فيها سوى الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.

أما هذه الطائفة الثّانية فتعاملهم مع الله وحده حيث يقدّمون أرواحهم رخيصة في سبيله، ولا يبتغون سوى رضاه، ولا يطلبون عزّة ورفعة الإّ بالله، وبتضحيات هؤلاء يصلح أمر الدّين والدنيا ويستقيم شأن الحقّ والحقيقة وتصفو حياة الإنسان وتثمر شجرة الإسلام.

ومن هنا يتّضح أنّ جملة (والله رؤوف بالعباد) بمثابة النقطة المقابلة لما ورد في الآية السابقة عن المنافقين المفسدين في الأرض (فحسبه جهنّم ولبئس المهاد) وقد تكون إشارة إلى أن الله عزّوجلّ في الوقت الّذي هو رحيم ورؤوف بالعباد هو الّذي يشري الأنفس بأغلى الأثمان وهو رضوان الله تعالى عن الإنسان.

وممّا يستلفت النظر أنّ البائع هو الإنسان، والمُشتري هو الله تعالى، والبضاعة هي النفس، وثمنها هو رضوان الله تعالى، في حين نرى في موارد اُخرى أنّ ثمن مثل هذه المعاملات هو الجنّة الخالدة والنجاة من النار، من قبيل قوله تعالى (إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل الله فَيَقْتلُون ويُقْتَلون)(1).

ولعلّه لهذا السبب كانت (مِن) في الآية مورد البحث تبعيضية (ومن الناس)، يعني أنّ بعض الناس يستطيعون أن يقوموا بمثل هذه الأعمال الخارقة بحيث لا يطلبون عوضاً عن أرواحهم وأنفسهم سوى رضوان الله تعالى، وأمّا في الآية (111) من سورة التوبة التي ذكرناها سابقاً رأينا أنّ جميع المؤمنين قد دُعوا إلى التعامل والتجارة مع الله تعالى في مقابل الجنّة الخالدة.

_____________________________

1 ـ التوبة : 111.

( 75 )

ويُحتمل أيضاً في تفسير جملة (والله رؤوف بالعباد) وتناسبها مع بداية هذه الآية أنّ المراد هو بيان هذه الحقيقة أنّ وجود مثل هؤلاء الأفراد بين الناس لطف من الله سبحانه ورأفة بعباده، إذ لو لم يكن بين الناس مثل هؤلاء الأفراد المضحّين المتفانين مقابل تلك العناصر الخبيثة لانهدمت أركان الدّين والمجتمع، لكنّ الله سبحانه بفضله ومنّه يدفع بهؤلاء الصّديقين الأولياء خطر أُولئك الأعداء.

فعلى أيّ حال، فهذه الآية ومع الإلتفات إلى سبب النزول المذكور آنفاً تُعدُّ أعظم الفضائل لإمام علي (عليه السلام) الواردة في ااكثر المصادر الإسلامية، وكانت في صدر الإسلام من الوضوح بين المسلمين بحيث دعت معاويه العدو اللّدود للإمام علي (عليه السلام) أن يُرشي (سمرة بن جندب) بأربعمائة ألف درهم كي يروي حديثاً مختلطاً ينسب فيه فضيلة هذه الآية إلى عبدالرحمن ابن ملجم، وقد اختلق هذا المنافق الجاني هذه الفرية، ولكنّ أحداً لم يقبل منه حديثه المجعول(1).

* * *

_____________________________

1 ـ نقل قصّة هذه المعاملة «ابن أبي الحديد» في شرح «نهج البلاغة» ج 4، ص 73.

( 76 )

الآيتان

يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) فَإِن زَلَلْتُم مِن بَعْدِ مَاجَآءَتْكُمُ الْبَيِّنَـاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)

التّفسير

السّلام العالمي في ظلّ الإسلام :

بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في الآيات السابقة تدعو هذه الآيات الكريمة كلّ المؤمنين إلى السِّلم والصلح وتقول : (يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة).

(سلم) و (سلام) في اللّغة بمعنى الصّلح والهدوء والسكينة، وذهب البعض إلى تفسيرها بمعنى الطّاعة، فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسّلام والتسليم إلى اُوامر الله تعالى، ويُستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السّلام لا يتحقّق إلاّ في ظلّ الإيمان، وأنّ المعايير والمفاهيم الأرضيّة والماديّة غير قادرة على إطفاء نار الحروب في الدنيا، لأنّ عالم المادّة والتعلّق به مصدر جميع الإضطرابات والنّزاعات دائماً، فلولا القوّة المعنويّة للإيمان لكان الصّلح

( 77 )

مستحيلاً، بل يُمكن القول أنّ دعوة الآية العامّة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللّغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الإجتماعيّة إلى الصّلح والسّلام يُستفاد منها أنّ تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصّلح ممكن في إطار الدولة العالميّة.

واضحٌ أنّ الاُطر الماديّة الأرضيّة (من اللّغة والعنصر و...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة إتّصال محكمة تربط بين قلوب النّاس، وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الّذي يتجاوز كلّ الإختلافات، الإيمان بالله واتّباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام والشّعوب، ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحجّ الّذي يُعتبر نموذجاً بارزاً إلى اتّحاد الأقوام البشريّة بمختلف ألوانها وقوميّتها ولغاتها وأقاليمها الجغرافيّة وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانيّة في منتهى الصّلح والصّفاء، وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة للإيمان بالله تعالى وكيف أنّ الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي ويخافون على اعراضهم ونواميسهم يتّضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة من حيث الصّلح والأمان والسّلام والطمأنينة.

ويُحتمل أيضاً في تفسير الآية أنّ بعض أهل الكتاب (اليهود والنصارى) عندما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة، ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافّة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته(1). ثمّ تضيف الآية (ولا تتّبعوا خطوات الشّيظان إنّه لكم عدوٌّ مبين)وقد مرّ بنا في تفسير الآية (168) من هذه السورة الإشارة إلى أنّ كثير من الإنحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجيّة على شكل مراحل حيث

_____________________________

1 ـ تفسير الكبير، المجلد الخامس، ص 207 ـ روح المعاني، ج 2، ص 97، ولكن نظر أن «كافة» تشمل جميع المؤمنين وليس كافة تشريعات الإسلام (في الحقيقة حال لـ «الذين آمنوا» لا السلم) والتفسير الأوّل أصح في النظر.

( 78 )

يسمّيها القرآن (خطوات الشيطان).

(خطوات) جمع «خطوة» وهنا تكرّرت هذه الحقيقة من أنّ الإنحراف عن الصلح والعدالة، والتسليم لإرادة الأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادّة وخطرة كما في المثل العربي المعروف (إنّ بدو القتال اللّطام).

فتارةً تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدّي إلى الحرب والدّمار، ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدّي شرارات الشرّ الاُولى لإشتعال لظى المعارك والحروب.

وجدير بالذّكر أنّ هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرّات وفي غايات مختلفة.

وذكر بعض المفسّرين أنّ (عبدالله بن سلام) وأتباعه الذين كانوا من اليهود وأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعض أحكامها، فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن إتّباع خطوات الشيطان(1).

ومن شأن النزول هذا يتبيّن أنّ الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة خطوة، فيجب التصدّي للخطوات الاُولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة.

وتتضمّن جملة (إنّه لكم عدوٌّ مبين) برهاناً ودليلاً حيّاً حيث تقول أنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلاّ المخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان، فمع هذا الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان.

الآية التالية إنذار لجميع المؤمنين حيث تقول (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البيّنات فاعلموا أنّ الله عزيز حكيم) فلو انحرفتم وسرتم مع

_____________________________

1 ـ تفسير القرطبي، المجلد الثاني، ص 832.

( 79 )

وساوس الشيطان على خلاف مسار الصلح والسلام فإنّكم لا تستطيعون بذلك الفرار من العدالة الإلهيّة.

المنهج بيّن والطريق بيّن والهدف بيّن، ومعلوم من هنا لا عذر لمن يزل عن الطريق، فلو انحرفتم فأنتم المقصّرون، فاعلموا أنّ الله قادر حكيم لا يستطيع أحد أن يفرّ من عدالته.

(بيّنات) بمعنى الدلائل الواضحة، ولها مفهوم واسع يستوعب الدلائل العقليّة، وكذلك ما يتّضح للإنسان عن طريق الوحي أو المعجزات.

* * *

( 80 )

الآيـة

هَلْ يَنُظرُونَ إلاّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَل مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئَكَةُ وَقُضِيَ الاَْمْرُ وَإلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (210)

التّفسير

توقّع غير معقول :

قد يبدو للوهلة الاُولى أنّ في هذه الآية الكريمة نوعاً من الإبهام والتعقيد، لكنّ ذلك يزول عند إمعان النظر بتعبيراتها.

الآية تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول معقبّة على الآيات السابقة : أليست كلّ هذه الدلائل والآيات والأحكام الواضحة كافية لصدّ الإنسان عن الهلكة وانقاذه من براثين عدوّه المبين (الشيطان)، هل ينتظرون أن يأتي الله إليهم مع الملائكة في وسط الغمامة ويطرح عليهم من الآيات والدلائل أوضح ممّا سبق، وإنّ ذلك محال، وعلى فرض كونه غير محال فإنّه لا ضرورة لذلك : (هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضي الأمر)(1).

أمّا ما هو المراد من «قُضي الأمر» الوارد في الآية ؟

ذهب المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان أنّ معناها انتهاء حساب البشر في

_____________________________

1 ـ «ظُلل» جمع «ظلة» يقال لكلّ شيء يصنع ظلاً، و «غمام» بمعنى السحاب.

( 81 )

يوم القيامة ودخول أهل الجنّة إلى الجنّة وأهل النّار إلى النّار، وعلى هذا الأساس فالآية ناظرة إلى الآخرة في حين أنّ ظاهر الآية يتعلّق بهذه الحياة الدنيا، ولهذا فليس من البعيد أن تكون هذه الآية إشارة إلى نزول العذاب الإلهي على الكفّار المعاندين، وقد ورد في هذا المعنى في كلام الطبرسي وغيره من المفسّرين بعنوان أحد الإحتمالات.

ويمكن أن يكون المعنى إشارة إلى انتهاء مأموريّة التبليغ وبيان الحقائق الواردة في الآية السابقة بعنوان (بيّنات)، وبهذا يكون انتظار وتوقع هؤلاء بلا معنى، فعلى فرض المحال إمكانيّة حضور الله تعالى والملائكة أمامهم فلا حاجة إلى ذلك كما ذكرنا، لأنّ مستلزمات الهداية قد وُضعت أمامهم بالقدر الكافي، وبناءً على هذا التفسير لايوجد في الآية أي تقدير، والألفاظ بعينها قد فُسّرت، وبهذا يكون الإستفهام الوارد في الآية استفهاماً إنكاريّاً.

وهناك من المفسّرين من لم يرَ الإستفهام في الآية إستنكاريّاً، واعتبره نوعاً من التهديد للمذنبين ولاُولئك السائرين على خُطى الشيطان، سواء كان التهديد بعذاب الآخرة أو الدنيا، ولهذا فهم يقدّرون قبل كلمة «الله» كلمة (أمر) فيكون المعنى حينئذ : (أيريد هؤلاء بأعمالهم هذه أن يُؤتيهم أمر الله وملائكته لمعاقبتهم وتعذيبهم ولينالوا عذاب الدنيا أو الآخرة وينتهي أمرهم وأعمالهم).

ولكنّ التفسير المذكور أعلاه أنسبُ المعاني لهذه الآية ظاهراً ولا حاجة إلى التقدير.

والخلاصة أنّ لهذه الآية ثلاثة تفاسير :

1 ـ أنّ المراد هو أنّ الله تعالى قد أتمَّ حجّته بمقدار كاف، فلا ينبغي للمعاندين توقّع أن يأتيهم الله والملائكة أمامهم ويبيّنوا لهم الحقائق، لأنّ هذا أمر محال وعلى فرض أنّه غير محال لا حاجة لذلك.

2 ـ المراد هو أنّ هؤلاء مع عنادهم وعدم إيمانهم هل ينتظرون الأمر الإلهي

( 82 )

بإنزال العذاب وملائكة العذاب عليهم فيهلكوا عن آخرهم.

3 ـ المراد أنّ هؤلاء بهذه الأعمال هل ينتظرون قيام السّاعة ليصدر الأمر إلى الملائكة بتعذيبهم وينالوا جزاءهم العادل ؟(1)

التعبير بـ (ظلل من الغمام) بناءً على التفسير الثاني والثالث الّذي ذهب إليه الكثير من المفسّرين إشارة إلى أنّ العذاب الإلهي يأتي فجأةً كالسّحاب الّذي يُظلّلهم وخاصّة أنّ الإنسان إذا رأى السّحاب يتوقّع أمطار الرّحمة، فعندما يأتي العذاب بصورة الصاعقة وأمثال ذلك وينزل عليهم فسيكون أقسى وأشدّ إيلاماً (مع الإلتفات إلى أنّ عذاب بعض الأقوام السّالفة نزل عليهم بصورة صاعقة من الغمام)(2).

أمّا على أساس التفسير الأوّل فقد يكون إشارة إلى عقيدة الكفّار الخرافيّة حيث يظنّون أنّ الله تعالى ينزل أحياناً من السّماء والسّحاب تظلّله(3).

وفي نهاية الآية تقول (وإلى الله ترجع الاُمور) الاُمور المتعلّقة بإرسال الأنبياء ونزول الكتب السماويّة وتبيين حقائق يوم القيامة والحساب والجزاء والثواب والعقاب وكلّها تعود إليه.

* * *

بحث

استحالة رؤية الله :

لاشكّ أنّ الرّؤية الحسيّة لا تكون إلاّ للأجسام الّتي لها لون ومكان وتأخذ حيّز من الفراغ، فعلى هذا لا معنى لرؤية الله تعالى الّذي هو فوق الزمان والمكان.

_____________________________

1 ـ لم يذكر التقدير في التفسير الأوّل ويجب أخذه بنظر الاعتبار في التفسير الثاني والثالث في كلمة «امُرء قبل لفظ الجلالة «الله».

2 ـ راجع الآية (189) من سورة الشعراء.

3 ـ المصدر السابق.

( 83 )

إنّ الذات المقدّسة يستحيل رؤيتها بهذه العين لا في الدّنيا ولا في الآخرة، والأدلّة العقليّة على هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّه لا حاجة لشرحها وبيانها، ولكن مع ذلك فإنّ طائفة من علماء أهل السّنة ومع الأسف يستندون على بعض الأحاديث الضعيفة وعدد من الآيات المتشابهة على إمكان رؤية الله تعالى يوم القيامة بهذه العين الماديّة، وإنّه سيكون له قالب جسماني ولون ومكان، وبعضهم يرى أنّ الآية مورد البحث ناظرة إلى هذا المعنى، فلعلّهم لم يلتفتوا إلى مدى المفاسد والمشكلات المترتّبة على هذا القول.

وطبعاً لاشكّ في إمكانيّة رؤية الله تعالى بعين القلب، سواء في هذه الدنيا أو في عالم آخر، ومن المسلّم أنّ ذاته المقدّسة في يوم القيامة لها ظهور أقوى وأشد من ظهورها في هذا العالم ممّا يستدعي أن تكون المشاهدة أقوى، وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب من سأله : هل يمكن مشاهدة الله يوم القيامة ؟ فقال : «.... إنّ الأبصار لا تدرك إلاّ ما له لون وكيفيّة والله تعالى خالق الألوان والكيفيّة»(1).

وقد أوردنا أبحاثاً في عدم إمكانيّة رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة في ذيل الآيات المربوطة، منها في ذيل آية (103) من سورة الأنعام (لا تُدركه الأبصار وهو يُدرك الأبصار) وذكرنا بحثاً آخر أكثر تفصيلاً في المجلّد الرابع من (نفحات القرآن) فراجع.

* * *

_____________________________

1 ـ نور الثقلين، ج 1، ص 753.

( 84 )

الآيـة

سَلْ بَنِى إِسْرَائيلَ كَمْ ءَاتَيْنَـاهُم مِّنْ ءَاَيةِ بَيِّنَة وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)

التّفسير

تبديل نعمة الله بالعذاب الأليم :

تشير هذه الآية إلى أحد مصاديق الآيات السابقة، لأنّ الحديث في الآيات السابقة كان يدور حول المؤمنين والكافرين والمنافقين، وأنّ الكافرين كانوا يتجاهلون آيات الله وبراهينه الواضحة ويتذّرعون بمختلف الحجج والمعاذير، وبني إسرائيل مصداق واضح لهذا المعنى، وتقول الآية : (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة).

ولكنّهم تجاهلوا وتغافلوا عن هذه الآيات والعلائم الواضحة وأنفقوا المواهب الإلهيّة والنعم الربانية في أساليب مذمومة ومنحرفة، ثمّ تقول الآية (ومن يبدّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإنّ الله شديد العقاب).

والمراد من (تبديل النعمة) هو استخدام الإمكانات والطّاقات والمصادر

( 85 )

الماديّة والمعنويّة الموهوبة على طريق تخريبي إنحرافي وممارسة الظلم والطغيان، فقد وهب الله سبحانه وتعالى مواهب كثيرة لبني إسرائيل من قبيل الأنبياء والقادة الشجعان والإمكانات الماديّة الكثيرة، ولكنّهم لم ينتفعوا من أنبياءهم الإلهيّين، ولا استفادوا من المواهب الماديّة استفادة صحيحة، وبهذا ارتكبوا معصية تبديل النّعمة ممّا سبّب لهم أنواع العذاب الدنيوي، كالتيه في الصحراء وكذلك العذاب الاُخروي الأليم.

وعبارة (سل بني إسرائيل) في الحقيقة تستهدف كسب الإعتراف منهم بشأن النعم الإلهيّة، ثمّ التفكير بالسّبب الّذي أدّى بهم إلى الهاوية والتمزّق مع كلّ هذه الإمكانات ليكونوا عبرة للمسلمين ولكلّ مَن لا ينتفع بالمواهب الإلهيّة بصورة سليمة.

ولاتنحصر مسألة تبديل النّعمة والمصير المؤلم لها ببني إسرائيل، بل أنّ جميع الأقوام والشّعوب إذا ارتكبت مثل هذه الخطيئة سوف تبتلي بالعذاب الإلهي الشديد في الدنيا وفي الآخرة.

فالعالم المتطوّر صناعيّاً يعاني اليوم من هذه المأساة الكبرى، فمع وفور النعم والطاقات لدى الإنسان المعاصر وفوراً لم يسبق له مثيل في التاريخ نجد صوراً شتّى من تبديل النعم وتسخيرها بشكل فضيع في طريق الإبادة والفناء بسبب ابتعادهم عن التعاليم الإلهيّة للأنبياء، حيث حوّروا هذه النعم إلى أسلحة مدمّرة من أجلّ بسط سيطرتهم الظالمة واستعمارهم للبلدان الاُخرى، وبذلك جعلوا من الدنيا مكاناً غير آمن، وجعلوا الحياة الدنيا غير آمنة من كلّ ناحية.

(نعمة الله) في هذه الآية قد تكون إشارة إلى الآيات الإلهيّة وتبديلها يعني تحريفها، أو يكون المعنى أوسع وأشمل من ذلك حيث يستوعب كلّ الإمكانات والمواهب الإلهيّة، والمعنى الثاني أرجح.

* * *

( 86 )

الآيـة

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنوُاُْ وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَاب(212)

سبب النّزول

عن ابن عبّاس المفسّر المعروف قال : أنّها نزلت في رؤساء قريش الّذين بُسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من قوم من المؤمنين الفقراء كعبد الله بن مسعود وعمّار وبلال وخباب ويقولون : لو كان محمّد نبيّاً لاتّبعته أشرافنا، فنزلت الآية لتردّ عليهم.

التّفسير

الكافرون عبيد الدّنيا :

نزول الآية طبقاً للرّواية المذكورة بشأن رؤساء قريش لا يمنع أن تكون مكمّلة لموضوع الآية السابقة بشأن اليهود وأن نستنتج منها قاعدة كليّة، تقول الآية (زيّن للّذين كفروا الحياة الدنيا) ولذلك أفقدهم الغرور والتكبّر شعورهم.

( 87 )

 (ويسخرون من الّذين آمنوا) في حين أنّ المؤمنين والمتّقين في أعلى عليّين في الجنّة، وهؤلاء في دركات الجحيم (والّذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة).

لأنّ المقامات المعنويّة تتّخذ صور عينيّة في ذلك العالَم، ويكتسب المؤمنون درجات أسمى من هؤلاء، وكأنّ هؤلاء يسيرون في أعماق الأرض بينما يحلّق الصالحون في أعالي السّماء،وليس ذلك بعجيب (والله يرزق من يشاءبغيرحساب).

وهذه في الحقيقة بشارة للمؤمنين الفقراء وإنذار وتهديد للأغنياء والأثرياء المغرورين، وهناك احتمال آخر أيضاً وهو أنّ الجملة الأخيرة تشير إلى أنّ الله تعالى يرزق المؤمنين في المستقبل بدون حساب، وذلك بتقدّم الإسلام واتّساعه حيث تحقّق هذا الوعد الإلهي.

وكون ذلك الرّزق الإلهي بدون حساب للمؤمنين إشارة إلى أنّ الثواب والمواهب الإلهيّة ليست بمقدار أعمالنا إطلاقاً، بل هي مطابقة لكرمه ولطفه، ونعلم أنّ كرمه ولطفه ليست لهما حدود ونهاية.

* * *

ملاحظة

إنّ الحياة الماديّة في منظار الكافرين ـ الّذين لا يتّعدى اُفق تفكيرهم إطار العالم المادّي ـ جميلة وجذّابة ومعيار تقويم كلّ شيء، ومن هنا فإنّهم ينظرون بفكرهم الضيّق إلى الفقراء نظرة تحقير واستهانة واستهزاء، ولا يقيمون وزناً للقيم المعنويّة والإنسانيّة.

ويبقى هنا سؤالٌ عن معنى فعل المجهول (زُيّن) فمن الّذي يُزيّن الدنيا في أنظار الكافرين ؟ الجواب على هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في تفسير الآية (14) من سورة آل عمران.

* * *

( 88 )

الآيـة

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَهً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَ أَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَـابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ ءَامَنوُاْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم (213)

التّفسير

طريق الوصول إلى الوحدة :

بعد بيان حال المؤمنين والمنافقين والكفّار في الآيات السّابقة شرع القرآن الكريم في هذه الآية في بحث اُصوليّ كلّي وجامع بالنسبة لظهور الدّين وأهدافه والمراحل المختلفة الّتي مرّ بها.

في البداية تقول الآية (كان النّاس اُمّة واحدة)(1).

فتبدأ هذه الآية ببيان مراحل الحياة البشريّة وكيفيّة ظهور الدّين لإصلاح

_____________________________

1 ـ «اُمّة»بمعنى الجماعة التي ترتبط بنوع من الرابطة الموحدة لأفرادهاسواءكانتوحدة دينية أو زمانية أومكانية.

( 89 )

المجتمع بواسطة الأنبياء وذلك على مراحل :

المرحلة الاُولى : مرحلة حياة الإنسان الإبتدائيّة حيث لم يكن للإنسان قد ألف الحياة الإجتماعية، ولم تبرز في حياته التناقضات والإختلافات، وكان يعبد الله تعالى استجابةً لنداء الفطرة ويؤدّي له فرائضه البسيطة، وهذه المرحلة يحتمل أن تكون في الفترة الفاصلة بين آدم ونوح (عليهما السلام).

المرحلة الثانية : وفيها اتّخذت حياة الإنسان شكلاً اجتماعيّاً، ولابدّ أن يحدث ذلك لأنّه مفطور على التكامل، وهذا لا يتحقّق إلاّ في الحياة الإجتماعيّة.

المرحلة الثالثة : هي مرحلة التناقضات والإصطدامات الحتميّة بين أفراد المجتمع البشري بعد استحكام وظهور الحياة الإجتماعيّة، وهذه الإختلافات سواء كانت من حيث الإيمان والعقيدة، أو من حيث العمل وتعيين حقوق الأفراد والجماعات تحتّم وجود قوانين لرعاية وحل هذه الإختلافات، ومن هنا نشأت الحاجة الماسّة إلى تعاليم الأنبياء وهدايتهم.

المرحلة الرابعة : وتتميّز ببعث الله تعالى الأنبياء لإنقاذ الناس، حيث تقول الآية (فبعث الله النبيّين مبشّرين ومنذرين).

فمع الإلتفات إلى تبشير الأنبياء وإنذارهم يتوجّه الإنسان إلى المبدأ والمعاد ويشعر أنّ وراءه جزاءً على أعماله فيحس أنّ مصيره مرتبط مباشرةً بتعاليم الأنبياء وما ورد في الكتب السّماويّة من الأحكام والقوانين الإلهيّة لحل التناقضات والنّزاعات المختلفة بين أفراد البشر، لذلك تقول الآية (وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه).

المرحلة الخامسة : هي التمسّك بتعاليم الأنبياء وما ورد في كتبهم السماويّة لإطفاء نار الخلافات والنزاعات المتنوعة (الإختلافات الفكريّة والعقائديّة

( 90 )

والإجتماعيّة والأخلاقيّة).

المرحلة السادسة : واستمر الوضع على هذا الحال حتّى نفذت فيهم الوساوس الشيطانيّة وتحرّكت في أنفسهم الأهواء النفسانيّة، فأخذت طائفة منهم بتفسير تعليمات الأنبياء والكتب السماويّة بشكل خاطيء وتطبيقها على مرادهم، وبذلك رفعوا علم الإختلاف مرّة ثانية. ولكن هذا الإختلاف يختلف عن الإختلاف السابق، لأنّ الأوّل كان ناشئاً عن الجهل وعدم الإطّلاع حيث زال وانتهى ببعث الأنبياء ونزول الكتب السماويّة، في حين أنّ منبع الإختلافات الثانية هو العناد والإنحراف عن الحقّ مع سبق الإصرار والعلم، وبكلمة : (البغي)، وبهذا تقول الآية بعد ذلك (وما اختلف فيه إلاّ الّذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم).

المرحلة السابعة : الآية الكريمة بعد ذلك تُقسّم الناس إلى قسمين، القسم الأوّل المؤمنون الّذين ينتهجون طريق الحقّ والهداية ويتغلّبون على كلّ الإختلافات بالإستنارة بالكتب السماويّة وتعليم الأنبياء، فتقول الآية : (فهدى الله الّذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) في حين أنّ الفاسقين والمعاندين ماكثون في الضلالة والإختلاف.

وختام الآية تقول (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) وهذه الفقرة إشارة إلى حقيقة ارتباط مشيئة الله تعالى بأعمال الأفراد، فجميع الأفراد الرّاغبون في الوصول إلى الحقيقة يهديهم الله تعالى إلى صراط مستقيم ويزيد في وعيهم وهدايتهم وتوفيقهم في الخلاص من الإختلافات والمشاجرات الدنيويّة مع الكفّار وأهل الدنيا ويرزقهم السكينة والإطمئنان، ويبيّن لهم طريق النجاة والإستقامة.

* * *

( 91 )

بحوث

1 ـ الدين والمجتمع

يستفاد من الآية أعلاه ضمنياً أنّ الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان الإنفصال، فلا يمكن لمجتمع أن يحيي حياة سليمة دون دين وإيمان بالله وبالآخرة، وليس بمقدور القوانين الأرضيّة أن تحلَّ الإختلافات والتناقضات الإجتماعيّة لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد وافتقارها التأثير على أعماق وجود الإنسان، فلا يمكنها حل الإختلافات والتناقضات في حياه البشر بشكل كامل، وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر، فالعالم المسمّى بالمتطوّر قد ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نرَ له نظيراً حتّى في المجتمعات المتخلّفة.

وبذلك يتّضح منطق الإسلام في عدم فصل الدّين عن السّياسة وأنه بمعنى تدبير المجتمع الإسلامي.

2 ـ بداية التشريع

ويتّضح من الآية أيضاً أنّ بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي، من هنا نفهم سبب كون نوح أوّل انبياء اُولوا العزم وأوّل أصحاب الشريعة والرسالة لا آدم.

3 ـ الشرق الأوسط مهد الأديان الكبرى

ومن الآية محل البحث نفهم الجواب على السؤال عن سبب ظهور الأديان الإلهيّة الكبرى في منطقة الشرق الأوسط (الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي ودين إبراهيم و...) لأنّ التاريخ يشهد على أنّ مهد الحضارات البشريّة كانت في هذه المنطقة من العالم وانتشرت منها إلى المناطق الاُخرى، ومع الإلتفات إلى

( 92 )

الرابطة الشديدة بين الدين والحضارة وحاجة المجتمعات المتحضّرة إلى الدين من أجل حل الإختلافات والتناقضات الهدّامة يتّضح أنّ الدين لابدّ أن يتحقّق في هذه المنطقة بالذّات.

وعندما نرى أنّ الإسلام انطلق من محيط جاهلي متخلّف كمجتمع مكّة ومدينة في تلك الأيّام، فذلك بسبب أنّ هذه المنطقة تقع على مفترق طرق عدّة حضارات عظيمة في ذلك الزّمان، ففي الشمال الشرقي من جزيرة العرب كانت الحضارة الفارسيّة وبقيّة من حضارة بابل، وإلى الشمال كانت حضارة الرّوم، وفي الشّمال الغربي كانت حضارة مصر القديمة بينما كانت حضارة اليمن في الجنوب.

وفي الحقيقة أنّ مركز ظهور الإسلام في ذلك الزمان كان بمثابة مركز الدّائرة الّتي تُحيط بها الحضارات المهمّة في ذلك الزمان (فتأمّل بالدّقة).

4 ـ حلّ الإختلافات من أهم أهداف الدّين

هناك عدّة أهداف للأديان الإلهيّة، منها تهذيب النّفوس البشريّة وإيصالها إلى المقام القرب الإلهي، ولكن من أهمّ الأهداف أيضاً هو رفع الإختلافات، لأنّ هناك بعض العوامل من قبيل القوميّة والرّس واللّغة و المناطق الجغرافية دائماً تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشريّة، والأمر الّذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة إتّصال بين أفراد البشر من مختلف القوميّات والألوان واللّغات والمناطق الجغرافية هو الدّين الإلهي، حيث بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود، ويُزيل تمام هذه الحدود، ويجمع البشريّة تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجاً من ذلك في مناسك الحجّ العباديّة والسياسيّة.

وعندما نرى أنّ بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الإختلاف والنّزاع بين طوائف البشر، لأنّها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتّعصب الأعمى، وإلاّ

( 93 )

فإنّ الأديان الإلهيّة لو لم تتعرّض للتحريف لكانت سبباً للوحدة في كلّ مكان.

5 ـ الدّليل على عصمة الأنبياء

يذكر (العلاّمة الطباطبائي) في الميزان بعد أن يُقسّم عصمة الأنبياء إلى ثلاثة أقسام :

1 ـ العصمة من الخطأ عند نزول الوحي واستلامه،

2 ـ العصمة من الخطأ في تبليغ الرسالة،

3 ـ العصمة من الذنب وما يؤدّي إلى هتك حرمة العبوديّة لله. يقول : إنّ الآية مورد البحث دليلٌ على عصمة الأنبياء من الخطأ في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة، لأنّ الهدف من بعثتهم هو البشارة والإنذار للنّاس وبيان العقيدة الحقّة في الإعتقاد والعمل، وبذلك يمكنهم هداية النّاس عن هذا الطريق، ومن الواضح أنّ هذا الهدف لا يتحقّق بدون العصمة في تلّقي الوحي وتبليغ الرّسالة.

القسم الثالث من العصمة يمكن استفادته من هذه الآية أيضاً، لأنّه لو صدر خطأ في تبليغ الرّسالة لكان بنفسه عاملاً على الإختلاف، ولو حصل تضاد بين أعمال وأقوال الأنبياء الإلهيّين بارتكابهم الذنب فيكون أيضاً عاملاً وسبباً للإختلاف، وبهذا فإنّ الآية أعلاه يمكن أن تكون إشارة إلى عصمة الأنبياء في جميع الأقسام الثلاثة المذكورة(1).

* * *

_____________________________

1 ـ إقتباس من تفسير الميزان، ج 2، ص 134، في ذيل الآية (213) من سورة البقرة.

( 94 )

الآية

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاََ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (214)

سبب النّزول

قال بعض المفسّرين : إنّ الآية نزلت عندما حوصِر المسلمون واشتدّ الخوف والفزع بهم في غزوة الأحزاب، فجاءت الآية لتثبّت على قلوبهم وتعِدَهم بالنصر.

وقيل : إنّ عبدالله بن أُبي قال للمسلمين عند فشلهم في غزوة أُحد : إلى متى

( 95 )

تتعرّضون للقتل ولو كان محمّد نبيّاً لما واجهتم الأسر والتقتيل، فنزلت الآية(1).

التّفسير

الصعاب والمشاقّ سنّة إلهية :

يبدو من الآية الكريمة أنّ جماعة من المسلمين كانت ترى أنّ إظهار الإيمان بالله وحده كاف لدخولهم الجنّة، ولذلك لم يوطنوا أنفسهم على تحمّل الصعاب والمشاقّ ظانّين أنه سبحانه هو الكفيل بإصلاح أُمورهم ودفع شرّ الأعداء عنهم.

الآية تردّ على هذا الفهم الخاطىء وتشير إلى سنّة إلهية دائمة في الحياة، هي أنّ المؤمنين ينبغي أن يعدّوا أنفسهم لمواجهة المشاقّ والتحدّيات على طريق الإيمان ليكون ذلك اختباراً لصدق إيمانهم، ومثل هذا الإختبار قانون عامّ سرى على كلّ الاُمم السابقة.

ويتحدّث القرآن الكريم عن بني إسرائيل ـ مثلاً ـ وما واجهوه من مصاعب بعد خروجهم من مصر ونجاتهم من التسلّط الفرعوني، خاصّة حين حوصِروا بين البحر وجيش فرعون، فقد مرّوا بلحظات عصيبة فقدَ فيها بعضهم نفسه، لكن لطف الله شملهم في تلك اللحظات ونصرهم على أعدائهم.

وهذا الذي عرضه القرآن عن بني إِسرائيل عامّ لكلّ (الذين خلوا من قبلكم)وهو سنّة إلهيّة تستهدف تكامل الجماعة المؤمنة وتربيتها. فكلّ الاُمم ينبغي أن تمرّ في أفران الأحداث القاسية لتخلص من الشوائب كما يخلص الحديد في الفرن ليتحوّل إلى فولاذ أكثر مقاومةً وأصلب عوداً. ثمّ ليتبيّن من خلال هذا الإختبار من هو اللائق، وليسقط غير اللائق ويخرج من الساحة الإجتماعية.

المسألة الأُخرى التي ينبغي التأكيد عليها في تفسير هذه الآية : أنّ الجماعة المؤمنة وعلى رأسها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ترفع صوتها حين تهجم عليها الشدائد بالقول

_____________________________

1 ـ مجمع البيان، ج 1، ص 308.

( 96 )

 (متى نصر الله) ؟ !، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضاً على المشيئة الإلهية، بل هو نوع من الطلب والدعاء.

فتقول الآية (أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء...).

وبما أنّهم كانوا في غاية الإستقامة والصبر مقابل تلك الحوادث والمصائب، وكانوا في غاية التوكّل وتفويض الأمر إلى اللّطف الإلهي، فلذلك تعقّب الآية (ألا أنّ نصر الله قريب).

(بأساء) من مادّة (بأس) وكما يقول صاحب معجم مقاييس اللّغة أنّها في الأصل تعني الشّدة وأمثالها، وتُطلق على كلّ نوع من العذاب والمشّقة، ويُطلق على الأشخاص الشّجعان الّذين يخوضون الحرب بضراوه وشدّة (بأيس) أو (ذو البأس).

وكلمة (ضرّاء) كما يقول الرّاغب في مفرداته هي النقطة المقابلة للسرّاء، وهي ما يُسرّ الإنسان ويجلب له النفع، فعلى هذا الأساس تعني كلمة ضرّاء كلّ ضرر يُصيب الإنسان، سواءً في المال أو العرض أو النفس وأمثال ذلك.

جملة (متى نصر الله) قيلت من قبل النبي والمؤمنين حينما كانوا في منتهى الشّدة والمحنة، وواضح أنّ هذا التعبير ليس اعتراضاً على المشيئة الإلهيّة، بل هو نوع من الطلّب والدعاء، ولذلك تبعته البشارة بالإمداد الإلهي.

وما ذكره بعض المفسرين من احتمال أن تكون جملة (متى نصر الله) قيلت من طرف جماعة من المؤمنين، وجملة (ألا إنّ نصر الله قريب) قيلت من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بعيد جدّاً.

وعلى ايّة حال، فإنّ الآية أعلاه تحكي أحد السنن الالهيّة في الأقوام البشريّة جميعاً، وتنذر المؤمنين في جميع الأزمنة والأعصار أنّهم ينبغي عليهم لنيل النّصر والتوفيق والمواهب الاُخرويّة أن يتقبّلوا الصّعوبات والمشاكل ويبذلوا التضحيّات في هذا السبيل، وفي الحقيقة إنّ هذه المشاكل والصّعوبات ما هي إلاّ إمتحان

( 97 )

وتربية للمؤمنين ولتمييز المؤمن الحقيقي عن المتظاهر بالإيمان.

وعبارة (الّذين خلوا من قبلكم) تقول للمسلمين : أنّكم لستم الوحيدين في هذا الطريق الّذين ابتليتم بالمصائب من قِبَل الأعداء، بل أنّ الأقوام السّالفة ابتُلوا أيضاً بهذه الشدائد والمصائب إلى درجة أنّهم مسّتهم البأساء والضرّاء حتّى استغاثوا منها.

وأساساً فإنّ رمز التكامل للبشريّة أن يُحاط الأفراد والمجتمعات في دائرة البلاء والشّدائد حتّى يكونوا كالفولاد الخالص وتتفتّح قابليّاتهم الداخليّة وملكاتهم النفسانيّة ويشتد إيمانهم بالله تعالى، ويتميّز كذلك المؤمنون والصّابرون عن الأشخاص الإنتهازيّين، ونختتم هذا الكلام بالحديث النبوي الشريف : يقول (الخبّاب ابن الأرت) الّذي كان من المجاهدين في صدر الإسلام : قال قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا.

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه;

ثمّ قال : والله ليتمن هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه وكلّكم يستعجلون»(1).

* * *

_____________________________

1 ـ الدر المنثور : ج 1 ص 243، تفسير الكبير : ج 6 ص 20.

( 98 )

الآيـة

يَسْـَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْر فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ وَالْيَتَـامَى وَالْمَسَـاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْر فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ(215)

سبب النّزول

(عمرو بن الجموح) شيخ ثريّ سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا ينفق ولمن يعطي ؟ فنزلت الآية(1).

التّفسير

يتعرّض القرآن الكريم في آيات عديدة إلى الإنفاق والبذل في سبيل الله، وحثّ المسلمين بطرق عديدة على الإنفاق والأخذ بيد الضعفاء، وهذه الآية تتناول مسألة الإنفاق من جانب آخر، فثمة سائل عن نوع المال الذي ينفقه، ولذلك جاء تعبير الآية بهذا الشكل (يسألونك ماذا ينفقون).

_____________________________

1 ـ مجمع البيان : ج 1 ص 309، كذلك تفسير روح المعاني : ج 2 ص 91، والتفسير الكبير : ج ص 232.

( 99 )

وفي الجواب بيّنت الآية نوع الإنفاق، ثمّ تطرّقت أيضاً إلى الأشخاص المستحقّين للنفقة، وسبب نزول الآية كما مرّ يبيّن أنّ السؤال اتّجه إلى معرفة نوع الإنفاق ومستحقّيه.

بشأن المسألة الاُولى : ذكرت الآية كلمة «خير» لتبيّن بشكل جامع شامل ما ينبغي أن ينفقه الإنسان، وهو كلّ عمل ورأسمال وموضوع يشتمل على الخير والفائدة للناس، وبذلك يشمل كلّ رأسمال مادّي ومعنوي مفيد.

وبالنسبة للمسألة الثانية : ـ أي موارد الإنفاق ـ فتذكر الآية أولاً الأقربين وتخصّ الوالدين بالذكر، ثم اليتامى ثم المساكين، ثم أبناء السبيل، ومن الواضح أنّ الإنفاق للأقربين ـ إضافة إلى ما يتركه من آثار تترتّب على كلّ إنفاق ـ يوطّد عرى القرابة بين الأفراد.

(وما تفعلوا من خير فإنّ الله به عليم).

لعلّ في هذه العبارة من الآية إشارة إلى أنّه يحسن بالمنفقين أن لا يصرّوا على اطّلاع الناس على أعمالهم، ومن الأفضل أن يسرّوا انفاقهم تأكيداً لإخلاصهم في العمل، لأنّ الذي يجازي على الإحسان عليم بكلّ شيء، ولا يضيع عنده سبحانه عمل عامل من البشر.

* * *

بحث

التجانس في السؤال والجواب :

ذهب البعض إلى أنّ مورد السؤال في هذه الآية عن الأشياء التي يجب الإنفاق منها، ولكنّ الجواب كان عن مصارف هذه النفقات والصّدقات، أي الأشخاص المستحقّين لها، وذلك بسبب أنّ معرفة موارد الصّرف أهم وأولى،

( 100 )

ولكنّ هذا الفهم من الآية اشتباه محض، لأنّ القرآن الكريم أجاب عن سؤالهم وكذلك بيّن موارد الإنفاق، وهذا من فنون الفصاحة والبلاغة بحيث يجيب على السؤال ويضيف عليه بيان مسألة مهمّة ضروريّة.

وعلى أيّ حال فإنّ جملة (ما أنفقتم من خير) تبيّن أنّ الإنفاق أمر جميل وحسن في كلّ موضوع ومن كلّ شيء ويستوعب جميع الاُمور الحسنة سواءً كانت في الأموال أو الخدمات أو الموضوعات الماديّة أو المعنويّة.

ثمّ أنّ كلمة (خير) ذُكرت بصورة مطلقة أيضاً، وتدلّ على أنّ المال والثروة ليست شيئاً مذموماً بذاته، بل هي من أفضل وسائل الخير بشرط الإستفادة السليمة والصحيحة منها.

وكذلك فإنّ التعبير بكلمة (خير) يُمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الإنفاق يجب أن يكون خالياً من كلّ أذى ومنّة بالنسبة إلى الأشخاص المعوزين حتّى يمكن أن يطلق عليه كلمة (خير) بشكل مطلق.

( 101 )




 
 

  أقسام المكتبة :
  • نصّ القرآن الكريم (1)
  • مؤلّفات وإصدارات الدار (21)
  • مؤلّفات المشرف العام للدار (11)
  • الرسم القرآني (14)
  • الحفظ (2)
  • التجويد (4)
  • الوقف والإبتداء (4)
  • القراءات (2)
  • الصوت والنغم (4)
  • علوم القرآن (14)
  • تفسير القرآن الكريم (108)
  • القصص القرآني (1)
  • أسئلة وأجوبة ومعلومات قرآنية (12)
  • العقائد في القرآن (5)
  • القرآن والتربية (2)
  • التدبر في القرآن (9)
  البحث في :



  إحصاءات المكتبة :
  • عدد الأقسام : 16

  • عدد الكتب : 214

  • عدد الأبواب : 96

  • عدد الفصول : 2011

  • تصفحات المكتبة : 21337912

  • التاريخ : 29/03/2024 - 07:06

  خدمات :
  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • الصفحة الرئيسية للمكتبة
  • المشاركة في سـجل الزوار
  • أضف موقع الدار للمفضلة
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • للإتصال بنا ، أرسل رسالة

 

تصميم وبرمجة وإستضافة: الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

دار السيدة رقية (ع) للقرآن الكريم : info@ruqayah.net  -  www.ruqayah.net